ربيبة الدير

١

بعد ستة أعوام مضت من الحوادث التي بسطناها في مقدمة هذه الرواية، كان شاب في مقتبل الشباب يترجل عن جواده في الغابة المجاورة لدير أبناء الله.

وكانت الساعة الثالثة بعد الظهر، والشهر شهر نوفمبر، فكان الطقس جميلًا والسماء صافية والهواء باردًا عليلًا.

وكانت ملابس الشاب تدل على أنه من نبلاء القرى، فهو يلبس ثوبًا مخمليًّا أخضرَ، ووشاحًا عليه شرائط فضية، وحذاء يبلغ إلى ركبته، وعلى جنبه بوق، وعلى كتفه بندقية، مما يدل على أنه يصطاد.

وكان في التاسعة عشرة من عمره، وهو جميل الوجه أشقر الشعر ناعم اليدين أزرق العينين يدل سكونهما على الكآبة.

وكان قد ربط جواده إلى إحدى أشجار الغابة، غير أن هذا الجواد كان يسمع من حين إلى حين نباح الكلاب وصوت أبواق الصيد فيصهل ويحفر الأرض برجليه، كأنه يريد الإفلات من قيده والذهاب إلى مصدر الأصوات.

أما الفتى فإنه اضطجع فوق العشب، فأسند رأسه إلى إحدى يديه وجعل ينظر إلى السماء الصافية بعينيه وبقلبه وهو تائه في مهامه الخيال.

وبقي على ذلك نحو نصف ساعة، إلى أن سمع صوتًا نبهه وأيقظه من سبات خياله، فالتفت إلى مصدر الصوت فلم يرَ أحدًا، وقال في نفسه: إن هذا الصوت صوت وثوب بين الأدغال، فلا بد أن يكون صاحبه «بنوات».

ولقد أصاب في ظنه فإنه لم يكد يتم عبارته حتى رأى فتى قد وثب وظهر أمام الجواد.

وكان هذا الفتى يبلغ نحو السادسة عشرة من العمر، وقد وهبته الطبيعة بنية شديدة وجمالًا بديعًا ورشاقة نادرة وعقلًا سليمًا، ولكنها أبت إلا أن تشوه جماله بحدبة في ظهره فنغصت عليه عيشه رغم تلك المواهب.

وكان الناظر إلى هذا الفتى — لأول وهلة — يستقبح منظره لحدبته، ولكنه إذا رآه عن قرب رأى عينين تدلان على السلامة ووجهًا يشير إلى الذكاء.

وكان شديد القوى ضعيف الحركات سريع العدو إذا طارد غزالًا جرحه الصياد أدركه وسبق الكلاب إليه.

وقد كانت أمه ولدته في هذه الغابة، فنشأ فيها يتيمًا منذ الولادة وألف العيش بين الغابات والأدغال، فكان لا يطيب له الرقاد إلا في ظلال الأشجار، ولا يقتات إلا من نبات الحقول وما يصطاده من الأطيار، فكان نبلاء تلك الناحية وجميع الذين أذن لهم الرهبان بالصيد في تلك الغابة يعرفونه ويحبونه؛ لسلامة قلبه وشرف مبادئه وشدة ميله إلى الحرية والاستقلال، فقد رغب الكثيرون منهم في استخدامه، ولكنه كان يأبى الخدمة على فقره ويؤثر الحرية على التقييد.

فلما وثب وصار قرب الجواد التفت الفتى المضطجع ورآه، فأجفل الأحدب وقال له: أسألك العفو يا سيدي الكونت، فإني أخشى أن أكون قد أيقظتك.

فابتسم له الفتى وقال: كلا يا بنوات، فإني لم أكن نائمًا.

– إذن كيف ذلك يا سيدي لوسيان؟ ألم تشترك معهم في الصيد؟

– نعم، ولكني ضللت عنهم فاضطجعت هنا إلى أن أستريح.

– إذن قم يا سيدي إلى جوادك، وأنا أهديك إلى الرفاق فإني أعرف مكانهم.

– كلا يا بنوات، فإني غير راغب بالصيد مع ابنة عمي، وقد تعبت فآثرت الراحة.

– ولكنهم سوف يظفرون بالأيل الذي يطاردونه منذ الصباح، ألا تريد أن تكون معهم ساعة الفوز؟

– كلا، فإني سأقيم هنا إلى أن تغيب الشمس فأعود إلى بوربيار.

– أتعود إليها من طريق الغابة؟

– كلا، بل من طريق سولي.

فابتسم الأحدب ابتسامًا معنويًّا وقال: أي إنك ستمر بالدير؟

فارتعش الكونت لوسيان ونظر إلى الأحدب نظرة قلق.

وكأنما الأحدب أدرك معنى قلقه، فوقف أمامه بملء الاحترام وهو يحمل قبعته بيده وقال له: لقد عرفتني يا سيدي الكونت منذ عهد بعيد، فهل سمعت من تكلم عني كلمة سوء؟

– كلا يا بنوات، فإنك من أهل السلامة والصلاح.

– بل من أهل الغيرة والكتمان يا سيدي، فمن ائتمنني على سره لا يخرج سره من صدري ما حييت.

فنظر إليه الكونت نظرة تائهة وقال له: أحقًّا ما تقول؟

– حبذا لو أذن لي سيدي الكونت أن أتكلم بحرية.

– تكلم.

– أظن أن سيدي يخطئ بالطواف غالبًا حول جدران الدير وشراء نعل فرسه من عند داغوبير؟

فاحمر وجه لوسيان ورأى الأحدب ذلك، فقال له: إنك أذنت لي يا سيدي أن أتكلم بحرية؟

– هو ذاك.

– إذن أتأذن لي بمواصلة الحديث؟

– تكلم.

– ثق يا سيدي أن داغوبير طيب القلب نبيل الشعور، ولكنه شديد البنية متين الساعد فإذا كدره أحد …

فقاطعه لوسيان وقال له بعنف: ومن يحاول تكديره؟

– بمناسبة المدموازيل حنة، فإن الناس يقولون إنها ابنة عمته وآخرون يقولون إنها ابنة عمه، ولكنه يحرص عليها حرص اللبؤة على أشبالها، إن هذه الفتاة يا سيدي التي يسميها بعضهم ربيبة الدير ويدعوها بعضهم مدموازيل حنة ما خلقت لفلاح مثلي ولا لنبيل مثلك، أما داغوبير فإنه يكلمها بملء الاحترام وهو حاسر الرأس، ونحن نعلم يقينًا أنه لا يخطر لأحد من النبلاء عندنا أن يجعلها امرأته، والذي أراه أنه خير لك ألا تكثر التردد على دكان داغوبير.

فلبث لوسيان مطرقًا مفكرًا، ثم همَّ أن يجيبه فحال دون ذلك ما سمعاه من نفخ أبواق الصيد ونباح الكلاب، ورأيا ذلك الأيل الذي يطارده الصيادون قد مر بهما مرور السهم، والكلاب في أثره، فأسرع لوسيان إلى جواده فامتطاه، وجرى بنوات في أثر الكلاب منقادًا بسليقته الفطرية.

وعند ذلك أقبل فارسان وفارسة، وكان لوسيان ممتطيًا صهوة جواده بحيث خيِّل لأولئك الفرسان أنه لم يبرح الصيد، بل إنه كان في طليعة المطاردين.

وكانت الفارسة أول من بدأ الحديث، فقالت: هو ذا لوسيان.

وقال أحد الفرسان: أين كنت أيها الكونت؟

وقال له الآخر: أرأيت الأيل؟

– إنه مر بي منذ هنيهة.

فقالت الفارسة: إنه سيسقط إذن في مستنقعات الدير.

فأجابها لوسيان: إني أرى رأيك يا ابنة عمي الحسناء.

أما هذه الفتاة فقد كانت بارعة الجمال، وهي سوداء العينين سوداء الشعر، لها دلال الإناث ونشاط الغلمان.

فقالت له بلهجة تكاد تكون لهجة سيادة: ولكن من أين أنت قادم؟ وكيف افترقت عنا؟

– أسألك العفو يا ابنة عمي، فقد تهت عنكم ولم أسمع نفخ الأبواق إلا الآن، ولكن خطر لي أن الأيل سيمر بهذه الجهة فأتيت إليها.

فهزت الفتاة كتفيها ولكزت بطن جوادها، فانطلق بها في تلك الغابة دون أن تتدانى إلى مجاوبة هذا الفتى الذي كان يدعوها ابنة عمه.

٢

وكان الجواد ينطلق بها وهي ثابتة فوق ظهره ثبوت الرواسي، حتى كانت ديانا نفسها إلهة الصيد.

أما لوسيان والفارسان فإنهم لما رأوها دفعت جوادها لم يجدوا بدًّا من الاقتداء بها والسير في أثرها.

وكان الأيل المنكود قد انتهكت قواه وأوشكت الكلاب أن تظفر به، فكانت تنهشه كلما أدركته نهش الحيوان المفترس، وكان يدافع عن نفسه بقرنيه العظيمين دفاع المستبسل المستميت إلى أن يجد مخرجًا من أنيابها فيفر وتعود إلى مطاردته.

وكانت مدموازيل أورور؛ أي ابنة عم لوسيان تنهب الأرض بجوادها في أثر الأيل وهي تدنو منه من حين إلى حين.

وكان الأيل قد دنا من المستنقعات، فلما وصل إليها والصيادون في أثره علم بالسليقة أنها ستكون سبب هلاكه، فعاد عنها ودخل بين الكلاب والصيادين بسرعة البرق، وانطلق بين الأدغال.

وقد راعهم هذا الانقلاب الفجائي، فعادوا إلى مطاردته بين الأدغال والفتاة أشدهم تحمسًا، ولكنه كان أسرع عدوًا من الجياد.

وكان أدِلَّاء الصيد والكلاب يتقدمون الصيادين، فلم تمضِ هنيهة حتى سمعوا نفخ البوق يشير إلى أنهم رأوه، فانطلقت الجياد إلى جهة مصدر الصوت.

وما مر بضع دقائق حتى سكت البوق فجأة، وانقطع نباح الكلاب، وسمعوا أصوات بشر يتشاتمون.

فلما وصلت مدموازيل أورور ورفاقها إلى تلك الجهة الصادرة منها الأصوات رأت ما لم يكن يخطر لها في بال، وهو أن الأيل كان جريحًا وقد سقط على الأرض فاحتاطت به الكلاب كالنطاق، وهناك نحو عشرة من الفلاحين يتهددون ويتوعدون بمناجلهم وفئوسهم، ودليل الصيد واقف لا يجسر على الدنو منهم.

ذلك أنه حدث أمر يعد في هذه الأيام بسيطًا مألوفًا لا مأخذ فيه، ولكنه في ذلك العهد — عهد الاستبداد وسلطة النبلاء — كان يعد من الجرائم الفظيعة النادرة.

وهو أن الأيل انطلق في الغابة بين الأدغال ودخل إلى حقل مزروع، فأسرع أحد الفلاحين ورمى ساق الأيل بمنجله إشفاقًا على زرعه، فأصابه بجرح خطير وسقط على الأرض.

فلما رأى الفلاحون ما كان من رفيقهم أكبروا عمله؛ إذ كان جرأة نادرة في ذلك العهد، وأيقنوا أن الصيادين النبلاء سينتقمون منه شر انتقام، فبادروا لنجدته.

أما دليل الصيد فإنه حين رأى ما جرى، رفع سوطه وهمَّ أن يضرب ذلك الفلاح.

ولكنه رأى أن إخوانه قد تكاثروا من حوله فخاف شر العاقبة، واستعاض عن السوط باللسان فشتمهم أقبح شتم إلى أن قال لهم: سوف ترون أيها الأشقياء ما يكون من عقابكم.

فأجابه الفلاح الذي رمى الأيل: ليعاقبنا أسيادك بما يشاءون، واحذر أن تدنو خطوة منا فلا يكون نصيبك غير الموت.

وكان لدى الدليل سلاح ناري ولكنه خشي أن يطلقه، فعاد إلى الشتائم وعادوا إلى ردها.

وعند ذلك وصلت مدموازيل أورور ورفاقها وقد اتقدت عيناها بنار الغضب، وجعلت تضطرب اضطراب ذلك الأيل الجريح.

أما الفلاحون فإنهم حين رأوها قدمت يصحبها رفاقها النبلاء وعدد عظيم من الحاشية، رعبوا وأركنوا إلى الفرار بحيث لم يبقَ منهم غير ذلك الفلاح الذي رمى الأيل.

وكان شابًّا يبلغ الخامسة والعشرين من عمره، وهو طويل القامة هزيل لكن عينيه كانتا تتقدان ببارق الشهامة.

فرفعت مدموازيل أورور سوطها فقالت له: ويحك أيها التعس الشقي! كيف جسرت على قتل الأيل الذي أصطاده؟

فضم الفلاح يديه إلى صدره وقابل نظراتها النارية دون اكتراث وقال: اضربي إذا أردت فإن الحق للقوة وأنتم الأقوياء الآن، ولكننا سننال قريبًا هذه القوة وهذا الحق.

فأنزلت الفتاة سوطها دون أن تضربه، فقال لها أحد الفرسان الذين يصحبونها: أتريدين أن أترجل عن جوادي وأؤدب هذا الوقح؟

– كلا، فإني أحب قبل ذلك أن أعرف السبب الذي دعاه إلى هذه الجرأة.

