لمحات من تاريخ النقد

(١) النقد عند اليونان

هناك أنواع من النقد الجزئي قد ظهر قبل «أرسطو»، وكما كان النقد يصدر عند العرب من الشعراء أنفسهم في أحيان كثيرة، فكذلك كان الشعراء اليونانيون ينقدون، ولعل خير الأمثلة في ذلك — كما أشرنا من قبل — نقد «أرستوفان» — شاعر الكوميديا الشهير لشعراء التراجيديا الثلاثة: «أسكيلوس»، و«سوفوكل»، و«يوربيدس» في رواية «الضفادع» الشهيرة، وتفضيله «أسكيلوس» على قرينيه، ووضعه «يوربيدس» في المرتبة الأخيرة، وهو نقد دقيق وإن لم يخلُ من الهوى؛ إذ كان «أرستوفان» رجلًا محافظًا حريصًا على التقاليد عدوًّا للتفكير الفلسفي، ومسرحياته تغذِّيها الروح الدينية الصميمة، ويغلب فيها الجانب الغنائي على الجانب العقلي، وكان «يوربيدس» على العكس من ذلك محددًا في تفكيره، فلسفيًّا في مسرحياته، وكان يتجه بطبعه إلى تحرير الفكر من التقاليد والأوضاع الدينية، وبالرغم من أن هذا النقد يعتبر نقدًا شبه تفصيلي لهؤلاء الشعراء الثلاثة، إلا أنه لا يزال بعيدًا من النقد، كما يصوره «أرسطو» النقد القائم على مبادئ فنية عامة.

وأما في العصر الحديث فالنقد والخلق يسيران جنبًا إلى جنب.

ولقد أخذ النقد يظهر منذ أن أخذ الأدب يبعث، أي منذ عصر النهضة — القرنين السادس عشر والسابع عشر — ولم يلبث ذلك النقد أن انتهى إلى مذاهب مسايرة للخلق الأدبي.

والآداب الحديثة منذ عهد النهضة إلى اليوم قد تميزت — على خلاف الآداب القديمة — بوجود مدارس واتجاهات أدبية: فالكلاسيكية، والرومانتيكية، والفن للفن، والرمزية، والكلاسيكية الجديدة كل هذه المذاهب لم يظهر منها شيء في الآداب القديمة، ولا شك أن مسايرة النقد للخلق الأدبي هو الذي أوجد هذه المذاهب، ففي العصور الحديثة لعب النقد دورًا هامًّا في إيضاح ما تصدر عنه طبائع الأدباء من مبادئ كامنة.

فالنقاد هم الذين يبصرون بأن هذا الكاتبَ كلاسيكي أو غيره، أي يوضِّحون المذاهب، وبمجرد أن يظهر المذهب يصبح مدرسة ويصبح للمدرسة تلاميذ، وإن يكن الأدب الذي يتتلْمذون فيه عادةً أدبًا ضعيفًا، فالنقد يوضِّح المذاهب ويخلقها.

(١-١) النقد عند أرسطو

لقد وضع أرسطو للنقد أسسه، كما وضع أسسَ كثيرٍ من العلوم الأخرى «المنطق – الحيوان – النبات – فلسفة ما وراء الطبيعة»، وجرى في هذه الأسس على منهجه العام، منهج الاستنباط الذي ينتهي إلى قواعد عامة، وقد أودع آراءه النقدية كتابيه «الشعر Poetique» و«الخطابة Retorjque». وكِتَاب الخطابة وصل إلينا كاملًا بأجزائه الثلاثة، أما كِتَاب الشعر فلم يصلنا منه إلا ما يقارب نصفه، وتُرجم الكتابان في العصر العباسي إلى العربية، ترجمهما فيما يظهر «متى بن يونس»، والترجمة موجودة مع بقية «الأرجانون» في المكتبة الأهلية بباريس، وبمكتبة جامعة القاهرة صورة فوتوغرافية لهذه المخطوطة في ثلاثة عشر مجلدًا.
ولقد نشر «بيكر» الألماني كِتَاب الشعر في ترجمته العربية١ إلا أن نشره لا يزال يحتاج إلى عناية وتصحيح ليستقيم فهمه، أما كتاب الخطابة فإنه لم ينشر بعد.
كتاب الشعر Poetique: لدينا الجزء الأول من هذا الكتاب، وهو يتناول الحديث أولًا عن الشعر البدائي في ذاته، ويبسط نظرية المؤلف الشهيرة التي تقول: بأن الشعر محاكاة لطبائع الأشياء ولطبيعة البشر خاصة، ويُقَسِّم الشعر إلى أنواع: قصصي، وغنائي، وتمثيلي. ويوضح الفروق بين كل نوع من هذه الأنواع، ثم يتناول الحديث التمييز بين كل نوع منها، وما يشابهه من نشاط الروح البشري المماثل.

فعند حديثه عن الشعر القصصي مثلًا — وهو الشعر الذي يتناول الماضي والتاريخ — يوضح أن القصص لا يقف عند الخاص، بل يمتد إلى العام، فهو لا يُعْنَى بهذه الحادثة أو تلك قدرَ عنايتِه بدلالتها البشرية وصدق ما تحمله من معنى، وهو يصور أشخاصًا لا كوحدات بشرية لا مثيل لها، بل كنماذج بشرية عامة، تمثل أنماطًا من الجنس البشري، ثم يبدأ في تفصيل القول عن كل نوع من أنواع الشعر، مسهبًا بنوع خاص في الحديث عن التراجيديا، ولكن هذا يُشعرنا أنه من الراجح أنه قد تناول الكوميديا بنفس هذا الإسهاب؛ إذ الجزء الخاص بها مفقود في كتابه.

وهو في دراسته للتراجيديا يعتمد على ما أَلَّفَه شعراء الإغريق، ويظهر أنه كان شديد الإعجاب ﺑ «سوفوكل» بنوع خاص، فمعظم القواعد العامة التي استنبطها انتزعها من «أوديب ملكًا». ولعل من أكبر القواعد تأثيرًا في تاريخ المسرح قاعدةَ الوحدات الثلاث التي نسبت إلى «أرسطو»، مع أنه لم يقل إلا ببعضٍ منها، وهذه الوحدات هي وحدة الزمان والمكان والموضوع، والقراءة الدقيقة لما كتبه «أرسطو» عن هذه القواعد تُثْبِتُ أنه لم يجزم إلا بواحدة منها، وهي وحدة الموضوع، ويعني بها أن تتناول المسرحية موضوعًا موحدًا، بحيث يرتفع الستار عن موقف أُعِدَّ من قبل، وقد اجتمعت لإعداده عناصره المُكوِّنة له، وتدور كل حوادث المسرحية على حل هذه العقدة البدائية، وتنتهي المسرحية بحل تلك العقدة، وأما وحدة الزمان والمكان، فذلك ما أشار إليه «أرسطو» مجرد إشارة، ولم يتخذ منهما قاعدتين. والواقع أن هاتين الوحدتين لا تمسان بناء المسرحية في شيء، وبخاصة وحدة الزمان؛ لأنه إذا كان المسرح محاكاةً للحياة، وكان من الضروري أن تتم وقائع المسرحية في الزمن المعقول التي تتم فيه فعلًا في الحياة؛ فقد كان من الواجب أن يرد ذلك الزمن إلى ساعتين أو ثلاث، وهو الزمن الذي تستغرقه المسرحية، أما أن تستغرق المسرحية أربعًا وعشرين ساعة، فذلك تحكُّم يخالف المنطق والمعقول. وفي الحق أن الذي جعل وحدتَيِ الزمان والمكان قاعدتين تتحكَّمان أشدَّ التحكُّم في أدب النهضة في القرن السادس عشر، وبخاصةٍ في فرنسا — لم يكن أرسطو، وإنما كان العالم سكاليجر scaliger الذي عاش في القرن السادس عشر بإيطاليا، وكان من علماء اللغتين اللاتينية واليونانية، إذ إنه أساء فهم «أرسطو»، وعرض آراءه عرضًا شخصيًّا، فشاعت آراء «سكاليجر» على أنها آراء «أرسطو»، وتحكَّمَتْ في الأدب الكلاسيكي — أدب القرن السابع عشر في فرنسا — أعنفَ التحكم، حتى إنه لما كتب الشاعر الفرنسي الكبير «كورني Cornretlle» رواية «السيد Lecid» ثارَتْ ثائرةُ النقاد، واتهموه بالخروج على قواعد «أرسطو». وكان «أرسطو» لا يزال يحتفظ بما كان له من نفوذ في القرون الوسطى يوم كان لا يُفَضُّ نزاع إلا باستشهاد منه؛ ولذلك اضطر «كورني» وقد هوجم باسم «أرسطو» أن يحتكم إلى المجمع اللغوي «الأكاديمية الفرنسية»، وشكلت الأكاديمية لجنة لفحص المسرحية، وهل تشتمل على قواعد المسرحية، وعهدت إلى الكاتب المعروف «شابلان Chapelain» بوضع تقرير عن الرواية، وهذا التقرير هو كتابه المعروف باسم «حكم الأكاديمية على السيد»، ولا يزال هذا الكتاب من وثائق التاريخ الأدبي، وفيه يقرِّر شابلان أن كورني قد خرج على قواعد «أرسطو» فاستحق اللوم، وقد رد «كورني» على هذا الحكم بسبع مقالات هامة جيدة، تحت اسم discours sur le theatre أي «أبحاث عن المسرح»، وفيها يوضِّح الوحدات التي نُسِبَتْ إلى «أرسطو»، ويبيِّن أسسها المنطقية والفنية، وكيفية خضوعه لها؛ وذلك لأنها كانت أقوى من أن تُجَابَه بالهجوم.
هذه هي نظرية «أرسطو» ووحداته الخاصة بالتراجيديا، وهذه هي آثارها ملخصة، ولكن الفيلسوف لم يقف عند التقنين، بل درس أيضًا النظرية النفسية للمسرح، ونظريته تقوم على المبدأ الشهير الذي عَبَّرَ عنه بقوله: إن المسرح بإثارته الخوف والرحمة في النفوس يطهرها من شهواتها. وهي النظرية المعروفة بنظرية التطهير Katharaxix؛ وذلك لأن في النفس الإنسانية غرائزَ الكفاح الفطرية التي أتت أوضاع الحياة الاجتماعية، فكبحت جماحها وطوتها وكل غريزة مكبوتة قوة مدمرة، والمسرح بإثارة العاطفتين السابقتين يعالج تلك القوى المكبوتة؛ وذلك لما يقوم بين المُشاهِد والمُمثِّل من المشاركة فيما يأتي من أحداث، فكأن المشاهدَ يعيش تلك الأحداث إذا أجاد الممثل التمثيل، ووهب المشاهد شيئًا من الخيال والقدرة على الانفعال، والرحمة والخوف لا يثيرهما إلا مناظر العنف، ذلك العنف الذي تدفع إليه الغرائز الفطرية كما قلنا، وهذا هو معنى التطهير ووظيفته.

ومن الممكن الجمع بين تلك النظرية والنظرية الحديثة في علم الجمال الفني التي تقول: إن الأدب بوجه عام والمسرح بوجه خاص ادخار للطاقة البشرية.

وهذه النظرية تصدق على المؤلف القصصي، كما تصدق على قارئ القصص أو مشاهد المسرحية، فالمؤلف يعيش في الخيال مع ما تدفعه إليه قوة الخيال ويعز تنفيذه، والقارئ — إذا نجح الكاتب — يساهم في تجربة المؤلف وكأنه يعيش فيما يقرأ، وكذلك المشاهد للمسرح، ومن عاش مع إحساس مكبوت طهر نفسه منه كأنه عاشه.

والمسرح عند أرسطو كأنواع الأدب الأخرى، بل كافة الفنون، يقوم على المحاكاة، فالموسيقى محاكاة للطبيعة أو الخلق البشري بالنغمة والإيقاع Rythme، والتصوير محاكاة بالوضع واللون والضوء، والأدب محاكاة باللفظ والنغم والإيقاع.
ولقد كان الإغريق القدماء — كما جاراهم في ذلك «أرسطو» — يعتقدون أن الجمال وحده هو مادة الفن، وأما القبح فلا يصلح له؛ ولهذا غلب الجمال على فنونهم جميعًا نحتًا وتصويرًا وأدبًا، وإن لم يغفل الواقع تمامًا، وهذه النظرية تنكرت لها العصور الحديثة التي تؤمن بأن الفن إذا مس القبح بجناحيه استحال جمالًا. وقد ظهرت هذه النظرية أو هذا المذهب في القرن الثامن عشر قرب أواخره، واشتد التيار حتى أصبح مدرسة في القرن التاسع عشر تُعْرَفُ بالمدرسة الواقعية Realism، ومن الغريب أن تشاهد شحاذًا ملقى بمفترق الطريق فينفر عنه بصرك، ثم يروقك نفس الشحاذ مُصوَّرًا في لوحة زيتية كاللوحة الخالدة التي خلفها المصور الإسباني «ميريو». والسر في ذلك هو أنك عجزت كفرد عن أن تخلع على الشحاذ المعاني الإنسانية التي حركها في نفس «ميريو» مصورها؛ وهكذا يستحيل الشحاذ عندما يمر بقلب كبير آيةً من آيات الفن، فيروقك في اللوحة ما يفيض به «ميريو» من إنسانية استطاع أن يصورها بالوضع واللون والضوء.

