الشاب الداخل

استمر الخلفاء يحكمون القسم الأعظم من المملكة الإسلامية ستة قرون، وكان هذا الحكم في أول الأمر قويًّا واسع السلطة، فكان الخليفة يعيِّن أمراء الولايات ويعزلهم إن شاء ومتى شاء من إسبانيا إلى حدود الهند.

ولكن المملكة وقد امتدت رُقعتها كانت أوسع من أن تجتمع أمدًا طويلًا حول محور واحد؛ لذلك أخذ عدد من الأمراء في الفينة بعد الفينة، يعمل مستقلًّا مع إظهار الولاء الأكيد للخليفة، ومنحِه كل ما يجب من تشريف وتبجيل إلا الطاعة، ودار الزمن دوراته ففقد الخلفاء هذا التشريف وذلك التبجيل، ونبتت سلالات من الأمراء انتحلت مذاهب دينية مبتدعة، فجحدت سلطة الخليفة الدينية وعدَّته وعدت أبناءه من الغاصبين، ثم جاء زمن كانت سلطة الخلفاء الزمنية فيه أشبه بسلطة البابا برومة في الضعف والخور، حتى إن حرَّاسهم المرتزقين الذين استأجروهم لحمايتهم من أعدائهم كانوا يحبسونهم أحيانًا في قصورهم، وقد وقع شيء من ذلك بعد نحو ثلاثمائة سنة من ابتداء الخلافة، أما فيما بعد ذلك، فكان الخلفاء رمزًا قليل القيمة، يلعب به كبار أمراء المملكة كيف شاءوا، وكانوا لا ينالون شيئًا من الحفاوة إلا يوم توليتهم، ثم محا المغول في القرن الثالث عشر الخلافة بآسيا، ولم يعد للمسلمين اليوم خليفة بالمعنى الصحيح، على الرغم من تمسك سلطان تركيا بهذا اللقب.١

وكانت الأندلس أول ولاية نفضت عنها سلطة الخليفة، ولكي نفهم هذا يجب أن نذكر أن الخلفاء لم يتبع بعضهم بعضًا في سلالة متصلة الوراثة، فبعد الخلفاء الراشدين: «أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي» الذين نالوا الخلافة بقليل أو كثير من رغبة الأمة واختيارها — نصب أهل الشام معاويةَ خليفة بدمشق، فكان من نسله الخلفاء الأمويون، وكان عددهم أربعة عشر، حكموا من سنة ٦٦١م/٤١ﻫ إلى سنة ٧٥٠م/١٣٢ﻫ ثم أسقط السفاح دولتهم، فكان أولَ العباسيين المنسوبين إلى جدهم العباس عم النبي ، ونقل العباسيون مركز الخلافة من دمشق إلى بغداد، واستمرت خلافتهم حتى أسقطها المغول سنة ١٢٥٨م/٦٥٦ﻫ.

وكان عبد الرحمن الداخل من الأسرة الأموية المغلوبة التي طاردها العباسيون واستأصلوا شأفة أبنائها، وتتبعوهم في كل نواحي الأرض يذبِّحونهم بلا رحمة ولا هوادة، ففر عبد الرحمن٢ كما فر غيره، ولكنه كان سعيد الطالع؛ إذ وصل إلى شواطئ الفُرات سالمًا بعد جهد وأيْن، وبينما كان ذات يوم جالسًا في خيمته يرقُب ابنه الصغير وهو يلعب في فنائها، جرى إليه الصبي خائفًا مذعورًا، فخرج عبد الرحمن ليتعرف سبب خوفه، فرأى القرية في اضطراب، ورأى العلم العباسي الأسود يرفرف في الأفق، فاجتذب ابنه في عجلة وفرَّ من القرية، ووصل إلى النهر فقذف بنفسه ومن معه فيه، واقترب الأعداء إلى شاطئ النهر وصاحوا بهم أنْ لا بأس عليكم فلن يصيبكم منا أذى، فصدقهم أخ له صغير كان معه وكان قد أجهدته السباحة، فذهب إليهم فاحتزوا رأسه في التو والحين، ولكن عبد الرحمن طفق يجاهد حاملًا ابنه ووراءه خادمه بدر حتى وصل إلى الشاطئ الآخر، فلما وُضعت أقدامهم على اليابسة أخذوا يسيرون ليلًا ونهارًا حتى بلغوا إفريقية حيث تبعه بقية أهله هناك، وحيث وجد ذلك الناجي الوحيد من الأمراء الأمويين وقتًا للتفكير فيما يكون في غده.
كانت سِنُّه إحدى وعشرين سنة، وكان كبير الأمل طموحًا، وكان يتحلى إلى سداد الرأي بامتداد القامة، والوسامة، والقوة والشجاعة، ويُضيف بعض مؤرخي العرب إلى هذه الصفات ما لا نحب أن يتصف به بطلنا، كالعَوَرِ، والخَشَمِ.٣
وكان قومه يتحينون له ملكًا بالمغرب، ويرون فيه علامات لذلك،٤ وهو الآن على الرغم مما أصاب قومه من الهلاك قوي العزيمة غير مستكين، وقد اتجه نظره إلى إفريقية أولًا؛ لأنه رأى أن قوة العباسيين لم تدع له فرصة في الشرق،٥ فلما بلغها بقي سنين هائمًا على سواحل البربر، تحقق في خلالها أنه لا يستطيع التغلب على أمير إفريقية،٦ وأن ثوار البربر في المغرب لن يتخلَّوْا عن الاستقلال الجديد الذي نالوه ليحظوا بالشرف الأجوف بتولية أحد الأمويين عليهم.

