الفصل الثامن

الحالة الإدارية والسياسية

عرفت مصر التقسيمات الإدارية من أيام الأسر الأولى، وعد سترابون ستة وثلاثين من هذه الأقسام التي نسميها اليوم بالمديرية أو المحافظة، وعرفها اليونان باسم النوم Nom، وزادت بعد عصر سترابون حتى أربت على الأربعين.

ويقال: إنها كانت في مبدأ الأمر مواطن للعشائر أو القبائل المختلفة التي تسكن الوادي وما يقابله من جانبي الصحراء، وكانت كل عشيرة منها مستقلة برئيسها وعبادتها المحلية، على حسب الطواطم التي تدين بها، ومن هنا غلبة العبادة في كل إقليم لطوطم من الطواطم الحيوانية، فمنها إقليم الصقر، وإقليم التمساح، وإقليم ابن آوى، وإقليم الهر، وإقليم الحمل، وغيرها من هذه المعبودات الطوطمية؛ ولهذا كبرت بعض الأقاليم أو صغرت لأسباب لا ترجع إلى الوضع الجغرافي أو المصالح الاقتصادية، وتعذر تغييرها، والتصرف في حدودها قبل اتخاذ البلاد جميعًا في عبادة قومية عامة.

وإلى جانب هذه التقسيمات كانت هناك أقسام أكبر من هذه الأقسام، نلاحظ في تخطيطها الدواعي العسكرية والسياسية، أو دواعي الدفاع واجتناب النزاع بين أصحاب الحقوق المشتركة في الإمارة.

وأقدم هذه الأقسام قسمان: مصر العليا ومصر السفلى، ثم زيدت عليها مصر الوسطى، وتفرعت مصر السفلى إلى فرعين: أحدهما إلى شرق الدلتا والآخر إلى غربها، ووجد في بعض العصور قسم آخر، يضم إليه الواحات وطرفًا من الأرض الليبية، ويتصل بالفيوم والإسكندرية حيث يشرف عليه الوالي الأكبر، لما له من الخطر في الدفاع عن حدود مصر الغربية.

هذه التقسيمات جميعًا تحللت وكادت تندثر أو تختلط بينها التبعات في عهد الإمبراطورية الرومانية الشرقية.

ففي عهد الإمبراطورية بطلت الحاجة إلى الدفاع شرقًا وغربًا؛ لأن مصر كانت محاطة من الجهتين بأملاك الإمبراطورية في فلسطين وفي ليبيا وإفريقية الشمالية … وبطلت الحاجة إلى الدفاع جنوبًا؛ لأن نجاشي الحبشة كان على عهد مع عاهل القسطنطينية أن يتعاونا على حرب فارس وإخراجها من اليمن التي كانت تهم الحبشة وتخشى الخطر من جانبها فلم تبق من حاجة إلى الدفاع في غير الإسكندرية، ولم يكن دفاع البر هو المقصود بالحامية التي تعسكر فيها، ولكنه كان دفاعًا بحريًّا تعززه الحاجة إلى الأسطول لنقل المحصولات والغلات من القطر المصري إلى بلاد الدولة المترامية الأطراف على سواحل بحر الروم.

وجاوز الأمر إهمال الدفاع إلى تعجيز الحاميات، وإغراء بعضها ببعض خوفًا من اتفاقها على الدولة، وإجماع قادتها على رفض المطالب التي تتوالى على القطر من القسطنطينية.

فاختلت أحوال الأمن في داخل البلاد، ولجأ بعض السراة من أصحاب الضياع الكبيرة إلى اتخاذ الجند من أتباعهم وزراعهم وحواشيهم، فلم يمض غير قليل حتى نجم الخطر من هذه الفرقة التي لا تدين بالطاعة لقائد واحد، فعاثت في الأرض، وخيف منها على الوادعين المسالمين، وأصبحت شرًّا عليهم من عصابات اللصوص وقطاع الطريق! وفي تاريخ يوحنا النخيوي وقائع شتى من عبث هذه الفرق، تدل على ما كان من اضطراب الأمن وفزع الأهلين وعجز الحكومة العامة في الأيام الأخيرة قبل الغزوة العربية.

وآل الغرض كله من التقسيمات الإدارية إلى جمع الضرائب والأزواد المقررة للدولة في كل سنة زراعية.

