الفصل الثالث

العلم والمنهج

(١) تعريف العلم الحديث ومعالمه

الرياضيات مَلِكة العلوم وهدية الله للعقل العلمي، وكان التآزر بين دقة لغة الرياضيات وصرامة وقائع التجريب، مفتاحًا من مفاتيح النجاح المتوالي للعلم الحديث. على أن مفهوم «المنهج العلمي» حين يَرِد كمفرد عَلَم بألِف ولام العهد، يكون المقصود عادةً هو المنهج التجريبي؛ منهج العلم التجريبي أو العلوم التجريبية. فهل يمكن قبلًا تحديد مفهوم «العلم التجريبي» ذاته؟ ليس المنشود تعدادًا وحصرًا لفروعه ولشتى العلوم التجريبية، بل تحديدًا للمفهوم يبلور طبيعته ويعكس ماهيته.

يمكن وضع تعريف للعلم التجريبي الحديث بأنه: منظومة ممنهجة من الأبحاث، التي تُنتِج وتُعيد إنتاجَ وتُطوِّر وتعمِّم وتدقِّق وتنقِّح، قضايا ذات مضمون معرفي ومحتوًى إخباري، ومقدرة توصيفية وقوة تفسيرية وطاقة تنبؤية، منصبَّة على ظواهر العالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، كمتمايزٍ عن عالم الغيب، وأيضًا عن عالم الفن وعالم الأيديولوجيا، وعالم التجارب العاطفية والشخصية … إلخ.١
وفقًا لهذا التعريف، نجد العلم منظومة؛ أي نسق، و«النسق» system كلٌّ متكامل، يتميَّز بأن لكل جزءٍ من أجزائه موضعَه المحدَّد، وعلاقاته المنطقية المحددة التي تربطه بالأجزاء الأخرى. وبهذا نتفهم لماذا يمكن أن نستخدم مصطلح العلم كمفردٍ عَلم، ليدل على مجموعةٍ هائلة من العلوم الرياضية والفيزيائية، والكيميائية والحيوية والاجتماعية والإنسانية … تُعَدُّ فروعها بالآلاف (وكذلك يُقال فلسفة العلم أو فلسفة العلوم). أما أنه منظومة مُمَنهجة أو نسق ممنهج، فذلك يعني ببساطة أن العلم في تكوُّنه وتناميه المطرد، يشكل كيانًا مستقلًّا يحمل في صلب ذاته حيثياته، وإمكانيات تناميه وفاعلية عوامل تقدُّمه المطرد. النسقية تعني إحكام المشروع العلمي، فيرتكز في شتى ممارساته على أصولياتٍ ومحكات وقياسات منهجية صارمة، ترتد في صورة خصائص منطقية دقيقة، تحدِّد لظاهرة العلم تخومًا تخصصية واضحة، مما يكفل تآزر الجهود العلمية، فيجعلها تمثل متصلًا صاعدًا، يواصل تقدُّمه باستمرار. البحث العلمي يتبع طرقًا وأساليبَ مترسمة لإنتاج معرفة لها خصائصها المنطقية. وإنتاج معرفة هو إنتاج قضايا إخبارية؛ أي وضع عبارات تعطينا خبرًا عن ظواهر العالم وتوصيفًا لها، ثم تفسيرًا، فتمكننا من التنبؤ بالوقائع المقبلة، وبالتالي السيطرة التقانية (التكنولوجية) عليها وعلى مسارها، أو على الأقل توجيهها وفقًا لما يعظِّم المنافع ويقلِّل المضار والخسائر.
على أن العلم لا ينتج معرفة أو قضايا فحسب، بل الأهم أنه دائمًا يعيد الإنتاج. معنى إعادة الإنتاج prolification أن كل قضية علمية أو معرفة علمية محرزة، يمكن دائمًا تصويبها وتعديلها، ولا إنجاز أو إنتاج معرفيًّا علميًّا يعني أن البحث في موضوعه قد انتهى، ومهما كان الإنجاز رائعًا يظل الباب مفتوحًا دومًا لمواصلة البحث العلمي، والوصول إلى ما هو أفضل؛ أي إعادة الإنتاج، بعبارة أخرى إعادة الإنتاج هي قابلية العلم المستمرة للتقدُّم، لإنتاج معرفة أفضل. إنه التقدم المتقد الجبار الذي لم يَعُد ممكنًا تفسيره، كمحض تراكم ونظرية تلو نظرية وكشف بجوار كشف، بل احتل مفهومُ الثورة الميدانَ، وتصدَّر الواجهة في تفسير طبيعة التقدم العلمي، وأصبحت فلسفة العلم تدور حول التقدم والثورة منذ كارل بوبر K. Popper (١٩٠٢–١٩٩٤م) وتوماس كون T. Kuhn (١٩٢٢–١٩٩٦م) وخلفاء لهما.