عند ذلك حول نظره إلى الأندلس؛ حيث كان الصراع الدائم بين القبائل والعشائر المتنافسة جديرًا بأن يفتح بابًا لعبقري مثله، يؤيده النسب الأموي وتزكيه الهمة العالية؛ لذلك أرسل خادمه بدرًا إلى زعماء حزب الشام بإسبانيا، وكان بينهم كثير من موالي الأمويين الذين يوجب عليهم الشرف العربي نصر من ينتمي إلى ساداتهم الأولين، ورأى بدر من هؤلاء الزعماء رغبة في استقبال الأمير الشاب بعد أن فاوضوا القبائل المعادية من اليمن فوعدت بنُصرته، عندئذ عاد بدر إلى إفريقية.

وكان عبد الرحمن يصلي على سِيفِ البحر حينما رأى السفينة التي تحمل خير الأخبار مقبلة إليه، وكان يميل إلى الأخذ بالفأل كجميع المشارقة الذين طُبعوا على التفاؤل والتطير، واتفق أن أول رسول أندلسي قدم مع بدر كان اسمه أبا غالب تمَّامًا، فلما عرف عبد الرحمن اسمه صاح: «تمَّ أمرنا وغلبنا بحول الله وقوته.» ثم نزل إلى السفينة فأبحرت به إلى إسبانيا في سبتمبر سنة ٧٥٥م/١٣٨ﻫ وكان دخولُ هذا الناجي الفذ من بين السلالةِ الأمويةِ الأندلسَ أشبهَ بصفحة من قصة عجيبة، وهو يشبه وصول الشاب الذي ادَّعى مُلك إنجلترا إلى أسكتلندة سنة ١٧٤٥م.

وانتشر خبر دخوله الأندلس انتشار النار في الهشيم، فتزاحم عليه المناصرون القدماء للدولة الأموية يقدمون الطاعة، ووضع أبناء موالي الأمويين أنفسهم تحت أمره، وتأثرت قبائل اليمن التي لم تكن تشعر بانعطاف نحو الأمير الشاب، بحماسة أنصاره، فانتقلت إليها العدوى، وعقدت الخناصر على البر بوعدها، وتواثقت على نُصرته.

ورأى أمير الأندلس معظم جنوده وقد انصرف عنه، فاضطر إلى انتظار جيش جديد، على أن الأمطار في هذا الفصل من السنة جعلت القتال مستحيلًا، فترك ذلك لعبد الرحمن متسعًا من الزمن يجمع فيه جنوده، ويدبر أمره.

بدأ الصدام شديدًا في ربيع السنة التالية، واستُقْبِلَ عبدُ الرحمن بحماسة وترحاب في أُرْشُذونة وإشبيلية، فأعد جيشه للهجوم على قرطبة، وزحف الأمير يوسف بن عبد الرحمن الفهري لوقف تقدمه، ولكن الوادي الكبير كان فياضًا بماء المطر، فتسابق الجيشان على كلا شاطئيه، أيهما يكون أسبق وصولًا إلى قرطبة.٧

ولكن عبد الرحمن خدع يوسف بحيلة لا تليق بالأبطال، فطلب منه أن يتركه يجتاز النهر بعد أن هبط ماؤه ليعقد معه صلحًا، فلما وصل إلى الشاطئ الآخر انقضَّ على جيش يوسف بعد أن وثق الأمير بوعده، فتغلب عليه ودخل قرطبة ظافرًا، وكان له من الهيبة والشهامة والنخوة ما منع الجند من النهب والتخريب، وحمل نساء الأمير المهزوم وأسرته إلى مأمنها، ولم تمضِ السنة إلا وهو مسيطر على جميع ما احتازه المسلمون من أرض إسبانيا، وبهذا الإقدام النادر وبهمة عبد الرحمن قُدِّرَ للدولة الأموية بقرطبة أن تستمر في الحكم نحو ثلاثة قرون.