فأما الإغريق فلم يستطيعوا أن يؤمنوا بهذه الحقيقة، وإذا كان من مميزاتهم الكبيرة تقديس الجمال وعبادته، فقد كان هذا الجمال جمال الوضع والصورة، والانسجام الهندسي، حتى إن المعنويات ليتصورونها مجسمة؛ إذ يفكرون بخيالهم فيخلقون صورًا، ولقد قال أكبر كتابهم «أفلاطون» عند حديثه عن الحقيقة: لو صِيغَت الحقيقة امرأةً لأحبها جميع الناس.

ويقسم «أرسطو» المحاكاة وفق عناصر ثلاثة:

(١) الوسيلة. (٢) الموضوع. (٣) المنهج.

  • (١)

    فأما الوسيلة: فتشير إلى الاختلاف القائم بين أدوات الفنون المختلفة؛ إذ تختلف تلك الأدوات في الموسيقى عنها في التصوير أو الأدب.

  • (٢)

    وأما الموضوع: فيرى أرسطو أن الفنون تحاكي الطبيعة والإنسان، كما هي أو خيرًا مما هي أو أقل مما هي.

  • (٣)

    وعلى أساس المنهج تتفاوت الفنون أيضًا، فمنها ما يحاكي قصصًا على لسان الغير، ومنها ما يحاكي عملًا يشخص ذلك الغير.

وإلى هنا يقف «أرسطو» في تقسيمه لأنواع المحاكاة، والنظرية في أساسها لا تخلو من سطحية، فالآداب والفنون لعلها تكون خلقًا أكثر منها محاكاة، ومن الكُتَّاب من وهبه الله القدرة على الخلق، فخلقوا نماذج كأنها المرايا يتعرف الناس فيها على حقائقهم، وليس من شك في أن الخلقَ الفني الجدير بهذا الاسم أعمقُ وأصدقُ من الحياة؛ لأنه يجمع من عناصر تلك الحياة الشتيتَ، ويشق الحجب عن الدفين، وينير المظلم من النفوس، حتى إنك لَتقرأ أحيانًا وصفًا لخُلُق، أو تحليلًا لشخصية، فتعثر على نفسك في تحليها، فكأنك وجدتَ مفقودًا أو أنرتَ مظلمًا في نفسك.

ولقد خطا النقد بعد «أرسطو» خطوات كبيرة، وميز النقاد بين مجالات الفنون المختلفة أدق تمييز.

ولنتخذ لذلك مثلًا ما وُفِّقَ إليه الناقد الألماني المعروف «لسنج Lessing» في كتابه الشهير «لاوكون Laocoon»، و«لاوكون» اسم لكاهن الإله «أبولون» بطروادة، ومن المعلوم أن هذه المدينة لم تسقط بيد الإغريق رغم محاصرتهم لها عشر سنوات متتالية إلا بالحيلة والدهاء، فقد تظاهروا بالانسحاب بعد أن صنعوا تمثالًا من الخشب في شكل حصان، وهو الذي يُضْرَبُ به المثل في الخديعة فيقولون: «حصان طروادة»؛ وذلك أن الإغريق وضعوا في جوفه الرجال، وظنها الطرواديون غنيمة باردة، فهدموا جانبًا من أسوار مدينتهم ليدخلوه، وما إن وصل الحصان إلى قلب المدينة حتى قفز من جوفه الرجال، وقتلوا الحراس وأضرموا النيران في المدينة، وفتحوا الأبواب حيث تدفق جند الإغريق.

وكان «لاوكون» كاهن طروادة قد حذَّر أهل المدينة، فاستشاط غضب الآلهة الذين يناصرون الإغريق وبخاصة الآلهة «بالاس آتينيه» ومن خلفها «زيس» نفسه، وقر رأيهم أن يُنزلوا به العذاب عقابًا، فأرسلوا إليه أفاعي ضخمة طوقته وأبناءه الثلاثة حتى أتت عليهم، وإن عذاب «لاوكون» والأفاعي تطوقه لم يكن بد من أن يستثير خيال الفنانين فعالجه النحات في تماثيل، إن يكن قد فُقد أقدمها، فقد وصلت إلينا منها نسخ برنزية، ثم جاء «فرجيل» شاعر اللاتين مؤلف «الإنيادة» فوصف بالشعر عذاب «لاوكون».

وفي كتاب «لسنج» الذي يحمل اسم «لاوكون» يوازن المؤلف بين فنَّيِ النحت والتصوير الشعري، ليدلنا على أيهما أنجح في إثارتنا لهذا العذاب، النحات أم الشاعر؟

ولم يتجه «لسنج» في حل هذه المشكلة نحو المفاضلة بين الفنين، بل حاول أن يقيم بينهما حدودًا وفواصل، وأن يرسم لكل ميدانه، وجماع الرأي عنده أن للشاعر أن يصور الحركة وما تحمل من تتابع الأوضاع، وأما النحات أو المصور، فليس له إلا وضع واحد في المكان، فإذا حاول أحدهما أن يطغى على ميدان الآخر باء بالفشل، فشاعر كامرئ القيس مثلًا يستطيع أن يصف الحصان وهو يكر ويفر على نحو لا يستطيعه النحات أو المصور؛ فهذان مقيدان باختيار الوضع في مكان، وأما الحركة فلا سبيل لهما إليها.

وهكذا استطاع «لسنج» أن يميز بين ميدانين مختلفين، ولكن لا ينبغي لنا أن نطالب رجلًا ﮐ «أرسطو» شق للإنسانية سبلها في كافة ميادين النشاط العقلي — أن يصل إلى مفارقات دقيقة، كتلك التي وصل إليها «لسنج» بعده بحوالي ٢٢٠٠ سنة.

والعيب في نقد أرسطو يرجع إلى منهجه العقلي، الذي يقوم على مبدأ التقسيم المنطقي Classification، وهو بوجه عام ما يكون في إدراكه عن الحس الباطني intuition فأرسطو عقلية هندسية، وأما روح الدقة فقد أعوزته؛ ولهذا نراه اعتمد على التقسيم الشكلي. فالأدب قصص وغناء وتمثيل، والتمثيل تراجيديا وكوميديا، الأدب يقوم على محاكاة، والمحاكاة تنقسم حسب موضوعها ووسائلها ومنهجها. والأدب القصصي يتميز عن التاريخ العام؛ فالأدب القصصي يقصد إلى العام بينما يتجه التاريخ إلى الخاص. والأديب القصَّاص يصوِّر نموذجًا للرجل الطموح في ذاته بما يَجُرُّ هذا الطموح أحيانًا من اضمحلال في الخلق، وأما المؤرخ فيصور الفرد «ألسبياد» Aicibiade بالذات، ويسرد كيف انضم «ألسبياد» إلى أعداء أثينا الأسبارطيين غير مرة، وهذا النحو من التفكير إذا صلح في حياتنا العملية، حيث لا بد منه لكي نتجه في الحياة، ونسيطر على المادة ونسخر قوى الطبيعة — فإنه قلما يغني في مجال الفنون التي تسعى قبل كل شيء إلى إدراك ما في وحدات البشر والأشياء من أصالةٍ أساسها المفارقات aueces، وهذه قلما يدركها العقل الهندسي، وإنما تدركها روح الدقة التي يحركها الحس الباطني، وفي ذلك يقول الناقد العربي الكبير «الآمدي»: «من الأشياء أشياء تحيط بها المعرفة ولا تؤديها الصفة»، أي يدركها الحس الباطني، ولكنها لا تسكن إلى لفظ، وكما يقول «القاضي الجرجاني» في محاجة خصم: «يحاجك بظاهر تدركه النواظر، وتحيله على باطن تحصله الصدور.»

(٢) في العصور الحديثة

لا نريد أن نقف عند من تلا «أرسطو» في العصور القديمة من نقاد، كما نعبر فوق القرون الوسطى، بل وعصر النهضة، لنصل إلى العصور الحديثة التي تبدأ تقريبًا من الثورة الفرنسية عام ١٧٨٩؛ وذلك لأن «أرسطو» بوضعه مبادئ وقواعد للنقد — كان في الواقع قد استنفد جوهر النقد، وما يمكن أن يدور حوله من معارك، بحسب تفاوت النظر، والأخذ بشرعية التقنين للنقد أو عدم شرعيته؛ ولذلك يمكن القول بأن جميع من تلوا «أرسطو» حتى عصر الثورة الفرنسية — قد كانوا في الواقع إما مؤيدين وإما مناهضين ﻟ «أرسطو» في اتجاهه وآرائه. ونحن بعد كل ذلك لا ندَّعي استعراض تاريخ النقد والنقاد على نحو كامل، وإنما هي — كما قلنا — لمحات نلقيها على بعض الفترات والشخصيات الأساسية ناظرين إليها كمعالم وبؤر للضوء.

(٢-١) لسنج بين الفوضى والتقنين

وها نحن ننتقل إلى الناقد الألماني الشهير «لسنج» صاحب كتاب «لاوكون»، الذي سبق أن أشرنا إليه، وكتاب «النشاط المسرحي في هامبورج» — ها نحن ننتقل إلى هذا الناقد العظيم، فنعثر لديه بنفس المعركة التي دارت حول التقنين أو عدم التقنين.

والواقع أن «لسنج» قد كان من كبار المتحمسين للأدب الإنجليزي، وكان «شكسبير» موضع إعجابه بنوع خاص، حتى لقد ساهم هذا الناقد في الأخذ ﺑ «شكسبير» إلى مكان الصدارة، بعد أن ظل مغمورًا ما يقرب من الثلاثة قرون، كان فيها الكاتبان المعروفان «مارلو» و«بن جونسون»، اللذان عاصرا «شكسبير» وفضلهما معاصروه عليه — مقدمَيْنِ دونه.

وعلى العكس من ذلك كان «لسنج» متعصبًا ضد الأدب الفرنسي، وبخاصة الأدب الكلاسيكي كما ظهر ورسخت أسسه في القرن السابع عشر.

ولما كان هذا الأدب الفرنسي الكلاسيكي هو الأدب الذي خضع لقواعد «أرسطو» وآرائه بنوع خاص، وطُبِّقَتْ فيه بنجاح تلك القواعد والآراء، فقد كان من الطبيعي أن ينفر «لسنج» من كل تقنين، وبخاصة إذا ذكرنا من الناحية الأخرى أن «شكسبير» قد كان محل إعجابه الأول، و«شكسبير» لم تخضع عبقريته لأي قاعدة، بل مزقت كافة القواعد والمبادئ — لا في المجال الفني فحسب — بل وفي المجال النفسي والمنطقي؛ إذ تمتلئ مسرحياته بخوارق الأمور، وتسبح أجزاء كبيرة منها في عالم المعميات المجهولة.

ومع ذلك فإن رجلًا ﮐ «لسنج» لم يكن يستطيع أن يدعو إلى الفوضى، وترك الحبل على الغارب لمجرد نفوره من الكلاسيكية، أو من التقنين بوجه عام، وهو في كتابه «لاوكون» — كما رأينا — يحاول أن يضع حدودًا وفواصل بين الفنون المختلفة؛ فيخطط للشعر مجالًا، وللتصوير والنحت مجالًا آخر.

لم يستطع «لسنج» إذن أن يدعو إلى الفوضى، ولا أن يصل في ثورته على القواعد إلى مداها؛ ولهذا نراه يتردد بين الطرفين، ويُظهر ما بين العبقرية والقواعد من وشائج تنسجم حينًا وتتضارب حينًا آخر، وذلك بحكم أن القواعد ذاتها إنما تُسْتَمَدُّ من نتاج العبقريات، ثم تزيد تلك القواعد بعد ذلك أن تخضع لها العبقريات، ولربما كان هذا التناقض هو السبب في أن «لسنج» قد اعْتُبِرَ من واضعي أسس الكلاسيكية الجديدة، كما اعتبر أنه قد كان ممن ساهموا في أن يهبوا ألمانيا شاعرها وكاتبها الأول «جيته»، وإنجلترا شاعرها الكبير «كوليردج».