فأجابها الفلاح قائلًا: إنني لم أجترئ عليك يا سيدتي، وشهد الله أني حين ضربت الأيل لم أكن أعرف أصحاب الكلاب التي كانت تطارده، ولكني أسفت على هذا الزرع من دوس الأرجل؛ فإني أعيش منه مع أولادي.

فقال له دليل الصيد وقد تشجع لقدوم الجماعة: لقد كذبت أيها الشقي.

ثم هجم عليه يريد ضربه، فأوقفته الفتاة وقالت للغلام: أتعلم من أنا؟

– نعم، أعلم أنك مدموازيل أورور دي مازير.

– ألديك شك بعد هذا العرفان أني قادرة على سجنك؟

– إذا خطر لك هذا الخاطر فليس من يمنعك عن سجني، ولكن عملك يزيد نقطة على كأس الشقاء التي أوشكت أن تطفح.

فغضبت الفتاة والتفتت إلى رفاقها فقالت: أسمعتم ما يقول هذا الفلاح الفيلسوف، إنه يجسر على المجادلة وإبداء الأفكار.

فقال لها أحد الفرسان: ألا ترين أنه يستحق العقاب الأليم؟

وقال آخر: إني يا سيدتي لو كنا في غير هذا الزمن لرجوتك أن تصفحي عن هذا الرجل، ولكننا أصبحنا في زمن تجاسر فيه الشعب على أن يرفع رأسه المنخفض ولا يرهبنا في كل حين؛ ولذلك أرى أنه يجب أن يؤدب هذا الغلام خير تأديب يكون به عبرة لسواه من المتمردين.

فنظرت إليه الفتاة قائلة: أهو رأيك؟

– نعم يا سيدتي.

وعند ذلك التفت إلى دليل الصيد فقال له: جرد هذا الفلاح من ملابسه واجلده في البدء عشرين جلدة، ثم اربطه بذيل فرسك واركض به إلى الدير وادفعه إلى السجان بأمرنا.

أما الفلاح فإنه لم يجد متسعًا من الوقت للدفاع أو للفرار أو التماس العفو؛ لأن السماء أرسلت إليه مدافعًا لم يكن يخطر له في بال.

وكان هذا المدافع لوسيان ابن عم أورور، الذي كان يناديه الأحدب «سيدي الكونت».

فإنه قبل أن يصل الدليل إلى ذلك الفلاح، سار إلى وسط الحلقة وقال للدليل بلهجة السيادة: إنك أيها الرجل في خدمتي وقد وجبت عليك طاعتي، فاحذر أن تمس هذا الرجل بسوء.

فصاحت الفتاة والفارسان صيحة دهش.

أما لوسيان فإنه اقترب من ابنة عمه دون أن يتدانى إلى النظر إلى الرجلين وقال لها: أسألك العفو يا ابنة عمي، فقد دعتني ثلاثة أمور إلى فعل ما فعلت؛ أحدها أنهم أمروا دليل الصيد وهو في خدمتي أن يعمل عملًا وحشيًّا لا يُحتمل ارتكابه في هذا العصر الذي نحن فيه، والثاني أن هذه الكلاب كلابي وبالتالي فإن الأيل التي تطارده كلابي ملكي، فإذا أهين أحد بسببه فأنا الذي أهان دون سواي.

فاتقدت عينا الفتاة ببارق من الغضب، ولكنها ابتسمت ابتسام المتهكم وقالت له: قد سمعت السببين يا ابن عمي العزيز، فهل لك أن تقول الثالث؟

فأجابها بملء السكينة: إني متى ذكرت لك السبب الثالث أصبحت من رأيي، وهذا السبب هو أن هذا الفلاح الذي تريدين عقابه إنما قتل الأيل في حقله؛ أي في بيته، ومن يحق له أن يعارض رجلًا في منزله؟!

فقال هكتور دي بوليو وهو أحد الفارسين: يظهر يا سيدتي الكونتس أنك لم تعرفي ابن عمك بعد.

– لقد عرفته الآن حق العرفان.

– إنه فيلسوف من أصدقاء الشعب، ومن خير تلامذة جان جاك روسو وفولتير.

فالتفت لوسيان إلى هذا الرجل وقال له: إني لا أسمح أن أستاء من ممازحتك يا سيدي البارون؛ لأنك ضيفي وضيف أمي، ولكني أقول لك إن هذا الفلاح إذا كان قد أخطأ، فإن معاقبته على ما اقترحه صديقنا الشفالييه تعد جريمة، ومن منا يرضى لنفسه أن يكون من أهل الجرائم؟

أما الفلاح فإنه حين تدخل لوسيان في أمره ذهبت جرأته وسالت الدموع من عينيه، فنظر إلى لوسيان نظرة ملؤها الشكر والامتنان وقال له: أسألك المعذرة يا سيدي، على أني لو علمت أن الصيد صيدك لما أقدمت على قتل الأيل ولو أفسد كل زرعي.

فقال له لوسيان: لا بأس عليك فاذهب في شأنك، وإذا أتلفت كلابي بعد الآن شيئًا من زرعك فأخبرني أعوض عليك ما أتلفته.

أما مدموازيل أورور فإنها التفتت إلى الفارسين بينما كان الفلاح يسير إلى منزله، وقد اصفر وجهها من الغضب فقالت لهما: ألا تريان أن ابن عمي قد أهانكما إهانة عظيمة؟

فقال لها الشفالييه ببرود: إني أرى رأيك يا سيدتي، وسأبرح قصره هذه الليلة.

وقال المسيو بوليو: وأنا أفعل فعلك.

فأجابهما لوسيان: افعلا ما يحلو لكما.

ثم قال لدليل الصيد: أما أنت فعد بالكلاب إلى القصر.

وعند ذلك حيا الجماعة وأطلق لجواده العنان.

فشيعته ابنة عمه بنظرات ساهية، وقالت بلهجة شفت عن الكره والاحتقار: من كان يظن بأنهم يعدونه زوجًا لي، ولكن هذا لن يكون.

فقال لها الشفالييه: ولكن لوسيان لم يخطر له هذا الخاطر.

ثم ابتسم ابتسام المتهكم وقال: إن قلبه لا يتسع لحبين.

فارتعشت الفتاة واصفر وجهها لكنها لم تجب.

أما الشفالييه فإنه همس في أذن رفيقه قائلًا: إن لوسيان قد عاملنا معاملة الرفيع للوضيع، ولكني أقسم لك إني سأنتقم منه شر انتقام.

وعند ذلك سار الفارسان والفتاة بطريق سولي.

٣

لنعرِّف الآن قراء هذه الرواية بلوسيان وابنة عمه.

كان لوسيان يدعى الكونت دي مازير، وكانت ابنة عمه تُدعى مدموازيل أورور، وهي من أعرق الفرنسيين حسبًا، وقد لُقِّبت بكونتس في بافاريا مكافأة لها عن خدمات أبيها الجليلة للأسرة الملكية، وبرحت ألمانيا مع أبيها منذ بضعة أعوام عائدة إلى فرنسا فأقامت فيها.

أما لوسيان فقد جاء مع أمه للإقامة في قصر دي بوربيير، وهو ذلك القصر الذي نشرنا خبر احتراقه في مقدمة هذه القصة.

ويذكر القراء أن ذلك القصر قد التهمته النار بجملته منذ ستة أعوام، وقيل يومئذ إن أصحابه الكونت دي مازير وامرأته قد التهمتهم النار فيما التهمت.

وكان محيط بهذا القصر أراض شاسعة، ولم يكن لصاحبه غير وارثين، وهما لوسيان ابن أخيه وأخوه والد أورور.

فجاء لوسيان وأمه، وعاد والد أورور بابنته من ألمانيا فاقتسما الإرث، فكان حظ لوسيان القصر وما يحيط به وحظ والد أورور الأراضي.

وكانوا كلهم غرباء عن هذه المقاطعة التي أقاموا فيها، فإن الكونت الذي التهمته النار وخلف لأخيه وابن أخيه هذا الإرث كان قد اشترى تلك الأراضي قبل احتراق القصر بعام.

وكان إيراد هذا الإرث الذي خلفه يبلغ نحو المليون، غير أن الإشاعات تكاثرت بعد موته بالنار أن ثروته لم تكن قاصرة على الأراضي، بل إنه ترك مبلغًا طائلًا مؤلفًا من أوراق مالية وضعت في صندوق صغير.

فبحث الورثاء بحثًا مستفيضًا إثر هذه الإشاعة عن الصندوق دون أن يجدوه.

ثم تعاقبت الأيام على هذه الإشاعة فمحتها من الأذهان.

أما الورثاء فقد كانوا يعيشون عيشة بذخ ورخاء، لا سيما مدموازيل أورور فقد كانت بارعة الجمال مولعة في الصيد، وقد طالما تمنى الفتيان الأغنياء خطبتها غير أنهم كانوا يشيعون أن ابن عمها لوسيان سيخطبها فيتراجع الخطاب آسفين.

على أنه مع هذا النسب وهذا التقارب كان يوجد في العائلتين شبه انفصال، فإن لوسيان كان يزور منزل عمه وأورور كانت تزور منزل ابن عمها خلافًا لوالدته ووالدها، فإنهما كانا لا يتزاوران على الإطلاق ويبالغ كل في اجتناب الآخر، فإذا التقيا اتفاقًا حيا كل منهما الآخر ببرود كأنهما غريبان.

وما خلا ذلك فقد كانت العائلتان عائشتين بملء الرخاء والهناء، فإن لوسيان كان يدعو كثيرًا من أصحابه إلى حفلات الصيد، فكان كثير البشاشة مطلق الوجه، تبدو آثار النعيم بين عينيه.

وكان الفلاحون يحبونه بقدر ما كانوا يكرهون ابنة عمه، فإنه كان كثير البشاشة وكانت هي كثيرة التيه والخيلاء.

غير أنه حدث له انقلاب فجائي منذ بضعة أشهر، فامحت آثار تلك البشاشة وتمكنت منه السويداء وذهبت رغبته بالصيد.

فكان يظهر بمظاهر الفتور مع ابنة عمه، بعد أن كان لا يطيب له العيش إلا بقربها.

أما أورور فكانت كثيرة الإعجاب بنفسها، شديدة التيه بجمالها، فكانت تعلل انقلاب ابن عمها من الطيش إلى الرزانة، ومن الزهو إلى السويداء لأنه قد بلغ مبالغ الرجال، وأثر حبها على قلبه هذا التأثير فَنَاءَ في مَهَامِهِ التفكير.

وكانت تعبث به منذ الحداثة، وقد تعودت السيادة عليه، ورضيت أن تكون امرأة له منذ أراد أهلهما هذا الزواج.

لكنها لم تكن تحترمه، بل تعده ضعيفًا بسيطًا، وتمني نفسها باستعباده بعد القران.

أما وقد بسطنا أخلاقها واعتمادها على نفسها وتعودها السلطة على ابن عمها، فلا بد أن يدرك القارئ عجبها حين لقيت من ابن عمها ذلك الجفاء وتلك المقاومة في حادثة الصيد، فإنها كانت تحسبه عبدًا لها، وقد رأت فجأة أن هذا العبد قد تمرد وخلع عن عاتقه نير العبودية.

فغضبت غضبًا شديدًا، خلافًا لرفيقيها الفارسين فإنهما تلقيا هذه الحادثة بملء الارتياح.

وكان أذكى الفارسين ميشيل دي فالون، فلما أطلقت أورور العنان لجوادها تبعها الفارسان فلم يستطيعا اللحاق بها، فالتفت الشفالييه إلى رفيقه وقال له: أرى أيها الصديق أن مدموازيل أورور لا بد لها أن تقف، وإن من الحذق ألا يحذو جوادانا حذو جوادها في الركض فقد أعياهما التعب.

– لقد أصبت، فإن جوادي سيسقط صريعًا.

– إذن لنغتنم فرصة اختلائنا فنسير الهويناء ونتحدث.

– بماذا تريد أن نتحدث، وأية فرصة نغتنم؟

– نتكلم بجلاء أيها الصديق.

– هذا جل ما أبتغيه.

– إنك تعشق الكونتس؟

– بل إني مفتون بها.

– وأنا كذلك أيها الصديق، فإن غرامي لا يقل عن غرامك.

فنظر البارون إلى الشفالييه نظرة منكرة، غير أن الشفالييه لم يعبأ به وقال له: أرجو ألا تدفعك الغيرة إلى الحقد عليَّ، فإن اتفاقنا ميسور إذا شئت.

– أصغِ إليَّ، فإنه لو خطر لنا منذ ساعة أن نبسط حبنا للكونتس لما كان حظنا غير الجفاء والاعتراض.

– أتظن ذلك؟

– بل أؤكده.

– والآن؟

– أصغ إليَّ كل الإصغاء، فإني وإياك فقيران بالقياس إلى الكونتس، ولو جمعت ثروتي وثروتك لما بلغت ربع ثروتها.

– لا أنكر ما تقول، ولكن ماذا تريد بهذا القول؟

– أريد أننا نستطيع الآن التفريق بين لوسيان وابنة عمه إلى الأبد ونغتنم فرصة هذا التفريق.

– إن هذا قد يكون، ولكن الكونتس لا يمكن أن تكون زوجة الاثنين.

– هو ذاك، فإني توقعت ما تقول، ولكن لنتفق الآن على إلقاء النفرة بين الخطيبين.

– وبعد ذلك؟

– وبعد ذلك يعمل كل لنفسه.