ولم يثبت أمير قرطبة الجديد فوق عرشه بغير جهاد أو نصب، فإن الذي أجلسه على العرش وذلل سبيله إليه لم يكن إلا حزبًا صغيرًا من الأحزاب الكثيرة التي اقتسمت المملكة فيما بينها، غير أن عبد الرحمن كان أكثر استعدادًا وأوسع حيلة من سواه للاحتفاظ بملكه بين هذه العناصر المضطربة المشاغبة، فإنه كان سريعًا عند الخطب، قوي العزيمة، غير متحرج إذا صمَّم، شديد البطش، لا يرعَى إلًّا ولا ذمة، سياسيًّا داهية، أعد لكل مفاجأة عُدتها، وكثيرًا ما دهمته الحوادث فرأت فيه بطلًا همامًا.

ولم يستقر بعرشه طويلًا حتى اجتاز العلاء بن مغيث من إفريقية ليرفع العلم العباسي بإسبانيا، ولم ينزل برجاله في ولاية باجَة حتى اتخذ له مناصرين من بين الساخطين المستعدين دائمًا للانضمام إلى من يدعوهم لغُنم جديد، فحاصر عبدَ الرحمن شهرين في قَرْمونة، وكان هذا الحصار شديد الخطر؛ لأن كل يوم يمر فيه كان يحمل إلى الأعداء مددًا جديدًا، ولكن عبد الرحمن كان عبقريًّا، فما كاد يسمع أن الأعداء خففوا بعض التخفيف من مراقبتهم وحذرهم حتى جمع سبعمائة من أشجع أصحابه، ثم أوقد نارًا عظيمة وصاح فيهم: «إننا الآن بين حالين: فإما إلى نصر مؤزَّر، وإما إلى موت محقق.» ثم ألقى بقراب سيفه في اللهب، وتأثر رجاله فألقوا بقُرُبِهم في النار معه معلنين أنهم لن يضعوا سيوفهم في أغمادها حتى يُفَكَّ حصارهم ويصبحوا أحرارًا، ثم انطلقوا خلف قائدهم، وانقضُّوا على محاصريهم بالأسنان والأظافر، فمُزِّقَ الجيش العباسي وذهب بدَدًا.٨
وأمر عبد الرحمن في إحدى نوبات قسوته التي شوَّهت من سيرته، أن توضع رءوس قوادهم في جُوالق، وأن يعلق بكل أذن صك يرقم عليه اسم صاحبه، وأن يبعث بهذا الجُوالق مع أحد الحُجَّاج ليوصله إلى الخليفة المنصور نفسه، وذهب الحاج وبلغ حضرة المنصور وسلم إليه الجُوالق.٩ فلما رأى الخليفة ما به اشتد غضبه، واحتدم وجهه بالغيظ، ولكنه لم يستطع إلا أن يقول: «الحمد لله أن كان يفصل بيني وبين هذا الرجل بحر.» وعلى الرغم من شدة ألم المنصور لفوز أمير قرطبة، لم يجد بدًّا من أن يُطري مهارته وشجاعته، حتى إنه سمَّى عبد الرحمن (صقر قريش)، وكان يقول: «لا تعجبوا لامتداد أمرنا مع طول مِراسه وقوة أسبابه، فالشأن في أمر فتى قريش الأحْوَذي الفذ في جميع شئونه، وعَدَمه لأهله ونشبه، وتسليه عن جميع ذلك ببعد مرقى همَّته، ومَضَاء عزيمته، حتى قذف بنفسه في لجج المهالك لابتناء مجده، فاقتحم جزيرة شاسعة المحل نائية المطمع، عصبيَّة الجند، ضرب بين جندها بخصوصيته، وقمع بعضهم ببعض بقوة حيلته، واستمال قلوب رعيتها بسياسته، حتى انقاد له عَصيُّهم، وذل له أبيُّهم، فاستولى فيها على أريكته مَلِكًا على قضيته، قاهرًا لأعدائه، حاميًا لذِماره مانعًا لحَوْزته، خالطًا الرغبة إليه بالرهبة منه … إن ذلك لهو الفتى كلُّ الفتى، لا يكذب مادحُه.»
وتوالت بعد هزيمة العباسيين انتصارات للأمير الجديد، فإنه أغرى أهل طليطلة الذين امتنعوا عليه طويلًا، بأن يعقدوا معه صلحًا، وأن يبعثوا إليه برؤسائهم، وما كاد يصل إليه هؤلاء الرؤساء حتى صلبهم جميعًا، وكان رئيس اليمانية شديد الخطر، فمنحه عبد الرحمن الأمان، ثم استهواه إلى قصره وحاول أن يقتله بنفسه فلم يستطع؛ لأن الرجل كان قويًّا شديد الأسر، فدعا إليه بحرسه فقتلوه.١٠ وبعد ذلك بقليل ثار البربر في الشمال ثورة جامحة، فقضى عبد الرحمن عشر سنين في كبح جماحهم وتذليل شِماسهم، وكانت نار الغضب لم تخمد بعدُ في قلوب اليمانية لقتل رئيسهم، فهبوا للثأر، واغتنموا غيبة الأمير في الشمال، وكانوا يجهلون نشاط الرجل ودهاءه ومكره، فإنه بعد أن أطفأ ثورة البربر في الشمال وأذلهم ببث الفتنة بينهم، أخذ يعمل للتفريق بين اليمانية، فخدع البربر الذين كانوا قِوام جيشهم، ومنَّاهم الأماني، فتركوا القتال عند اشتداده، فانقض بجيوشه على اليمنيين فاستأصلهم، وقتل منهم ثلاثين ألفًا، دفنوا جميعًا في قبر عظيم بقي الناس يزورونه مدة من الزمان، ثم تلت هذه المعركةَ المعاهدةُ المنذرة بالخطر التي عقدها شارلمان مع ثلاثة من زعماء العرب الساخطين، والتي كادت تدمر الصرح الذي بناه عبد الرحمن بعد جَهد وآلام، ولكن هذه المعاهدة لم تتم، وانحل عقدها في معارك سَرَقُسْطَة، ورونسِسْفال من غير أن يضرب فيها الرجل الذي اجتمعوا لسحقه ضربة واحدة.
ومنذ ذلك الحين أخذ الأمير ينعم فيما يشبه السلم بثمرات جهاده وانتصاره؛ فقد أخضع بعزيمته الفولاذية كل العناصر المعادية له بإسبانيا، وأسقط كل زعيم صَلِفٍ أصيدَ جرؤ على أن يستل لحربه سيفًا، وقتل وذبح قواد البربر، وأثبت غير منازَع أنه سيد الموقف، ولكنَّ ظلمًا قاسيًا ناكثًا للعهد كظلم عبد الرحمن لا بد أن يجر وراءه عقابه وآلامه، فإن الظالم قد يستطيع إخضاع قومه ولكنه لن يستطيع أن يفوز بإخلاصهم، والمُلْك الذي يُنال بالسيف لا يبقى إلا بالسيف؛ فقد نفر الناس من الأمير الأموي بعد أن تجرعوا مرارة حكمه، وأبى الأمناء من رجال الدولة أن يدخلوا في خدمة رجل خدَّاع فتاك مثله، وانصرف عنه أنصاره الأولون الذين آزروه ورحبوا بمقدمه حينما رأوا ظلمه صارخًا، وقسوته مهتوكة الأستار، ودبر له المكايد مرة بعد أخرى أهلُه الأقربون الذين احتموا بقصره من العباسيين، لِما ظهر لهم من عسفه الذي لا يطاق، ففقدوا في سبيل ذلك رءوسهم.١١

