الفصل السادس

المنهج العلمي في التاريخ القديم

(١) في عصور ما قبل التاريخ

لما كان المنهج العلمي يعود إلى فعاليةٍ مفطورة في صُلب العقل البشري من حيث هو عقل بشري؛ فقد كان نجيبه الأثير؛ أي العلم ذاته، صُلبًا من أصلاب الحضارة الإنسانية بأسرها، وأبرز جوانبها إثباتًا لحضور الإنسان، الموجود العاقل في هذا الكون. بدأت أصول العلم أو بدأت بواكير ممارسات الإنسان للمنهج العلمي، ببدايات وجوده والتفاعل بين العقل والحواس في استكشاف، وتفهُّم العالم التجريبي الذي يحيا فيه، لينمو هذا ويتطور عبر الحضارات المتعاقبة، طبعًا بمعدلاتٍ تتفاوت تفاوتًا كبيرًا.

ومِن ثَم يبدأ استقصاء تاريخ المنهج العلمي مما قبل التاريخ، منذ إنسان نياندرتال. إن العلم أقدَم عهدًا من التاريخ؛ لأن معطياته الأساسية — كما يؤكد مؤرخ العلم ج. ج. كراوثر — كانت أول ما تأمَّله الإنسان حين استقامت قامته، وتحرَّرت يداه منذ قرابة نصف مليون سنة مضت، فبدأ التفاعل بين اليد والدماغ أو بين العقل والحواس. وراح الإنسان يتعامل مع البيئة المحيطة به، في أولى المواقع التي شهدت ظهوره على ضفاف الأنهار الكبرى وموارد المياه الغزيرة، في الصين وجزيرة جاوة بإندونسيا وفي العراق ومصر والجزائر، هدته فطرته العاقلة إلى صنْع أدوات من الحجر الصوان تعينه في خوض ملحمة الوجود، ثم استخدام هذا الحجر في توليد الشرر وتسخير النيران في التدفئة والإضاءة والطهو، مثل هذه الأنشطة البدائية أو المبدئية التي تحمل طيفًا من أولى ممارسات المنهج العلمي، تعني أن الإنسان بدأ يدرك ارتباطات أولية بين ظواهر الطبيعة وقوانين مبدئية تحكمها، وبدأت تتحدَّد ملامحه ككائنٍ عاقل.

علاوة على هذا، إذا كانت الرياضيات أقنوم العلم الحديث ورمزه المبجل، وروح المنهج العلمي المحدث تقوم على التحاور بين الرياضيات والتجريب، فإن نقوشًا بدائية على جدران كهوف أثرية متوغلة في أعماق التاريخ، قد دلَّت على أن رموز الأعداد اختُرعت قبل اختراع حروف الكتابة، ربما كانت هذه الرموز القديمة التي عثر عليها علماء الآثار في جزيرة جاوة، لا تتجاوز الإشارة إلى عدد أصابع اليد، إلا أنها تدل بشكلٍ ما على أن المنهج العلمي متأصل في صُلب أقدَم مناحي الإنسان وفي بنية توجهه العقلي. يقول ج. كراوثر: «محاولات أسلافنا الساذجة في استخدام الحجارة هي التي قادت عبْر مئات الآلاف من السنين إلى ما يتصف به علمنا اليوم من كمال؛ فالجهد الذي بذله أسلافنا الأوائل للتنسيق بين أفعالهم البصرية وحركات أيديهم، والذي هو نوع من النشاط العلمي التجريبي، وإن كان في صورةٍ بدائية، كان أحد أسباب نمو المخ، والذي عن طريقه تحوَّل الإنسان تدريجيًّا من الحيوانية إلى الإنسانية، إذن العلم — بمعنًى ما — أقدَم من الإنسان.»١

هكذا يطرح كراوثر المنهج العلمي في بواكير التحاور بين المخ والمعطيات الحسية والخبرات التجريبية أو بين الدماغ واليد، وتصويبها وتعديلها عبْر آلية المحاولة والخطأ، وأثر ذلك على تطور المخ ليبلغ المرحلة الإنسانية. ومن هذا المنظور تكون المحاولات البدائية للعلم، أقدَم عهدًا من إنسانية الإنسان بل ومؤدية إليها. وقد أسرف كارل بوبر في تبيان أن التحاور بين الفرض والاختبارات التجريبية، أو بين الدماغ واليد عبْر آلية المحاولة والخطأ، جوهر مفهوم المنهج العلمي.