ولعلنا لا نستطيع إظهار لُبَاب نظرية «لسنج» العامة في معركة التقنين وعدمه — نعم … لعلنا لا نستطيع إظهار هذا اللباب بخير من أن نختم هذه الكلمة الموجزة عنه بفقرة نأخذها من كتابه عن «النشاط المسرحي في هامبورج»، وها هي تلك الفقرات الهامة:

إن لدينا الآن — بحمد الله — جيلًا من النقاد، أقصى ما يمتد إليه نشاطه في مزاولة النقد هو أن يلقي الشك على النقد كله، فهو يصيح قائلًا: إن العبقرية تضع نفسها فوق كل القواعد، وإنتاج العبقرية هو القاعدة … وهكذا يتملقون العبقرية، وإنني لأظن أننا سنعتبرهم هم أيضًا عباقرة، ولكنهم يشفون عن افتقارهم لأصغر ذرة من تلك العبقرية عندما يصيحون في نفس الوقت بأن: القواعد تخمد العبقرية، وكأن هذه العبقرية يمكن أن يخمدها شيء، وبخاصة إذا كان هذا الشيء — كما يقولون هم أنفسهم — مستمدًّا من تلك العبقرية ذاتها. وفي الحق أن كل ناقد فني ليس عبقريًّا، وإن يكن كل عبقري يُولَدُ ناقدًا فنيًّا، والعبقري يحمل في حناياه إحساسًا بكافة القواعد، ولكنه لا يأخذ ولا يتذكر ولا يتبع منها إلا ما يُعينه على الإفصاح عن مشاعره في ألفاظ، وهل من الممكن أن تَحُدَّ وسائل التعبير عن المشاعر من نشاط تلك العبقرية؟ ولكنك تستطيع أن تحاج هؤلاء كما تريد؛ فإنهم لن يماشوك إلا إلى الحد الذي تصدمهم معه أحكامك العامة، فتلوح لهم صحيحة في اللحظة والموضوع الراهنين، إنهم يتذكرون هذا فقد ويتأثرون به، ويعملون وفقًا له، وكأنك لا تعدو تذكيرهم بمثل موفق أو تجربة فريدة؛ وهكذا يظهر كيف أن القول بأن القواعد يمكن أن تخمد العبقرية إنما يعتبر مرادفًا للقول بأن المثل والتطبيق العملي يستطيعان إخمادها، وفي ذلك ما يَحُدُّ العبقرية لا بنفسها فحسب، «بل وبأولى محاولاتها».

ومن هذا النص الهام يتضح كيف أن «لسنج» يسخر ممن يظنون أن القواعد يمكن أن تخمد العبقرية، ما داموا يقررون أن هذه القواعد قد اسْتُقِيَتْ هي نفسها من نتاج العبقريات، وإن يكن من البَيِّنِ أن القواعد التي يسلم بها «لسنج» ليست القواعد الشكلية الخارجية التي يحيكها المنطق المجرد، وإنما هي القواعد الفنية الداخلية المستقاة من عيون الأدب ذاته، والتي لا يستخدمها الكُتَّاب إلا لما يجدون فيها من مواتاة في العون على التعبير عن مشاعرهم الخاصة.

(٢-٢) «سانت بيف» وشخصية الأديب: «١٨٠٤–١٨٦٩»

وأما الناقد الفرنسي الشهير «سانت بيف» فربما كان من أكبر المعاول التي هدمت الكلاسيكية، وبالتبعية هدمت النقد القاعدي المقنن.

وها هي فقرة مما كتبه في «أحاديث الاثنين» يسخر فيها ممن يعتقدون أن هناك قواعدَ يمكن أن تخلق الكاتب الممتاز، الذي كان في عصر «سانت بيف» — ولا يزال في عصرنا الحاضر — يُسَمَّى «كلاسيكيًّا» عندما يستعمل هذا اللفظ الأخير مرادفًا للفظة الجودة، بصرف النظر عن معناه الفني الاصطلاحي.

قال: «ليست هناك قواعد تخلق الكاتب الكلاسيكي الممتاز، ومن الواجب أن نسلم بهذه الحقيقة، فالاعتقاد بأن المرء يستطيع بمحاكاته لصفات خاصة، كالنقاء، والاعتدال، والصحة، والرشاقة، أن يصبح كاتبًا كلاسيكيًّا، دون اعتبار للهدف الذي يقصد إليه والإلهام الذي يصدر عنه — مرادف للاعتقاد بأن «راسين» الأب، قد خَلَّفَ مكانه ﻟ «راسين» الابن، وفي هذا من الغباوة ما يقطع بانعدام روح الشعر عند مَنْ يدفعه إعجابه بالأب إلى خلع هذا الإعجاب على الابن.»

ولقد علق «سانت بيف» على منهج «ديزريه نيزار» الذي دافع عن الكلاسيكية في كتابه الشهير عن «تاريخ الأدب الفرنسي» في الوقت الذي كانت فيه الرومانتيكية بالغة عنفوان حدَّتِها، فأخذ يسخر من التماسه أنموذجًا يجعل منه مقياسًا للجودة وعدمها، فقال في أحد «أحاديث الاثنين»:

«لقد أراد «نيزار» أن يكتب في الأدب الفرنسي، وأن يتتبع نموه خلال القرون، فابتدأ بأن سأل نفسه: ما هي العبقرية الفرنسية؟ وكوَّن لنفسه فكرة عن تلك العبقرية، واتخذ من تلك الفكرة أنموذجًا صاغه من كبار كُتَّابها ونقادها، وقدم للقراء صورة مرضية لتلك العبقرية الفرنسية، التي رآها من أحسن جوانبها، وفي خير أضوائها … وإذا كان قد تملق تلك العبقرية في تحديدها العام، فإنه بلا ريب لم يتملق كُتَّابًا بأعينهم، بل إنه على العكس من ذلك يخضع إلى أشق الامتحانات وأكثرها خطرًا، بمقارنته لهم بالمثل الأعلى الذي وضعه منذ البدء ومقابلتهم به؛ حتى لنراه يسقط من حسابه ما يتميز به الكثيرون من كبار الكُتَّاب من صفات شخصية؛ لكيلا يستبقي منهم إلا ما يتفق ويأتلف مع ذلك الأنموذج المجرد الذي صوره للعبقرية الفرنسية.»

هذا هو روح منهجه، ومع ذلك فهل طبقه في دقة؟

بل هل من الممكن أن يطبق مثل هذا المنهج في دقة؟

إن الطبيعة مليئة بالمفارقات، مليئة بالأنغام، وأنواع المواهب لا حصر لها، فلماذا أيها الناقد تتمسَّك بأنموذج بعينه؟ إنني لا أجهل أن أنموذجَك متنوع، بل وأكثر تنوعًا مما يبدو، كما لا أجهل أن الأنموذج الذي صورته للعبقرية الفرنسية فيه من تعدُّد من الحنايا والتركيب والمرونة ما في تلك العبقرية ذاتها، ولكننا نلاحظ مع ذلك أن ناقدنا المؤرخ لا يسلم نفسه قط إلى التيار الذي ينحدر من طبيعة كل كاتب، وأنه يرده باستمرار إلى الأنموذج الذي صوره، ويُرْغِمُ أكثر من جدول ضال على التدفق في تلك القناة الصناعية التي أعدها من قبل، إنه ليشذب الأغصان المتمردة، وإن العبقرية الفرنسية لتحلق فوق «تاريخه» كإحدى مُثُل «أفلاطون»، وهي توزع المدح أو القدح، والتقبل أو النقد على كل كاتب عند عبوره تبعًا لما تجده فيه من نفسها.»

وإذا كان «سانت بيف» لم يعرف رفقًا في مهاجمته للقواعد والنماذج كأساس للنقد — حتى ولو كانت تلك النماذج صورة عامة لعبقرية شعب بأكمله — فإنه لم يعرف أيضًا أقل رفق في محاولة تفسير عبقريات الشعوب، وعبقريات الأفراد، وردها إلى عوامل كالبيئة والجنس والزمان، على نحو ما فعل الناقد الكبير المعاصر له أيضًا «هيبوليت تين» في كتابه الشهير عن «تاريخ الآداب الإنجليزية».

لقد انتقد «سانت بيف» منهج «تين» نقدًا قويًّا عميقًا، فقال: «إن كل ما فعله «تين» هو محاولته أن يدرس بطريقة منهجية الفوارق الدقيقة التي تنتج عن الجنس والبيئة والزمان في تكوين العقول، وتشكيل المواهب، وتحديد حناياها، ولكنه من الممكن القول بأنه لم ينجح في محاولته النجاح الكافي، وعبثًا يعطينا وصفًا رائعًا للجنس في قسماته العامة، وخطوطه الرئيسية، وعبثًا يرسم بلوحاته القوية ثورات الزمن، وأجواء الأخلاق التي سادَتْ في عصور التاريخ المختلفة، وعبثًا يميز في مهارةٍ بين الأحداث المتداخلة، والمغامرات الخاصة التي تحتويها حياة الفرد — نعم عبثًا يفعل كل ذلك، فإن شيئًا آخر قد ظل بعيدًا عن قبضته، وكأنه ينساب من بين أنامله، وهذا الشيء هو أكثر أجزاء الفرد حياة، هو ذلك العنصر الذي يجعل عشرين رجلًا أو مائة أو ألفًا — خاضعين فيما يظهر لنفس الملابسات الداخلية — يتميزون فيما بينهم كوحدات مستقلة، ويعطي واحدًا من بين الجميع امتيازًا أصيلًا، بل إنه قد عجز عن أن يمسك بشرارة العبقرية ذاتها في معدنها الأصيل، ولم يستطع — طبعًا — لها تحليلًا، إنه لم يعد أن يظهر ويستنبط خيطًا فخيطًا، وخلية فخلية — المادة أو الجرم أو الحيز الأول الذي سرت فيه الروح والحياة والشرارة ثم استقرت، وأخذت تبعث نشاطها، وتطلق أجنحتها في أوضاع وانتصارات متباينة.»

«ولكن هل تراني أجدتُ صوغ اعتراضاتي؟ لننظر النتيجة الإيجابية لنتبين هل هي: أن هذه المشكلة لا حل لها في النهاية؟ في رأيي أنه لا يجدينا شيئًا أن نقترب منها كل هذا القرب، ولا أن نحاول ردها إلى عناصر متناهية البساطة لنأتيَ بعد ذلك فنبالغَ في الأوزان والمقاييس وتقدير النتائج، ونحن مع إجازتنا لتناول كافة العناصر العامة والخاصة، وكافة الملابسات، إلا أننا نؤمن أنه سيبقى بعد كل ذلك حول الرجال ذوي المواهب فراغٌ تستطيع أن تتحرك فيه تلك المواهب فتأتي بالعجب، ثم إنه مهما ضاقت الحلقة حول الموهبة، فإن كل عبقرية — بحكم أنها ضرب من السحر والغواية — لن تزال محتفظة بالسر الذي يُمَكِّنُهَا من الإتيان بالمعجزات داخل هذه الحلقة ذاتها، وإنه ليخيل إليَّ أن «تين»، وإن بدا أنه يغفل هذه القوة إلى حد بعيد، إلا أنه لا ينكرها إنكارًا مطلقًا، وإن يكن لسوء الحظ قد حد منها؛ وبذلك أعطاها الفرصة لكي تفلت من أيدينا، ونعجز عن تعريفها.»

والآن نستطيع أن نستنتج في سهولة مذهب «سانت بيف» نفسه في النقد؛ وذلك لأنه ما دام يسخر من القواعد، ويأخذ على «نيزار» فكرة الأنموذج، حتى ولو كان هذا الأنموذج هو العبقرية الفرنسية ذاتها، واتخاذها مقياسًا للحكم على الكُتَّاب، وإذا كان يعيب في مذهب «تين» محاولته تفسير كل شيء في الكاتب بالبيئة والجنس والعصر، وإغفاله ذلك الجوهر الفرد الذي لا يُفَسَّرُ، والذي تتميز به العبقرية الفردية، وإذا كان يفعل كل ذلك، فمن السهل أن نستنتج أن مذهبه كان لا بد أن يكون ما عبَّر عنه هو نفسه بقوله: «الكِتَاب تعبير عن مزاج فردي.»

ولقد دلل «سانت بيف» على هذه الحقيقة بدراسته لمعاصريه من الكتاب بنوع خاص، فأخذ يستقصي مظاهر حياتهم المادية والعقلية والأخلاقية، حتى لنراه لا يتورع عن شيء في سبيل معرفة ما كان يسميه «وعاء الكاتب».

لقد كان يتتبع حياة الكاتب الشخصية والعائلية، وتلاميذهم وأصدقاءهم، بل ويحاول الكشف عن أذواقهم وعاداتهم وآرائهم الشخصية، وهكذا جاء نقده تصويرًا لشخصيات الكُتَّاب، ثم يقسم الكتَّاب بحسب الوشائج التي يمكن أن تربط بينهم إلى طوائف، كما يفعل علماء النبات والحيوان عندما يحددون الفصائل.

ولكن مثل هذا العمل كان يتطلب جهد السنين؛ وذلك لأنه لا بد من عدد لا يُحْصَى من التحليلات قبل أن يصل الناقد إلى عملية التركيب والتوزيع في طوائف، وهذا ما لم يتسع له عمر «سانت بيف»؛ ولذلك ترك عددًا لا يُحْصَى من التحليلات، وجاء مِن بعده مَنْ جمعها، ووزعها في الطوائف التي تحدث عنها الناقد الكبير.

ومثل هذا المنهج يمكن تطبيقه على المعاصرين، وكُتَّاب العصور الحديثة، وأما القدماء الذين لم تصلنا عنهم عادة إلا صور ناقصة، أو كما يقول سانت بيف نفسه «تماثيل مهشمة»؛ فليس من السهل أن تسعفنا المعلومات اللازمة لذلك.

ومع هذا فإن «سانت بيف» لم يقل يومًا: إن النقد علم فحسب، وإنه من الممكن أن يزاوله كل إنسان، كما يزاول علماء النبات والحيوان أبحاثهم — بل كان يقول دائمًا: إن النقد فن أيضًا، ويجب ألا يزاوله غير الفنان.