نبذ الناس عبد الرحمن فبقي وحيدًا محزونًا، هجره أصدقاؤه، ويئس منه أعداؤه فصبُّوا عليه لعناتهم، ونصب له الحبائل أهله وخدامه.

وقد تكون حروبه الطويلة للقبائل قد أفسدت طبيعته العربية السمحة، وقد يكون قد فُطِرَ هكذا على أخلاق شرسة لا تلين، فهو الآن لا يستطيع أن يندمج كعادته في زحام شوارع قرطبة، وإذا مر بهذه الشوارع فإنما يمر راكبًا محاطًا بحراس أقوياء من الغرباء، مشتبهًا في كل شيء، ومتهِمًا كل إنسان، تنتابه أفكار مظلمة، وتزعجه ذكريات الدماء، فكان له أربعون ألف حارس من مرتزقة البربر يحمونه من أعدائه الذين سحقهم تحت قدميه، وكان إخلاص هؤلاء الحراس المأجورين لمولاهم يعادل بغضهم لجميع الأهلين الذين أذلهم سيدهم وألصق آنافهم بالتراب.

وقد نظم عبد الرحمن في وَحْدته هذه القصيدة يناجي فيها نخلة نقلها من أرض أجداده وغرسها بالأندلس؛ لأنه كان يقول الشعر، وهو في أبياته يحنو على النخلة في منفاها ويقول:

تبدَّت لنا بين الرُّصافة نخلةٌ
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلتُ: شبيهي في التغرب والنوى
وطولِ ابتعادي عن بَنِيَّ وعن أهلي
نشأتِ بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي

أدرك الغرض الذي سعى إليه في ميعة طموحه، فأخضع العرب والبربر، وأعاد إلى الملك عدلًا ونظامًا، ولكنه كسب كل هذا فخسر قلوب رعيته.