– لقد أصبت ولكن …

– ولكن ماذا؟

– كيف نستطيع الوصول إلى هذه الغاية؟

– إن لوسيان يعشق …

– إنه يعشق ابنة عمه.

– كلا.

فاضطرب البارون فوق سرج فرسه وقال: من يعشق إذا كان لا يعشق ابنة عمه؟

– ألم تذهب مرة إلى نواحي الدير؟

– بل ذهبت ألف مرة.

– إذن لقد عرفت داغوبير.

– بلا ريب، فإني أشتري من محله نعال جيادي.

– ألم يتفق أنك رأيت مرة في محله فتاة جميلة، يقولون إنها قريبة داغوبير؟

– نعم، وهي بارعة الجمال.

– إذن فاعلم أن لوسيان مفتون بها.

فضحك البارون وقال: لعلك تمزح أيها الصديق؟

– كلا، بل أقول الحق.

– وهل تجهل ابنة عمه هذا الغرام؟

– كل الجهل، فإذا شئت أخبرناها بأمره منذ الليلة، فإني أعرف أخلاق الكونتس فهي شديدة الكبرياء، فإذا علمت أن ابن عمها يهوى فتاة قروية ويؤثرها عليها، نفرت منه كل النفور وكان بينهما فراق الأبد.

– ولكن مهما بلغت النفرة بينهما فإن أهلهما يوفقون بينهما؛ لأنهم راغبون في هذا الزواج.

– إنك مخطئ في هذا الظن؛ لأنك لا تعلم من أخلاق الكونتس ما أعلم، فإنها إذا رغبت أمرًا لا يثنيها عنه شيء.

فتنهد البارون وقال: حقق الله هذا الرجاء.

وعند بلوغهما من الحديث إلى هذا الحد، وصلا بجواديهما إلى مكان كثير الأدغال فرأيا الكونتس واقفة في انتظارهما.

فلما رأتهما ابتسمت وقالت لهما بلهجة المتهكم: لا بد لكما أن تحكما أن فرسي أسرع من فرسيكما.

فقال لها الشفالييه: نسألك العفو أيتها الكونتس، فقد بذلنا جهد الطاقة للحاقك فلم نستطع.

فأجابت: وأنا قد انتظرتكما، ولكن أتعلمان في أي طريق ذهبت الكلاب؟

– إنها سارت في أقرب طريق يؤدي إلى بوربيير كما أمر صاحبها.

– ولوسيان؟

فابتسم الشفالييه ابتسامة دلت على ما فطر عليه من المكر وقال: إن لوسيان يسير في غير هذا الطريق.

– ماذا تعني بذلك يا شفالييه؟

فابتسم البارون وقال: إن صديقي الشفالييه يحب النميمة يا سيدتي الكونتس فلا تصدقيه.

فقطبت حاجبيها وقالت: إني لا أفهم الألغاز، فأرجوك يا شفالييه أن تخبرني بجلاء عن الطريق التي سار فيها لوسيان؟

– إنه سار يا سيدتي في طريق الدير.

فابتسمت الفتاة ابتسامة الاحتقار وقالت: إنه ليس فيلسوفًا فقط، بل إنه من أهل التزهد والعبادة.

– إنه لم يذهب بطريق الدير من أجل هذا.

– إذن ما هي غايته؟

– إنه يوجد عند باب الدير دكان حداد بيطري.

– لعل نعل فرسه سقط؟

– إنه يسقط باستمرار قرب محل هذا البيطري.

– إني لا أفهم ما تقول يا حضرة الشفالييه.

– إذن فاعلمي يا سيدتي أن لهذا البيطري قريبة بارعة في الجمال.

فاصفر وجه الكونتس عند ذلك، كأنما عقرب الغيرة قد لسعتها، ونظرت إلى الشفالييه بعينين تتقدان من الغضب وقالت: لعلك تمزح يا سيدي؟

– معاذ الله يا سيدتي أن أجسر على ممازحتك في هذه الشئون، ولكني أقول لك الحقيقة وهي أن لوسيان ابن عمك وخطيبك قد فتن بفتاة قروية يلقبونها بربيبة الدير.

فهاجت عوامل الكبرياء في صدر الفتاة وتبدل اصفرار وجهها بالاحمرار، فنظرت إلى الفارسين نظرة شفت عن العظمة وقالت: أقسم لك يا سيدي أنه إذا كان ما يقوله الشفالييه أكيدًا فإني لن أكون أبدًا الكونتس دي مازير.

فقال الشفالييه: إني لا أكذب يا سيدتي، وإذا شئت برهنت لك عن صدقي.

– متى؟

– متى أردت.

– إذن هات برهانك إذا كنت من الصادقين.

وقد ظهرت على وجهها عند ذلك علائم الاحتقار لابن عمها والنفرة منه، حتى إن الفارسين وثقا من نجاحهما فيما يبغيان، وفرحا فرحًا لا يوصف.

٤

كان الكونت لوسيان في خلال ذلك سائرًا في طريق الدير، وقد اتخذ أقرب الطرق المؤدية إليه.

ولكنه لم يبعد نحو مائة خطوة حتى سمع وقع ركض من ورائه بين الأدغال، فالتفت فرأى أن الذي يركض في أثره كان بنوات الأحدب.

فوقف لوسيان حتى وصل إليه فقال له: من أين أنت آتٍ؟

– من أقفر الطرق، فإني خشيت أن أكون عرضة لانتقام أهل سولي.

– لماذا ينتقمون منك؟

– لأنهم يكرهون مدموازيل أورور، فإذا عرفوا أني كنت معكم بعد تلك الحادثة لا أسلم من انتقامهم.

– ولماذا يكرهون ابنة عمي؟

– لأنها شديدة على الفقراء، فهم يكرهونها بقدر ما يحبونك؛ ولذلك أريد أن أكون في خدمتك حين تريد الصيد وحدك، وأما إذا كنت مع ابنة عمك فإن في خدمتك كل الخطر.

– إذن لقد أحسنت بانتصاري لهذا الفلاح.

– لقد أحسنت كل الإحسان يا سيدي، بل ربما تكون قد اجتنبت مصابًا شديدًا.

– كيف ذلك؟

– إن هذا الرجل الذي أرادت ابنة عمك معاقبته يحبه قومه ويخضعون له كل الخضوع، وهو في كل يوم أحد يخطب بهم في الخمارة ويحمل على النبلاء والكهنة والرهبان حملات منكرة، فيصغون إليه إصغاء تامًّا حتى إنهم باتوا يعتقدون اعتقاده بالنبلاء وهو أنهم بليَّة الفقراء.

فأطرق لوسيان مفكرًا وقال: أهو قال هذا القول؟

– نعم يا سيدي وقد انضم الجميع إلى لوائه، فلو جلدته ابنة عمك بسياطها لكان انتقام الفلاحين شديدًا.

– كيف يكون انتقامهم؟

فارتعش الأحدب كأنه خشي الزيادة في التصريح وقال: غير أني لا أعلم إذا كانوا يقولون هذه الأقوال وهم يستطيعون تأييدها بالأفعال، والذي أراه أنهم لا يجسرون.

فعلم لوسيان أنه لا يريد أن يجاهر بكل ما يعلمه فقال له: إنك تعلم يا بنوات أني أحبك، وأنك تستطيع أن تقول لي كل شيء دون أن تصاب بمكروه.

– هذا لا ريب فيه عندي يا سيدي.

– قل إذن كيف يكون انتقامهم؟

– سأخبرك يا سيدي.

ثم وضع يده دون كلفة على جواد لوسيان وقال له: لقد بات النبلاء في عيون الفلاحين فريقين: فريق يحبونه ويخدمونه وفريق يكرهونه ويضمرون له الحقد، فإنني أعرف كثيرين يثنون عليك في كل مجلس، ولكنني أعرف كثيرين أيضًا لو دعوهم إلى إحراق قصر ابنة عمك لأجابوا الدعوة راضين.

– لماذا؟

– لأن ابنة عمك وأباها يكرهان الشعب، والشعب يكرههما أشد الكره، فإن الفلاح في حقله إذا رأى طائرًا يسبح في الفضاء ما شاء ثم يستقر على شجرته، وأيلًا يجتاز عشر مراحل ثم يأوي إلى زرعه، إنه لا يخطر له في بال أن هذا الطائر وهذا الأيل ملك النبلاء والرهبان، فإذا قال النبيل إن هذا الطائر لي ولا يحق لأحد صيده، فإننا نخضع لقوله مكرهين ولكننا لا نفهم ما يقول.

وإنه يوجد بيننا من النبلاء من قدم عهد التصاقهم بنا إلى مائة عام ومائتين، فهؤلاء النبلاء لا نكرههم بل نكون لهم عونًا حين الاقتضاء، ولكننا نكره أولئك النبلاء الذين قدموا حديثًا إلينا.

– من كان منهم مثلي؟

– كلا، فإنهم يحبونك لأنك لين العريكة كثير البشاشة، ولكنهم يكرهون أولئك الذين يحملهم الصلف على استعبادهم كابنة عمك مثلًا فإنهم لا يحبونهم.

– وعمي؟

– وعمك كذلك، فإنه سجن منذ عام ستة من الفلاحين لأوهى الأسباب، حتى إن زعيمهم قال منذ عهد قريب: لقد آن أوان الانتقام من هذا البيت.

– ولكن كيف ينتقمون؟

– بالنار، فإنهم يعتقدون أنها عقاب الآخرة؛ أي عقاب الله.

فأطرق لوسيان مفكرًا، وفرغ الأحدب من حديثه، وسار الاثنان حتى كادا يدنوان من الغابة، فهمَّ بنوات بالانصراف وقال له: أستودعك الله يا سيدي.

– كيف ذلك؟ أتتركني؟

– إني راجع إلى الغابة.

– ألا تصحبني إلى الدير؟

– لا شأن لي يا سيدي في الدير.

وفرك الأحدب أذنه دون أن يتم كلامه.

فقال له: ثم ماذا؟

– إني اصطدت بضعة طيور خبأتها في جيوبي، وأخاف أن يراها الرهبان معي فإنهم لا يأذنون لنا بالصيد في الغابة.

فأخذ لوسيان ريالًا من جيبه ودفعه إليه، فرده الأحدب وقال له: إني حين أرافقك في الصيد وأقود كلابك، فإنما أفعل ذلك لما أجده من السرور في خدمتك واللذة في الصيد، فما أنت مدين لي بشيء.

فرد لوسيان الريال إلى جيبه، وقال له: ماذا تصنع بهذه الطيور التي اصطدتها؟

– أبيعها.

– إذن اذهب بها في هذا المساء إلى منزلي وأنا أشتريها منك.

– حبًّا وكرامة يا سيدي.

– والآن أترافقني إلى قرب باب الدير أم لا تزال خائفًا من الرهبان؟

– أصحبك إلى حيث شئت، ورجائي ألا تنسى ما نصحتك به بشأن داغوبير.

فحاول لوسيان أن يبتسم، فلم يستطع لاضطرابه وقال له: إني لا أريد لأحد شرًّا، ولكن نعل فرسي قد سقط، ولا بد لي من الذهاب إليه؛ إذ لا يوجد بيطري سواه.

وسار الاثنان حتى اقتربا من محل داغوبير، فرأى الأحدب عن بعد أن النار خامدة فيها، فابتسم وقال للكونت: يظهر أن داغوبير غير مقيم في محله أو أنه يشتغل في الدير، فإني لا أرى ناره ولا أسمع صوت مطرقته.

ثم وصلا إلى باب الدكان، فجعل الأحدب ينادي داغوبير وهو لا يجيب.

وبعد هنيهة شعر لوسيان باضطراب شديد، ذلك أن نافذة الغرفة التي هي فوق الدكان قد فتحت، وبرز منها وجه فتاة تفتن الجماد بجمالها وقالت: إن داغوبير ليس هنا.

أما الفتاة فكانت حنة التي يلقبها أهل تلك الناحية بربيبة الدير.

فلما رآها لوسيان رفع قبعته احترامًا وقد عبق وجهه احمرارًا، وقال لها: أين هو داغوبير يا سيدتي؟

– لعلك محتاج إليه؟

– نعم، فإن نعل فرسي قد سقط.

فابتسمت الفتاة وقالت: إنه يسقط كثيرًا يا سيدي.

فاضطرب لوسيان وقال لها الأحدب: أين هو داغوبير يا سيدتي؟

– إنه في الدير، فإن الأب جيروم قد دعاه إليه.

فقال لوسيان: إذن سأنتظره إلى أن يعود.

أقفلت الفتاة النافذة ونزلت إلى الدكان وقالت له: تفضل يا سيدي بالدخول فإن البرد يؤذيك.

ثم أخذت بيدها البيضاء حبل منفخ الحداد، وجعلت تجره بغية إيقاد النار لتدفئته.

أما بنوات فإنه ذهب إلى باب الدير فقرعه، ففتح له أحد الرهبان وقال له: ماذا تريد؟

– أريد أن أرى داغوبير.

– ذلك محال الآن فإنه يتداول مع الأب جيروم، فما تريد منه؟

– نعل فرس.

– إذا كنت تريده من أجل هذا يا بني فلا فائدة من إخباره؛ لأن الرئيس مريض وقد دعاه إليه لمداولته في أمور خطيرة.