والمعرفة العلمية في كل هذا تنصبُّ فقط على العالَم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، العالَم المشترك بين الذوات أجمعين؛ أي العالَم المادي أو الفيزيقي، أو بالتعبير الإسلامي النافذ عالَم الشهادة، كمتمايزٍ عن عالم الغيب المطلق، الذي لا شأن للعلم التجريبي به، فلا يثبته أو ينفيه، ويُؤتى من مصادر معرفية مختلفة عن المنهج العلمي. إن عالَم الشهادة بظواهره ووقائعه، وأحداثه الشتى العديدة المتكثرة والمتداخلة، سواء فيزيوكيماوية أو حيوية أو إنسانية، هو فقط مجال العلم ومنهجه، وهو العالم الأولي الذي ينبغي فهمه والسيطرة عليه لكي يتيسر وجود الإنسان، فيستطيع الانطلاق إلى العوالم الأخرى أو المستويات المختلفة للتجربة الحضارية والوجودية: العاطفية والشخصية والقومية والفنية … إلخ. الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يتميز بتعدد الأبعاد والمستويات والعوالم، ربما لا يكون العالم المادي التجريبي، هو أهم العوالم، ولكنه بلا جدال مستوًى أولي مهم، التمكن منه والسيطرة عليه مقدمة ضرورية شرطية، للانطلاق إلى ما هو أعلى وأبعد. والعلم التجريبي هو سبيل العقل البشري لمثل هذا التمكُّن والسيطرة.

•••

العلم Science معرفة ونشاط معرفي. وعن الأصول الإتيمولوجية؛ أي اللغوية والاشتقاقية للفظة «العلم»، نجد في اللغة العربية أولًا أن لفظ «علم» تعود إلى العُلام والعلامة، فهي في أصلها اللغوي البعيد من الحسي: العُلام أي الحناء لما يترك من أثرٍ باللون. والعلامة ما تترك في الشيء مما يُعرف به. ومن هذا العَلَم: لما يُعرف به الشيء أو الشخص، كعَلم الطريق، وعَلم الجيش (الراية)، وسُمي الجبل عَلمًا لذلك، ومنه: علمت الشيء أي عرفت علامته وما يميِّزه، ونقيضه الجهل، وتكون بعد ذلك المعاني الخاصة والاصطلاحية للعلم.٢ وهذه المعاني تفيد ضربًا من المعرفة الوثيقة المثبتة، تقوم على الإدراك والتعقُّل وحصول صورة الشيء في الذهن، فنقول «عَلِمْت الشيءَ أي عرفتُ علامتَه وما يميِّزه»، وفي لغتنا الدارجة نقول: «ربنا يعلم»، ولا نقول أبدًا «ربنا يعرف»؛ فالله هو العالِم والعليم وليس العارف فحسب. وفي المقابل نقول: «عرفت الله»، ولا نقول علمت الله. هذه الحدود بين المعرفة بشكلٍ عام والعلم بشكل خاص أمرٌ له قيمته، لكنه لا يصنع تعريفًا وتحديدًا للعلم الحديث المقصود الآن على وجه التعيين.
وفي اللغة الإنجليزية أيضًا كلمة Science تعود إلى الكلمة اللاتينية Scientia، وهي الأخرى تعني «المعرفة» على عمومها. ولكن اللافت حقًّا هو أن مصطلح العالِم Scientist، قد صِيغ فقط في عشرينيات القرن التاسع عشر، حين اقترحه الفيلسوف/العالم وليم ويول W. Whewell (١٨٦٦–١٧٩٤م) على زملائه من أعضاء الجمعية الملكية للعلوم في لندن، لتعيين ذلك النشاط المعرفي الاحترافي النامي مؤخرًا؛ أي البحث العلمي تحديدًا؛ فقد ترسَّمت حدود العلم ومعالمه كنشاط تخصصي مستقل ومتميز، له آليات متعينة ووسائل نافذة تحكم عملية إنتاج منتظمة ومتواصلة للمعرفة. ومعنى هذا أنه منذ ذلك الحين قد ترسَّمت حدود البحث العلمي بوصفه نشاطًا ذا منهج معيَّن، وبات «العلم» مصطلحًا محدثًا اتفقنا على تعريفه، من حيث هو منظومة ممنهجة من القضايا الإخبارية. والجدير بالذكر أنه منذ ذلك الحين فصاعدًا أيضًا، بات العلم أول ما يعلِّم البشر معنى التخصص.