فوارحمتا لذلك الفتى الوسيم الذي دخل الأندلس بطلًا مقدامًا ففاز بطاعة أهلها وإخلاصهم، ثم وارحمتا له وهو يدلف إلى قبره بعد اثنتين وثلاثين سنة، بغيضًا جبارًا، يحمي عرشه الملطخ بالدماء بسيوف المرتزقة الذين يبيعون إخلاصهم بالذهب، لقد حكم إسبانيا بالسيف، وعلى خلفائه أن يَجْرُوا على هذا السنن.

وقد رأى أكبر مؤرخ للأندلس: «أنه كان من الصعب على عبد الرحمن أن يسلك سبيلًا أخرى لتوطيد الحكم بين مشاغبي العرب والبربر، وأنه لم تكن لديه وسيلة لاجتثاث الفوضى إلا أن يقابل هذه الفوضى بالشدة والعسف؛ لأن كِلا الفريقين لم يعتد الحكم المنظَّم».

ومهما يكن من شيء فإن استمرار ظلم كهذا يخلق جوًّا من الحزن واليأس على الرغم من بهجة الانتصارات التي تُشِعُّ في جوانبه.

وقد أعطانا ابن حيَّان — وهو مؤرخ قديم للأندلس — صورة لأمير قرطبة فقال:

كان عبد الرحمن راجح الحلم، واسع العلم، ثاقب الفهم، كثير الحزم، نافذ العزم، بريئًا من العجز، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلُد إلى راحة، ولا يسكن إلى دَعة، ولا يكِلُ الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد في إبرامها برأيه، شجاعًا مقدامًا، بعيد الغور، شديد الحدة، قليل الطمأنينة، بليغًا مفوَّهًا، شاعرًا محسنًا، سمحًا سخيًّا، طلق اللسان، وكان يلبس البياض ويعتمُّ به ويؤثره، وكان قد أُعطي هيبة من وليه وعدوه، وكان يحضر الجنائز ويصلي عليها، ويصلي بالناس إذا كان حاضرًا الجُمَع والأعياد، ويخطب على المنبر، ويعود المرضى، ويكثر مباشرة الناس والمشي بينهم.

هذا هو بلا شك عبد الرحمن الشابُّ قبل أن تجعله المقاومة والدسائس قاسيًا جافيًا كثير الفزع والشكوك، وللقوة دائمًا طرق مروعة في عقاب أصحابها.

وكلما مات ملك جبار تساءل الناس: من يخلفه؟ والجواب العام في مثل تلك الحال هو: ثورة وفوضى، إن العرش الذي يثبت على رءوس الحراب لا ينتقل في سهولة من الأب إلى الولد، ومع هذا لم تسقط دولة عبد الرحمن بموت مؤسسها المستبد، وكان من المتوقع أن تثور القبائل المناجزة التي كبح جِماحها بمشقة وجهد بعد أن أُطلقت من عقالها بموته، ولكن شيئًا من ذلك لم يكن؛ لأن الرعب الذي غرسه في قلوبهم كان شديدًا، فلم يستطيعوا أن يتخلصوا من هوله، أو لأنهم رأوا في ولي عهده أميرًا محبوبًا يتحلى بصفات تضاد صفات أبيه؛ فقد كان هشام الذي تولى الملك بعده سنة ٧٨٨م/١٧٢ﻫ، وهو في الثلاثين من عمره — مثالًا لجميع الفضائل، وزاده ميلًا إلى عمل الخير وبذل العناية في الإصلاح، ما تكهن له به أحد المنجمين من أن ما بقي من عمره لا يزيد على ثماني سنوات؛ لذلك تفرغ الأمير في هذه المدة القصيرة للاستعداد للدار الأخرى، وكان قصره في أيام نشأته الأولى يموج بالعلماء والشعراء والحكماء، فأثرت فيه هذه النشأة، والولد كما يقولون أبو الوالد، وكان له من أعمال التقوى والصلاح ما لا يُحصر عدًّا، ورأى في حماه الغاضبون والمضطهَدون معقِلًا وملاذًا، وكان يرسل من يثق به من الوعَّاظ والدعاة إلى جميع أجزاء مملكته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعيَّن بالمدن عَسَسًا لمنع الشجار وارتكاب الجرائم، ورأى أن تقسم الغرامات المفروضة على الأشرار يبن الأتقياء الذين لا يمنعهم مطر أو برد من غشيان المساجد، وكان يعود المرضى، وكثيرًا ما كان يخرج في الليالي العاصفة وهو يحمل الطعام لمريض من الزهاد، حتى إذا بلغ داره جلس بجانب فراشه يراعيه ويرعاه.