فعاد الأحدب إلى الدكان، وكان لوسيان قد ربط جواده عند بابه وجلس قرب النار يتحدث مع ربيبة الدير الحسناء، أما الأحدب فكان ينظر إليهما نظرة المعجب بهما، ويقول في نفسه: ما أخلق هذين الملاكين بالاتحاد فقد خلق كل منهما للآخر.

٥

ولندخل الآن بالقارئ إلى داخل هذا الدير، ونبسط السبب الذي دعا الرئيس من أجله داغوبير.

إن الأب جيروم كان قوي البنية متين الأعضاء لا يزال في دور الكهولة، غير أنه أصيب فجأة بمرض خفي على الأطباء فكانت قواه تنحط تدريجيًّا في كل يوم.

وكان هذا حاله منذ شهر حتى بات لهزاله كالخيال، فكان يقضي جميع مهامه الرئيسية على استفحال مرضه، ولكنه لا يفرغ من قضاء هذه المهام حتى يشعر أن التعب قد أضنكه وأنهك قواه.

وكان في خلال مرضه إذا اعتدلت الحرارة خرج من الدير متنزهًا إلى دكان داغوبير، فيجلس عنده وهو يتأمل محاسن تلك الفتاة، فيعود إلى تذكار الماضي وتتقد عيناه ببارق الشباب، ثم يطرق برأسه ويبتسم ابتسام السويداء.

وفي ذلك اليوم كان الطقس معتدلًا فكان داغوبير يرجو أن يزوره الرئيس، ولكنه انتظر عبثًا إلى أن حانت الساعة الرابعة، فجاءه أحد الرهبان وقال له: إن المرض قد اشتد بالرئيس وهو يدعوك إليه لشأن خطير.

فامتثل داغوبير وذهب مع الراهب إلى غرفة الرئيس، فأشار الرئيس إلى الراهب بالانصراف وبقي وحده مع داغوبير، فبدأ الأب جيروم الحديث وقال له: إني أشعر بضعف شديد، ولكني أعرف أعراض هذا الداء وما أنا في خطر منه، غير أني دعوتك إليَّ يا بني لأحدثك بشأن خطير فاجلس بجانبي.

فجلس داغوبير وقال له: مر يا سيدي بما تشاء.

فقال له الرئيس: لا بد أن تكون علمت بأني أريد محادثتك بشأن حنة.

فأطرق داغوبير برأسه وقال: نعم.

– إن هذا الداء الذي ألمَّ بي حمى بطيئة سرت إليَّ عدواها في زمان الشباب من بلاد بعيدة، حين كنت جنديًّا، ثم عاودتني الآن بعد أعوام كثيرة.

وقد عاودتني مرة منذ خمسة عشر عامًا، وكنت راهبًا في هذا الدير فلزمت الفراش ستة أشهر، ولكني كنت راهبًا بسيطًا في ذلك العهد فلم ينتبه لأمري أحد.

أما الآن فإن جميع الأنظار متجهة إليَّ، وأرى كثيرين من الطامعين في منصبي ينتظرون موتي بفارغ الصبر.

فإن الطمع يدخل في نفوس رجال الدين كما يعلق بسواهم من الناس، فإن الإنسان إنسان كيفما كان.

على أنه إذا قدر لي الموت يا بني فلا أموت بهذا الداء الذي أشكو منه الآن، ورجائي أن أعيش كثيرًا لخدمة الله ونجاح هذا الدير وسعادة تلك الفتاة التي اؤتمنت عليها، ومن أجل هذا دعوتك إليَّ، فقل لي الآن كم تبلغ الفتاة من العمر؟

– إنها بلغت السابعة عشرة.

– بقي لدينا ثلاثة أعوام للقيام بما انتدبنا إليه يا صديقي، ولكن الثلاثة أعوام تعادل في بعض الأحوال ثلاثة قرون، ومن يعلم ما يحدث في خلال هذه السنين الثلاث.

إن هذا الصديق سافر منذ سبعة أعوام ولكنه لم يعد، فلا بد أن يكون قد مات، وفي كل حال فأية فائدة من الانتظار؟ إذن يجب أن نتأهب للسفر.

– إني مستعد للسفر إلى أقصى حدود الأرض.

– كلا، بل إلى باريس، وأنت تعلم يا بني أن رؤساء الأديرة لا يستطيعون مبارحة أديرتهم إلا بعد استئذان الرئيس الأعظم، وقد أرسلت التماسي وسيجيبني الرئيس إليه فيما أظن، فإذا كنت غير مخطئ في تشخيص علتي فإن قواي تعود إليَّ بعد شهر فأسافر وإياك.

– أتسافر معنا حنة؟

– دون شك، فإننا نبحث عن ثروتها ثم …

وهنا توقف الأب جيروم.

فاضطرب داغوبير وقال: ثم ماذا؟

– إن حنة من بيت نبيل، وهي وافرة الثروة، فلا بد أن يتزاحم عليها الخطاب، فلا نعدم رجلًا بينهم سليم القلب يخطبها؛ إذ لا بد من تزويجها.

فأجابه داغوبير بصوت مختنق: هذا لا ريب فيه.

– والآن قل لي، أما كنت ترى أحدًا من الشباب النبلاء يرود حول الدير وحول دكانك بحجة الصيد أو شراء نعل لفرسه؟

– لقد أصبت فقد رأيت كثيرين منهم يتذرعون بمثل هذه الحجج للنظر إلى الصبية لا سيما واحدًا منهم.

– أهو شاب؟

– نعم، يبلغ العشرين.

– أهو جميل؟

– نعم.

– إنه غني دون شك ونبيل.

– إنهم يدعونه الكونت دي مازير.

فوقف الأب جيروم منذعرًا حين سمع هذا الاسم وبدت عليه علائم الاحتقار، فقال: أي اسم ذكرت لي؟

فبهت داغوبير وقال: الكونت دي مازير يا سيدي، وهو فتى حسن السمعة لا يذكره أحد إلا بالخير.

– ويح لهذا الشقي.

– إني أعجب يا سيدي من احتقارك لهذا الفتى بعد إجماع قومنا على حبه واحترامه، ولو علمت قبل اليوم أن الفتاة غنية وأنه يجب تزويجها من نبيل غني مثلها لما اخترت لها غيره زوجًا.

– لعله يحبها؟

– أظن.

فزادت ظواهر احتقار الرئيس وقال: كيف عرفت ذلك؟ لعله اجتمع بها؟

– إني حين أشتغل في دكاني يا سيدي، ولا يكون لديها ما تعمله في المنزل تأتي إليَّ فرارًا من الوحدة، فتحادثني وهي تشتغل بإبرتها وأحادثها وأنا أشتغل بالمطرقة، وذلك منذ سبعة أعوام إلى اليوم.

وقد اتفق يومًا منذ ستة أشهر أن جاءني فتى لإصلاح نعل جواده، وهو لوسيان، فرآها عندي وحادثها، وبعد أسبوعين رجع إليَّ، ثم جعل يجيئني كل أسبوع بنفس الحجة، وماذا تريد أن أصنع به يا سيدي؟ وأي لوم عليَّ.

– لا لوم عليك ولا تثريب.

ثم ساد السكوت هنيهة بينهما، وعاد الرئيس إلى الحديث فقال: أصغ إليَّ الآن يا بني، فإنك على كونك فلاحًا وحدادًا فإن بين جنبيك قلبًا يتسع للنبل أكثر من اتساع قلوب أولئك النبلاء، ولكن حائلًا عظيمًا يعترض بينك وبين حنة.

فأطرق داغوبير دون أن يجيب.

– ولقد كنت أؤثر ألف مرة، أن أراها امرأتك على أن تكون امرأة الكونت لوسيان، فإن هذا البيت قد تلطخ بالدماء.

واعلم يا داغوبير أني اعتزلت العالم وأصبحت من رجال الله، ومن كان راهبًا مثلي فقد وجبت عليه الرأفة والمساهلة والإغضاء، غير أني ما سمعتك تذكر هذا الاسم حتى نسيت موقفي وثارت في تلك العواصف القديمة، فهاجت من نفسي المكامن.

داغوبير، إن هذه الفتاة لا أمان لها في منزلك ما زال هذا الكونت يجيء إليك، فإذا اضطررت في سبيل طرده إلى سحق رأسه فافعل ولا حرج عليك.

قال له داغوبير: كفى يا سيدي فقد كفاني ما سمعت، وثق أن لا خوف على الصبية.

فرفع الأب جيروم يديه إلى السماء وقال: رباه هبني من لدنك قوة أستطيع بها الذهاب إلى باريس لإنقاذ الفتاة من مخالب الأثمة، ولا أسألك بعد هذا غير الموت.

ثم نظر إلى داغوبير وقال له: ماذا فعلت بالخاتم؟

– إنه في إصبعي.

فنظر الرئيس إلى الخاتم منذهلًا فإن هذا الخاتم الذهبي قد اسود واستحال لونه إلى لون الحديد.

فقال له داغوبير: لا تعجب يا سيدي، فإن الخاتم هو نفسه وإنما سودت لونه بالدخان كي لا أستلفت إليه أنظار أهل الفضول، فإن من كان فقيرًا مثلي لا يلبس عادة مثل هذه الخواتم ذوات الشعار.

– لقد أصبت يا بني، والآن فقد فهمت قصدي.

– نعم.

– إذن، احرص كل الحرص على حنة إلى أن أتمكن من السفر.

– اعتمد عليَّ يا سيدي.

وهنا أطلق الرئيس سراحه.

فانصرف داغوبير حتى إذا وصل إلى باب الدير قال له الحاجب: إنهم محتاجون إليك.

– أين؟

– في الدكان.

فخفق قلب داغوبير وخرج من الدير، فرأى عند باب دكانه جوادًا ورأى رجلًا واقفًا قربه، فعرف أن الرجل كان بنوات الأحدب وأن الجواد جواد الكونت لوسيان.

فهاج غضبه ودخل فجأة إلى الدكان، فرأى الكونت لوسيان جالسًا قرب حنة وهي محمرة الوجه.

٦

ولنعد الآن إلى مدموازيل أورور، فقد تركناها مصفرة الوجه من الغضب وهي تسأل الشفالييه برهانًا عما قاله لها من حب لوسيان لحنة، فقال لها الشفالييه: إني مستعد لإبداء البرهان يا سيدتي الكونتس عندما تريدين.

– إني أريده الآن، فقل، إني مصغية إليك.

– إن برهاني يا سيدتي لا يقال بل ينظر.

– كيف ذلك؟

– أتقنعين إذا رأيت لوسيان في دكان الحداد؟

– كلا، فإنه قد يكون دخل إليها لإصلاح نعل فرسه.

– وإذا رأيته جالسًا بجانب الفتاة يحدثها وينظر إليها نظرات غرام؟

فاتقدت عيناها وقالت: يكفي به برهانًا.

– هذا الذي أردت أن أظهره لك يا سيدتي.

– كيف؟

– إن لوسيان قد ذهب الآن دون شك إلى البيطري، فإني رأيت جواده يعرج، ولا شك أن الفتاة ستكون في الدكان، فإنها تقيم فيها عادة بعد الظهر، فإذا شئت يا سيدتي ذهبنا إلى مستنقعات الدير على الجياد، فنغادر جيادنا فيها ثم نذهب على الأقدام فنختبئ بين أشجار الغابة المقابلة لدكان داغوبير وهناك ترين ما أخبرتك به فيحقق الخبر.

فثارت العواصف في قلب أورور وقالت: لقد رضيت، هلموا بنا.

فنظر الشفالييه إلى البارون نظرة انتصار، وتقدمت الفتاة الفارسين إلى المستنقعات فتبعها الفارسان يسيران فوق جواديهما جنبًا إلى جنب، فقال البارون للشفالييه: أواثق أنت مما تقول؟

– إني واثق كل الثقة.

– أرأيت حقيقة أن جواده كان يعرج؟

– نعم، وسوف ترى حقيقة أنه قرب الفتاة.

وبعد عشر دقائق وصلوا إلى المستنقعات، فربطوا جيادهم فيها وساروا في الغابة حتى وصلوا إلى شجرة باسقة كثيرة الفروع محاذية للدكان، فاختبئوا وراءها وقال الشفالييه: انظري يا سيدتي، ألا ترين جواد لوسيان عند باب الدكان؟

– نعم.

– تعالي إلى الجهة اليمنى تري داخل هذا الدكان.

وكان داغوبير في ذلك الحين لا يزال في الدير، فذهبت الكونتس إلى الجهة اليمنى فرأت رجلًا وامرأة جالسين.

أما الشفالييه فإنه قال: إن الوقت لا يزال فسيحًا لدينا، فلنصبر لا سيما وأنه غير عازم على الرحيل كما يظهر.

وكانت الشمس قد توارت في حجابها وأوقدت حنة مصباحًا في الدكان، فكانت أورور ترى كل شيء في داخلها، فلما رأت لوسيان بجانب حنة ينادمها عضت الغيرة قلبها وشدت على قبضة السوط الذي بيدها حتى كادت تسحقها.

ورأى الشفالييه ما ظهر من غيرتها، فقال لها: كيف رأيت يا سيدتي؟ أوثقت الآن مما قلته لك؟

فأجابته بلهجة القنوط: نعم، لقد برح الخفاء، ولكن اطمئن فسوف أنتقم أفظع انتقام من هذا الخائن الأثيم.

فقال لها البارون: أما وقد وثقت يا سيدتي من خيانته، فلنعد إلى جيادنا فلا فائدة من البقاء هنا.