•••

والعلم في هذا له وظيفة معرفية محدَّدة بالوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة. الهدف من أي علم تجريبي يتمثَّل في الإجابة عن السؤال: كيف ولماذا تحدث الظاهرة موضوعه؟ في المرحلة الوصفية يجيب العلم عن السؤال: كيف تحدث الظاهرة، كيف تتبدَّى؟ وليس الوصف العلمي أمرًا يسيرًا أو هينًا، إنه بمثابة اكتشاف للظاهرة موضع البحث، ومعيار وجود العلم الذي يبحثها. لكن الوصف ليس كلَّ ما في الأمر؛ فإحكام الطريق إلى السيطرة على الظاهرة عن طريق التقانة (= التكنولوجيا)، يستلزم الانتقال من المرحلة الوصفية، وبناء عليها، إلى المرحلة التالية، وهي المرحلة التفسيرية التي تجيب عن السؤال: لماذا تحدُث الظاهرة؟ وهنا العلوم الأساسية أو البحتة التي تمثِّل محاولة العقل العلمي، للإحاطة بالظاهرة موضوع الدراسة.

أما التنبؤ، فهو محك نجاح الوصف والتفسير. وظيفة التنبؤ تمثِّل المَعْلَم المميز للقوانين في العلوم التجريبية، حيث كل قانون — مهما كان بسيطًا — له قدرة تنبؤية، مثلًا «الماء يغلي في درجة مائة مئوية»، يحمل تنبؤًا بحدوث الغليان حين يصل التسخين بالماء إلى الدرجة مائة، عدم حدوثه يعني تكذيبًا للنظرية وضرورة تعديلها. لن يحدث الغليان مع درجة الحرارة مائة، إذا كان المرجل مغطًّى أو فوق جبل ومعدل الضغط الجوي منخفضًا، هنا يكون التكذيب وتصويبه لنصل إلى العبارة «الماء يغلي في درجة مائة مئوية تحت مستوى الضغط الجوي الكائن عند سطح البحر»، وتعطي هذه العبارة تنبؤًا أدقَّ نسبيًّا، قابلًا للاختبار والتعديل بدوره، وهكذا دواليك. إن التنبؤ هو المواجهة مع الواقع، والمحك الذي تُختَبر به العبارات العلمية، حدوث ما تتنبأ به النظرية هو البينة التجريبية عليها ومبرِّر قبولها، وعدم حدوثه مبرِّر لرفضها أو تعديلها.

وحين يتحقق وصفٌ وتفسيرٌ يشهد على نجاحهما تنبؤ، ترتب على هذا أداء أكمل للوظيفة الرابعة من وظائف العلم؛ أي السيطرة أو التقانة وهي غاية منشودة، والمحصلة والقوة الملموسة للعلم التي تجسِّدها العلوم التطبيقية. روعة العلوم التجريبية تتبدَّى في أنها معرفة تُترجم إلى تطبيقاتٍ عملية … إلى قوةٍ وسلطان، إلى سيطرةٍ على الظاهرة، فضلًا عن أنها تعطينا في نمائها المتصاعد دومًا، التمثيلَ العيني لمقولة التقدُّم في حياة البشر؛ التقدُّم المعرفي والتقدُّم التطبيقي.