لقد قال: «إن النقد لا يمكن أن يصبح علمًا وضعيًّا، وسيبقى دائمًا فنًّا دقيقًا في يد من يحاولون استخدامه، وإن يكن قد أخذ يستفيد، واستفاد بالفعل من كل ما انتهى إليه العلم، أو كشف عنه التاريخ من حقائق.»

ولقد استطاع «سانت بيف» بفضل جمعه بين العلم والفن، وبين المعرفة والحس في النقد، أن يصوِّر شخصيات الكُتَّاب دون أن تطغى التفاصيل على الصور العامة؛ وبذلك تجنب ما يقع فيه الألمان مثلًا عندما يغرقون في التفاصيل، كما أنه وإن يكن قد عارض النقد القاعدي، وسار على مذهب «الاختيار» الإنساني لا «الجبر»، معارضًا ﻟ «تين» إلا أنه لم يغفل القواعد، ولا أغفل دراسة البيئة والجنس والزمان، ولا أهمل قراءة وفهم ما كتب غيره من أنصار هذه المذاهب، فأساس النقد هو المعرفة الواسعة، ثم نسيان تلك المعرفة حتى لا نصبح عبيدًا لها وحتى لا ينوء العقل بحملها.

ولقد شرح «سانت بيف» نفسه منهجًا في النقد في مقال له عن «شاتوبريان»، منشور بالجزء الثالث من «أحاديث الاثنين الجديدة»؛ حيث قال: «ليس الأدب — أي الإنتاج الأدبي — منفصلًا في نظري عن الإنسان، فباستطاعتي أن أتذوق مؤلفًا أدبيًّا، ولكنه من الصعب أن أحكم عليه دون معرفة بالكاتب نفسه؛ وذلك لأنه كما تكون الشجرة يكون ثمرها، وهكذا تقودني الدراسة الأدبية إلى الدراسة الإنسانية قيادة طبيعية.»

ولم يكن بدٌّ من أن يفطن «سانت بيف» — كما أشرنا من قبل — إلى الصعوبات التي تعترض منهجه، فيما يختص بالقدماء؛ ولذلك نراه يبدأ بالحديث عنهم فيقول: «أما فيما يختص بالقدماء، فإننا لا نملك وسائل الملاحظة الكافية، والعودة إلى الإنسان وكتابه بيدنا مستحيلة في أغلب الأحيان؛ وذلك لأننا لم نعد نملك عن أولئك القدماء غير تماثيل مهشمة، وهكذا نضطر إلى الاقتصار على التعليق على الكتاب والإعجاب به، وتخيل المؤلف أو الشاعر تخيل أحلام، فترانا نؤلف أوجه الشعراء والفلاسفة في تماثيل نصفية ﻟ «أفلاطون» أو «سوفوكليس» أو «فرجيل»، ممزوجة بإحساس مثالي متسامٍ لدى الناقد عن عظمتهم، وهذا هو كل ما تسمح به معلوماتنا الناقصة، وجذب مصادرنا، وقلة وسائل البحث والاستقصاء. هناك نهر الزمن الضخم الذي لا يمكن عبوره في معظم الحالات، والذي يفصل بيننا وبين القدماء، فلنقتصر إذن على تحيتهم من ضفة إلى ضفة.» ثم يقول: «وأما مع المحدثين فالأمر مختلف، والنقد الذي يُرَتَّبُ منهاجه حسب وسائله تقع عليه هنا واجبات أخرى. ومعرفة إنسان في دقة وتعمق — وبخاصة إذا كان هذا الإنسان شهيرًا مؤثرًا — أمر جليل في ذاته جدير بكل اهتمام.» ويأخذ «سانت بيف» في تفصيل تلك المعرفة، التي يدعو إليها فيقول: «الملاحظة المعنوية للشخصيات ليست إلا جمعًا لتفصيلات وعناصر وصفات للأفراد، وعلى الأكثر لأنواع للأفراد ﻓ «ثيوفراست» و«لابرويير»، لا يذهبان فيما صورا من شخصيات إلى أبعد من ذلك، ولكنه ربما يأتي يوم أستطيع أن ألمح فيه النفوس في طوائف واضحة الحدود والمعالم، وعندئذٍ سنستطيع بمجرد أن تقع على القسمة الخلقية المميزة لفرد من الأفراد أن نستنتج بقية القسمات. نعم إنه ليس باستطاعتنا أن نصل في الدراسات الإنسانية إلى مثل ما نصل إليه في دراسة الحيوانات والنباتات، فالإنسان المعنوي أكثر تعقيدًا؛ وذلك لأنه يتمتع بما يُسَمَّى «الاختيار»، ذلك الاختيار الذي يجعل من الممكن حدوث عدة احتمالات ومركبات. ومع ذلك يُخَيَّلُ إليَّ أنه سيأتي يوم ممكن أن يتكون فيه علم الشخصيات البشرية، وهذا العلم موجود الآن في المرحلة التي كان يوجد فيها علم النباتات قبل «جوسيه»، والتي كان يوجد فيها علم التشريح المقارن قبل «كيفليه» أي في المرحلة الوصيفية؛ فنحن نضع اليوم سجلات للحياة الفردية، نجمع فيها طائفة من الملاحظات الفصيلية، ولكننا مع ذلك نلمح الروابط أو العلاقات، ولربما يأتي عقل أكبر اتساعًا، وأقوى ضوءًا، أو أكثر حدة في الملاحظة — فيستطيع أن يكتشف الأقسام الطبيعية الكبيرة التي تكوِّن «الفصائل البشرية».

ومع ذلك فإنه عندما ينظم هذا العلم — كما نلمحه عن بعد — فإنه سيكون دائمًا بالغ الدقة والتغير؛ حتى ليمكن القول بأنه لن يكون إلا في متناول من أُوتُوا الموهبة الطبيعية والقدرة على الملاحظة. سيكون دائمًا فنًّا يحتاج إلى فنان ماهر على محو ما يتطلب الطب حاسة خاصة عند من يزاوله، والفلسفة ذواقة فلسفيًّا؛ والشعر «موهبة شعرية».»

وإذًا فنحن نفترض وجود هذا النوع من الموهبة القادرة على تمييز الفصائل الأدبية، والتعرُّف إليها عند النظرة الأولى، أي نتطلب في الأدب نقادًا لهم كفايات علماء التاريخ الطبيعي.

«فإذا أردنا أن ندرس إنسانًا ممتازًا، أو بعبارة أبسط إذا أردنا أن نميزه بواسطة إنتاجه الأدبي بعد أن نكون قد قرأنا ذلك الإنتاج، وفحصناه فحصًا عميقًا، نعم إذا أردْنَا أن ندرس هذا الإنسان فماذا نفعل؟ وإذا أردنا بنوع خاص ألا نغفل أي أمر جوهري هام يتعلَّق بهذا الإنسان، وحرصنا على أن نخرج من الأحكام اللفظية العامة، وألا تخدعنا الجمل والألفاظ والمشاعر الاصطلاحية الجميلة، وفي عبارة موجزة إذا أردنا أن نصل إلى الحقائق المادية — إذا أردنا كل ذلك فما هو المنهج؟»

«يجب أن نبدأ أولًا — إذا كان ذلك ممكنًا — بتمييز الكاتب الممتاز وسط وطنه وجنسه، وإذا عرفنا الجنس من الناحية العضوية، كما هو مسجل في الأصول والأجداد، استطعنا أن نلقي ضوءًا قويًّا على الصفة الأساسية المميزة لهذه النفس البشرية، ولكننا كثيرًا ما نعجز — لسوء الحظ — عن الوصول إلى الجذور الغامضة الهروب لهذه الشخصية، وذلك مع أن الوصول إليها ذو أهمية بالغة.»

«ولا ريب أنه من المؤكد العثور على الإنسان الممتاز — على الأقل جزئيًّا — في والديه، وفي أمه بنوع خاص، هي الأصل الموثوق به، والأكثر التصاقًا، وكذلك في إخوته وأخواته، بل وفي أبنائه. وإذا كانت هناك بعض الخطوط الأساسية في الشخصية التي ندرسها تبدو غامضة لشدة تركُّزها، أو اختلاطها بغيرها من الخطوط؛ فإننا لن نعدم الكشف عن حقيقتها عند الأشخاص الآخرين، الذين يشاركونها في الدم حيث نجدها سافرة أو متميزة غير مختلطة، إن الطبيعة كثيرًا ما تتكفَّل بجهد التحليل، وتغنينا عنه.»

«بعد أن نطمئن — بقدر المستطاع — إلى معرفة أصول الكاتب، وقرابته القريبة والبعيدة، تأتي مسألة أساسية من الواجب أن ندرسها بمجرد فراغنا من معرفة الدراسات التي تلقَّاها والتربية التي خضع لها، وتلك المسألة هي «الوسط»، ونعني به مجموعة الأصدقاء والمواطنين الذين عاش بينهم عندما تفجرت عبقريته، ولا ريب أن تكوين الكاتب النهائي سيكون قد تم في هذه المرحلة، ومهما يتطور بعد ذلك فإنه سيظل محافظًا على طابع تلك المرحلة.»

«ومن الواجب أن نحدد في دقة معنى لفظ «الوسط» الذي نستخدمه كثيرًا، فإننا لا نقصد به أي اجتماع عارض مصطنع لنفر من رجال الفكر الذين يؤلف بينهم هدف واحد، وإنما نقصد به الجماعة الطبيعية — شبه التلقائية — من النفوس الشابة والمذاهب الفنية، التي وإن لم تكن متشابهة ولا منتمية إلى أسر متشابهة، إلا أنها من نفس المشرب، ومن نفس الربيع الذي أشرق تحت نفس النجم؛ حتى لتلوح أنها قد وُلِدَتْ لعمل شيء موحد رغم اختلافها في الذوق وفي طبيعة الاستعداد. ولنضرب لذلك مثلًا بتلك الجماعة الصغيرة التي تكونت من: «بوالو»، و«راسين»، و«لافونتين»، و«موليير» حوالي سنة ١٦٦٤؛ فقد كونت «وسطًا» بأدق معاني اللفظ عند مستهل العصر الذهبي — عصر لويس الرابع عشر — لقد كانوا جميعًا رجال عبقرية.»

«هذا … ولا يجوز أن نغفل أية وسيلة لمعرفة «الرجل»، أعني معرفة شيء آخر غير «الروح المجردة»، وما دمنا لم نُلقِ على أنفسنا عدةَ أسئلةٍ عن الكاتب الذي نريد دراسته، وما دمنا لم نعثر على إجابة عن هذه الأمثلة، ولو همسًا بيننا وبين أنفسنا؛ فإننا لن نستطيع أن نجزم بأننا قد عرفناه معرفة كاملة، وذلك حتى ولو كانت تلك الأسئلة أبعد ما تكون عن طبيعة كتاباته، كأن نتساءل عن رأيه في الدين، وكيفية تأثُّره بمناظر الطبيعة، ورد الفعل الذي تحدثه النساء أو يحدثه المال نفسه، وهل هو غني أم فقير؟ وما نوع حياته؟ وكيف يقضي سحابة يومه؟ … إلخ، وأخيرًا ما موضع النقص أو الضعف فيه؟ … ما دام لكل إنسان موضع ضعف أو نقص، وكل هذه الأسئلة لا يعتبر واحد منها نافلة عندما نريد أن نحكم على مؤلف كتاب، أو على الكِتَاب نفسه، ما دام هذا الكتاب ليس موسوعة في الهندسة النظرية، وإنما هو كتاب أدبي، أي كتاب يضم المُؤَلِّفَ بين دفتيه.»

«ومن الممكن — إلى حد ما — أن ندرس ذوي الملكات الأدبية في أعقابهم الروحية، أي تلاميذهم والمعجبين بهم، وهذه آخر وسيلة للملاحظة السهلة المريحة.»

«وإذا كان من الصواب أن نحكم على الرجل بواسطة أصدقائه وزملائه الطبيعيين؛ فإنه لا يقلُّ عن ذلك صوابًا أن نحكم عليه طردًا وعكسًا بواسطة الأعداء الذين يثيرهم، أو يستجلب عداوتهم دون إرادة منه، ثم بواسطة المخالفين له والنافرين منه، أولئك الذين لا يستطيعون أن يطيقوا عليه صبرًا.»

هذا هو منهج «سانت بيف» في النقد، وهو يتلخص في العناية بالكاتب ودرسه قبل نقده مؤلفاته، واعتبار شخصية المؤلف أساسًا لفهم ما يكتب ونقده.

ويخيل للمؤرخ أن «سانت بيف» لم يكن ينظر إلى النقد الأدبي كفرع من فروع الفن الأدبي فحسب، بل كعلم إنساني يقوم إلى جوار علم النفس وعلم الاجتماع، ولعله لا يقلُّ دقةً وأهميةً عنهما في دراسة الإنسان في ذاته وفهم ملكاته، وتحليل عوامله النفسية، وقد بيَّن «سانت بيف» نفسه أهمية هذا العلم، عندما قال في الفقرة السابقة: «إن دراسة الشخصية الكبيرة ومحاولة فهمها كسب في ذاته يستحق أن يُحْرَصُ عليه.» ثم وقف عند هذا التعبير دون أن يذكر أن هذه الدراسة وهذا الفهم إنما هما وسيلة لنقد المُؤلَّفَات.