فأجابته: كلا، إني أحب أن أرى كل شيء … وأريد أن أصبر إلى النهاية.

وفي ذلك الحين، كان داغوبير قد خرج من الدير ورأى جواد لوسيان مربوطًا إلى باب دكانه، فثار ثائره وانقض على الدكان انقضاض الصاعقة.

فلما رأته حنة زاد احمرار وجهها، أما لوسيان فإنه اصفر ووقف، فقال لوسيان: إني أنتظرك منذ ساعة.

فأجابه داغوبير: ليس لدي الآن نعال حاضرة، وقد انقضى النهار فلا وقت لصنع نعل جديدة.

– ولكن جوادي يعرج.

– يوجد في سولي بيطري فاذهب إليه، ثم أرجوك يا سيدي الكونت أن تأذن لي بأن أعهد إليك بمهمة خاصة.

– لي أنا؟

– نعم.

ثم مشى إلى الباب، فعلمت حنة أنه لا يريد أن يكلمه أمامها، فصعدت إلى المنزل وهي تضطرب.

أما داغوبير فإنه لما رآها صعدت، رجع إلى الدكان فنظر إلى الكونت وقال: إني أعهد إليك بمهمة خاصة كما قلت لك، ولكني أحب أن أسديك نصيحة.

فهاجت عوامل الكبرياء في نفس الكونت وقال له: أنت تسديني نصيحة!

– نعم يا سيدي، ويجب أن تسمعها، ونصيحتي هي أن جوادك غير صالح ويجب استبداله.

– لماذا؟

– لأنه كثير الحاجة إلى النعال.

– لعلك تريد أني أحضر كثيرًا على دكانك؟

– إني لا أريد أن أوضح كلامي، افهمه كما تريد.

وقد قال هذا القول وأطرق بعينيه، أدرك لوسيان قصده وقال له: أصغ إليَّ يا داغوبير فإني شاب نبيل غني.

– إني أعرف كل ما تقوله يا حضرة الكونت.

– وإني أحب قريبتك.

– وأعرف هذا أيضًا.

– وليس في طباعي شيء من طباع أمثالي النبلاء، بل إني أحتقر صلفهم وكبرياءهم، ولا أتزوج إلا المرأة التي أحبها.

فلم يجبه داغوبير بشيء.

– وقد قلت لك إني أحب قريبتك، فهل تريد أن أجعلها الكونتس دي مازير؟

وكان الكونت يتوقع أن يستقبل داغوبير هذه المنة بملء السرور، غير أنه لم يبد عليه شيء من ظواهره، بل قام إلى مطرقته الضخمة فتسلح بها وقال له: أصغ إليَّ يا سيدي الكونت، إن قريبتي لم تخلق لك، وأعلم أني حداد فقير وأنك سيد عظيم، ولكني غير خاضع لك ولا سلطان لك علي؛ ولذلك أمنعك من الدخول إلى محلي.

– ماذا تقول؟ إنك مخطئ يا داغوبير.

– هذه آخر كلمة أقولها، فاعلم الآن أنه مهما بلغ ارتفاعك وضعتي وغناك وفقري، إني أقتلك إذا عدت إلى هذا البيت.

وقد قال هذا القول بصوت منخفض لم تسمعه حنة، ثم قال له: اخرج من هنا.

فاصفر وجه لوسيان من الغضب والخجل ولم يجب.

فرفع داغوبير المطرقة فوق رأسه وقال له: قلت لك اخرج.

وكان لوسيان من رجال الشهامة والنبل، فوقع هذا الكلام عليه وقوع الصواعق ووضع يده على قبضة خنجره؛ إذ لم يكن لديه سيفه في تلك الساعة، وهمَّ أن يجرده ويطعنه به.

غير أن داغوبير كان أسرع منه، فإنه انقض عليه وقد أدرك قصده فحمله بين يديه كما يحمل المطرقة وخرج به من الدكان من غير أن يفوه بكلمة ووضعه فوق سرج جواده، وقال له: امضِ في شأنك واحذر أن ترجع.

وكان داغوبير مشهورًا بين قومه بالقوة، حتى كانوا يضربون به المثل فيقولون: فلان قوي كداغوبير.

فلما وجد الكونت نفسه فوق فرسه، جمد الدم في عروقه وكبر عليه الأمر، فلم يثب من ذهوله حتى حاول الرجوع إلى الدكان وهو يزبد من الغيظ بالرغم من نصح الأحدب له بالرجوع والاكتفاء بما حدث، ولكن داغوبير كان قد أسرع إلى الدكان وأقفل بابه وصعد إلى المنزل غير مكترث لوعيد الكونت.

أما لوسيان فإنه جعل يضرب باب الدكان بقبضة خنجره ويقول: افتح أيها الشقي، فلا بد لي من قتلك ولو صعدت إلى الغمام.

فلم يفتح الباب كما كان يتوقع، بل فتحت النافذة وأطلت منها حنة وقالت له بلهجة بينت عن يأسها: أسألك بالله يا سيدي الكونت ألا تهيج غضب قريبي.

فقال لها الكونت: إن قريبك قد أهانني إهانة لا تغتفر جزاء لقولي بأني أحبك، وإني أريد أن أجعلك …

أما حنة فإنها أقفلت النافذة قبل أن يتم جملته.

وفي الوقت نفسه فتحت نافذة أخرى، وهي نافذة داغوبير وأطل منها الحداد وقال له: يظهر يا سيدي الكونت أنك فقدت رشدك، وإني أنصحك بالانصراف.

– بل إني سأقتلك شر قتل أيها الشقي، فقد جسرت على ما لم يجسر عليه أحد من قبلك، وسأحرقك وأحرق منزلك بالنار.

– أما أنا فسأخمد تلك النار المتصاعدة إلى رأسك.

ثم احتجب داغوبير هنيهة وصاح الأحدب بالكونت يقول له: احذر! غير أن لوسيان لم يجد سبيلًا للحذر، فإن داغوبير عاد مسرعًا إلى النافذة يحمل كوز ماء كبير فكب جميع ما فيه من الماء البارد فوق رأس الكونت.

انتفض لوسيان انتفاض العصفور بلله القطر، وقد سكن تأثره لانشغاله بتأثير تلك المياه، ثم عاوده الهياج وهم أن يعود إلى الباب ويحاول كسره ولكنه تراجع منذعرًا؛ إذ سمع صوت ضحك يشبه ضحك الساخر.

فغلى الدم في عروقه من الغضب والتفت إلى مصدر الصوت وكان من الغابة، فرأى فيها أشباحًا وسمع أيضًا صوت ضحك سخري.

فلكز بطن جواده ودفعه إلى تلك الأشباح، وعند ذلك رأى نور مشعل قد بزغ فجأة وهو من تلك المشاعل الخاصة بأهل الصيد، فوقف خجلًا مبهوتًا؛ إذ رأى على نور ذلك المشعل البارون والشفالييه وبينهما ابنة عمه الكونتس، وهي لا تزال تضحك ضحكَ الساخر وبين عينيها علائم الاحتقار والغضب.

أما الكونتس فإنها نظرت إليه، وقالت له بلهجة المتهكم المنتقم: أراك يا ابن عمي العزيز قد أحييت العصور السالفة، إنك وحدك تحاصر حصنًا حصينًا لاختطاف فتاة.

ثم ضحكت ضحكًا شديدًا وقالت: نعم، إن الحصن لم يكن إلا دكان حداد، وإن الفتاة لم تكن إلا قروية من رعاة الخرفان، ولكن ذلك كان سائغًا في العصور الوسطى، فأهنئك ببسالتك.

وعند ذلك ذهبت مع رفيقيها إلى حيث ربطوا الجياد، وقف لوسيان لا يعي ولا يدري ما يصنع لفرط اضطرابه، ولبث واقفًا وهم يتوغلون في الغابة حتى تواروا عن الأنظار.

فثاب من دهشته وتمثل له ضحك الكونتس ونظرات الفارسين كسهام من نار، فقال: إني لا أستطيع مبارزة امرأة، ولكن هذا الشفالييه سيرى مني ما يؤدبه خير تأديب.

وكانت الجماعة قد احتجبت عن نظره غير أنه كان لا يزال يرى نور المشعل، فدفع فرسه إلى جهة النور فرأى ابنة عمه تسير إلى جانب الشفالييه.

وكان بنوات الأحدب يثب وراء فرس لوسيان ويحاول أن يخفف وطأة هياجه، ولكن الغضب كان متمكنًا من نفس الكونت فلم يحفل بكلامه، إلى أن قال الأحدب بلهجة المتوسل: بالله قف يا سيدي واسمع ما أقول.

أوقف الكونت فرسه وقال: ماذا تريد؟

– أريد أن أسألك إذا كنت تنوي اللحاق بهم.

– دون شك.

– أشير عليك يا سيدي ألا تفعل.

– لماذا؟

– لأنك في أشد حالات الهياج، فقد يدفعك الغضب إلى فعل ما لا تود أن تفعله، وعندي أنه خير لك أن تسير في هذا الطريق الذي يؤدي توًّا إلى قصرك بدلًا من التعريج بسولي، فإن جوادك يعرج وطريق سولي شاقة السير.

– أتصحبني إلى القصر؟

– نعم يا سيدي، وهي فرصة أغتنمها لمحادثتك.

فأطرق الكونت هنيهة مفكرًا، ثم قال: هلم بنا وسر بجانبي.

فمشى الأحدب بجانبه وقال له: لقد كان هذا اليوم يوم شقاء يا سيدي الكونت، ولو اتبعت نصيحتي منذ البدء لما أصابك شيء من هذا، وأصغ إليَّ يا سيدي، فإني لا أعرف البارون دي بوليو فلا أقول عنه خيرًا ولا شرًّا، ولكني أعرف الشفالييه حق العرفان.

– وما رأيك فيه؟

– إنه من رجال الشر والمكر.

– أتظن ذلك؟

– بل أؤكده لك يا سيدي، وأزيدك أنه مفتون بالكونتس أورور، وهو الذي قال لها كل شيء.

– ماذا قال؟

– أخبرها أنك تختلف دائمًا إلى محل الحداد، وأنك عاشق لقريبته.

فعاود لوسيان الغضب عند سماع اسم داغوبير وقال: أما هذا فسأعاقبه شر عقاب.

– إنك مخطئ يا سيدي كل الخطأ إذا انتقمت منه.

– كيف أكون مخطئًا بعدما رأيت ما بدر منه؟

– لأن داغوبير قد فعل ما يجب عليه، فإن الشرف يا سيدي لا ينحصر بأهل الجاه والمال والنبل، وقد أردت إغواء قريبته فلم يطق الصبر على هذا العار.

فاهتز لوسيان فوق فرسه واضطرب حتى أوشك أن يسقط، ثم قال له: أتظن يا بنوات أني أريد إغواءها؟

– إن الظواهر يا سيدي تدل على صدق هذا الظن.

– ولكنك مخطئ، فإني أحب حنة.

– أرأيت كيف أني صادق بظنوني؟

– هو ذاك، ولكني إذا كنت من رجال الأنساب فلا أتقيد بها، وقد أحببت تلك الفتاة ورأيتها من أهل الطهر والفضيلة والعفاف فلم أكترث لما يحول بيني وبينها من تباين المقام، وأردت أن أتخذها امرأة لي.

فصاح الأحدب صيحة دهش وقال: أحقًّا ما تقول؟

– كل الحق، وقد جاهرت بنيتي لداغوبير فكان جزائي منه ما رأيت.

– أأنت واثق يا سيدي أنه سمع اقتراحك؟

– كل الثقة.

– أفهِم مرادك؟

– دون شك، فإني كلمته بأتم التصريح والجلاء.

– إنه أمر عجيب يحار فيه عقلي.

ثم أطرق هنيهة وقال: إذا كان الأمر قد اتفق كما رويته يا سيدي، فلا شك أن داغوبير قد ارتكب خطأ عظيمًا، ولكني أعرف داغوبير حق العرفان وألتمس منك يا سيدي أن تعدني وعدًا.

– ما هو؟

– هو ألا تشكو داغوبير ولا تنتقم منه قبل أن تراني.

– ماذا تريد أن تصنع؟

– أريد أن أراه.

– وبعد ذلك؟

– أقف على حقيقة أفكاره وأعود إليك صباح غد إلى قصرك، فأخبرك بما يكون، على أن تفي بوعدك ولا تعاقبه بشيء قبل أن أعود.

– سأفي، فمتى تذهب إليه؟

– الآن.

– إذن إلى اللقاء غدًا.

فغادره الأحدب عند ذلك عائدًا إلى داغوبير، وبقي الكونت وحده في الغابة.

٧

وكانت النجوم تسطع في السماء ولكنها لا تكشف اربداد الظلام، وقد ساد السكون في تلك الغابة المتسعة فسادت السويداء على الكونت، وتلاها حزن عميق أسال الدمع من عينيه، فإن أصوات ضحك ابنة عمه والفارسين كانت لا تزال تدوي في أذنه.

ثم جعل يفتكر بحنة فيتمثل له كيف أنها أقفلت النافذة بعنف حين جسر على المجاهرة لها بهواه، وجعل يسير الهويناء وهو يقول في نفسه: لا شك أن هذا اليوم من شر أيام الشقاء، فإنه اختصم مع ابنة عمه، بل أصبح هزءًا في عينيها؛ إذ رأت ذاك الحدَّاد يطرده أقبح طرد.