ولم يكن لهذه الضرائب نظام واحد ولا مقدار معروف لا يتغير مع السنين، ويظهر هذه الاختلاط في سياسة الضرائب من تضارب الأقوال بين المؤرخين الذين جمعوا كل ما أتيح لهم جمعه من الوثائق والسجلات وأوراق البردي ورسائل العواهل والولاة، فاختلفوا في ضريبة الأرض وضريبة الرءوس، وذهب بعضهم إلى نفي الخبر المتواتر عن وجود ضريبة الرءوس في مصر على عهد الدولة الرومانية الشرقية؛ لأنهم لم يجدوا لها موضعًا بين أنواع الضرائب على الأطيان، ثم اتفق بعضهم على أن ضريبة الأطيان هي ضريبة الرءوس التي أصبحت أساسًا لتحصيل الجزية بعد فتح العرب؛ لأنهم كانوا يلاحظون في مقدار ضريبة الأرض كفاية الزارع الواحد طول العام، فتحسب الغلات بحساب الرءوس، ولا يختلف التقدير بين ضريبة الوحدة الأرضية Jugum وضريبة الرأس على فرد من أفراد الفلاحين Caput، فلم يكن خراج الأرض Jugatio وضريبة الرءوس Capitatio صورتين مختلفتين لضريبة واحدة.١
واستوجب هذا النظام أن يعتبر الفلاح أسيرًا على الأرض التي يزرعها، ويعامل معاملة الهارب بحق الدولة إذا فارق قريته ولاذ بقرية أخرى، وحل الزارع المحلي Colonus محل العبد الرقيق بعد تعذر الاعتماد على هذا النظام في الزراعة.
وعلى هذا لم يكن مقدار الخراج محدودًا في كل سنة، بل كان تحديده على حسب المحصول المنظور في أيام الفيضان، فيصدر البيان السنوي من الوالي الروماني خلال شهر يوليو أو أغسطس،٢ ويبلغ إلى الأقاليم في سبتمبر أو أكتوبر، ويتولى كل إقليم توزيع المقدار المطلوب منه على القرى والبلاد، كما يروق صاحب الكلمة العليا في الإقليم. وأصحاب الكلمة العليا مختلفون بين حكام رومانيين، أو أصحاب ضياع من الأجانب والوطنيين، وبين مجالس بلدية أو إقليمية، ومستأجرين يتولون زرع الأرض في مساحات واسعة، ثم يتولون محاسبة المجالس أو أصحاب الضياع.

والمطلوب من الأرض كذلك يختلف على حسب الجودة والصنف المزروع، فمن الأرض ما يسهل ريه بماء النيل، ومنها ما يصل إليه ماء النيل ولكنه يغمره أيامًا في السنة فلا يصلح للزراعة في غير موسم قصير، ومنها ما يحتاج إلى الآلات لريه ولا يأتي بالغلة الكافية إلا مع كثرة الأيدي العاملة فيه.

والدولة لا يعنيها إلا أن تجمع المقدار المقرر في حسابها، والموظفون لا يعنيهم إلا إرضاء الدولة، وليس للتقصير في أداء مطالبها غير نتيجة من نتيجتين، كلتاهما مكروهة ومحذورة: فإما العزل وإما العمل بغير مرتب؛ لأن المرتبات محسوبة من حصة الضرائب التي تبقى في مصر بعد استيفاء مطالب الدولة جميعًا من المال والمحاصيل.

وربما تسابق الملاك الكبار ورؤساء المجالس المحلية والإقليمية في معاملة الدولة في تحصيل الضرائب؛ طلبًا للكسب والنفوذ من وراء هذه المعاملة!

فقد كان النظام المتبع مع كبار الملاك أن يؤدوا ضرائبهم إلى خزانة الدولة مباشرة، بغير واسطة الجباة ورؤساء المجالس، وكان هذا النظام يرضي الدولة؛ لأنه يغنيها عن استخدام الموظفين والمحصلين، ويرضي المالك الكبير؛ لأنه يكسبه الجاه في الدواوين، ويمكنه من تسخير العمال المستأجرين، فلا يبرحون أرضه أو يستعين عليهم بسلطان الحكومة ويستبقيهم عنده مكرهين، وكان من حقه بهذه المثابة أن يطارد المماطلين؛ لأنهم يماطلون الدولة كما يماطلونه، وأن يستزيد من الأرض المزروعة لحسابه ما استطاع؛ لأنه يزيد بذلك في نصيب الخزانة العامة ويعطي الدولة حقها جملة واحدة في موعد معلوم!