هكذا تجمع وظائف العلم الأربع المذكورة بين جانبين جرى العُرف على التمييز بينهما، وهما «العلم البحت» pure Science، الذي يبحث الإشكالية المعرفية في حد ذاتها، وبغض النظر عما إذا كانت ستفضي فيما بعدُ إلى تطبيقاتٍ عملية أو تقانية (= تكنولوجية)، وبين «العلم التطبيقي applied science» الذي يضطلع بالاستخدامات العملية والهندسية والتكنولوجية للمعرفة العلمية. على أنه كثيرًا ما تتحقَّق إنجازات علمية عظمى بروح العلم البحت؛ أي لخلق معرفة جديدة، حل مشكلة مطروحة للبحث وإجابة على سؤالٍ مُلِح، فقط من أجل تفهُّم الظاهرة أو طرح تفسير لها، ثم يظهر لها فيما بعدُ أهمية علمية أو تطبيقية كبرى.

لا ينبغي التعويل كثيرًا على تفرقةٍ بين العلوم البحتة والعلوم التطبيقية؛ لأنهما في واقع الأمر لا يفترقان، والعلوم التطبيقية تستند إلى حصادٍ هائل من العلوم البحتة التي هي الأساس، فتُسمَّى العلوم الأساسية، وطبعًا توجد التطبيقات التكنولوجية بفضلها. وكما قال لويس باستير، ليس هناك علمان تطبيقي وبحت، بل يوجد العلم وتطبيقه، مثلما توجد الشجرة وثمرتها.

كل هذا فضلًا عن دخول التكنولوجيا، حصاد العلوم التطبيقية، كقوةٍ منتجة للمعرفة العلمية ذاتها. إنه عاملٌ حاسم في إجرائيات المنهج العلمي التجريبي، يتمثَّل في أجهزة البحث العلمي الدقيقة أو العملاقة، وتجهيزات المعامل والمختبرات، وكأننا بإزاء الأَمَة التي تلد ربَّتها.

(٢) المنهج آية العلم

أثبت العلم الحديث نجاحًا فريدًا في أداء هذه الوظائف، تعاظم نجاحه وتصاعد بشكلٍ غير مسبوق، يَعِد دائمًا بالمزيد، بالتقدم.

وكما أوضح الفصل الأول مفهوم المنهج العلمي آية التقدمية المتواصلة، يرتد في القابلية للاختبار التجريبي والتكذيب، التي هي خاصة منطقية قائمة في صُلب النظرية العلمية، تجسِّد طبيعة العلم التقدمية، حين تجعله دائمًا يعيِّن مواطن قصور أو كذب، فيتجاوزها إلى ما هو أقدر وأجدر، ولا يرتكن أبدًا إلى نظريةٍ ما بوصفها حقيقةً مطلقة، مهما أحرزت من نجاحٍ في مواجهة العلم المتنامية واللامتنامية للواقع.

منهج العلم التجريبي منهج تقدمي من حيث هو حامل لمنطق اختبار وتصحيح ذاتي. ويرتهن التقدم العلمي بحدوساتٍ جريئة تمثِّل قفزات ثورية، تعقبها أفكار تصحِّح أفكارًا. روح العلم ومنهجه هي تصحيح المعرفة وتوسيع نطاقها، إنه منطق التصحيح الذاتي. «هذا الأفق من الأفكار المصحَّحة هو ما يميِّز الفكر العلمي.»٣ وهذا يعني أن الفكر العلمي فكر قَلِق، فكر يترقَّب الشيء، يبحث عن فرصٍ جدلية ليخرج من ذاته، وليكسر أطره الخاصة، إنه الفكر الذي يسير على درب الموضوعية.٤ ومثل هذا هو الفكر المبدع، ألم نصادر على أن المنهج العلمي تقدمية من حيث هو إبداع وروح نقدية؟