وهنا عاودته عاطفة الانتقام ولكنه جعل يسأل نفسه فيقول: تُرى ممن أنتقم؟ أمن ابنة عمي أورور؟ ولكنها مصيبة في هزئها بي، ألست خطيبها منذ شببت عن الطوق؟ ألم أكن خائنًا نذلًا في عينيها؟ فكيف لا يحق لها أن تهزأ بي؟ أم تُراني أنتقم من داغوبير؟ وأي طيش أعظم من هذا الطيش؟! وإذا أسأت إليه بالانتقام فكيف أتقرَّب من قريبته وقد أقمت بيني وبينها مثل هذا السد؟ بقي هذا الشفالييه الذي قال لي عنه بنوات إنه من أهل الشر والدسائس، وهو مصيب فيما قال، ولا شك أن هذا الرجل حمل ابنة عمي على التجسس عليَّ؛ فهو خائن نمَّام وسيلقى ما يستحقه من العقاب، إني سأذهب إليه غدًا وأسأله الإيضاح والترضية، فإذا أباها عليَّ صفعته وأدركت من مبارزته والانتقام منه ما أريد.

وكان لوسيان يبحث عمن ينتقم منه شفاء لغله، فلما استقر على هذا الخاطر سكن ثائر غضبه وخف جأش هياجه.

ثم ذكر ما لقيه من انذهال الأحدب حين أخبره عن صدق نيته في عزمه على الاقتران بحنة، فعلل انذهاله تعليلًا معقولًا، وهو أنه في ذاك العهد كان التباين عظيمًا بين الأشراف وبين الطبقة العامة، فلا يخطر لأحد في بال أن يتدانى النبلاء إلى الاتصال بالعوام بصلة القِران، ولا يجول في بال أحد أن كونتًا عظيمًا يتزوج فتاة قروية؛ ولذلك خفَّ ما عنده وقال في نفسه، إن داغوبير معذور، فلا شك أنه حسبني هازئًا به وأني أحتال عليه بمثل هذه الوعود؛ تذرعًا إلى إغواء الصبيَّة، ولكن الأحدب سيزيل هذا الشك من نفسه ويقوم بالمهمة التي انتدبته بها خير قيام.

وكان لوسيان في مقتبل الشباب، وهو جميل غني، فلم يخشَ ألا يروق في عيني حنة، وكان يعلم أن أمه تكاد تعبده، فلم يَخَفْ أن تحول دون هذا الزواج، وماذا بقي إذا كانت له حنة؟!

وعند ذاك شعر فجأة أنه بات يكره ابنة عمه كرهًا شديدًا، ولم يَعُد يبالي بما كان منها وما سيكون، وأما الشفالييه فإنه سيدعوه إلى المبارزة وينتقم منه لهزئه به شر انتقام.

وكان لوسيان يحدِّث نفسه بهذه الأحاديث، والجواد يسير به حيث يشاء، فاجتاز به مسافة بعيدة وهو لا يشعر، حتى بات على مسافة نصف مرحلة من قصره، ووصل إلى مكانٍ من الغابة تشعَّبت فيه الطرق، فانتبه عند ذلك من سبات تصوراته ونظر إلى ما حواليه، فرأى على اشتداد الظلام شبحًا أسودَ اعترضه فعلم أنه فارس.

وعند ذاك أوقف جواده، فوضع يده على غدارته وقال: مَن القادم؟

فأجابه الشبح بصوت الهازئ: لا تَخَف يا سيدي الكونت، فما أنا من اللصوص. فظهرت على وجه الكونت علائم السرور الوحشي؛ إذ علم أن صاحب الصوت كان الشفالييه صاحب النميمة، فدنا منه بجواده وقال له بصوت يضطرب من الغضب: أهذا أنت يا سيدي الشفالييه؟

– نعم يا حضرة الكونت.

– كيف غيَّرت طريقك؟ فقد رأيتك سائرًا في طريق سولي.

– ذاك لأني كنت أرجو أن أراك.

– ماذا تريد مني؟

– أريد أن أعطيك رسالة عُهد إليَّ بإيصالها إليك.

– ممن الرسالة؟

– يجب أن تعلم أنها من سيدتي الكونتس.

فقال له لوسيان بلهجةٍ شفَّت عن الاحتقار، هاتها فسأقرؤها عندما أصل إلى النور.

– لا حاجة إلى الانتظار يا سيدي الكونت؛ إذ لديَّ مشعل، فإذا شئتَ أنرته فقرأت الرسالة على نوره.

– لا أجد فائدة في قراءة الرسائل الآن، لا سيما وأني في حاجة إلى محادثتك.

– محادثتي أنا؟

– نعم يا حضرة الشفالييه، فإني أود مباحثتك في أمور خطيرة.

– ما عسى أن تكون هذه الأمور الخطيرة؟

– هي يا شفالييه أنك رجل سافل.

وكانت الإهانة عظيمة، غير أن الشفالييه تجلَّد وتظاهر أنه لم يحفل بها فقال: ولماذا تدعوني بسافل؟

– بل إنك سافل وخائن معًا.

فاحتفظ الشفالييه بسكينته وقال له: إنك إذا كنت تريد أن تجعل هذه الشتائم مقدمة للقتال فلا فائدة منها.

– لماذا؟ ألعلك لا تبارزني؟

– ليس هذا الذي أعنيه، بل أريد أن أقول إنه لا فائدة من الشتم، فإذا كنت تريد قتالي تجدني غدًا رهن أمرك.

– بل اليوم.

– إنك تمزح يا سيدي الكونت.

– كلا، بل أريد أن يكون قتالنا في هذه الساعة، ولا إخالك تمتنع إلا إذا سرى الخوف إلى قلبك.

– إنك تعلم يا كونت أني لا أخاف، ولكن أنقتتل هنا في ظلام الليل من غير شهود؟

– نعم.

– ولكن ليس لدينا سيوف.

– إن في خنجر الصيد غنًى عن الحسام.

– يظهر أنك لا تريد مبارزة بل مجزرة.

– أريد قتالًا لا يفصل فيه بيننا غير الموت.

– ليكن ما تريد أيها الكونت العزيز، ولكن بقي هناك أمر أراك لم تفطن إليه.

– ما هو؟

– هو أن من يقتل رفيقه منا يُحسب في عُرْف الشرع والناس سفَّاكًا مغتالًا لا قاتلًا في بِراز.

قال: أتظن ذلك؟

– دون شك، فقد عرف مَن رأى ما كان منَّا في الغابة أن كلانا يكره الآخر، وهذا القتل في الغابة دون شهود يوسِّع مجال الظنون ويُحمل على محامل الاغتيال.

– إنك تعترف إذن بأنه يجب أن أكرهك؟

– وإني لست مخطئًا في حملك على هذا الكره، فقد رأيتك في حالة تدعو إلى الهزء فما تمالكت عن الضحك.

– وأنا رأيت هذا الهزء لا يُغسل إلا بدمك.

– ليكن ما تريد، ولكنك إذا قتلتني الآن فليس ما يمنع ابنة عمك عن القول إنك قتلتني انتقامًا لكتاب قطع علاقتها معك، وإنك قتلتني لأني كنت أنا حامل هذا الكتاب، وأما إذا قتلتك أنا فإن الأقوال تختلف.

– ماذا يقولون؟

– يقولون إني عاشق الكونتس، وإني قتلتك للتخلص من مزاحمتك.

فرأى لوسيان أن براهينه جلية لا تُدحَض، فاقتنع بها وقال له: إذن إلى الغد، فأحضر شهودك وأنا أحضر شهودي.

قال: وأين تريد أن يكون القتال؟

– هنا حيث نحن الآن.

– ليكن ما تريد، ولكنك تعلم أني لا أبيت في هذا المكان لأنتظر الغد، فلنَعُد معًا إلى المنزل.

فأجابه الكونت بجفاء: إن الطرق لجميع الناس.

فلم يجبه الشفالييه وسار بجواده الهويناء وتبعه الكونت، فكانا يسيران في طريق واحد.

ولنَعُد الآن إلى الأحدب، فإنه حين غادر لوسيان ذهب توًّا إلى داغوبير فلقيه يشتغل في دكانه فدخل إليه.

أما داغوبير فإنه حين رآه قطَّب حاجبيه وقال له: ماذا أتيت تعمل أيها الشقي؟

فقال له الأحدب: لماذا تشتمني يا داغوبير وأنا لم أسئ إليك؟

– هو ذاك، ولكنك كنت مع هذا الكونت الذي عاملته بما يستحقه من الطرد.

– إنك أخطأت يا داغوبير؛ فإن الرجل طاهر القلب شريف النفس لا يحتقر العامة خلافًا لجميع النبلاء.

– لا أنكر ما تقول.

– وهو يحب حنة.

فاتقدت عينا داغوبير ببارق من الغضب وقال: اسكت.

– لماذا تريد أن أسكت؟ إنه يحبها حبًّا طاهرًا نقيًّا، وهو يريد زواجها لا إغواءها كما توهَّمت.

وكان الأحدب يتوقع أن يرى من داغوبير ما يدل على الانذهال أو الشك، ولكنه لم يُظهر شيئًا من ذلك، بل جعل يطرق الحديد بمطرقته دون أن يجيب.

فقال له الأحدب وقد راعه سكوته: لقد قلت لك يا داغوبير إنه يريد أن يتزوجها.

قال: أعلم ولكني لا أريد.

– أنت لا تريد أن يتزوج الكونت دي مازير حنة؟

– نعم.

– ولكن هذا جنون محض.

فألقى داغوبير مطرقته ودنا من الأحدب، فوضع يده الضخمة فوق كتفه وقال: إن الكونت لوسيان لا يكون زوجًا لحنة ما دمت في قيد الحياة.

– ولكن لماذا؟

– لأني لست وحدي الذي يأبى هذا الزواج، بل إن الذي يأباه رجل عظيم أثق به كما أثق بالله.

– مَن هو هذا العظيم؟

– هو الأب جيروم.

فبُهت الأحدب وأطرق يفكر، فقال له داغوبير: لا ريب عندي أن الكونت قد أرسلك إليَّ.

– هو ما تقول، فلا أنكر عليك.

– إنك الآن عرفت جوابي الأخير فاحمله إليه كما تلقيته.

فخرج الأحدب من الدكان فقال في نفسه، إن الكونت لا يزال في الغابة ولا بد لي من إدراكه قبل أن يصل إلى المنزل. ثم دخل إلى الغابة وأطلق ساقيه للريح في الطريق التي سار فيها لوسيان.

٨

بينما كان الكونت والشفالييه يسيران في الغابة أحدهما في أثر الآخر دون أن يتحادثا سمع لوسيان صوت ركض من ورائه.

وكان القمر قد بزغ في تلك الساعة يخترق الغيوم ويتهادى متألقًا في السماء بين النجوم، فالتفت لوسيان فرأى أن هذا الراكض كان بنوات الأحدب، فخفق قلبه وأوقف جواده في الحال.

والتفت الشفالييه أيضًا ولكنه لم يستطع أن يسأل الكونت عن السبب الذي حمله على الوقوف.

غير أنه تباطأ في السير وجعل يلتفت إلى الوراء من حين إلى حين وقد عرف بنوات وأنه رسول لوسيان.

أما الأحدب فإنه وصل إلى لوسيان، فقال له وهو يلهث تعبًا: إني كنت موقنًا من إدراكك في الغابة ولهذا عُدت إليك.

– ولماذا عُدت إليَّ؟ ألم نتفق على أن تزورني غدًا؟

– هو ذاك، ولكني رأيت داغوبير.

فلم يجبه لوسيان بشيء وصبر وهو يضطرب إلى أن يخبره الأحدب بما جرى، فبدأ الأحدب الحديث فقال: لقد رأيت يا سيدي أن داغوبير يفتكر كما كنت أفتكر.

– ماذا يفتكر؟

– أن زواجك بمدموازيل حنة محال.

– تريد أنه يرفض هذا الزواج؟

فأحنى بنوات رأسه إشارة إلى الإيجاب.

فارتعد لوسيان وقال: أي عذر تجاسر على انتحاله هذا الرجل؟

– عذره أن أمر تزويج الفتاة غير منوط به.

– بمن؟

– بالأب جيروم.

– رئيس الدير؟

– هو بعينه.

فعاد الرجاء إلى قلب لوسيان وقال: إذا كان ما يقوله حقًّا فإن الأمر سهل ميسور، نعم إني لا أعرف هذا الراهب، ولكن يُقال إن أصله من النبلاء وإنه دخل إلى الدير بسبب حادث غرام، فسأذهب إليه وأخبره بغرامي ورجائي أن يثق من سلامة قصدي ولا يعترض سبيلي.

فهز الأحدب رأسه وقال: لا تتوسع في مجال الأمل يا سيدي الكونت.

قال: ولماذا؟ أتظن أن الراهب يرفض طلبي؟

قال: لا أعلم ما يكون بعد اجتماعك به، ولكن الذي أعلمه أنه هو الذي يرفض الآن.

قال: كيف عرفت ذلك؟

– من داغوبير، وهو لا يكذب.

فاصفر وجه الكونت وقال: ولكن ماذا يحمله على هذا الرفض؟

– لا أعلم يا سيدي، ولكن الذي رأيته من غضب داغوبير على اشتهاره بالسكينة أنهم قد حدثوه عنك … وأنهم أصدروا إليه الأوامر بشأنك.