ثم هو مع كل هذا لم يكن جبانًا ولا زُمَّيلًا، بل كان يقود جيشه بنفسه لمحاربة نصارى الشمال، كما يفعل العربي الصميم، ولقَّبه الناس بالشفيق وبالعادل لسهولة خليقته، ولكنه كان إذا جد الجِد، وهددت ملكه مؤامرات أعمامه، ثابت العزم، قاسيًا لا يلين، وزاد في عدد حرسه من المماليك، فكان يقف منهم على شاطئ النهر ألف فارس لحراسة قصره ليلًا ونهارًا، وكان بارعًا في الصيد، شديد التحرج من الشبهات، سمع بعد أن أعاد بناء قنطرة قرطبة الباقية إلى اليوم أن الناس يهمسون بأنه إنما أقام هذا البناء العظيم ليسهل عليه الوصول إلى الصيد، فأقسم ألا يعبر القنطرة مرة أخرى، وقد بر في قسمه، وقبل أن تمر ثماني السنوات اختاره الله إلى جواره تقيًّا نقيًّا.١٢
وإذا نبت الشر من الخير فإن أعمال هذا الملك الخيِّرة كانت أكبر حافز على إثارة عامل جديد للثورة والعصيان بالأندلس، ونشأ هذا الخطر الجديد من السلطة التي وضعت في أيدي الفقهاء والعلماء، وقد سميناهم بقساوسة الإسلام، وإن لم يكن هذا الاسم صحيحًا؛ لأن الإسلام لا يعرف هذه الطائفة بالمعنى الدقيق الذي تريده المسيحية الكاثوليكية، فليس المسلمون الذين يؤدون الصلاة في المساجد ويخطبون الناس يوم الجمعة إلا قومًا عاديِّين، يُؤخذون من متاجرهم أو غيرها من الأعمال ويُطلب إليهم في أي وقت أن يؤمُّوا المصلين، فالدين الإسلامي لا يفرِّق بين رجل الدين وغيره، على أن بالإسلام شيئًا يقرب قليلًا أو كثيرًا مما يقصد من معنى الكهنوت، فإن بالممالك الإسلامية دائمًا قومًا تجردوا للدين وخصصوا حياتهم به، قد يكونون دراويش لهم مذهب ديني خاص، أو طلاب شريعة وفقه، أو أتباعًا لإمام مشهور يتحمسون لمذهبه ويذودون دونه، وقد يكونون من حفظة القرآن الكريم أو شيوخًا يلقِّنون الناس العلم، نجد هذه الطائفة في كل أقطار الإسلام، وهي طائفة يُخشى جانبها في كل مملكة، فطالما أظهر شيوخ الأزهر بالقاهرة وطائفة الصوفطة١٣ بالقسطنطينية والمولوية في كثير من مدن الشرق — ما للحماسة الدينية من الشأن في أوقات الاضطراب، واليوم أخذت تظهر هذه النُّعَرة بالأندلس خطيرة منذرة بالسوء.
وتأجج أول عصيان بعد موت عبد الرحمن من حيث لا يُرتقب، لم يحدث من المسيحيين، ولم يحدث من قبائل العرب وعشائر البربر، وإنما حدث من أبناء الإسلام المخلصين، حدث من فقهاء قرطبة، وكان معظم هؤلاء الفقهاء من المتسلِّمين أو أبنائهم، وقد ذكرنا آنفًا أن الإسبانيين أسلموا برغبة وحماسة فأصبحوا كشأن كل داخل في دين جديد أكثر تعصبًا من المسلمين أنفسهم، وكان عبد الرحمن أبعد نظرًا وأكثر علمًا بالحياة من أن يسمح لهؤلاء الفقهاء — وبخاصة الإسبانيون منهم — بنفوذ له وزن أو قيمة، ولكنَّ التقي هشامًا لم يرَ الخطر الذي كان يخشاه أبوه، ولو رآه ما عده خطرًا، فكان يميل إلى وضع ثقته في رجال الدين المحافظين عليه، المتبعين طريقه، الذين لم ير في أعمالهم بادرة ميل إلى الدنيا أو حب للظهور، وكان على رأس الفقهاء في هذا الحين رجل عبقري المواهب وافر العقل، كان تلميذًا محبوبًا لأحد أئمة المدينة المنورة،١٤ وقد تملك نفسَه من الحماسة الدينية والطموح السياسي مزيجٌ طالما جر الممالك إلى الخراب، هذا الشيخ هو يحيى بن يحيى الليثي١٥ الذي رأى في إخلاص هشام وتقواه فرصة لرفع الفقهاء بقرطبة إلى قمةٍ من القوة والنفوذ لو علم بها عبد الرحمن الداهية لتفزَّز في قبره.