فينتهي جاستون باشلار إلى أن المنهج العلمي يتنكَّر دائمًا لما ينجزه، من حيث دأبه على اختباره ونقده وتصويبه وتنقيحه. العلم لا يخرج من الجهل لأن الجهل ليس له بنية، العلم يخرج من التصحيحات المستمرة للبناء المعرفي السابق. هذا التصحيح الذاتي هو الذي يكفل لتواتر محاولات العلماء الإبداعية وتوالي بحوثهم المنهجية … يكفل لها التقدم المستمر، من حيث يفتح أمامها آفاقًا أوسع، فيمثل البحث العلمي دائمًا التجاوز النشط المسئول للماضي، فالمبدع الخلاق للحاضر. ولا تعود اللحظة تكرارًا كميًّا للتاريخ، بل هي عمل دءوب وإنجاز، فيؤكد الإبداع العلمي — بتعبير باشلار — حدس «اللحظة» التي تمثل حقيقة الزمان، من حيث إنها الكائنة، وبين غير الكائنين: الماضي والمستقبل. وتغدو الشجاعة والمسئولية العلمية في المحافظة على لحظة المعرفة نشيطة حية، وأن نجعل منها منبعًا متدفقًا نحو معرفةٍ، تكون دائمًا أفضل وأوضح وأجدر وأقدر … أكثر تقدمًا.

ويظل العلم إبداعًا إنسانيًّا، وكل شيء في عالم الإنسان متغير ومتطور، فلا يعود نسق العلم بناءً مشيدًا، أو كشفًا عن حقائق مطلقة، بل هو نسق من فروضٍ ناجحة، كل يوم فروض أنجح من سابقتها، أجدر وأقدر على الوصف والتفسير والتنبؤ والسيطرة، كل يوم جديد يتلافى أخطاء وقصورات القديم، فيلغيه أو على الأقل يستوعبه ويتجاوزه، ويقطع في طريق التقدم خطوةً أبعدَ منه، في صيرورة … تغيُّر مستمر نحو الأقرب من الصدق، الأفضل والأقدر؛ إنه تقدُّمٌ ذو طابع ثوري متقد.

العلم ممارسة إنسانية وفعالية حية نامية ومتطورة دائمًا، التقدم مفطور في صلبه، لم يَعُد العلم الآن هو البحث عن السبب أو العلة، بل عن التفسير، حساب الاحتمال هو لغته الدقيقة، ولا يقين في العلم التجريبي البتة، إنه بحث عن سنن الكون، ولكنه بحث إنساني لا يملك أبدًا حق الزعم، بأنه أمسك عليها بجُمْع اليدين واطَّلع على سرِّها المكين، بل فقط يحاول أن يقترب من حقيقتها، منتقلًا من محاولةٍ إلى محاولةٍ أنجح … حتى تقوم الساعة. لن يتوقف البحث العلمي مهما أنجز من نجاح، ومهما قدَّم من إجاباتٍ ناجعة على الأسئلة المطروحة، كل إجابة يطرحها العلم تطرح تساؤلات أبعدَ، فيؤدي كل تقدم إلى تقدمٍ يليه.

ومهما أنجز العلم من تقدُّم، فسوف يظل هذا الإنجاز يحمل في صُلب ذاته إمكانية التقدم الأبعد، فلا ركون ولا سكون البتة. كل إجابة تكون مثمرة بقدر ما تطرح أسئلة أبعد، وكل نظرية تكون ناجحة بقدر ما تفتح الطريق لنظرياتٍ أخرى أكفأ وأقدر، ولن يتحول العلم التجريبي لنشاطٍ ترديدي أبدًا، ولن تدعي أية نظرية علمية لنفسها الخلود، أو أنها أمسكت بالحقيقة وختمت البحث في ميدانها. كل نظرية علمية خاضعة للتعديل والتنقيح والإبدال، وأن يحل محلها الأكفأ والأقدر. تتطور النظريات العلمية في متواليةٍ متصاعدة دومًا، لا تتوقف أبدًا. قد تحقِّق نظريةٌ ما نجاحًا يطبق الخافقين، ثم تذوي وتقبع في متاحف التاريخ؛ لأن الأفضل أو الأشمل أو الأدق قد حلَّ محلها، والحكم على النظريات العلمية دائمًا نسبي، النظرية «ك» أفضل من «ق»، أدق من «ن» …