والذي يُؤْخَذُ على هذا المذهب هو احتمال نسيان الكتاب نفسه في سبيل الكاتب، والنقد بمعناه الضيق لا بد من أن ينصب على الكتاب؛ حتى لا تختلط حدود العلوم وميادين البحث المختلفة، كما أن الإمعان في تحليل شخصيات الكاتب وتقصيها على نحو ما كان يفعل «سانت بيف»، الذي لم يترك حياة خاصة إلا هتك سترها، ولا أحداثًا مما يمس حياة الكاتب الشخصية إلا قصها، كما فعل في كتابته عن «فكتور هيجو»، وتمزيقه لحياته الشخصية؛ مما عرض «سانت بيف» إلى لوم معاصريه، واتهامهم له بالبذاءة والوقاحة وعدم الحياء — كل هذا قد يسيء إلى المؤلفات ذاتها، وقد يكون داعيًا لصرف الناقد والقراء عن التسليم بما فيها من جمال ونفاذ؛ فيضعف ذلك من قوة تأثيره الكِتَاب، كما قد يحيد بالناقد عن سلامة الحكم، إما لاعتبارات أخلاقية وإنسانية، وإما لاعتبارات فكرية بحتة؛ من حيث إن الوقائع أو التفاصيل قد لا تسلمه مدلولها الحقيقي، وقد تسوقه إلى إساءة الحكم أو التردي في الخطأ.

ويُضَافُ إلى ما سبق أن «سانت بيف» قد كان لسوء الحظ — رغم قوة عقله — ممن يتأثرون بما يلقي كبار الأحياء على معاصريهم من ظلال؛ حتى لقد اتُّهِمَ غير مرة بالتحامل، وبخاصة لأنه هو نفسه حاول الأدب نثرًا وشعرًا قبل أن ينتهي إلى النقد الذي كَرَّسَ له حياته، ولكنه لم يُصِبْ نجاحًا كبيرًا، وذلك بينما نجح كبار معاصريه ﮐ «هيجو»، و«لامارتين»، و«دي موسيه»، و«فيني»، وغيرهم، وتلك آفة، وإن يكن من الشاق أن ينجوَ منها البشر — إلا أنها آفة فاسدة مفسدة — وهي أول ما يجب أن يحاربه الناقد في نفسه.

وها هي فقرة يتحدث فيها «سانت بيف» نفسه عن «المجد الأدبي»: «يا لغرابة المجد! … كم في معركة الزمن الجارحة من الشعراء القدامى الذين هووا إلى القاع في غير رجعة، لم يخلفوا غير أسماء لا يحركها غير العلماء المنقبين.»

«إن العصور القديمة كما نتصورها في جهد، وبعد ما نزل بنا من خسائر، لا يمكن إلا أن تكون عصورًا تقريبية، فأفخم القصور، وأثمنها أثاثًا قد نُهِبَتْ أو دمرتها نيران البرابرة، عندما دخلناها بعد قرون أقمنا فيها ما وجدناه منتثرًا فوق أرضها من تماثيل مهشمة، وحنونا على الأنقاض التي استطعنا تعرف الكل الذي انتزعت منه، وحاولنا الاستفادة منها، وأعدنا تأثيث القصر بعين الخيال، رغم فجوات النقص البادية، وحيث كانت تنهض عدة تماثيل في صالة واحدة مشرقة، لم يعد إلى النهوض غير تمثال واحد، ولكننا وضعناه في منتصف تلك الصالة، لعله ينسينا ما اختفى، ولعل في هذا جمالًا، ولعل فيه بساطة تعوض الاصطناع، ولكن … مَنْ يستطيع مع ذلك أن يقول: إن هذا هو القصر كما كان.»

وتصور «سانت بيف» بعد ذلك أنه قد رأى في غفوة يقظة بعد ساعة قراءة — أشباح الكُتَّاب القدامى، الذين ابتلعهم النسيان، ثم قال: «أؤكد لكم أنه كان منظرًا محزنًا، ذلك الذي تتابعت فيه أشباح كانت يومًا شهيرة، بل أشباح كانت توزع هي نفسها المجد والخلود في عصور مستنيرة مزدهرة — نعم — … كان منظرًا محزنًا أن نراهم اليوم، وقد سقطت عن رءوسهم تيجان الضوء، وفقدوا ملكة اللفظ المنغم، وهم يحاولون عبثًا وبأنفاس هزيلة أن ينطقوا باسمهم، لعل مَنْ يمر بهم يحتفظ بهذا الاسم، ولعلَّه يردِّده، وجنون عظمتهم يلوح أكثر مرارة، وأشد استعصاء على العلاج، كلما ذكرنا أن هذا الجنون قد أشبع في حينه، وأنه لم يكن دائمًا جنونًا، ولقد تقدم نفر منهم كان يلوح أقل صبرًا، وأحلك يأسًا من الآخرين، حتى انتهى إلى أمواج النسيان المتلاطمة بين ضفتي «الاستكس» (نهر النسيان في العالم الآخر عند اليونان القدماء) وهم يمدون أذرعهم نحو زورق أخذ في الابتعاد، حاملًا عددًا من الأوجه الثابتة الهادئة تحت الضوء، وكأن هؤلاء المتخلفين يُشْهِدُونَ الآلهة والبشر على ظلم صارخ لم يعد يستشعره سواهم، ولقد تساءلتُ وأنا مستمر في حلم يقظتي، وبعد أن أخذتُ أفكر في عصورنا المطمئنة الواثقة من نفسها، تساءلت: هل ابتعدت عنا مثل تلك الكوارث؟ وعندما تتراخى السنون هلا يمكن أن تحدث الثورات الضرورية في الأخلاق والأذواق، فضلًا عن الاحتمالات الأخرى الأكثر سوءًا، ظواهر في الآداب الحديثة أكثر شبهًا بما حدث في الآداب القديمة مما نتصور؟»

«وأخذت أفكاري تظلم شيئًا فشيئًا، وتخيلت نفسي في الممشاة العليا بالمكتبة الملكية، وقد لاحت لي تلك الممشاة ممتدة إلى ما لا نهاية، والكتب تتقاطر من كافة النواحي، وقد أثقلت الرفوف، وتساقطت على الأرض التي أوشكت أن تتقوس من حملها، وأخذت أحس كأنني أحمل فوق صدري كل هذا العبء من المعرفة، وأخذت أنوء به؛ فصحت كمن يهذي: الكل باطل، وإنه لوهم أن يتصور الكُتَّاب أنهم في مأمن، وأن الطباعة تنقذهم. نعم، قد يحدث ذلك لقرنين أو لثلاثة قرون، ثم ينتهي كل شيء، وكل كتاب يُعَادُ طبعه، يتسرب إليه من الخطأ ما يغير من الفكرة والإحساس، حتى يأتي يوم لا يعاد فيه طبعه على الإطلاق، وعندئذ تتولى أمره الديدان القارضة، وكأنه أسمال بالية، فتأتي عليه، طال بها الزمن أو قصر وحتى لو لم تحدث فيضانات ولا حرائق، فإن هذه الكتب من الممكن أن تفنى بالجفاف أو الرطوبة.»

«ووصلت إلى قمة الحلم، فاستيقظت وأنا أصيح، وكان النهار قد بزغ، ولاح لي الأفق هادئًا، ووجدت على مائدتي نسخة من «هوميروس» مفتوحة، حيث كنت أقرأ في اليوم السابق، قبل أن أتناول «أفريون» (عالم لغوي يوناني)، فأعاد ذلك إلى نفسي شيئًا من الهدوء؛ إذ ذكرني أن هناك قضاءً وقدرًا حتى في أكبر المصادفات الأدبية، ثم استمر تفكيري يسبح عندما فتحت النافذة، حيث أخذت نسمات الصباح الندية تهب، وقلت: لا بد أن الذوق السليم لا يزال حيًّا في مستقبل الأيام، لقد انقضت عصور البرابرة، وإذا كانت المطبعة تكدس المطبوعات يومًا بعد يوم، فإن شيئًا مما تطبعه لن يضيع، وأسوأ ما يمكن أن يحدث هو أن نصبح جميعًا خالدين، بدلًا من أن نخشى ضياع بعض الممتازين، سنحيا جميعًا مع نصيب من ضوء الشمس، وفي شبه مساواة، سواء كنا جديرين بذلك أم لم نكن، تُرى … هل اطمأنت نفوسكم؟»

ومن هذا النص يتضح إلى أي حد كان «سانت بيف» مهمومًا بفكرة الخلود والفناء، مما يدل على حساسية خاصة، لم يكن بدٌّ من أن تلازمه عندما كان يعرض لمعاصريه، وبالأخص كبارهم الذين أصابوا النجاح.

(٢-٣) بعد «سانت بيف»

والآن لكي نفهم ماذا انتهى إليه النقد بعد «سانت بيف» — بل وفي عصره — لا نرى بدًّا من أن نعود فنوضِّح كيف ظهر «سانت بيف»، ومذهبه في سياق حركة النقد بوجه عام، وعلى أي نحو يعتبر ظهوره إلى حد بعيد فاصلًا بين عهدين كبيرين في هذه الحركة.

والواقع أن النقد قد ظل — بوجه عام — حتى عصر «سانت بيف» نقدًا حكميًّا، ينصبُّ على تقدير القيمة الفنية للكِتَاب أو المسرحية موضوع النقد، وكان ينهض به عادة الكُتَّاب المؤلفون كنشاط محاذٍ لنشاط الخلق الأدبي؛ ولذلك لم يكن يمس حياة المؤلفين، ولا الرابطة بين تلك الحياة وبين ما يؤلفون، بل يتناول الكِتَاب أو المسرحية المنقودة في ذاتهما، كشيء مجرد عن كافة الملابسات الزمنية، وذلك إلى أن جاء عصر «سانت بيف» (القرن التاسع عشر)، فأخذ يظهر نوع آخر من النقد، يقوم به نقاد متخصصون وهو النقد التفسيري، والذي يُعْنَى بطريقة خلق الأثر الأدبي، وكيفية تكوينه وارتباطه بحياة مؤلفه.

وقد أدى إلى ظهور هذا التطور قيام معارك أدبية، زعزعت وجود قواعد عامة تنطبق على النتاج الأدبي كله، وذلك مثل المعركة التي قامت في القرنين السابع عشر والثامن عشر بفرنسا بين أنصار القديم وأنصار الحديث، ثم المعركة التي قامت في أوائل القرن التاسع عشر حول المذهب الرومانتيكي، والمفاضلة بينه وبين المذهب الكلاسيكي.

ولو أننا أضفنا إلى هذه المعارك حركةَ المبادلات الأدبية بين الآداب المختلفة، وغزو النتاج الأجنبي للآداب القومية، بما يستتبع ذلك من نشر أصول متباينة استنتجت من كل نوع من هذه الآداب، لو أننا أضفنا هذه الحقيقة التاريخية إلى ما سُبِقَت الإشارة إليه من معارك؛ لاستطعنا أن نفهم كيف تزعزع النقد الحكمي الذي كان يُظن أنه قائم على أصول ثابتة لا تتغير، ولا يمكن أن يحل محلها غيرها.

وعندما اختلطت الأصول وتنوعت على هذا النحو، أخذ النقاد ينصرفون إلى النقد التفسيري، وهو الذي يحرص على الشرح والإيضاح والمساعدة على الفهم، أكثر من حرصه على الحكم وتحديد القيم، وكان عميد هذا النقد — كما أوضحنا — «سانت بيف» الذي ابتدأ حياته نصيرًا للرومانتيكية، ثم انتهى الأمر بانفصاله عنها وتنكُّرِه لرجالها، وإذا كان نقده قد سُمِّيَ بالنقد التاريخي؛ فمن الواجب أن نفهمه على أنه هو النقد التفسيري.

وإذا كان النقد الحكمي قد ظل له أنصاره، فإنه قد أخذ ينحرف إلى نواحٍ غير الناحية الأدبية الفنية البحتة، وبخاصة بعد أن مزجت الرومانتيكية بين القيم الفنية والقيم الأخلاقية، ولعل أصدق مثل لذلك اتجاه الناقد المعروف «سان مارك جيراردان» الذي كتب الكثير ضد الرومانتيكية، موجهًا سهام نقده بنوع خاص إلى ما يسمِّيه هذا المذهب بمرض العصر، فهو في هذا الهجوم رجل أخلاق أكثر منه رجل فن وأدب؛ إذ يأخذ على الرومانتيكيين إسرافهم في عرض أنفسهم على الناس، وشدة تشاؤمهم، وكثرة نحيبهم، وتغنيهم بالعدم والفناء والأطلال والانتحار، وتبرمهم بالحياة، وما إلى ذلك من المعاني التي تنطوي تحت «مرض العصر».