وهناك غاية سياسية وراء هذه «الإجراءات الإدارية» ترمي إليها الدولة البيزنطية في عاصمتها الكبرى، وهي إثارة الشحناء بين سراة البلاد وأصحاب المناصب الكبرى، فتضرب بعضهم ببعض، وتأمنهم جميعًا على سلطانها، وقد تأمن أن يغتالها أحدهم في نصيبها من الضرائب حذرًا من وشاية الخصوم والنظراء.

ويغلب على اعتقادنا أن سلطان المقوقس في مصر إنما كان من عمله على هذا النحو في تدبير أمر الخراج، فلم يكن واليًا مفوضًا في أمر الخراج كما خطر لبعض المؤرخين، ولكنه كان مالكًا كبيرًا من أبناء البلاد، فكان يتكفل للدولة بحصته وحصة عملائه وأتباعه، وكانت الدولة الرومانية تعترف بوجاهته وتستفيد منها، كما كانت الدولة البريطانية تصنع في الهند مع الراجات وأمراء الولايات.

ولكن الطمأنينة شيء وتنازع الوجهاء على السيطرة شيء آخر، فهذا التنازع صراع دائم لا طمأنينة فيه لأحد من كبار الملاك ولا من كبار العمال والولاة، وإذا كان مداره على التزايد في إعطاء الدولة وابتزاز المال من المحتاجين إليه، فهو قلق دائم لصاحب الأرض وزارعها والمأجور عليها، ومن تقوم سيادته على التنكيل بنظرائه، والعدوان على من هم دونه من الصغار والمستضعفين.

ولم تكن ضريبة الأرض أو ضريبة الرءوس كل ما تطلبه الدولة من رعاياها المصريين، بل كانت هناك ضرائب كثيرة على المقتنيات جميعًا بين ثابتة ومتنقلة، وقد أحصى منها ميلن Milne في تاريخه لمصر في ظل الحكم الروماني أنواعًا شتى، كضريبة الإصلاح والترميم التي تجبى لإقامة الجسور وتسليك الجداول وتنظيف الأحواض، وضريبة البيوت والمساكن الخاصة والعامة، وضريبة الحيوانات كالخيل والجمال والحمير، وضريبة الصناعات والمتاجر، وضريبة عامة تسمى ضريبة إنتاج … وكلها على اختلاط حسابها وحساب وحساب مواعيدها والمراجع التي تتولى تقديرها وتحصيلها كانت مصدرًا دائمًا للشكاية والقلق والنزاع بين الشعب والموظفين، وبين الإدارة المحلية والإدارة العامة وبين خزانة مصر وخزانة الدولة الرومانية.

واقترنت هذه الحالة في القرن السادس بتدهور العملة الرومانية، واختفاء العملة جملة من الاسواق المصرية! وقد فسر المؤرخ ميلن هذه الأزمة بالخوف من تقلبات التجارة، واكتفاء أصحاب الزراعات بلوازمهم من غلات أرضهم ومما يحصلون عليه مقايضة ومبادلة على تلك الغلات، وقد يكون بعضها راجعًا إلى عادة الكنز والادخار، تهريبًا للمال من أعين الحكومة، وحيطة للمستقبل المجهول.

وبين هذه الأزمات والشكايات يسمع القوم عن نظام الفاتحين في البلاد المجاورة، ويعلمون أنه يقصر الضرائب على ضريبة الرءوس للذميين، وضريبة العشر للمسلمين، ولم يكن هناك خراج يتقاضاه الفاتحون من الفريقين مستقلًّا عن الضريبتين؛ لأن نظام الخراج إنما استعير من الدولة الفارسية، وصحِّفت الكلمة من كلمة «خلاج أو خارج» الآرامية التي دخلت في تعبيرات الفرس؛ لأنهم كانوا يستعيرون الكتابة بالحروف الآرامية، فلما شرعت الدواوين الإسلامية في تطبيق نظام الخراج والتوفيق بينه وبين ضريبة الذميين وبين عشور الزكاة، كان قد مضى وقت غير قصير على أوائل أيام الفتوح.

