الأدب والحياة الاجتماعية

لا مِرَاء في أن الأدب قد لعب خلال التاريخ دورًا كبيرًا جدًّا في ثورات الشعوب وحركاتها الاستقلالية والاجتماعية؛ وذلك لأنه — وإن تكن هناك علاقةٌ وثيقةٌ بين معنويات الحياة ومادياتها — إلا أن إدراكَ تلك العلاقة قبل أن تصبح أمرًا واقعيًّا محسوسًا لا يتأتَّى لعامة الناس، فما يسمى استقلالًا أو حرية قد تتعشقه النفوس الكبيرة لذاته، وأما جمهرة الشعب فلا بد أن تُدْفع إلى ذلك، لا بد أن توضح العلاقة بين هذه المعاني وبين المعاني المادية اليومية؛ حتى يغضب الشعب لتلك المعنويات، وكذلك الأمر في الحركات الاجتماعية؛ فالبؤس المادي ذاته لا يحرك الشعوب بل يحركها الوعي به، وفي الفلاح المصري شاهد على ذلك.

وعن هاتين الحقيقتين الثابتتين وهما:
  • (١)

    إدراك العلاقة بين معنويات الحياة ومادياتها.

  • (٢)

    وعي الفرد بما فيه من بؤس.

عن هاتين الحقيقتين تصدر وظيفة الأدب الاجتماعية؛ من حيث إنه محركٌ لإرادة الشعوب، والذي لا شك فيه أن الحركات الكبيرة التي قامت في التاريخ الحديث؛ كالثورة الفرنسية ووحدة إيطاليا وثورة روسيا البلشفية، قد مَهَّدَ لها الكُتَّاب بعملهم في النفس البشرية تمهيدًا بدونه لم يكن من الممكن أن تقوم هذه الحركات.

ولنأخذ لذلك مثلًا مسرحية «بومارشيه» للكاتب الفرنسي المسماة «زواج فيجارو»، ثم روايته الأخرى السابقة على هذا، وهي «حلاق أشبيلية»؛ فقد هاجم الكاتب فيهما نظام الأشراف الذي كان سائدًا قبل الثورة الفرنسية أعنف الهجوم، واتخذ من «فيجارو» حلاق أشبيلية الذي أصبح فيما بعد خادمًا للكونت «ألمافيفا» رمزًا للشعب الثائر على عبودية الأشراف؛ وكان لهاتين الروايتين أثر بالغ في التمهيد للثورة الفرنسية، حتى أُلْقِيَ بمؤلِّفهما في «الباستيل»، ولا يزال إلى اليوم «مونولوج فيجارو» في رواية «زواج فيجارو» نشيدًا ضد الاستبداد.

والكُتَّاب يختلفون في طريقة أدائهم لهذه الخدمة الاجتماعية؛ فمنهم مَنْ يعتقد أن في مجرد التصوير والوصف ما يكفي لأداء هذه الرسالة، دون حاجة إلى الإفصاح عن مشاعر الكاتب الخاصة أو الدعوة إلى علاج بعينه، وذلك كما يصف منظر بؤس يراه أو حيًّا فقيرًا يشاهده، وكمن يقص حوادث الظلم التي نزلت بفرد من الأفراد، مجرد قصص دون استنكار لما يقص، وربما كان هذا النوع أنجح الأنواع وأشقها؛ لأن الكاتب لا بد له عندئذ من أن يجمع بين أمرين؛ أولًا: تصوير الواقع تصويرًا يعيد خلقه على نحو حي، وثانيًا: ترتيب هذا الواقع المصور أو المخلوق وسرده بحيث يثير القارئ، ويولد الأثر الذي يهدف إليه الكاتب، وهذا يتطلب مقدرة على اختيار التفاصيل وإلقاء الضوء عليها، وتلوين القصص أو الوصف تلوينًا خفيًّا ولكنه مثير.

ويرى فريق آخر أنه لا بد من الدعوة الصريحة في القصة أو المسرحية إلى المبادئ التي يريد أن يروِّج لها الكاتب، وهم يستشهدون لذلك بما كان يلجأ إليه كُتَّاب كبار من أمثال «موليير» أو «شكسبير»، وهذا الاستشهاد على إطلاقه غير صحيح وبخاصة في فن «التراجيديا». وأما في «الكوميديا» فيصح هذا الرأي بعض الصحة؛ وذلك لأن «الكوميديا» بطبيعتها قابلة للنقد والتوجيه الاجتماعي، وبالفعل كثيرًا ما تجد في كوميديات «موليير» شخصية — غالبًا ثانوية — تعبر عن آراء الكاتب الخاصة. وهذا الاتجاه الفني إنما ورثته «كوميديا موليير» عن «الكوميديا» الإغريقية واللاتينية القديمة، ففي تلك الكوميديا القديمة كان يوجد جزء يسمى Parabassi — يسير على هامش الموضوع ولذا يسمى الاستطراد، وفي هذا الجزء الذي كان يأتي في منتصف الرواية تقريبًا كان مؤلِّفها يتجه إلى الجمهور مباشرة، وكأنه نسي حوادث الرواية، ووجوب قصر الحوار على شخصياتها، وفيه كان يدافع عن آرائه الخاصة في التأليف المسرحي، وفي الحياة الاجتماعية والسياسية، التي تمت بسبب بعيد أو قريب لموضوع الكوميديا، وكثيرًا ما كان يُدافع عن نفسه أو يهاجم خصومه من الشعراء والمنافسين أو رجال السياسة. ولم تَعُد الكوميديا الحديثة تلجأ إلى هذه الطريقة؛ إذ إن الجمهور الآن لا يستسيغ اتجاه المؤلف مباشرة إلى الجمهور، فكل حديث وكل رأيٍ يجب أن يكون صادرًا من شخصية في الرواية إلى شخصية أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