وإذا كان هناك من النقاد من ظل في فرنسا مؤمنًا بالنقد الحكمي؛ فهؤلاء لم يكونوا غير بقية من المتعصبين للأدب الكلاسيكي، وعلى رأسهم «نيزار» الناقد الكبير مؤلف كتاب «تاريخ الأدب الفرنسي» في أربعة أجزاء، وها هي خاتمة كتابه توضح رأيه؛ إذ نراه يستعرض مناهج النقد عند كبار المعاصرين له، وهم: «فيلمان»، و«سانت بيف»، و«سان مارك جيراردان»، ثم ينتهي إلى تحديد منهجه هو، فيقول: «إنني لأشعر بشيء من الحرج عندما أحاول تعريف النوع الرابع من النقد، وهو نقد يقرب من أن يكون كتابًا نظريًّا يحوي أصولًا تنظم لذات الروح، وتحرِّر المؤلفات من استبداد ما يسمونه «ذوق كل إنسان». إنه نقد يطمع في أن يكون علمًا دقيقًا، أشدَّ حرصًا على قيادة الروح منه على إدخال السرور عليها إنه ليضع لنفسه عن الروح البشرية، وعن العبقرية الفرنسية، وعن اللغة الفرنسية — ثلاثة مثل عليا، ثم يضع كل كاتب وكل كتاب إزاء هذا الثالوث المثالي، ويميز ما يقربه منها فيحكم عليه بالجودة، وما يبعده عنها فيحكم له بالرداءة. وإذا كان هذا النقد من السمو؛ بحيث لا يسيء في شيء إلى الروح الإنسانية التي يدرسها في وحدتها الضخمة، ولا إلى العبقرية الفرنسية التي يسعى إلى أن يُظهرها دائمًا متشابة لنفسها، ولا إلى اللغة التي يحرص على أن يجنبها نزوات البدعة — إذا كان هذا شأنه، فمن الواجب أن نعترف من وجهة أخرى أنه يحرم نفسه من الرشاقة التي تُضفيها على أنواع النقد الأخرى ما تتمتع به من تنوع، وحرية، ومزج بين التاريخ والأدب، وتخطيط اللوحات الكبيرة، والشخصيات النابغة، والمقارنات بالآداب الأخرى.

«ولقد تَكوَّن لديَّ دوافع خاصة لعدم احتقار هذا النوع من النقد، كما أن لديَّ دوافع أكثر لكي أؤكد أنه صعب ومحفوف بالمخاطر.»

ومع ذلك فإن تشبث «نيزار» بالنقد الحكمي ودفاعه عنه لم يوقف سير الزمن، ولا تطور الأفكار؛ ذلك أن التطوُّر الذي أخذت الحركة الفكرية تمهِّد له منذ أوائل القرن التاسع عشر، حينما رأينا الكُتَّاب أنفسهم يغيرون من مقاييسهم، بل ويستوحون مصادر جديدة للأدب كالدين المسيحي والآداب الأجنبية، على نحو ما ترى عند «مدام دي ستايل» و«شاتوبريان» … إلخ، كان مدعاة إلى تحديد العلاقات بين المؤلفات والوسط الزمني والمكاني الذي تمتُّ إليه بصلة؛ وبذلك لم يعد يحكم على المؤلفات الأدبية في ذاتها من حيث جودتها الفنية أو عدمها، بل من حيث إنها تعبير عن نوع من الحضارة، أو مرآة لهيئة اجتماعية. ولقد كان رائد هذا الاتجاه الذي يمكن أن يُسَمَّى بالاتجاه نحو النقد التاريخي والنقد المقارن «آبيل فرنسوا فيلمان» (١٧٩٠–١٨٦٧) الذي نال جائزة المجمع الفرنسي ثلاث مرات عن البلاغة، ثم أصبح سكرتيرًا دائمًا لهذا المجمع سنة ١٨٣٤، ثم خلف «جيزو» في كرسي التاريخ الحديث بالسوربون، ثم أستاذًا للبلاغة الفرنسية، وأخيرًا نائبًا فَشَيْخًا فوزيرًا في عهد «لويس فيليب»، وقد ترك كتابًا ضخمًا في تاريخ الأدب الفرنسي في ستة أجزاء، كما ترك عدة كتب أخرى من بينها كتاب عن «مونتسكيو» وكتاب بعنوان «مزايا ومضار النقد».

لقد كان «فيلمان» ﮐ «مدام دي ستايل» يؤمن بأن هناك علاقةً وثيقةً بين الأدب والحضارة؛ فوجَّه اهتمامه إلى إيضاح التأثُّرات التي يطبعها الوسط في الكتاب، ثم التأثُّرات التي يطبعها الكتاب في الوسط، كما أخذ يوضح المبادلات التي تمت أو أخذت تحدث بين الأدب الفرنسي والآداب الأجنبية.

وجاء «سانت بيف» فسار على منهج «فيلمان»، وبلغ به حد الكمال؛ إذ أضاف إليه فكرة كبيرة، هي التي عبر عنها — كما سبق القول — بجملته المشهورة: «الكتاب تعبير عن مزاج فردي.»

وكَثُرَ النقَّاد في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وفي أوائل القرن العشرين في فرنسا وتنوعت دراساتهم، وكانت المدرسة الرومانتيكية قد استكملت إنتاجها، واتسع المجال للمقارنة بينها وبين المدرسة الكلاسيكية، حتى لقد كتب الناقد «إميل دي شانيل» (١٨٢٧–١٩٠٤) كتابًا ضخمًا من خمسة أجزاء عن «رومانتيكية الكلاسيكيين»، كما كتب المؤلِّفون فيما بعد عن كلاسيكية الرومانتيكيين.

وبرزَت من أسماء النقاد في هذه الفترة أربعة أسماء كبيرة هي أسماء: «فرنسيس سارسي»، و«فرديناند برونتيير»، و«جيل ليمتر»، و«إميل فاجيه».

(٢-٤) فرنسيس سارسي: «١٨٢٧–١٨٩٩»

أما «فرنسيس سارسي» فقد تخصص طول حياته في النقد المسرحي؛ وذلك بكتابة سلسلة طويلة من المقالات في جريدة «الطان» ابتداءً من ١٨٦٧، وإلقاء سلسلة من المحاضرات في مسرح الأوديون، وقد جُمِعَتْ تلك المقالات والمحاضرات في عدة مجلدات منها:
  • (١)

    أربعون عامًا في المسرح.

  • (٢)

    المسرح.

  • (٣)

    الممثلون والممثلات.

  • (٤)

    كيف أصبحتُ محاضرًا.

هذا إلى جوار عدة مجلدات أخرى عن تاريخ حياته وذكرياته منها: «ذكريات الشباب» و«ذكريات النضوج».

وكان «فرنسيس سارسي» واسعَ الإحاطة بكل ما يتعلَّق بالمسرح وبالأدب المسرحي، وكان في اتِّساع معرفته ما دفعه إلى التعصُّب للأصول الفنية في المسرح والمسرحية، وهي الأصول التي استقاها من تحليله لما درس من مؤلَّفات، ثم تجمد عندها؛ وأصبح لا يقبل خروجًا على التقاليد المسرحية التي استنبط أصولها، ومع ذلك فقد كان «سارسي» يتمتع بسلامة الحكم، وكان ينفث في كتاباته — حتى أقساها لفظًا — نوعًا من المرح والنكتة التي تبلغ حد الغلظ أحيانًا كثيرة.

ومعنى تمسُّكه بالأصول الفنية للمسرح والمسرحية هو أن نقدَه كان ينصبُّ على بناء المسرحية ناظرًا إليها كأي بناء فني في ذاته، إذا انثلم منه ركن انهار البناء كله، وأصبح الحوار والتحليل النفسي والأسلوب والفكرة، وكل ما يمكن أن يعوض هذا الثلم مجهودًا ضائعًا. والبناء الفني للمسرحية هو الكيفية التي يصوِّر بها المؤلِّف وقائعَ القصة ويربط بينها؛ حيث يقيم بين كل جزء والآخر علاقةً تستند إلى أصل عقلي أو شعوري، كأن تكون سببًا لما بعدها أو تحريكًا شعوريًّا له. ومن هنا كان اهتمامه العظيم بعنصر التشويق في الرواية وحجب المجهول عن القراء والمشاهدين، وإلحاحه في ألا تكون الوقائع المتلاحقة مما يسهل توقعه أو استنتاجه، حتى لا تنعدم اليقظة عند المشاهدين ولا تنمحي المفاجأة، وكل ذلك مع إبقاء المفاجآت في حدود ما يخضع للعقل، فيستسيغه عند الكشف عن سرِّه، فهو وإن لم يخطر لبداهة الاستنتاج إلا أنه ممَّا يقبله الاستنتاج أو يؤمن عليه.

وهذا النوع من النقد عظيمُ الفائدة للمؤلِّفين؛ ولذلك يُكثر كُتَّاب المسرح من قراءة «فرنسيس سارسي»؛ لأن الناحية التي علق عليها الأهمية الأولى هي في الواقع أشق جانب في التأليف المسرحي والقصصي أيضًا.

(٢-٥) فرديناند برونتيير: «١٨٤٩–١٩٠٦»

لم يكن «برونتيير» مقصورَ الاطلاع على الأدب، بل كان أستاذًا ذا ثقافة عامة لا حدود لها، فإلى جانب الأدب كان دائم القراءة للعلوم الفلسفية والاجتماعية المختلفة؛ ولذلك لم يتناول الأدب بالنقد كأديب فحسب، بل كمفكر وفيلسوف أيضًا، ومن هنا انصرف اهتمامه فيما ينقد إلى القيم المعنوية والاجتماعية؛ أي إلى محصول المؤلفات الفكري والعاطفي، ولم يستسلم في يوم ما إلى عناصر الإثارة في ذاتها؛ ولذلك جاء نقده موضوعيًّا تقريريًّا. ولقد عاد فأخذ بنظرية «تين» وتمسَّك منها بعنصر الزمان، وقصد من هذا العنصر إلى الكشف عن تأثُّر اللاحق بالسابق، وتسلسل المؤلفات تسلسلًا روحيًّا، وأسلمه هذا الاتجاه إلى نظريات «دارون» و«سبنسر» التي طبقها على الأدب، فرأى في ضروب الأدب المختلفة ما يشبه الأنواع في الحيوان والنبات، ورأى في تسلسلها ما يشبه التطور بالمعنى العلمي.

لقد طبق هذه النظرية بنوع خاص على ثلاثة ضروب من الأدب هي: المسرح، والشعر الغنائي، والنقد الأدبي، فكتب في سنة ١٨٩٠ «تطور النقد»، وفي سنة ١٨٩٢ «عصور المسرح الفرنسي»، وفي سنة ١٨٩٤ «تطور الشعر الغنائي في القرن التاسع عشر» في مجلدين، وذلك إلى جوار عدة مجلدات في تاريخ الأدب وفي النقد، ومنها «تاريخ الآداب الفرنسية» في خمسة أجزاء، وكتاب عن «هونوريه دي بلزاك»، وكتاب «دراسات عن القرن الثامن عشر» نُشِرَ بعد وفاته ١٩١١، وكتاب عن الخطيب الديني «بوسويه»، وكتاب عن «القصة الطبيعية» وعدة مجلدات تحوي مقالات.

نظرية برونتيير في تطور الأدب

عرض «برونتيير» نظريته عن تطور الأدب في المحاضرة الافتتاحية لدروسه التي ألقاها بالسربون، وجمعها في كتابه المسمَّى «تطور الشعر الغنائي في فرنسا أثناء القرن التاسع عشر» فقال:

إن نظرية التطور في الأدب لا ترمي إلى بعث الماضي، وإنما ترمي إلى فهمه واستنباط قانونه، إنها لا تطمح إلى أن تقول كل شيء، بل تكتفي بالضروري، إنها لا تقصُّ بل تفسر. هدفها على وجه التحديد هو أن توضِّح تسلسل مئات العوامل العميقة الخفية التي تزدهر في نتائج متعارضة متداخلة خلال التاريخ، ورد فعل كل تلك العوامل بعضها على بعض، إنها توضِّح كيف تُولد الأنواع الأدبية، وما هي عوامل الزمان والبيئة التي أشرفت على ميلادها، وكيف تتميز تلك الأنواع وتتباين، ثم كيف تنمو وتتطور كما يتطور الكائن الحي، وكيف تأخذ صورة عضوية بأن تنحي كل ما يضر بها، وعلى العكس تهضم وتتمثل كل ما يخدمها ويغلبها ويُعينها على النمو، ثم كيف تموت، وما هي عوامل الفقر والانحلال التي تصيبها، وكيف يؤدي التطور إلى ميلاد نوع جديد يجمع عناصره من بقايا نوع سابق، هذا هو منهج الدراسة على أساس نظرية التطوُّر، وذلك هو هدفها.

«فبرونتيير» يؤمن بنظرية «لامارك» (التحول)، ونظرية «دارون» (التطور)، وكما فعل «سبنسر» في نقل قوانين التطور من مجال العضويات إلى مجال المعنويات، فَطَبَّقَهَا على الأخلاق والاجتماع وعلم النفس، جاء «برونتيير» فأنفق حياته في تطبيقها على الأدب.