وكان الأمل في الخلاص من شبكة الضرائب الرومانية سببًا آخر من أسباب الرغبة في الخلاص من حكمها كله، بما اشتمل عليه من ضروب الإرهاق والسيطرة الجائرة على الأرواح والأموال.

وقد خلق المؤرخون كعادتهم مشكلة متشعبة من الأقاويل والتقديرات حول نظام الضرائب في العصر الإسلامي الأول، وتساءلوا هل كانت ضرائب رءوس؟ هل كانت غنائم فَيء؟ هل كانت خراجًا على الأرض؟ هل كان تحصيلها على طريقة الدواوين الرومانية أو على طريقة جديدة لم تكن معروفة في تلك الدواوين؟

وإنما يخلق المؤرخون مشكلاتهم لأنفسهم؛ لأنهم يطلبون النصوص والأوراق دائمًا، ولا يطالبون أنفسهم بتقدير الموقف كما ينبغي أن يكون، ثم يستعينون عليه بنصوصهم وأوراقهم على هذا التقدير!

وينبغي أن يقدر المؤرخون شيئًا واحدًا لا شك فيه، وهو أن انتقال نظام الضرائب بين ليلة ونهار من الحساب الروماني إلى الحساب الإسلامي هو المستحيل؛ لأن إشراف القائمين على الدواوين التي يجري فيها الحساب باللغة اليونانية غير ميسور، وقد يتعسر إشرافهم عليها بأية لغة من اللغات في سنوات الانتقال من نظام إلى نظام.

كذلك ينبغي أن يقدر المؤرخون أن معاملة القطر كقطعة واحدة من الأرض شيء لم يخطر على بال أحد في ذلك الزمان!

فالمؤرخون الأقدمون كانوا يذكرون مصر في كتبهم، فيتكلمون عن مصر وإسكندرية، ومصر وطيبة، ومصر والفيوم، ومصر والمدن الخمس، ويفرقون بينها في أحكام الولايات والأبرشيات من الوجهة الإدارية والوجهة الدينية.

ولما تم الفتح كانت معاملة الأقاليم مختلفة على حسب الولاة والملاك، وعلى حسب المقاومة والصلح، وعلى حسب الجنود والقادة الذين أخذوها عَنْوة، أو أخذوها بعد حصار أو أخذوها بغير مقاومة.

فهناك أقاليم كان الملاك فيها من الرومان فهجروها، وأصبحت من غنائم الدولة التي تستولي عليها وتتولى تقسيمها وتوزيعها.

وهناك أقاليم يكثر فيها الملاك الوطنيون، وهذه داخلة في ضريبة الجزية، وأقاليم حاربت وأقاليم لم تحارب ولم تعقد صلحًا؛ لأنها كانت متروكة بغير زعامة وبغير رئاسة تنوب عنها في المعاهدة والمصالحة.

أما اختلاف المعاملة بالنظر إلى الجيش الفاتح فمرجعه إلى الفرق بين الغنيمة والفيء في أرزاق الجنود.

فالغنائم التي تؤخذ حربًا تُعزل منها حصة لبيت المال، وتقسم منها حصة على المقاتلين.

والغنائم التي يأخذها الفاتحون بغير حرب هي الفيء الذي يئول الأمر فيه إلى تصرف الإمام ولا يصح تقسيمه بين المقاتلين.

فلما حصل الفتح جاء الاختلاف من قبل التمييز بين المحارب والمسالم، وبين حقوق الغنيمة وحقوق الفيء، ولكن لا اختلاف على الإطلاق في نظام الضرائب كيف يكون في محاسبة الذميين ومحاسبة الجنود.

•••

وقد يختلف في الأرض الخراجية وغير الخراجية، ولكن الأمر الذي لم يقع عليه خلاف قط هو ضريبة العشر على المسلم؛ لأنها هي فريضة الزكاة التي تلزمه باستحقاقها ولا خلاف عليها. والتنبيه إلى ذلك واجب لتصحيح أقوال المؤرخين الذين وهموا أن أناسًا من أبناء مصر دخلوا الإسلام فرارًا من ضريبة الجزية، فإن نظام الضرائب الجديدة كان يوجب على كل ذمي عامل دينارين في السنة، ولا ضريبة على النساء ولا على الأطفال ولا على الشيوخ العجزة «ولا يزاد أحد منهم في جزية رأسه أكثر من دينارين، إلا أنه يلزم بقدر ما يتوسع فيه من الأرض والزرع، إلا أهل الإسكندرية فإنهم كانوا يؤدون الخراج والجزية على قدر ما يرى من وليهم»؛ لأن سكانها من الروم، ومن والاهم لم يدخلوا في اتفاق، وعادوا إلى القتال بأمر الدولة الرومانية مرتين.