•••

وبالتالي فإن مع أولى بدايات الحضارة الإنسانية ترسَّمت أصولٌ أنثروبولوجية صريحة لظاهرة العلم. ويتقدم الأنثروبولوجي الرائد برنسلو مالينوفسكي B. Malinowski (١٨٨٤–١٩٤٢م)، بنظرته الوظيفية البنائية، وقد أخرج عام ١٩٣٦م دراسة مهمة بعنوان «السحر والعلم والدين»، توضِّح أن هذه الدوائر كانت متمايزة في العقلية البدائية. كان السحر إقصاءً تامًّا للعقل ولا يستند إلا إلى تقاليد موروثة وحكرًا على طبقة السحرة والكهنة، أما العلم البدائي فلأنه علمٌ ينبع من العقل البدائي، وتصوِّبه الملاحظات البدائية؛ فقد كان متاحًا أكثر للجميع، ولن تنفرد به طبقة معينة إلا منذ الحضارات الشرقية القديمة. وكان الدِّين مختصًّا بالعالم العلوي والحياة الأخرى وما بعد الموت، والعلم مختصًّا بالعالم الأرضي والحياة الدنيا، يمكن أن يتواجدا معًا في العقلية نفسها في حالة الإنسان البدائي، كما هو الأمر في حالة الإنسان المعاصر. غير صحيح أن دائرة السحر تبتلع دائرة العلم، أو أن دائرة الدين تنفيها؛ فلولا المساحة التي تنفرد بها أصول المنهج العلمي، من ملاحظةٍ للطبيعة واعتقاد راسخ بنظامٍ فيها، لما سارت عمليات الصيد والزرع وسائر الفنون والحِرَف والصنائع التي تقيم الحياة البدائية.

هكذا ندرك أنه ليس من الصواب النظر إلى المراحل البدائية من وجود الإنسان، على أنها محض وحشية همجية غارقة في الخرافات والخزعبلات، بل إنها ببساطة بدايات للتحاور بين الإنسان والطبيعة أو الكون التجريبي الذي يحيا فيه، ولمصارعة المصاعب والاستجابة لتحديات البيئة التي وجد نفسه فيها، والقدرة على التغلب على هذه المصاعب بأشكالٍ بسيطة من التطبيقات التقانية أو الأدوات التكنولوجية مثل: البلطة، والسكين، والقدح. ولو لم يكن الإنسان البدائي في العصور السحيقة قد نجح في هذا، مثلما نجح في التوصُّل إلى ارتباطاتٍ مبدئية تحكم الطبيعة، لكان الجنس البشري قد اندثر، ولمَا كنا موجودين الآن، فضلًا عن أن يوجد نسق العلم الحديث.

(٢) في الحضارات الشرقية القديمة

وإذا غادرنا هذه المرحلة البدائية، ودخلنا في مرحلة التاريخ المكتوب، وجدنا العلم شريانًا تاجيًّا من شرايين الحضارة الإنسانية، ونبضه مؤشرًا دالًّا على حيوية الحضارة المعنية. والحضارة بدورها ليست مراحل منفصلة متمايزة، بقدْر ما هي عملية متصلة وسيرورة متنامية، تُسلِّم كل مرحلة فيها إلى الأخرى؛ لذلك كان مثول روح المنهج العلمي وحركية العلم خطًّا موازيًا لحركة الحضارة عبْر التاريخ، وتَقدُّم العلم هو عينه مسار تقدُّم الحضارة.

وعن الأساس العريض الأولي للعلم والممارسات النظامية إلى حدٍّ ما للمنهج العلمي وبدء تراكم حصائلها وتطبيقاتها، فقد تخلق هذا في الحضارات الشرقية القديمة، التي تحملت صعوبة البدايات ووعورة شق الطريق، وعلى رأسها أعظم الحضارات طُرًّا وفجْرها الناصع؛ أي الحضارة الفرعونية في مصر القديمة. ومصر، كما يقول أرنولد توينبي المؤرخ وفيلسوف التاريخ، هي التي اخترعت الحضارة والمدينة والمجتمع المنظَّم والدولة المركزية. كانت المنشأ الأصيل لمحاور شتَّى في العلم، سواء الرياضة كالحساب والهندسة والفلك، أو العلوم التجريبية كعلوم المعادن والكيمياء وصولًا إلى الطب والجراحة.