وكانت الأمور تسير سيرًا حسنًا ما نالت هذه الطائفة رغباتها، غير أنه في سنة ٧٩٦م/١٨٠ﻫ بعد أن انتقل هشام إلى رحمة ربه، طرأ على قصر الخلافة تغيُّر عظيم، لم يكن الأمير الجديد «الحكَم» قليل الاهتمام بالدين أو خليعًا مستهترًا، ولكنه كان مرحًا يحب الحياة ويتمتع بها كلما أقبلت عليه، ليس به صفة من صفات الزهد والتقشف، وكانت هذه الأخلاق وأشباهها بغيضة إلى المتزمتين، فانطلقوا يتحدثون بمثالب الأمير في ذعر وإشفاق ويدعون له بالمغفرة والتوبة، ثم تجاوزوا الحد فسبوه في وجهه وصبوا عليه اللعنات، ولمَّا يئسوا من إصلاحه تآمروا على عزله وإجلاس آخر من أسرته مكانه، ولكن المؤامرات خابت، وكان جزاء المتآمرين أن صُلِبَ الأمراء الذين اشتركوا في المؤامرة وبعض الفقهاء المتعصبين، وقد كان يكون مثل هذا كافيًا لولا أن الفقهاء عادوا إلى الثورة، فعاد الأمير إلى إطفائها باستئصال مشعليها، ولكن القرطبيين لم يرعووا بعد كل هذا، وبقيت مراجل الثورة تغلي في قلوبهم، ولم يرعبهم ما سمعوه مما أصاب زعماء طليطلة الذين أظهروا العصيان كعادتهم، والذين استدرجهم ولي العهد بالحيلة والخديعة، حتى إذا قبض عليهم أفناهم ذبحًا وتقتيلًا.

بقيت ذكرى يوم الخندق «الذي سميت به مذبحة طليطلة» كابحة جِماح المتعصبين والمشاغبين في قرطبة سبع سنين، ولما نصلت ذكرى ذلك الخندق المخيف الذي قُذِفَ فيه بجثث زعماء طليطلة، شرعت الفتنة تطل برءوسها في قصبة الأندلس، ولم يزدد بغض الأهلين للأمير؛ لأنه أبى أن يلبس الخشن من الثياب، وأبى أن يتراءى بالزهد والتقوى أمام أمته، بل كان يتجه هذا البغض أكثرَ ما يتجه إلى مماليك الأمير الذين كانوا يدعون «بالخُرْس»، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا من الزنوج وأشباههم الذين كانوا لا يستطيعون التكلُّم بالعربية، وكان هؤلاء الزنوج لا يجرؤون على السير في شوارع المدينة إلا جماعات؛ لشدة كراهية الناس لهم وتحفزهم لإيذائهم، وإذا خرج جندي وحده كان عرضة للضرب أو القتل، وحدث يومًا أن ضرب أحدُ هؤلاء الجنود بعضَ العامة فثارت ثورتهم جميعًا، وهجموا بقلب رجل واحد على القصر، يقودهم آلاف من الفقهاء الذين كانوا يسكنون الرَّبَض الجنوبي لقرطبة، وصاح الشر بينهم وطاشت عقولهم وصمموا على أن يقتحموا القصر على الرغم من حصونه وحراسه، فأطل الحكم من إحدى النوافذ فرأى بحرًا زاخرًا من الوجوه، وأبصر — والدهش يملأ نفسه — شدة مكافحة العامة لهجمات فرسانه، ولكنه لم يفقد هدوءه في هذه الساعة المحفوفة بالمخاطر، وتلك ميزة العظماء وشِنْشِنَة النسب الكريم، فعاد إلى بهوه، وأمر خادمه الخاص أن يحضر له قارورة الغالية، وأخذ في تؤدة وثبات يضمخ رأسه ولحيته، ولم يستطع فتاه يزنت أن يكتم عجبه من فعل سيده وهو يسمع تهشيم الشعب المفترس للأبواب، فقال: أهذا وقت الغالية يا مولاي؟! ولكن الحكَم قاطعه قائلًا: اسكت أيها الغِرُّ، كيف تتصور أن يتعرف العصاة رأسي بين بقية الرءوس إذا لم يتميز بريحه العطرة؟! ثم نادى قواده وشرع في اتخاذ الوسائل للدفاع، وكانت هذه الوسائل غاية في السهولة وقوة الأثر، فقد أرسل ابنَ عمٍّ له مع بعض الفرسان من طريق خلفية إلى الربض، فأشعل فيه النار، فلما رآها المشاغبون غادروا القصر وأسرعوا في ذعر وفزع لإنقاذ زوجاتهم وأطفالهم من اللهيب، فانقض الحكم وحراسه على مؤخرتهم، ووقع العصاة بين قوتين فحُطِّموا تحطيمًا، وجال بينهم «الخرس» يقتلون بالمئات ولا يستجيبون إلى توسلاتهم وصياحهم المؤلم بطلب الرحمة، وانتهت الثورة بمذبحة عامة، ونجَّى الحكم بهذه الضربة القاصمة قصره وسلالته.