والحكم في تحصيل الجزية كما أثبته الفقهاء: «ألا يضرب أحد من أهل الذمة في استيدائهم الجزية، ولا يقدموا في الشمس ولا غيرها، ولا يجعل عليهم في أبدانهم شيء من المكاره، ولكن يرفق بهم ويحبسون حتى يؤدوا ما عليهم، ولا يخرجون من الحبس حتى تستوفى بهم الجزية.»

فإذا أسلم الذمي فرارًا من الجزية فالإسلام لا يعفيه من الزكاة، ولا من خراج الأرض بحسب ما يلزم لإصلاحها وريها، ويوجب عليه «التجنيد» الذي يعفى منه الذميون، وليس في هذا تخفيف ولا إعفاء من وجهة التكاليف التي تناط بالأنفس أو الأموال.

وليس من غرض هذه الرسالة بسط القول في النظم الإدارية والمالية إلا من جانب واحد، وهو الجانب الذي له علاقة بمهمة الفتح وعمل عمرو فيه، فإذا نظرنا إلى نظام الضرائب ونظام الإدارة عامة في عهد الرومان، والتمسنا آثارها في فتح العرب مصر، كان أوضح هذه الآثار أنها يسرت مهمة الفتح تيسيرًا عظيمًا، فاستطاع عمرو ببضعة آلاف من الجند ما لم يكن مستطيعه بأضعاف هذا العدد، إذ كانت هزيمة الروم نكبة على الروم نكبة على الروم، وكان انتصارهم نكبة يحذرها أبناء البلاد وإيذانًا بظلم فوق ظلم؛ لأنه ظلم المنتصر الذي استقر له الأمر في بلد مغلوب يحس من أهله العداء والمناقضة في أمر العقيدة وأمر السياسة. وقد وصف ساويرس بن المقفع فرح الجماهير بلقاء رئيسهم بنيامين بعد اختفائه في منفاه، فقال: إنهم كانوا أشبه شيء بصغار النعم خلي بينها وبين ألبان أمهاتها، وقال البطرق نفسه في جوابه لأسقف نيخو الذي هنأه بزوال عهد الروم: «إنني وجدت في الإسكندرية ما كنت أوده من الطمأنينة بعد ما قاسيناه من الكفرة الظالمين!»

أما السياسة التي اتبعها عمرو في تحصيل الضرائب، فكانت في جانب المصلحة المصرية كلما اختلفت الآراء بين خطتين، فلما أشار عليه زعماء الجند بقسمة الأرض والمال أبى ذلك عليهم، وراجع الخليفة عمر بن الخطاب في ذلك فأقره على رأيه، ثم اقتصد في تحصيل الضرائب حتى ارتاب الخليفة في الأمر، وحاسبه علىه حسابًا عسيرًا كعادته في محاسبة العمال؛ إبراءً لذمته من العبث ببيت المال، وفي الكتب التي دارت بين الخليفة وعمرو في هذا الصدد بيان عن سياسة عمرو، وبيان أوضح من ذلك عن خلقه وقوة شكيمته مع خليفة لم يجترئ عليه أحد من عماله مثل اجترائه، فلما كتب إليه الخليفة «يعجب من أن الأرض لا تؤدي نصف ما كانت تؤديه»، ويعرض له ببعض الشبهات، أجابه مغضبًا فقال: «إننا عملنا لرسول الله ، ولمن بعده، فكنا بحمد الله مؤدين لأمانتنا، حافظين لما عظم الله من حق أئمتنا … وإن الله قد نزهني عن تلك الطُّعم الدنيئة والرغبة فيها بعد كتابك الذي لم تستبق فيه عرضًا ولم تكرم فيه أخًا …»

إلى أن قال — وهو أشد ما ووجه به خليفة وما ووجه به ابن الخطاب خاصة: «والله يا ابن الخطاب لأنا حين يراد ذلك مني أشد غضبًا لنفسي ولها إنزاهًا وإكرامًا، وما عملت من عمل أرى عليه متعلقًا، ولكني حفظت ما لم تحفظ، ولو كنت من يهود يثرب ما زدت، يغفر الله لك ولنا …!»