وكان جيران مصر الفينيقيون في سواحل الشام على اتصالٍ بها، وتجارًا ذوي براعة وجسارة في ركوب البحر وبعض المعارف المتصلة بهذا، وعلى اتصالٍ مباشر بالبابليين في العراق القديمة، ولا يضاهي الإنجاز المصري القديم في ميدان العلوم والتقانة إلا إنجاز حضارات بلاد الرافدين، البابلية والأشورية والسومرية والأكادية، خصوصًا الحضارة البابلية. ابتكر البابليون نظام الخانات العددية؛ حيث تتغير قيمة العدد وفقًا للخانة التي يوجد بها، خانة الآحاد أم العشرات أم المئات، فضلًا عن إنجازاتهم فيما يُعَد بشائر علم الجبر. ويرى بعض مؤرخي العلم أن الإنجاز البابلي في الفلك والتقاويم والحساب، متقدم على الإنجاز المصري الذي برع في الهندسة وفي الجراحة. ويدور الجدال حول مَن منهما الذي اخترع الحروف والكتابة أصلًا، وإن كانت الشواهد تميل إلى ترجيح كفة الفراعنة في هذا. وفي المقابل، نجد أن كفة البابليين أرجح في قضية رموز الأرقام الهندية، أعظم اختراع في التاريخ، من حيث المساهمة في تيسير منهج الاستنباط الرياضي.

يرى نفرٌ من مؤرخي العلم أن البابليين «هم الذين ابتكروا رموز الأرقام، ثم انتقلت من العراق القديم إلى الهند القديمة، فوجب أن نزجي الشكر لبابل على أهم ابتكار في تاريخ الرياضيات».٢ إنه اختراعٌ في تاريخ العقل الرياضي، يوازي اختراع العجلة في تاريخ العقل التكنولوجي. مؤرخون آخرون يرَون العكس؛ أي إن رموز الأرقام اختراع هندي انتقل من الهند إلى العراق القديمة. إن الهند وجارتها الصين مهْد من مهود الحضارة الإنسانية، أسهمت بنصيبها في هذه المرحلة الباكرة والأولية التمهيدية من تاريخ العلم؛ حيث وعورة شق الطريق وتعبيده، ليكون الإبداع الأصيل. على أن الصين القديمة تراجعت فيها الرياضيات والتفكير البرهاني والمنهج الاستنباطي، ولم تعرف حتى رموز الأرقام الهندية. عرفت التفكير القانوني وعرفت التفكير في الطبيعة، لكنها افتقرت إلى الأساس المنهجي الاستدلالي. ألقت الصين بثِقَلها في التطبيقيات والتقانيات، لتحتل موقعها في تاريخ التكنولوجيا، وقدَّمت فيما بعدُ ابتكارات عديدة مثل: الساعة المائية، والبوصلة، والبارود، والورق … وتفرَّغ جوزيف نيدهام J. Needham لأمر العلم في الصين القديمة، ليكشف عن كنوزه في موسوعةٍ من سبعة أجزاء.

كانت الممارسات المعرفية للمنهج العلمي في الحضارات الشرقية عمومًا، ونشأة العلم ونموه استجابةً للحاجات العملية الملحة. وكان العلم البدائي المطروح آنذاك في صياغته ودرسه حكرًا على طبقة الكهنة. ومع هذا لم ينفصل عن النموذج المعرفي وإطار البنية التصورية، بما احتوته من أساطير وعقائد؛ لأن العلم وممارسة المنهج العلمي منغمسة بشكلٍ ما في الواقع الثقافي المعيش.

(٣) في حضارة الإغريق

ثم كانت نقلة حاسمة في المرحلة الحضارية التالية حيث النموذج الإغريقي الأنضج والأقدر، قام بالدور العظيم في تنضيد العقل النظري الإطاري للمنهج العلمي كآلية معرفية.

والمشكلة أن تثبيت مركزية الحضارة الغربية وإمبرياليتها إنما يمتد إلى الإغريق، باعتبارهم أصول الحضارة الغربية. يسرفون في تمجيد ما أسمَوه بالمعجزة الإغريقية، بزعم أنها بدأت من نقطة الصفر المطلق، بإهدارٍ تام لدور الحضارات الشرقية القديمة الأسبق. وعبْر فجوة باهتة مظلمة هي العصور الوسطى، قام فيها العرب بدور ساعي البريد أو حافظ الأمانة، الذي أدخل عليها بعض التجديدات — بتعبير رشدي راشد — انتقل العلم من الإغريق إلى أحفادهم وورثتِهم الشرعيين في غرب أوروبا. هكذا تبدو قصة العلم وتجليات المنهج العلمي من ألِفها إلى يائها قصة غربية خالصة! لتكون الحضارة البشرية مِلكًا خالصًا للغرب، له أن يقسِّمها كما يشاء، ومَن حكم في ماله فما ظلم، وبالتالي استعمار العالمين عدل وحق وواجب للغرب!