من هنا لا يكون سرُّ عظمة العلم في هذه النظرية أو تلك، بقدر ما تكون في القوة المثمرة الولود لكل هذا النجاح المتدفق المتتالي؛ أي المنهج العلمي الذي هو كما قال أستاذ الجيل الدكتور زكي نجيب محمود (١٩٠٥–١٩٩٤م):٥ المنجم الذي نستخرج منه النفائس. فإذا كان العلم وتطبيقاته التكنولوجية بمثابة فرائد القلائد التي تزين صدر الحضارة المعاصرة، فإن المنهج العلمي هو المنجم الذي نستخرج منه الفريدة تلو الفريدة (الفريدة هي الجوهرة). لكل هذا النجاح الفريد احتل المنهج العلمي موقعه المرموق، كوسيلةٍ وكغاية، كطريقةٍ وكآية.

•••

المنهج العلمي هو آية العلم، والعلم آيته، وقد يُقال في تعريف العلم إنه: ضربٌ من المعرفة الموضوعية المختبرة، نصل إليها عن طريق المنهج العلمي التجريبي، وكما يقول جون كيمني: «تعريف العلم على أساس منهجه، أمرٌ يطابق العادات المألوفة في كل حالة لا يكون فيها خلاف؛ لهذا السبب سأستعمل كلمة علم للدلالة على المعرفة، التي يُصار إلى جميعها بواسطة المنهج العلمي.»٦ ولكن يسهل ملاحظة أن تعريف العلم على أساس منهجه فيه دوران؛ إذ يمكن تعريف المنهج على أساس العلم، فنقول إنه طريقة البحث والتفكير الخاصة بالعلم. والحق أن العلاقة بين العلم ومنهجه علاقة وثقى، قد لا تترك مسافة كافية بينهما، أو يسمح بتعريف أحدهما بالآخر. التقنين منطقي يمكن أن يفتح الباب للخروج من هذا الدوران. وقد مرَّ علينا تعريفٌ للعلم بأنه منظومة ممنهجة، والمطلوب الآن تعريف المنهج العلمي.

•••

قبل أن يستقل ويتعاظم العلم الحديث، وقبل أن يتصدَّر حديث المنهج العلمي الساحةَ في عصر النهضة وما تلاه خصوصًا في القرن السابع عشر، قبل هذا بزمانٍ طويل نجد مفهوم «المنهج العلمي» ماثلًا بشكلٍ ما في رحاب الفلسفة، يتخذ عبْر عصورها معاني متطورة، أو قُل تعريفات متتالية، جاءت متقاربة غير متباينة، تتحدَّد تبعًا لروح التفلسف العلمي في العصر المعني. ويمكن إجمال تطور مفهوم المنهج العلمي عبْر تاريخ الفلسفة، على النحو التالي:
  • هو مجموعة القواعد التي تُوضع لتنظيم عملية اكتساب المعرفة بالعالم بصفةٍ عامة (الفلسفة القديمة).

  • هو مجموعة القواعد التي تُوضع لتنظيم عملية اكتساب المعرفة الطبيعية التي تُعرف بوصفها معرفةً علمية (بدايات الفلسفة الحديثة).

  • هو المبادئ التي نجرِّدها من الممارسات العملية للأفراد، الذين عملوا بنجاحٍ في عملية اكتساب المعرفة العلمية. وهذا هو مفهوم المنهج العلمي المأخوذ به، منذ نشأة الميثودولوجيا وفلسفة العلوم في أواسط القرن التاسع عشر. على أن هذا التجريد ليس مجرد وصف لسلوك العلماء، بل يتضمن تقييمًا للمغزى الذي يدل عليه هذا السلوك، أو كما عبَّر كارل بوبر عن هذا قائلًا: إن نظرية المنهج العلمي تقويم لمباراة العلوم التجريبية.٧

وإذ نستشهد كارل بوبر فقد دخلنا أنضر ساحات فلسفة العلم، الساحة المخوَّلة قبل سواها بتعريف مفهوم المنهج العلمي ومعالجته، الموسومة باسم الميثودولوجيا.