– مَن الذي يصدر الأوامر إلى داغوبير؟

– الأب جيروم، فإنك تذكر يا سيدي أنه حين وصلنا إلى دكان داغوبير كان لا يزال في الدير.

– هو ذاك.

– إنه كان مختليًا مع الأب جيروم، فلما خرج من الدير لم يكن على ما عهدته به من الدعة والسلامة، بل إني رأيت الشر باديًا بين عينيه.

فلم يدعه الكونت يتم حديثه، وقال له: أصغِ إليَّ يا بنوات، أتريد أن أرسلك بمهمة إلى الأب جيروم؟

– بملء الرضا يا سيدي.

– إنك تذهب إليه في هذه الليلة نفسها، وترجوه عني أن يأذن بمقابلتي صباح غد بعد الصلاة.

– سأذهب يا سيدي، ولكن …

– ولكن ماذا؟

– يجب أن تعطيني كتابًا إليه؛ فإن الفقراء أمثالنا لا يأذنون لهم بدخول الدير، فإن الرهبان يعاملوننا بنفس العنف الذي يعاملنا به النبلاء.

فاغتم لوسيان لهذا الطلب؛ إذ لم يكن لديه في تلك الغابة شيء من أدوات الكتابة.

فقال له الأحدب: وفوق ذلك يا سيدي، فإنه لا يستطيع أحد دخول الدير بعد أن تمضي الساعة التاسعة.

فنظر لوسيان في الساعة فوجد أنها لم تتجاوز الثامنة، ورأى أنه لم يبقَ له غير واحد من أمرين؛ وهما: إما أن يرجع عن إرسال الرسالة في هذه الليلة، أو أنه يجب إرسالها في الحال لضيق الوقت، وإذا ذهب إلى المنزل وكتب الرسالة فيه فات الأوان.

على أن الانفعالات النفسية مهما اختلفت واشتدت فلا تعادل في شدتها تأثير الغرام، فإن هذا الكونت كان يحاول منذ نصف ساعة قتل الشفالييه، أما الآن فقد تذكَّر أن هذا الشفالييه الذي سيقاتله غدًا لديه قلم من الرصاص ودفتر في جيبه ومشعل، فندم لاختصامه معه.

غير أن الندم على الخطأ أوجد فيه الرغبة في الإصلاح وقد تمثلت حنة في خاطره، فهان عليه أن يكلم الشفالييه ويسأله قضاء مهمة كما يسأل الصديق الصديق.

وعند ذلك لكز جواده فسار به والأحدب يتبعه، حتى وصل إلى الشفالييه فقال له: إننا سنقتتل غدًا أليس كذلك؟

– هذا ما أردته أنت ولا سبيل إلى مراجعتك.

– هو ذاك، ولكنك من أهل الظرف والأدب فلا أجد ما يمنعني عن أن أسألك قضاء مهمة.

– قل ما تريد.

– أريد قلمك الرصاص وورقة من دفترك.

– هما لك، وأزيدك أني أنير لك المشعل فإنك تريد الكتابة دون شك.

– لا حاجة إلى المشعل فإن نور القمر يغنيني عنه.

– كما تريد. ثم أعطاه الدفتر والقلم فأخذهما لوسيان وكتب الرسالة الآتية:

إن الكونت لوسيان دي مازير المقيم في قصر دي بوربيير يرغب في مقابلة «نيافة الأب جيروم رئيس الدير» في أقرب فرصة ممكنة لمباحثته في شأن خطير.

وهو يلتمس من نيافة الأب جيروم أن يتفضل ويسمح بمقابلته له صباح غد بعد انتهاء الصلاة.

لوسيان دي مازير

ثم انتزع الورقة من الدفتر ودفعها إلى الأحدب وقال له: اذهب بهذه الرسالة إلى حيث قلت لك، وعُد إليَّ غدًا بالجواب.

فأخذها الأحدب وانطلق يعدو بين أشجار الغابة.

أما لوسيان فإنه رد الدفتر والقلم، وقال للشفالييه: أشكرك يا سيدي كل الشكر. ثم مشى إلى جانبه وهما ساكتان مطرقان لا يتكلمان.

ومر بهما عدة دقائق وهما ساكتان إلى أن بدأ الشفالييه الحديث فقال: لقد تشرفت الآن فخدمتك خدمة رأيت أنها جليلة، فهل تريد أن أرشدك إلى طريقة تكافئني بها عن هذه الخدمة؟

– أكون لك من الشاكرين، ولكن بشرط ألا تدعوني إلى مصافحتك.

– دون شك، فإن قتالنا غدًا لا بد منه في كل حال.

– إذن تكلم.

– لا شيء يروعني يا سيدي الكونت مثل السكون والوحدة، ولا يزال لدينا نحو نصف مرحلة للوصول إلى القصر، فإذا شئت خففنا مشقة هذا السير بالمحادثة.

– بأي أمر تريد أن نتحدث؟

– لا فرق عندي في ذلك، ولكن إن شئت تحدثنا عن الأب جيروم رئيس الدير.

فارتعش لوسيان ارتعاشًا لم يَخْفَ على الشفالييه، فقال في نفسه، أرى أنني قد ظفرت به.

٩

وعند ذلك بدأ الشفالييه الحديث فقال: إنك أيها الصديق دعوتني خائنًا سافلًا، فلم يبقَ سبيل لمنع قتالنا، غير أنه لما كانت العادة ألا يوضح المتبارزان شيئًا في ساعة المبارزة فقد أخبرك الآن بما مضى.

– إذن تكلم يا سيدي فإني مصغٍ إليك.

– إنك عاملتنا معاملة الرفيع للوضيع أنا وابنة عمك والبارون بسبب ذلك الفلاح، فكبرت عليَّ هذه المعاملة حتى حملني الغضب على القول إنك اقتبست حب الفلاحين من ترددك على الحدَّاد.

– أنت قلت هذا القول؟

– وهذا كل ما قلته، ولكن ابنة عمك تحب الاطلاع على كل أمر، فأرادت أن تعلم السبب في ترددك على داغوبير، فسألتني وسألت البارون، فقال لها البارون: إنك لا تذهب إلى دكان الحداد إلا بسبب قريبته الحسناء، وقد أشرت له بيدي وعيني إشارات مختلفة، ففهم إشاراتي ولكنه لم يمتنع عن التصريح، إما لحقده عليك وإما لكونه من أهل البلاهة.

فقال له لوسيان: وماذا أجابت ابنة عمي؟

– إنها أنكرت هذه الوشاية كل الإنكار وأقسمت أن ذلك لا يمكن أن يكون، وكنت أقول لها هذا القول، ولكن هذا البارون الأبله أبى إلا الإصرار على قوله حتى اتصل إلى مراهنة الكونتس على أنك مقيم الآن مع مدموازيل حنة، فاستاءت الكونتس ورضيت بالرهان، وطلبت إليَّ أن أصحبها مع البارون إلى دكان الحداد، فلم أجد بدًّا من الامتثال، وأنت تعرف بقية ما حدث.

– أحقًّا إن الأمر جرى كما رويته؟

– هو ما قلته لك يا سيدي الكونت فلست من الكاذبين.

– إذا كان الأمر كذلك فإني أعتذر عما بدر مني وأرجوك قبول عذري.

– إذا كان للحب شهداء فللصداقة شهداء أيضًا، ويسوءني أنك عاملتني تلك المعاملة الجافية، فقد كان بوسعي أن أسديك نصيحة.

فهاجت في صدر لوسيان عاطفة الكرم وقال له: إني قد اعتذرت إليك أيها الصديق عما بدر مني، والآن أمد يدي لمصافحتك إذا شئت.

– إني شديد الحرص على صداقتك لما أعلمه من سلامة قلبك، فكيف أرفض اقتراحك. ثم مد إليه يده فصافحه وقال له وهو يبتسم: إن خصامنا لم يشهده أحد فلا نحتاج بعد الصلح إلى إظهار ما دعانا إليه لأحد.

– لقد أصبت.

– إذن لقد عدنا إلى صداقتنا القديمة.

– دون شك.

– إذن نتكلم بما تقتضيه الصداقة من الجلاء والإخلاص، فهل أنت حقيقة تعشق هذه الفتاة؟

– أنا مفتون بها.

– ولكن ألا تعلم أيها الصديق أن هذا الحب يحول دون زواجك بالكونتس؟ ونعم إنها كتبت إليك كتابًا دفعتها إليه الحدة، ولكن غضب النساء سريع الزوال.

– سيان عندي الآن غضبها ورضاها، فإني لا أحبها ولن أحبها ولا أكون لها زوجًا.

– ما هذه الأقوال يا كونت؟ أبلغ حبك لتلك الفتاة هذا المبلغ فأضاع رشادك؟

– إذا كان في هذا الحب ضياع الرشاد، فأنا ضائع الرشد لأني سأتزوجها.

– لا شك أنك مجنون.

– بل إني عاقل لا أتقيد بالتقاليد، وغاية أمري أني أريد أن أكون سعيدًا.

– أنت الكونت دي مازير أقدم رجال النسب تتزوج قروية خاملة.

– إن عرش الغرام لا يرقى إليه على سلم الأنساب، وكفى بصدق الغرام نسبًا.

– شأنك وما تريد، فأنت ولي نفسك، غير أنه يجدر بك أن تنوي هذه النية من قبل.

– لماذا؟

فابتسم الشفالييه وقال: لأنك كنت نجوت من ذاك الماء الذي تدفق عليك من النافذة.

– لقد أخطأت أيها الصديق، فإني لم أجازى هذا الجزاء إلا حين جاهرت بهذه النية.

فدهش الشفالييه وقال: ماذا أسمع؟ لا شك أني من الحالمين.

– بل هي الحقيقة أرويها لك أيها الصديق كما اتفقت.

– إذا كنت صرحت لهذا الحداد بنيتك وعزمك على الزواج بقريبته، فأي عذر انتحله للرفض؟

– يقول إن زواج الفتاة غير منوط به، بل بالأب جيروم.

– إن كان كذلك فقد فهمت كل شيء.

– قل ماذا فهمت؟

– فهمت أن هذا الراهب سيصر على رفض هذا الزواج أكثر من إصرار داغوبير.

فبهت لوسيان وقال: لماذا؟

وكان الشفالييه كثير المكر شديد التفنن باختراع الحيل وتلفيق الأحاديث، فأطرق هنيهة ثم قال له: ألم تجد أن هذه الفتاة الحسناء التي تحسبها قروية مترفة الكف ناعمة البنان صغيرة القدمين.

– ماذا تريد بهذا؟

– أريد أن هذه النعومة لا توجد عادة في النساء القرويات؛ ولذلك فقد تبادر إلى ذهني أن هذه الفتاة قد تكون من أسرة نبيلة.

فصاح لوسيان صيحة فرح وقال: حبذا لو صح ما تقول، فلا أجد بينكم معارضًا لي في زواجها.

– ولكني أرى أن الرهبان قد استولوا على ثروتها.

فتحمس لوسيان وقال: إذا ثبت ذلك بسطت حمايتي عليها وطالبت الدير بثروتها.

– ولكنك لا تستطيع ذلك إلا إذا كنت زوجها.

– وما يمنعني أن أكون زوجًا لها؟

– الأب جيروم، فإنه يؤثر أن يزوجها فلاحًا لا يجسر على المطالبة بحقها فتبقى الثروة لأولئك الرهبان.

– ولكني أحب حنة ولا أجد بدًّا من الاقتران بها.

– إن هذا محال إذا نهجت النهج الذي رسمته لنفسك.

– إذن ماذا يجب أن أصنع؟

– دعني أسألك في البدء ماذا كتبت للأب جيروم؟

– سألته أن يأذن لي بمقابلته.

– إنه سيرفض طلبك.

– أتظنه يفعل؟

– بل أؤكد، فاصبر إلى الغد، فإذا كان جوابه الرفض كما أتوقع، فأنا أرشدك إلى طريقة تسهل لك سبيل الزواج بمن تحب.

فمد لوسيان يده إلى هذا الصديق الكاذب وشكره شكر الممتن لفضله.

فقال الشفالييه وقد تكلف لهجة الإخلاص: كفى أيها الصديق، فقد وصلنا إلى القصر.

وكان دليل الصيد قد تقدمهم إلى المنزل، فروى جميع ما حدث في الغابة وما كان من اختصام لوسيان مع ابنة عمه، وتنوقلت هذه الحادثة بين أهل القصر حتى بلغ خبرها إلى أم لوسيان، غير أن الكونتس لم تحفل بهذا الخصام لاعتقادها أنه حادثة عارضة وأن الصلح بين الخطيبين سهل ميسور.

فلما دخل لوسيان والشفالييه استقبلتهما الكونتس حسب العادة، فأقام لوسيان بينهما مدة وجيزة بعد العشاء ثم اعتذر ودخل مضجعه، وهو يود لو محق الليل وأشرق الصباح فيعلم ما يكون من جواب رئيس الدير.

ولم يكد يشرق الصباح حتى هب لوسيان من رقاده وأقام ينتظر الأحدب بفارغ الصبر، فلم يطل انتظاره حتى أقبل الأحدب يحمل رسالة من الأب جيروم، فأخذها لوسيان بيد تضطرب وقرأ ما يأتي:

سيدي الكونت

إني مريض لا تسمح لي العلة بمقابلة أحد، وفوق ذلك فليس بيني وبينك من المهام ما يدعو إلى المقابلات الخاصة، إلا إذا كنت تريد مقابلتي في شأن يتعلق بصالح الدير، فإذا كان ذاك فأرجو أن تقابل وكيلي فإنه ينوب عني في قضاء هذه المهام.