لقد كان الإغريق أول قوم في أوروبا يخرجون من الوضع القبلي البدائي، ويصنعون مدنية وثقافة متنامية، قبل الميلاد بعشرة قرون، إنهم بداية الحضارة الأوروبية فتسهل المغالطة والزعم بأنهم نقطة بدء الحضارة الإنسانية بجملتها، وليس الأوروبية فقط، وأجَّج من هذا ضَعف الحصيلة المعرفية عن العلم القديم، وما كان شائعًا من خفوت الوعي بأهمية تاريخ العلم، تراجع هذا الآن مع تنامي وتطور مباحث تاريخ العلم، والتطور الذي لحِق بفلسفة العلوم خصوصًا بعد كتاب توماس كون «بنية الثورات العلمية» (١٩٦٢م)، فباتت تسلِّم بأن حاضر العلم لا يُفهم بدون ماضيه، وأن تاريخ العلم ضروري من أجل فهم ظاهرة العلم فهمًا حقيقيًّا أكمل، والمحصلة أن تتكامل قصة العلم ومنهجه عبر الحضارات.

في المنظور التكاملي يبدو النموذج العلمي الإغريقي مرحلة تالية لمرحلة الحضارات الشرقية القديمة، مستفيدةً منها ومواصلة لمسارها. بدأت في أيونيا ببلاد اليونان وليس في أي مكان آخر من أوروبا، لقربها وسهولة اتصالها بمواطن الحضارات الشرقية الأسبق منها، لا سيما مصر وفينيقيا وبابل، فكانت تَمثُّلًا واستيعابًا لميراثها، ثم تطويرًا له. أقرَّ عدد من العقليات العظمى في حضارة الإغريق أمثال: هيرودوت أبو التاريخ، وطاليس أول الفلاسفة، والفيلسوف العظيم أفلاطون شيخ المثالية، وهيبوقراط، وسواهم بأنهم زاروا طيبة وبابليون، أي مركز الحضارتين الفرعونية والبابلية، وتعلَّموا منهما، ومثَّلت مصر القديمة بالذات مثلًا أعلى ماثلًا أمام الإغريق.

وكان العلم الإغريقي هو المقابل الصريح للعلم الصيني؛ فبينما اهتم هذا الأخير بالجوانب التطبيقية والتقانية، أغفل الجوانب المنهجية النظرية والاستدلالية، فإن العلم الإغريقي قد فعل العكس تمامًا، اهتم بالنظري والبرهاني دونًا عن التجريبي والتطبيقي. وكان الفضل العظيم للإغريق في صياغة الأصول النظرية العقلانية للمنهجية، وهيكل التفكير البرهاني الاستدلالي، وتقنين مفاهيم من قبيل القانون والنظرية والحجة والبينة، على الإجمال شق الطريق نحو بلورة مثل المنهج العلمي وإرساء أسسه العقلانية.

ثمة أيضًا فروض خصيبة طرحها بعضهم، خصوصًا الفلاسفة القبل سقراطيين الذين بدأت معهم الفلسفة الغربية بدايتها الحاسمة المعتمدة، وتحديدًا مع فلاسفة المدرسة الملطية نسبة إلى مدينة ملِيتوس على ساحل إيونيا بآسيا الصغرى (تركيا الآن)، الذي سكنه قومٌ من الإغريق وظهر فيها رائدهم طاليس أول الفلاسفة جميعًا. السؤال المحوري الذي دارت حوله المدرسة الملطية والفلاسفة القبل سقراطيين عمومًا، هو السؤال عن «الأرخي»؛ أي المادة الخام التي صُنعت منها الطبيعة أو المبدأ المادي الأول الذي يرتد إليه العالم المحسوس بأسره. قال طاليس إن الماء هو أصل الأشياء جميعًا، وتبعه تلميذه أنكسماندر الذي قال إن «الأبيرون» أو عنصرًا هيوليًّا غير محدَّد وغير متعيَّن هو أصل الأشياء، ثم جاء أنكسيمنس ليقول بالهواء. أما فيثاغورث الذي ظهر في القرن السادس ق.م باذخ العطاء، ويصغر طاليس بثلاثين عامًا، فقد قال إن العدد هو أصل الأشياء جميعًا، وقام بدوره المبدئي المبكر في ترييض التفكير العلمي ومنهجه.