وكان الأمير كريمًا فقبض يده عن الإيذاء بعد انتصاره، ولم يجاوز به الحد، واكتفى بهدم دور العصاة بالربض ونفيهم، فرحل بعضهم إلى الإسكندرية وكانوا نحو خمسة عشر ألفًا غيرَ النساء والأطفال، وبعد أن أقاموا بها قليلًا أبحروا منها إلى إقْريطِش (كريت) ورحل ثمانية آلاف إلى (فاس) وكانت جمهرة هؤلاء المنفيين من أبناء الإسبانيين المتسلمين الذين كانوا يرحبون بكل فرصة يُظهرون فيها بغضهم لحكم العرب، وتُرك الفقهاء — وهم أسُّ العصيان والثورة — بلا عقاب، إما لأن كثيرًا منهم من أصل عربي، وإما لمنزلتهم الدينية، وقد جُرَّ أحد زعمائهم إلى القصر جرًّا، فصارح الحكم في حدة غضبه وتعصبه بأنه ببغضه للأمير إنما يطيع أمر الله، فأجابه الحكم جوابه المأثور إذ قال: «إن الذي أمرك — كما تزعم — ببغضي أمرني بالعفو عنك، اذهب في رعاية الله.»

هوامش

(١) المؤلف يكتب حوالي سنة ١٨٨٨م/١٣٠٥ﻫ.
(٢) هو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، ولد سنة ١١٣ﻫ بدير حنا من أعمال دمشق.
(٣) الخشم: فقدان حاسة الشم.
(٤) في نفح الطيب: دخل عبد الرحمن يومًا على جده هشام وعنده أخوه مسلمة، وكان عبد الرحمن صبيًّا فأمر هشام أن ينحى عنه، فقال له مسلمة: دعه يا أمير المؤمنين هذا صاحب بنى أمية ووزرهم عند زوال ملكهم، فاستوصِ به خيرًا.
(٥) ولأن أخواله كانوا من برابرة طرابلس.
(٦) هو عبد الرحمن بن حبيب الذي فر من الأندلس بعد دخول ابن الخطار، ووصل إلى المغرب وانتزع لنفسه إمارة به، وهو الذي قتل ابني الوليد بن يزيد بن عبد الملك لما دخلا إفريقية.
(٧) كان يوسف بالشاطئ الأيمن الذي تقع عليه قرطبة.
(٨) لقي عبد الرحمن العلاء بالقرب من إشبيلية، وهزم جيشه وقبض عليه وقتله.
(٩) في نفح الطيب: وأنفذ بالجوالق تاجرًا من ثقاته، وأمره أن يضعه بمكة أيام الموسم ففعل، ووافق أن حج أبو جعفر هذا العام، فوضعه على باب سرادقه.
(١٠) هو أبو الصباح اليحصبي وكان قد ولاه إشبيلية، وحقد عليه عبد الرحمن ما بلغه عنه يوم هزيمة يوسف الفهري أنه قال: «يا معشر يمن، هل لكم إلى فتحين في يوم؟! فقد فرغنا من يوسف والصميل، فلنقتل هذا الفتى المقدامة ابن معاوية فيصير الأمر لنا.» وقتل عبد الرحمن أيضًا الصميل بن حاتم سيد المضرية.
(١١) قتل عبد الرحمن من أقاربه عبد السلام بن يزيد بن هشام، وابني أخيه: عبيد الله بن أبان بن معاوية، والمغيرة بن الوليد بن معاوية، ونفى أخاه الوليد وخادمه بدرًا الذي ذلل له الطريق إلى الأندلس.
(١٢) توفي سنة ١٨٠ﻫ.
(١٣) أصل الكلمة بالتركية (سوختة) ومعناها: المحترق، وتطلق على المتصوف المحترق من وجده وشوقه إلى ثواب الآخرة.
(١٤) هو الإمام مالك بن أنس.
(١٥) يقال إن أصله من بربر مصمودة، رحل إلى الإمام مالك وأخذ عنه العلم، وانتهت إليه الرياسة في الفقه والحديث بالأندلس، مات سنة ٢٢٤ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