(٣) المنهج العلمي في فلسفة العلوم

ننتهي الآن إلى حيث بدأنا في المقدمة، إلى أن جوهر مفهوم المنهج العلمي يتلخص في: أسلوب التفكير العلمي وطريقة سير العلماء في عملهم أو في بحوثهم، وسنرى الآن أن هذا أبعد ما يكون عن تحصيل الحاصل، كما قد يبدو للوهلة الأولى.

كما ذكرنا، جعلت الفلسفة/أم العلوم من «فلسفة العلوم» أهم فروع الفلسفة المعاصرة، والأكثر تجسيدًا وتجريدًا لروح العصر، الحاملة لأبرز الإشكاليات المعرفية الشاغلة في الحقبة الراهنة. وعلم مناهج البحث أو الميثودولوجيا؛ أي نظرية المنهج العلمي في صدر مباحث فلسفة العلوم، بل عمادها وعمودها الفقري.

ولا غرو أن يستقطب سؤال المنهج العلمي الفلسفة، وأن تكون الفلسفة هي الأقدر على طرحه. إن فلسفة العلوم بشكلٍ ما امتدادٌ لسؤال فلسفة المعرفة (الإبستمولوجيا) العريق، حول ماذا يمكن أن يعرف الإنسان، ما شروط المعرفة، وما طبيعتها ووسائلها؟ وما ممكناتها؟ وحين جاء القرن التاسع عشر كان قد استقام نسق العلم الحديث، عملاقًا يتصدر بامتيازٍ واقتدار مسيرة المعرفة الإنسانية، ويمثِّل حالةً فريدة لنجاح المشروع المعرفي للإنسان، فأصبح سؤال الإبستمولوجيا المُلِح هو سؤال حول سر أو عوامل هذا النجاح. وبدت الإجابة تفرض نفسها على الفور في كلمةٍ واحدة: المنهج العلمي، الذي هو تجريد وتجسيد لما يمكن اعتباره «العقيدة العلمية المركزية؛ أي التجريبية».٨

وهنا نشأت إرهاصات فلسفة العلوم، لتبحث في المنهج العلمي التجريبي، كبحثٍ في معامل ذلك النجاح اللافت وحيثياته … في آلية التقدُّم المتوالي في هذا المشروع المعرفي المطرد النجاح: العلم الحديث. بدأت فلسفة العلوم تتشكل وتتحدد معالمها في إنجلترا وفرنسا خصوصًا، مع بضعة إسهاماتٍ لاحقة من ألمانيا والنمسا، كمبحثٍ تخصصي مستقل، وتوالت أدبياتها بوصفها نشاطًا يهدف إلى تكوين معرفة بالمعرفة العلمية، أو نظرية عن النظرية العلمية من حيث آلياتها وطرائقها وأسلوبها … من حيث منهجها العلمي.

وفي هذا الوقت نفسه — أواسط القرن التاسع عشر — تصاعد التساؤل حول أسس الرياضيات وطبيعتها وفروضها القبلية وبالتالي منهجها، وهو السؤال الذي أدى في العام ١٨٤٧م إلى نشأة المنطق الرياضي أو المنطق الرمزي الحديث، على يد جورج بول G. Boole (١٨١٥–١٨٦٤م)، ليمثِّل قفزةً عقلية نوعية، استوعبت المنطق الأرسطي التقليدي، وتجاوزته إلى منطق العلاقات والترميز الرياضي.

لقد اشتبكت الفلسفة بالمنهج العلمي، وهي تملك رصيدها الهائل وميراثها الضخم في قضية المنهج والمنهجية، وقضايا الاشتباك بين العقل والوجود، وسبل التفكير والاستدلال والانتقال من المعلوم إلى المجهول.