ونستطيع أن نضرب لما فعله «برونتيير» مثلًا بما كتبه عن تطور الوعظ الديني الذي كان يلقيه من منابر الكنائس كبارُ الوعاظ أمثال: «بوسويه»، و«بوردالو» في القرن السابع عشر، وتحوله في القرن التاسع عشر إلى شعر غنائي هو الشعر الرومانتيكي، وذلك على نحو ما يتطوَّر الكائن العضوي إلى كائن آخر.

ولقد بنى «برونتيير» قولَه هذا على ملاحظة من وحدة الموضوعات بين ذلك الوعظ وهذا الشعر مع اختلاف في الصيغ الخارجية، وأحيانًا في أطراف التعارض. وهذه الموضوعات هي عظمة الإنسان وحقارته، تبعًا لما فيه من عناصر إلهية وإنسانية كما يقول الدين المسيحي، وتبعًا لما يبدو من ضآلة شأنه وتعرضه للفناء، إذا قورن بالطبيعة الخارجية، وما فيها من جلال وخلود على نحو ما قال الرومانتيكيون، وبخاصة «ألفريد دي فيني» في قصيدته الخالدة «بيت الراعي»، ثم المشاعر الروحية العديدة، مثل: الشكوى من الحياة، والتبرم بالشقاء، وتحديق البصر في الفَناء الذي يتربَّص بنا، وما إلى ذلك من المشاعر التي وجد الوعظ الديني لها مَعينًا ذاخرًا في «العهد القديم» وبخاصة في «مزامير داود»، و«سفر أيوب»، و«سفر الجامعة».

وإنه وإن تكن وحدة الموضوعات، مع تغيُّر الصيغ في وعظ القرن السابع عشر والشعر الرومانتيكي في القرن التاسع عشر — حقيقة يمكن التسليم بها، إلا أن ما زعمه «برونتيير» من تحوُّل هذا إلى ذاك فيه تعسُّف بالغ، بل وغفلة عن مصادر الظواهر الأدبية، فالوعظ قد اسْتُقِي من كتب الدين — كما قلنا — وقصد إلى ذلك قصدًا. وأما الشعر الرومانتيكي فقد كان وليد أحداث تاريخية بعينها؛ إذ نراه يظهر في أعقاب الثورة الفرنسية، وانتهاء مجد «نابليون» بتلك الكارثة التي لم تنزل به وحده، بل نزلت بفرنسا كلها، وأحسَّتْ بوقعِها الشبيبة الفرنسية الناهضة … يتضح كل ذلك في شعرِها المتبرِّم الحزين.

ومن هذا المثل ونقدنا له نستطيع أن نُدرك معنى المذهب كلِّه، ثم ما يؤخذ عليه من تعسُّف.

وفي الحق أن محاولة إقحام النظريات العلمية على الأدب، أو محاولة إخضاع الأدب لهذه النظريات، لا يمكن أن يُفيد الأدب بشيء جدي، ولعله يُفسده؛ إذ لا بد أن ينتهيَ الأمرُ عندئذٍ بإهمال الكثير من حقائقِه وتفاصيلِه، التي تتعارض مع هذه النظريات العلمية، أو لا تنضوي تحتها، وذلك فضلًا عن الضغط على الحقائق والتفصيلات الأخرى، والتعسف في توجيهها وتفسيرها، واستنباط معانيها ودلالاتها.

هذا هو منهج «برونتيير» في النقد، وقد استخدم في تنفيذه ثقافةً واسعة، وقدرةً فذة على التركيب، وروحًا مقاتلة، ولسانًا خطيبًا.

والعيوب العامَّة التي تؤخذ على هذا الناقد الكبير هي عيوب ملكاته؛ فاتساع الثقافة يدفعها إلى الإقحام حيث لا ينبغي، والتركيب قد لا تتوفر لعناصره الصلابة اللازمة لسلامة البناء، وروح المقاتلة قد تسوق إلى الإسراف، وسهولة اللفظ قد تقتل المعنى.

(٢-٦) جيل ليمتر: «١٨٥٣–١٩١٤»

«جيل ليمتر» زعيم النقد التأثُّري في العصر الحديث، كان شاعرًا وكان كاتب قصص ومسرحيات، كما كان ناقدًا، وقد استخدم في كل ما كتب حساسية مرهفة ورشاقة مرنة، ولم يكن يعنيه في النقد نثرُ المعرفة أو استنباطُ الفكرة، بل مجرد الإفصاح عن المشاعر التي يثيرها في نفسه قراءة ما ينقد، وقد ركَّز منهجه في النقد في عنوان مؤلَّفاته، تأثُّرات مسرحية، وهي مجموعة مقالات جمعها في عشرة مجلدات تُضاف إلى كتبه العديدة في النقد، ومن بينها:
  • (١)

    الكوميديا بعد موليير.

  • (٢)

    كورني وفن الشعر لأرسطو.

  • (٣)

    «المعاصرون» في سبعة أجزاء.

  • (٤)

    جان جاك روسو.

  • (٥)

    جان راسين.

  • (٦)

    فنلون.

  • (٧)

    شاتوبريان. ثم عدة أبحاث نظرية في النقد منها: «آراء يجب أن تنشر»، و«أربع خطط»، و«نظريات وتأثرات»، و«خطاب إلى صديقي».

منهجه: وقد عَرَّفَ «ليمتر» في مقال له عن «أناتول فرانس» منشور في الجزء الثاني من كتابه «المعاصرون» — منهج النقد التأثري فقال: «كيف يمكن أن يصبح النقد الأدبي مذهبًا؟ إن المؤلفات تتقاطر أمام مرآتنا الروحية، ولكنه لما كان القطار مديدًا فإن المرآة تتغير، وعندما يحدث أن يعود نفس المؤلف للمرور أمام المرآة فإنه لا يعكس نفس الصورة.»

«لبعض النفوس من القدرة ومن الثقة ما تستطيع معه أن تصوغ سلسلة طويلة من الأحكام، وأن تستند فيها إلى مبادئ ثابتة لا تتغير، هذه النفوس بطبيعتها أو بإرادتها مرايا أقل تغييرًا من الأخرى أو بعبارة ثانية أقل ابتكارًا، ومن ثَم تنعكس فيها دائمًا نفس المؤلَّفات على نفس النحو، ومع ذلك فإنه من السهل أن نتبين أن المذاهب ليس فيها ما يُمليها على العقول، وهي لا يمكن أن تكون في الحقيقة إلا مفاضلات شخصية متحجرة. إننا نحكم بالجودة على ما نحب، أي أننا نرى حسنًا ما نحب، وهذا كل ما في الأمر — وأنا لا أتحدث هنا عن أولئك الذين يعتقدون أنهم يحبون ما قيل لهم إنه حسن — وذلك مع فارق واحد هو أن البعض يحبون دائمًا نفس الأشياء، ويرون أنها جديرة بالحب من كافة الناس، وأما الآخرون فإن محبتهم أكثر تغيرًا، وهم يوطِّنون النفس على ذلك معترفين بقصورهم.»

«ومع ذلك فالنقد مذهبيًّا كان أم لم يكن، ومهما تكن أهدافه لا يصل قط إلى أن يحدِّد الأثر الذي يخلفه في نفوسنا في وقت ما — هذا الكتاب أو ذاك وقد دوَّن فيه المؤلف نفسه الأثر الذي تلقاه هو الآخر من العالم الخارجي في وقت ما.»

ولقد عارض «برونتيير» عبارة «جيل ليمتر» السابقة التي يقول فيها: «إننا نرى حسنًا ما نحب»، بقوله في كتابه «تطور الشعر الغنائي في القرن التاسع عشر» (جزء ١ ص٢٤، ٢٥): «أما عن معاصرينا الذين سنتحدث عنهم فسوف تَرَوْن أيها السادة أن ذوقي الشخصي لن يكون له أي دخل في أحكامي، بل غالبًا ما يحدث أن أتناول من بين الأحياء أو الموتى، وذلك ما أريد أن أعترف لكم به مرة واحدة وأؤكده؛ حتى لا أضطر إلى تجديد هذا الاعتراف — يحدث أن أتناول بالثناء المطلق من لا أحبهم، وأن أتناول على العكس من ذلك بالنقد الشديد أولئك الذين أجد عندهم لذَّتي الخاصة.»

من هذه النصوص يتَّضح أن «جيل ليمتر» من كبار المتحمسين للنقد التأثري، وقد برر هذا النقد بحقيقتين كبيرتين:
  • (أ)

    حقيقة نفسية إنسانية: وهي تغير مرآة النفس بالسن وبملابسات الحياة الأخرى المختلفة؛ وبهذا التغير لا بد أن تتغير الصورة التي تنعكس في هذه المرآة عن كل مؤلف أدبي، ومن هنا لا يفهم «جيل ليمتر» كيف يمكن بالرغم من ذلك أن نحكم أحكامًا ثابتة على المؤلفات الأدبية، وهو بذلك لا يسلم بالنقد المذهبي، ما دام النقد — كما يقول — ليس إلا التعبير عن الأثر الذي ينطبع في النفس من الكتاب أو الرواية أو المسرحية، كما أن الكتاب أو الرواية أو المسرحية هي ذاتها ليست إلا التعبير عن الأثر الذي ينطبع في نفس المؤلف من الحياة وتجاربه فيها.

  • (ب)

    حقيقة موضوعية تاريخية: وهي أن مبادئ النقد المذهبي ذاتها لم تنشأ تاريخيًّا كمبادئ، وإنما كانت في الأصل تأثرات فردية عَبَّرَ عنها بقوله: «مفاضلات»، ثم عُمِّمَتْ هذه المبادئ، أو كما يقول هو: «تحجَّرتْ وأصبحتْ أصولًا»، وإذًا فالنقد المذهبي نفسه هو في رأي «جيل ليمتر» نقد تأثري.

والحجتان على وجاهتهما الظاهرة لا تخلوان من إسراف يجب إيضاحه؛ حتى لا يصبح النقد فوضى، ويُفْتَح الباب لأنواع من الغرور البشري الذي لا يطاق.

فالحجة الأولى تنكر كل ما هو ثابت في النفس البشرية، ولو صحت لأصبحت تلك النفس رمالًا تذروها الرياح؛ فالإحساسات نفسها إذا لم ترسب أفكارًا تخرج عن مجال الحياة، وتصبح إما جنونًا لا يشارك صاحبها فيها أحد، وإما مجرد انفجارات عاطفية لا يستطيع الغير التسليم بها؛ ولذلك فالإجماع منعقد على أن الذوق الذي يُمكن أن يُصدر أحكامًا يجب أن يكون — فوق تثقيفه الذاتي — قادرًا على أن يدعم هذا الذوق بنظرات العقل، ويؤيِّده إن لم يكن بالمبادئ والنظريات العامة فببديهيات الفكر وأصول الفن واللغة.

والحجة الثانية فيها دور؛ إذ إن الناقد الذاتي نفسه يستطيع أن يعطي لنفسه الحق في أن يجعل من أحكامه مبادئ كما جعل سابقوه. والقول بأن المبادئ أصلها إحساسات ما هو إلا تمييز فاصل بين أشياء لا يمكن الحسم فيها على هذا النحو، فمثل تلك الإحساسات لا بد أن العقل قد خالطها ولو عندما هَمَّ بصياغتها. وربما كانت الحقيقة وسطًا بين الطرفين، فالذي لا شك فيه أن الإحساس هو أول مرحلة في النقد، ولكن جميعَ مراحله لا يمكن أن تجتمع في الإحساس، فضلًا عن أن هذا الإحساس من الواجب أن يكون مثقفًا مهذبًا بالطبع وبإدمان القراءة، ونعني بالقراءة، قراءة الآداب قبل قراءة النقاد.

(٢-٧) إميل فاجيه: «١٨٤٧–١٩١٦»

إميل فاجيه كجيل ليمتر وأناتول فرانس من الآخذين بالنقد التأثري، ولكنه أمس قربًا بالتفكير في نقده من السابقين، وقد كان بطبعه أميلَ إلى إمعان النظر منه إلى الانفعال العاطفي الفني؛ ولهذا انصرف اهتمامه بنوع خاص إلى المؤلَّفات التي تحتوي أفكارًا، مكنتنا تحليلاته المختلفة لها من أن نشهد ميلاد المؤلفات في نفوس أصحابها، كما نشهد عمل نفسه الخاص، نفسه الخصبة المطلعة، عندما تحتك بما ينقد.

وقد ترك «إميل فاجيه» تراثًا صخمًا من المؤلفات، منه ما هو في النقد، ومنه ما هو في الفلسفة والأخلاق، ومنه ما هو في السياسة والاجتماع.