وتكررت المعارضة منه في طلب الزيادة من مال مصر حتى عزله عثمان — رضي الله عنه — وقال له حين جاءه الخراج زائدًا: «أرى أن اللقاح قد درَّت!» فأجابه: «حين أعْجفتُم فصالها!»

ولم يحاول المؤرخون الغربيون أن ينكروا هذه الخطة من عمرو، ولكنهم أكدوها واستدلوا منها على نية البقاء في المنصب أو نية العمل لنفسه في المستقبل، وليس هذا بالبعيد في رأينا ولا بالمستغرب من عمرو أو غيره من الولاة، ولكنه قول يلقى على عواهنه إذا أريد به أنه كان يقتطع أموال مصر لنفسه بعد الفتح، فإن الخليفة قد حاسبه على ما زاد من عطائه — وهو مائتا دينار — فوجد فضلًا سأله عنه، فقال له: إنه من التجارة فلم يتقبل منه هذا العذر، وأرسل إليه من يقاسمه الزائد من المال كعادته مع الولاة في كل بلد، ثم عزله عثمان فلم يتخلف عنده من المال ما يغنيه بعد عزله، ولو تخلفت عنده بقية تحسب من الغنى لما قال عثمان: «إن جبتك قملت منذ عزلناك!»

هذه خطته في الإدارة ونظام الضرائب بعد هزيمة الرومان، وهي الخطة التي عاهد عليها من عاهدوه فيها، ولم يتغير منها بعد ولايته الثانية في أيام معاوية إلا أنه كان المسئول عن الحكم كله في أيام هذه الولاية، فلم يكن حفظ ما زاد من المال اختلاسًا من حق مفروض عليه لبيت المال في دار الخلافة.

قيل: إن عثمان — رضي الله عنه — عزله لأنه أراد أن يجعله على الحرب ويولي عبد الله بن سعد تدبير أمر الخراج! ويخيل إلينا أن عثمان — رضي الله عنه — قد نظر في ذلك إلى نظام الدواوين كما بقي من عهد الروم، وأراد أن يجعل للدفاع وللحرب واليًا غير ولاة المال، وقد كان الخلفاء الأولون يبتدئون هذه النظم على غير سابقة، فيرجعون إلى سوابقها في البلاد التي حكموها بعد الفرس والرومان، وأيًّا كان الباعث على معارضة عمرو في هذا النظام، فلقد كان على طريقته التي انتهجها قبل تحويل إدارة الدواوين شيئًا فشيئًا إلى النظام الذي استلزمه تغيير سياسة مصر، من ولاية تساس لتدبير طعام الدولة الرومانية وتزويدها بالمدد لخزانتها إلى قطر يقوم بشئونه ويرسل من فيضه حصة لا ينفرد بها بين الأقطار التي كانت تشترك في دولة واحدة.

•••

ولا تنفصل مسألة الضرائب والإتاوات ومسألة الفتح في تقدير أحد ممن كتبوا عن هذه الفترة في تاريخ مصر وتاريخ الدولة الرومانية، فقد اتفق المؤرخون الاجتماعيون والناقدون العسكريون على أن النظام الإداري — أو نظام الضرائب خاصة — كان له أثر قوي في تيسير الفتح من جانب المصريين، وعزز هذا الرأي ناقد عسكري حديث رجع بالدرس إلى معارك الفتح على أحدث المبادئ العصرية، وهذا الناقد العسكري هو القائد «فولر» رائد التسليح الآلي في تركيب الفرق الحديثة، فإنه راجع فتوح الإسلام وعجب لاتفاق فتح خراسان وفتح مصر في وقت واحد، ثم كان من تفسيراته لهذا الفتوح «أنها رد فعل على الحكم الروماني الذي أرهق المصريين بالضرائب الثقيلة، وحجر على عقيدة القبط الدينية».

١  الإمبراطورية البيزنطية، تأليف نورمان باينز Bavnes.
٢  الدخول في الإسلام وضريبة الرءوس، تأليف دانيل دينت Dennette.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