كان آينشتين في القرن العشرين لا يزال مبهورًا بنظرية فيثاغورث الشهيرة، على أن الجانب التجريبي الصريح الذي هو عماد للمنهج العلمي، قد تراجع إلى حدٍّ كبير مع الحضارة الإغريقية في مرحلتها الهلينية أو اليونانية الخالصة التي استمرت حتى رحيل أرسطو. احتقر هؤلاء عالم الطبيعة التجريبي أو بتعبير أرسطو عالم ما تحت فلك القمر، ولكنهم على أي حال قاموا بدورهم الحضاري المشهود في صياغة الأسس النظرية المعرفية للاستدلال العقلي ولمفهوم المنهج العلمي.

(٤) في العصر السكندري

العصر السكندري مرحلة استثنائية فذة حقًّا، كان مسرحها مدينة الإسكندرية في ساحل مصر الشمالي، إبَّان القرون الثلاثة السابقة على ميلاد المسيح؛ حيث صِيغ نموذج واعد، يجمع الجانبين: العلم والتقانة، من حيث يجمع دعامتي المنهج العلمي: النظرية والتجربة؛ فقد انصهرت فيها العقلانية الإغريقية مع الحكمة والخبرة المصريتين الخصيبتين.

إنها المرحلة الهلينستية، مرحلة تداخل الحضارة الهلينية؛ أي الإغريقية الخالصة السابقة، مع حضارات الشرق، وذلك حين أسَّس الإسكندر الأكبر إمبراطوريته التي تضم العالم القديم بأسره تقريبًا، وأنشأ عدة مدن تحمل اسم الإسكندرية على رأسها إسكندرية مصر، أُنشئت العام ٣٢٣ق.م في موقع قرية مصرية قديمة تُسمَّى «راقودة»، وبعد رحيل الإسكندر المفاجئ، جرى تقسيم إمبراطوريته بين قواده، وكانت مصر من نصيب بطليموس سوتير، ليبدأ عصر البطالمة فيها. وقد بذل بطليموس الأول جهده ليجعل منها مركزًا للعلم، أنشأ فيها أكاديمية ملحَقًا بها متحف ومكتبة، وسرعان ما باتت تضاهي مدارس الفلسفة في أثينا، وانضم إليها مجمع حكماء عين شمس حاملو الميراث المصري، والذين فيما سبق كانوا قد علَّموا فيثاغورث وطاليس وأفلاطون، حين ارتحل هؤلاء إلى مصر طلبًا للعلم.

أغدق بطليموس الثاني إغداقًا باذخًا على المكتبة الشهيرة، فجعلها كعبة العلماء والباحثين آنذاك. وورثت الإسكندرية عرش أثينا كمركزٍ للعقل والمعرفة والعلم، وقدَّمت نموذجًا معرفيًّا تفوَّق على النموذج الهيليني، من حيث اكتمال جانبي المنهج العلمي فيه، وفاقتها بما لا يُضاهى في التقانة (التكنولوجيا) وصنْع الآلات، وحسبنا أن نذكر اسم التكنولوجي الرائد هيرو السكندري (+٥٠ق.م)، اخترع العديد من الآلات وترك أبحاثًا في الرياضيات وعلم المساحة والميكانيكا والبصريات والفيزياء الجوية.

حتى الرياضيات مجد أثينا العظيم قطعت في الإسكندرية خطًى تقدمية واسعة، وأحرزت على يد إقليدس كمالًا لا يزال مثالًا يُحتَذى للمنهج الاستنباطي المنتج في الرياضيات. اكتملت نسقية الهندسة على يديه في كتابه «الأصول» أو أصول الهندسة الذي يتصدر قائمة الكتب التي شهدت طباعة أكبر عدد من النسخ في التاريخ. واستُؤنفت المسيرة بهندسة المجسمات، والقطوع المخروطية مع هيبسكليس وأبولونيوس وسواهما. وارتبط بهذا تقدُّم في الجغرافيا والطب والفيزياء. وفي الفلك قدَّمت الإسكندرية نظريتين معالجتين رياضيًّا، الأولى لأرسطارخوس الساموسي (تُوفي قرابة ٢٣٠ق.م)، على أساسٍ من مركزية الشمس، والأخرى لبطليموس على أساسٍ من مركزية الأرض. ولأسبابٍ كثيرة، قُدِّرت لمركزية الأرض البطلمية السيادة طوال العصور الوسطى.