ولقد أوضح «فاجيه» مذهبه في النقد في تضاعيف كتاباته المختلفة، ومن بينها فقرة وردت في كتابه المسمى «فن القراءة»، يميز فيها بين تاريخ الأدب والنقد الأدبي فيقول: «فلنميز بين المؤرِّخ الأدبي والناقد الأدبي بمعنى الكلمة: المؤرخ الأدبي يجب أن يكون موضوعيًّا بقدر المستطاع وبكل ما يملك من قوة، ومن الواجب أن يقتصر على الأخبار، وليس له أن يتحدث عن الأثر الذي أحدثه في نفسه هذا المؤلف أو ذاك، وإنما له أن يتحدَّث عن الأثر الذي أحدثه في معاصريه. إن عليه أن يوضِّحَ الروح العامة في عصرٍ ما تبعًا لما يُعرف من تاريخ ذلك العصر، عليه أن يوضِّح الروحَ الأدبيةَ أو الفنيةَ تبعًا لما يعرفه من تاريخ الأدب وتاريخ الفن، عليه أن يحدِّد المؤثرات التي أثرت في الكاتب. وإنه إن يكن هذا التحديد مستحيلًا، إلَّا أنه مفيد مغرٍ بسبب تلك الاستحالة ذاتها، عليه أن يبحث عن الطريقة التي تكونت بها ملكاتُه معتمدًا على ما يصل إلى معرفته عن المؤلفات التي قرأها، ومستندًا إلى مجموعات رسائله، وإلى ما كتبه عنه معاصروه. عليه أن يبحث عن الملابسات العامة والقومية، والظروف العائلية والشخصية التي كتب فيها الكاتب هذا الكتاب أو ذلك، وأن ينقب عن الأثر الذي أحدثه ذلك الكتاب، فيدلنا على من أعجبوا به، ومن نفروا منه؛ وذلك لأن مثل هذا التنقيب يعتبر هو أيضًا من الوسائل الهامة في تحليل الكاتب. وبالجملة فإن المؤرخ الأدبي ليس له أن يُلم، ولا أن يخبرَنا إلا بالوقائع وبالعلاقات التي تقوم بين هذه الوقائع، ولا يجوز أن يحس القارئ بطريقة حكمه، بل بأنه يحكم، كما لا يجوز أن يحس بأنه يحس ولا بكيفية هذا الإحساس.

وأما النقد فعلى العكس من ذلك يبتدئ حيث ينتهي التاريخ الأدبي، أو على الأصح يقوم على مستوى هندسي مغاير لمستوى التاريخ الأدبي، وما يُطْلَبُ من الناقد هو رأيه في الكاتب أو في الكتاب الذي ينقده، سواء أكان هذا الرأي مكونًا من مبادئ أم من انفعالات. إن ما يُطْلَبُ إليه ليس خريطة للإقليم، بل إحساسات عن السياحة التي قام بها في هذا الإقليم.»

من هذه الفقرة التي يقابل فيها «فاجيه» بين تاريخ الأدب ونقد الأدب يمكن استنتاج مذهبه في النقد؛ فهو يرى أن تاريخ الأدب جزء من التاريخ العام، والمنهج فيهما واحد، من حيث الموضوعية، وتنحية شخصية المؤرخ، والاكتفاء بجمع المعلومات التي تنير العصر التاريخي والعصر الأدبي الفني، ثم ينحدر من هذا العموم إلى الخصوص؛ فيتناول الكاتب وكيفية تكوين ملكاته بعناصر الثقافة والبيئة، حتى لقد دعا «فاجيه» إلى أن ندخل الأثر الذي أحدثه الكاتب في معاصريه ضمن ذلك التاريخ، وعلى العكس من ذلك النقد الأدبي فهو يبتدئ بالإلمام بالتاريخ الأدبي وما يجمع من معلومات، ولكن على أن يتخذها الناقد سبيلًا للاستفادة عند الحكم على المؤلفين والمؤلفات الأدبية.

«إميل فاجيه» — كما قلنا — يختلف عن النقاد التأثريين أمثال: «ليمتر» و«أناتول فرانس» من حيث إنه لا ينحي مبادئ النقد وأصول الأدب عن أحكامه، بل يجمع بينها وبين التأثُّرات العاطفية.

ومحور اهتمام «إميل فاجيه» قد كان دائمًا أمرين هما:
  • (١)

    عملية تحليل وتفسير لطريقة تولد المؤلفات الأدبية في نفوس الكتاب، وهذا بحث أدخل في علم الجمال الأدبي منه في النقد؛ ولا غرابة في ذلك، فقد كان «فاجيه» ذا اتجاه فلسفي، كما كان واسع الثقافة في كافة علوم الفكر وأبحاثه النظرية، وربما كان هذا الجانب من نشاطه أوضح فيما كتب عن تاريخ الأدب، أو عن بعض المؤلفين ﮐ «فولتير» أكثر من وضوحه في كتبه النقدية البحتة.

  • (٢)

    وإلى جوار هذا الاتجاه كان «فاجيه» — كما قلنا — يتخذ من المؤلفات التي ينقدها وسيلة لاستدعاء خواطره الخاصة والتفكير بوحي ما يقرأ، هذا وقد أودع هذه الخواطر في كتبه التي عَنْوَنَهَا بعنوان «أثناء قراءة …» وليس من السهل أن نسمي مثل هذه الكتب بكتب نقد؛ لأنها أقرب إلى الخلق والتفكير الأصيل منها إلى الحكم والتقدير على ما قرأ، ومع ذلك فهي مؤلفات عظيمة النفع لمن يتصدى للنقد؛ لأنها تعلم القراءة، وقد أجمل إميل فاجيه نفسه أصول القراءة النظرية في كتابه المشهور المسمَّى «فن القراءة». والقراءة الجيدة هي بالبداهة أول مرحلة للنقد، وجودة القراءة سرها في ثقافة القارئ؛ فبمقدار ثقافته سيعثر عند كبار الكُتَّاب على أضعاف ما يعثر به القارئ الفقير الثقافة؛ لأن كبار الكتاب يوحون عادة أكثر مما يفصحون، ولا يمكن أن يتم نفع القارئ بما يقرأ إلا إذا استطاع تسقط ذلك الوحي أو الإيحاء.

ومن الواجب أن نفطن إلى أنه ليست هناك حدود فاصلة بين ما سماه «إميل فاجيه» بتاريخ الأدب وما سماه بالنقد الأدبي، كما أنه ليست هناك حدود فاصلة بين العقل والإحساس، وإنما هي أمور متداخلة، وكل ما يقصده هؤلاء الكُتَّاب هو تغليب اتجاه على آخر لا الحسم والمباينة، ففي تاريخ الأدب لا يمكن أن ينحي الكاتب شخصيته؛ لأن ذلك متعذر حتى في التاريخ العام، فكيف يكون الأمر في الأدب القائم على الإثارة أو في النقد الأدبي؟ كما أن كل حُكْم لا يستند على معرفة سابقة بالعناصر التاريخية التي هيمنت على حياة المؤلف وعلى تكوين مؤلفاته لا يمكن أن يكون حكمًا مستقيمًا باعتبار أن هذه الوقائع لا بد أن تكيف الحكم.

وإذا فهمنا مذهب «فاجيه» على هذا النحو الدقيق أمكننا أن نطمئن إليه، ومؤلفات «إميل فاجيه» بوجه عام سهلة واضحة بالغة النفع لمن يريد أن يلم بثقافة فلسفية وأدبية، وإن تكن عامة خالية أحيانًا من الغموض والتفاصيل، إلا أنها تشق للفكر آفاقًا وتغري بقراءة الأصول.

(٢-٨) بعد فاجيه

من البداهة أن «تين» و«سانت بيف» و«برونتيير» و«فاجيه» لم يكونوا النقاد الوحيدين في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وإنما أفردْنَاهم بالحديث لبروز أسمائهم، وكثرة إنتاجهم، ومع ذلك فقد ظهر إلى جوارهم عشراتٌ من النقاد الذين احتفظ وسيحتفظ بهم التاريخ، ولعل «جوستاف لاروميه» Gustav Larroumet «١٨٥٢–١٩٠٣» من أحقهم بالذكر؛ وبخاصة لأنه قد كرس قلمه لنقد المسرح. ولهذا الناقد تعريف شهير للأسلوب يحسن تدبره، قال فيه: «إن الكتابة مهنة، وإنني لأفضل أن تُدْرَجَ في قوائم المهن إلى جوار مهنة الأحذية ومهنة النجارة، بدلًا من أن تفرد وتوضع وضعًا خاصًّا؛ وذلك لأن إفرادها قد يؤدي إلى إنكارها تحت ستار شرف مدعى، ولقد يؤدي هذا الإفراد إلى قتلها كشيءٍ حيٍّ يجب أن يُدرج بين الأحياء، ووضعها على قاعدة في الممشاة العامة خليق بأن يوحي بفكرة التتلمُذ وإعداد الآلات، ويبعد عنها ما يسمُّونه بالمواهب المفاجئة، إنها مهنة قاسية مثبطة.»

«الكتابة مهنة ولكن الأسلوب ليس علمًا، إن الأسلوب شخصي كلون الأعين ونبرة الصوت. من الممكن أن يتعلم المرء مهنة الكتابة، ولكنه لن يتعلم أن يكون له أسلوب. إن من الممكن أن يصبغ الأسلوب كما يصبغ الشعر، ولكنه من الواجب عندئذٍ أن نستأنف نفس العملية في كل صباح، وألَّا يصرفنا عنها صارف، إن تعلُّمَ الأسلوب يبلغ من عدم جدواه أننا ننسى كل يوم ما نتعلمه عنه، وعندما تضعف قوة الحيوية تضعف جودة ما نكتب، والمران الذي ينمي الملكات الأخرى كثيرًا ما يضعف هذه الموهبة.»

«إن الكتابة على نحو ما كتب «فلوبير» و«بونكور» تعتبر تأكيدًا للحياة؛ وذلك لأنها تمييز لها عما عداها من الحيوات.»

«والأسلوب هو أن نتكلم لهجة خاصة وسط اللغة العامة، لهجة فريدة لا يمكن محاكاتها، ومع ذلك فهي لغة الجميع ولغة فرد واحد.»

(٣) النقد المعاصر

في أوروبا الآن ثلاثة أنواع من النقد والناقدين:
  • (١)

    النقد الصحفي (في الصحف والمجلات).

  • (٢)

    النقد الجامعي كنقد «لانسون»، و«بدييه»، و«هازار»، و«ستروسكي»، و«مورنيه» من أساتذة الجامعة.

  • (٣)

    نقد رجال الأدب (رجال الأدب أنفسهم هم النقاد)، مثل: أناتول فرانس، وبول بورجيه، وأندريه جيد، وجورج دي هامل، وجيل رومان.

(٣-١) نقد الصحف والمجلات

منه ما يتناول في فرنسا المؤلفات الفرنسية، ومنه ما يتناول المؤلفات الأجنبية؛ حتى لَنرى نقادًا يتخصصون لكل أدبٍ من آداب العالم، كما كان يفعل «بنجمان كرمييه» الذي تخصَّص في الأدب الإيطالي، و«أندريه موروا» الذي تخصَّص في الأدب الإنجليزي، وهم ينشرون مقالاتهم إما في الصحف اليومية، وإما في المجلات الأسبوعية والشهرية مثل: «كانديد» و«ماريان»، و«لافي لترير» (الحياة الأدبية)، ومجلة «العالمين»، ومجلة «الشهر».

وأحيانًا ينشرون تعريفات بالكتب الجديدة في مجلات خاصة بذلك، وهم عادة يجمعون مقالاتهم في مجلدات على نحو ما كان يفعل السابقون مثل «سانت بيف».

(٣-٢) النقد الجامعي

يكتبه أساتذة الجامعة إما في المجلات العلمية، مثل مجلة المحاضرات الخاصة بالسربون، أو يودعونه في مذكرات أو كتب، ومن هؤلاء الأساتذة مَنْ كَوَّنوا مدارس للنقد مثل «بدييه»، وكان أستاذ أدب القرون الوسطى «في الكليج دي فرانس» وتلميذه «جوستاف لانسون»، وتلميذ لانسون «دانيل مورنيه»، وهؤلاء يمتازون بالتحقيق التاريخي ودقة المنهج والروح العلمية.

(٣-٣) نقد رجال الأدب

ولعل هذا النقد هو خير أنواع النقد الحديثة؛ لأن هؤلاء النقاد أنفسهم أدباء وشعراء ومؤلفون، وبفضل نقدهم تتميز المذاهب والاتجاهات.

والمُلاحَظ أن هؤلاء النقاد يجنحون في نقدهم إلى علم الجمال الأدبي، كما فعل «فاليري» في كتبه المُسَمَّاة «متنوعات» وفي كتابه «فن الشعر»، وإن يكن من بينهم أيضًا مَنْ هو شديد الشبه بالنقاد المحترفين ﮐ «بول بورجيه» الذي كان كاتبًا معتمًا ثقيلًا. وفي نقد كل من هؤلاء تظهر ملكاته ككاتب؛ إذ يتخذ النقد نفس النغمة ونفس الروح، ﻓ «أناتول فرانس» الكاتب الساخر هو الناقد الساخر، و«بول بورجيه» المجد المنقب هو الناقد الباحث العارض آراءه على نحو مدرسي، و«أندريه جيد» ذو العقل الخاطف والإشارة السريعة والأسلوب المهشم هو هو كاتبًا وناقدًا.

١  نشر الدكتور عبد الرحمن بدوي هذه الترجمة القديمة، ثم ترجمة جديدة للكتاب، وتعليقات الفارابي وابن رشد وابن سينا وكل ذلك في مجلد واحد نشرته مكتبة النهضة المصرية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