هكذا نشأت فلسفة العلم في القرن التاسع عشر، معنية بسؤال المنهج أو تدور حول الميثودولوجيا، وتحديدًا حول قطبَي المنهج العلمي التجريبي، وهما الفرض والملاحظة والعلاقة بينهما، وأيهما يؤدي إلى الآخر، وعادةً ما يُؤرَّخ لهذا بالمناظرات بين وليم ويول W. Whewell (١٧٩٤–١٨٦٦م)، الذي انتصر للفرض، وجون ستيوارت مل J. S. Mill (١٨٠٦–١٨٧٣م)، الذي انتصر للملاحظة.

وإبان النصف الأول من القرن العشرين تنامى سؤال المنهج، وأصبحت فلسفة العلم معالجة إبستمولوجية شاملة لمنهج العلم ومنطقه، لا سيما من خلال مبحثها الموسوم باسم الميثودولوجيا.

وسبيلنا الآن إلى المعالم الأساسية، لما أنجزته فلسفة العلوم في هذا الصدد، ليلقي الضوء الكثيف على مفهوم المنهج العلمي ومضامينه.

١  هذا التعريف الذي نضعه يصادِر على الدلالة الإخبارية والقيمة الأنطولوجية للنظريات العلمية، وبالتالي لا يساير التيار الأداتي Instrumentalism في فلسفة العلوم، بمدارسه المختلفة، وأهمها الاصطلاحية Conventionalism والإجرائية Operationalism الذي يرى القوانين والنظريات والأنساق العلمية أدوات للربط بين الظواهر الطبيعية والتنبؤ بها والسيطرة عليها، تُوصف بالصلاحية أو عدم الصلاحية، وليست قضايا إخبارية تُوصف بالصدق أو الكذب، وتحاول دائمًا الاقتراب من الصدق أكثر وأكثر. فلسفة العلم الكلاسيكية تنقسم إلى تياري الواقعية والأداتية، ونحن نأخذ بالواقعية. جدير بالذكر أنه مع انسياق فيزياء الكوانتم نحو المزيد من الصورية والصورنة، بدا وكأن أسهم التيار الأداتي ترتفع، ولكن بُذلت محاولة جادة لإعادة الأمور إلى نصابها، وإثبات أن فيزياء الكوانتم يمكن أن تصب بمجامعها في الاتجاه الواقعي. انظر: رولان أومنيس، «فلسفة الكوانتم: فهم العلم المعاصر وتأويله»، ترجمة يمنى طريف الخولي بالمشاركة، مرجع سبق ذكره.
٢  أمين الخولي (مُعِد)، «معجم ألفاظ القرآن الكريم»، الجزء الرابع، مجمع اللغة العربية، القاهرة، ١٩٦٨م، ص٢٤٠-٢٤١.
٣  جاستون باشلار، «تكوين العقل العلمي»، ترجمة د. خليل أحمد خليل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط٢، ١٩٨٢م، ص١١.
٤  جاستور باشلار، «الفكر العلمي الجديد»، ترجمة د. عادل العوا، مراجعة د. عبد الله عبد الدايم، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، ١٩٦٩م، ص٥٢.
٥  وقد أكدنا أن مفهوم المنهج العلمي هو البوابة الكبرى لعالَم زكي نجيب محمود المتعدد الأبواب، انظر: د. يمنى طريف الخولي، «المنهج العلمي»، في: الكتاب التذكاري للدكتور زكي نجيب محمود، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ١٩٩٨م، ص٣٣٩–٣٥٦.
٦  جون كيمني، «الفيلسوف والعلم»، ترجمة د. أمين الشريف، المؤسسة الوطنية للطباعة والنشر، بيروت، ١٩٦٩م، ص٢٥٨.
٧  Peter Caws, Scientific Method, in: Encyclopedia For Philosophy Paul Edwards (ed. in chief), Macmillan Publishing Co., New York, 1972. Vol. 7, PP. 339–343, P. 340.
٨  J. Margolis, Science Without Unity: Reconciling the Human and Natural Sciences, Basil Blackwell, Oxford, 1987, P. xix.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