يوازي هذا نضج ملحوظ في علوم الجغرافيا. ظهر إراتوستينيز (تُوفي ١٩٤ق.م)، الذي يُوصَف بأنه إمام الجغرافيين في العصر القديم، حاول ابتكار طريقة لقياس محيط الأرض وقطرها. وفي الطب يكفي اسم العَلَمَين أبقراط وجالينوس؛ فقد نالت علوم الحياة أيضًا حظًّا عظيمًا من العناية في مكتبة الإسكندرية ومتحفها، والذي لم يكن متحفًا بالمفهوم الحديث، بل هو بهذا المفهوم أول جامعة في العالم، وشاهِد على أن الإسكندرية كانت من معاقل ممارسة المنهج العلمي كمنهج معرفي تجريبي. كان جاليليو (١٥٦٤–١٦٤٢م) من أعظم آباء العالم الحديث، ويقف كعلامة فارقة في مسار تطور المنهج العلمي، قال قولته الشهيرة: «كتاب الطبيعة المجيد مكتوب بلغة الرياضيات»، وجاهر بأن إنجازاته ما كانت لتُتاح دون إنجازات أرشميدس (+٢١٢ق.م)، في ذلك العصر السكندري الزاخر؛ فهو الذي علَّمه التآزر المثمر الولود بين الرياضيات ووقائع التجريب؛ أي علَّمه أصوليات المنهج العلمي. لقد كان أرشميدس في طليعة الآباء العظام، الذين قدَّمت ممارساتهم صورة مبكرة وناضجة للمنهج العلمي.

على الإجمال، يَعُدُّ مؤرخو العلم المرحلةَ السكندرية من أهم مراحل تاريخ العلم القديم، حتى يراها بعضهم تقف على قَدَم المساواة مع مرحلة الثورة العلمية الحديثة في القرن السادس عشر.

•••

المرحلة السكندرية أعقبتها الفلسفة الرومانية التي امتدت حتى القرن الخامس الميلادي الذي يُعَد نهاية عصر الفلسفة القديمة، ما بعده يُعرَف بالمرحلة الوسيطة أو العصور الوسطى؛ حيث إنها تتوسط نهضتين هما مرحلتان مشرقتان في الحضارة الغربية الأوروبية، الأولى مع الإغريق والثانية هي عصر النهضة والعصر الحديث. أما العصور الوسطى الأوروبية ذاتها، فكانت مرحلة مظلمة، يواكبها زمانيًّا مرحلة العصر الذهبي للحضارة الإسلامية.

في أقل من مائة عام طوَّقت الفتوحات الإسلامية شواطئ البحر المتوسط، من أقصى شماله الشرقي إلى أقصى جنوبه الغربي ومضيق جبل طارق، وكاد يتحوَّل إلى بحيرةٍ عربية تجوبها الألوية والصواري الإسلامية. ولما كان ثبج البحر آنذاك هو وسيلة الاتصال بين أرجاء المعمورة، فقد اختنقت أوروبا ودخلت في ليل العصور الوسطى، التي كانت شمسها غاربة عن الغرب ومشرقة في الشرق؛ فكانت الحضارة الإسلامية هي التي حملت آنذاك لواء التجريب والمنهج العلمي في تلك الحقبة من تاريخ البشر.

١  ج. ج. كراوثر، «قصة العلم»، ترجمة د. يمنى طريف الخولي ود. بدوي عبد الفتاح، ط٢، مكتبة الأسرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٩٩م، ص١٨-١٩. (في الفصل الأول: كيف انبثق العلم)، ولمزيدٍ من تفاصيل مناقشات الأصول الأنثروبولوجية للعلم، انظر: «متى يبدأ تاريخ العلم» في: يمنى الخولي، «فلسفة العلم في القرن العشرين»، ص٣٠ وما تلاها.
٢  L. W. H. Hull, History And Philosophy of Science, Longman, London, 1965, P. 7 et Seq.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