الأب جيروم

فحمل لوسيان الكتاب وذهب به إلى الشفالييه وهو يزبد من الغضب، فدفعه إليه وقال: لقد كنت مصيبًا في ما توقعته.

فقرأ الشفالييه الكتاب ثم رده إليه وقال له: أتريد الآن أن أرشدك إلى الطريقة التي وعدتك بها.

– بلا ريب، ولأجل هذا أتيتك.

– ألا تزال عازمًا على الاقتران بحنة؟

– كل العزم، فلا يحول دون هذا القصد حائل.

– إذن فاعلم أن طريقتي بسيطة جدًّا.

– ما هي؟

– هي أن تختطفها.

ففكر لوسيان وقال: ولكن الأب جيروم حريص عليها.

– نغتنم فرصة انشغاله مع الرهبان بصلاة الصبح.

– وداغوبير؟

– أنا أتعهد به.

– كيف؟

– إني أزيله عن طريقك.

– أترتكب جناية؟

– كلا، ولكني أستطيع إبعاده عنك ثمانية أيام، وفي خلال هذا الأسبوع تتمكن من الذهاب بالفتاة إلى باريس، وهناك يعقد زفافكما أول كاهن تراه.

ثم ضَحِك ضِحْكَ الفوز والانتصار، وقد أيقن أن الكونت لوسيان بات في قبضة يده يتصرف به كيف شاء.

١٠

ولنعد الآن إلى مدموازيل أورور التي تركناها سائرة في طريق سولي يصحبها الشفالييه والبارون، فإنها كانت تسير دون أن تفوه بكلمة، وقد احترم الفارسان سكوتها فلم يكلماها.

ولما وصلت إلى سولي، التفتت إلى الشفالييه وقالت له: إني أريد أن أعهد إليك بإيصال رسالة إلى ابن عمي الكونت لوسيان دي مازير.

فانتزع الشفالييه ورقة من دفتره ودفعها إلى الكونتس، فكتبت إلى ابن عمها كتابًا مؤلمًا فقطعت به معه كل علاقة واتصال، فأخذه الشفالييه وسار إلى لوسيان كما تقدم.

أما أورور فإنها سارت مع البارون عائدة إلى منزلها، فكانت ساكنة وعلائم الغضب بادية بين عينيها، ولكنها مع ذلك تصغي إلى حديث البارون، فإنه كان يحدثها بحكاية ربيبة الدير تلك القروية التي فتن بها لوسيان وآثرها عليها.

على أن البارون لم يكن يروي لها حكاية حنة الحقيقية، بل كان يقص عليها من أمرها ما كان يتناقله الناس والإشاعات المختلفة فيها، حتى كان من جملة ما رواه عن هذه الفتاة أنها ابنة رئيس الدير الشرقي، وُلدت سفاحًا وعُهد إلى الأب جيروم بتربيتها.

فكانت أورور تسمع أحاديثه دون أن تجيب، وكان البارون صابرًا على جفائها.

ولكن الأمل كان ملء فؤاده، فكان يقول في نفسه إنه سيصحبها إلى منزلها وستدعوه إلى مناولة العشاء معها دون شك، فيغتنم هذه الفرصة للفوز باسترضائها على مزاحمة الشفالييه.

على أن رجاءه قد خاب، فإنهما حين اجتازا الغابة ودَنَوَا من المنزل، وصلا إلى عطفتين إحداهما تؤدي إلى منزل الكونتس.

أوقفت جيادها ومدت يدها للبارون فصافحته وقالت له: إني أشكرك شكرًا جزيلًا يا سيدي البارون، وها قد بلغت إلى منزلي فلا حاجة إلى إزعاجك بإيصالي إليه.

فاستاء البارون استياء شديدًا وحاول أن يلح عليها بإيصالها إلى المنزل، غير أنها لم تدع له وقتًا للكلام فإنها ودعته وأطلقت لجوادها العنان.

وقد جرت شوطًا بعيدًا وهذا البارون واقف في مكانه وهو حائر مبهوت.

أما أورور فإن العواصف كانت هائجة في صدرها، وقد كبر عليها أنها لم تعد تستطيع أن تستعيد بجمالها لوسيان، فباتت تعده من أسفل الرجال لا سيما بعد أن تحول عنها لافتتانه بفتاة قروية لا نسب لها يعرف وقد ربيت في دكان حداد بين عصبة رهبان.

غير أن أورور على كبريائها كانت عادلة، فإنها رأت حنة على نور المصباح المضيء في دكان داغوبير فاعترفت بأنها من أجمل الفتيات، وقد رسمت الغيرة وجهها في مخيلتها حتى كانت تراها كلما فكرت بها كأنها أمامها، إلى أن وقف جوادها عند باب المنزل فأسرع الخدم إليها، وفتحت عند ذلك نافذة وظهر منها رأس شيخ.

وكان هذا الشيخ والد أورور، فقال لها: كيف عدت يا أورور؟ ألا تتعشين في بوبيير؟

فأجابته بجفاء: كلا.

– لماذا؟

فلم تجبه بشيء، ولكنها ألقت عنان جوادها لأحد الخدم وصعدت إلى المنزل.

وكان أبوها مصابًا بداء النقرس وقد اشتد عليه الداء في ذلك اليوم حتى ضيق أخلاقه.

فلما صعدت ابنته إليه استقبلها بجفاء وقال لها: أنت تعلمين أني أؤثر العزلة حين تشتد عليَّ أعراض هذا الداء، فلماذا عدت بعد عزمك على العشاء في بوربيير؟

– إني لم أعد يا أبي إلا لاشتداد هذه الأعراض عليك.

فابتسم أبوها ابتسام المشكك وقال: إنك ما عودتني يا أورور مثل هذا البر بي فقولي الحقيقة، فلا بد أن يكون هناك سبب دعاك إلى الحضور قبل العشاء.

– لقد أصبت يا أبي.

– إذن أخبريني بما جرى.

– إني اختصمت مع لوسيان.

– إنه خصام غرام.

فاتقدت عينا الفتاة ببارق من الحقد، وجلست أمام أبيها فقالت له: لعلك متمسك يا أبي بتزويجي من لوسيان؟

– دون شك يا ابنتي، فلم يبقَ من أسرتنا إلا أنت وهو، ويجب أن نحصر ثروتنا بينكما.

– ولكن هذا محال يا أبي، فإني لا أريد الزواج بلوسيان.

– إنك ورثت يا ابنتي من أمك بعض تسرعها، فإني حين كنت خطيبها وهي من نساء الشرف في بلاط بافاريا، كانت تقول مثل قولك إذا استاءت مني أقل إساءة.

أجابت: إني غير متسرعة كما تقول، فاعلم يا أبي أن لوسيان لن يكون زوجي، وإني أؤثر أن أكون عروسة الموت على أن أكون عروسة له.

فأكبر أبوها الأمر وقال لها: أجدٌّ ما تقولين؟

– كل الجد، فإني أكره لوسيان وأحتقره.

– ولكن ماذا حدث؟ وماذا بدر منه؟

– إنه لا يحبني.

– أواثقة أنت مما تقولين؟

– نعم، وقد وثقت بأنه يحب سواي.

– إذا كان ذلك فإنه ذنب لا يغتفر.

– هو أذنب هذا الذنب.

– إن هذا محال، فإني أعرف ما ينطوي عليه صدر لوسيان.

– ولكني لم أقل لك إلا الحقيقة.

فهز كتفيه وقال: إني أعرف جميع النبلاء في هذه الضواحي فلم أجد في قصورهم فتاة جديرة بمزاحمتك فيه.

أجابت: إنه لم يعشق من في القصور، بل عشق فتاة قروية تقيم في دكان حداد.

وقد قالت هذا القول بصوت يتهدج من الغضب.

أما أبوها فإنه ضحك ضحكًا عاليًا وقال: أمن أجل هذا اختصمتما؟

فتأثرت الفتاة لضحكه وقالت: يظهر أنك لم تصدقني يا أبي.

وكان أبوها من مشاهير أهل الدعارة في عهد صباه، فقال لها: بل إني واثق من صدقك فيما تقولين، ولكن هذا يدل على أن لوسيان ابن أبيه؛ أي ابن أخي.

– إني لم أفهم ما تريد.

– أريد أن لوسيان يحبك حبًّا مقدسًا لا شك فيه، ولكنه أراد أن يتلهى بمغازلة تلك الفتاة إلى أن يتم قريبها صنع نعل فرسه.

ثم قهقه ضاحكًا وقال: لعل تلك الفتاة جميلة؟

فاصفر وجه أورور من الغضب، وبلغت منها الحدة أنها مزقت قفازها بأسنانها.

أما أبوها فإنه لم يكترث لغضبها وقال لها: وماذا عليك من مغازلته لتلك القروية؟ فإنه في مقتبل العمر ولا بد له من الاندفاع في تيار الشباب، حتى إذا تم عقد القران بينكما انصرف عن هذه السفاسف ومنح تلك الفتاة هبة تعينها على الزواج.

فأنفت أورور من سماع هذه الكلمات البذيئة المعاني، السافلة المبدأ، وخرجت من غرفة أبيها مغضبة، وظواهر الأنفة والاشمئزاز بادية بين عينيها، فدخلت إلى حجرتها وكتبت رسالة إلى والدة لوسيان وأرسلتها مع أحد الخدم، ثم تعشت وحدها.

ولم تكن أورور تحترم أباها فزادها كلامه الأخير احتقارًا له، وكانت تعلم أنه جرى شوطًا بعيدًا أيام صباه في ميادين الدعارة والفساد.

وكانت قد سمعت مرة من امرأة عمها كلامًا دعا إلى انقطاع الزيارات بينها وبين أبيها، فكانت تقول في نفسها: لا بد أن يكون أبي قد ارتكب ذنوبًا لا تزال تتمثل في ضميره إلى الآن.

ثم ذكرت ما بينها وبين أبيها من التباين في الأخلاق والمبادئ حتى أوشكت أن تنكر نفسها؛ إذ لم يخطر لها أن أباها يكلم ابنته بمثل ما كلمها به.

وهنا تاهت في مهامه التفكير وعادت بتصورها إلى عهد الحداثة، فذكرت أن أباها كان يقيم في البلاط الملوكي في ميونخ، وأنها رأت مرة رجلًا دخل إليه، فكلمه بلهجة تشف عن الغضب والاحتقار، وذكرت أن أباها كان يدعو هذا الرجل: «يا أبي»، ثم ذكرت أن هذا الرجل خرج من حجرة أبيها وهو يقول: إني أشكرك، ولم يعد بيننا أدنى اتصال.

وكانت في ذلك العهد صغيرة تلعب في القاعة، فلم يفطن لها المتحدثان وقد تجسمت الآن الذكرى في مخيلتها فقالت: لا بد أن يكون لأبي سر عظيم ولا بد أن يبوح لي بهذا السر.

وعند ذلك خرجت من حجرتها وعادت إلى حجرة أبيها، فقال لها بلهجة المتهكم: أراك عدت إليَّ، فهل سكن ثائر غضبك؟

فأجابته ببرود قائلة: إني قد بلغت الرشاد وبات يحق لي الوقوف على أسرارنا العائلية.

– أية أسرار يا ابنتي؟ وماذا تريدين أن تعرفي؟

– أريد أن أعرف السبب الذي دعا إلى هذا التقاطع بينك وبين امرأة عمي، فإن كلًّا منكما يحاذر أن يرى الآخر.

فاصفر عند ذلك وجه أبيها وجعل ينظر إليها نظرة الفاحص، فقاومت نظراته وقالت له بلهجة السيادة: إني أريد أن أعلم.

١١

وكانت تقول هذا القول وعلائم صدق العزيمة بادية بين عينيها، حتى إن أباها اصفر وجهه واضطرب وقطب حاجبيه.

ولكن اضطرابه لم يطل، فإنه عاد إلى سكينته وابتسم ابتسام الساخر، وقال لها: أتعلمين يا ابنتي، إنك تسألينني سؤالًا يصعب الجواب عليه.

– مهما يكن من أمرك معها، فلا يخلق كتمانه عن ابنتك.

– وماذا تظنين أن يكون بيني وبينها؟ فإن غاية ما بيننا فتور دعت إليه أخلاقها الغريبة، ثم إني أعلم أنها لا تحبني ولذلك ترينني منقطعًا عن زيارتها.

– إني قد أكتفي بهذا السبب الذي ذكرته لو كنت لا أزال في عهد الحداثة، ولكنه لا يجوز عليَّ الآن وقد بلغت سن الرشاد.

– إذن ماذا تريدين أن أقول لك؟

– الحقيقة.

– ليكن ما تريدين، فاعلمي إذن أن امرأة عمك لا تحبني ولا تحترمني.

– لماذا لا تحترمك؟

– لأني كنت سيئ السلوك في عهد صباي.

– أهذا هو كل السبب؟

– نعم.

– فهزت كتفيها وقالت: أرى يا أبي أني لم أفصح معك القول، فهل تريد أن أصرح؟

– دون شك.

– إنك ربيتني يا أبي وغرست في نفسي فكرة الزواج بلوسيان، وكذلك الكونتس امرأة عمي فقد عللت ابنها لوسيان بزواجي منذ الحداثة، ولكنك مع ذلك تحاول اجتناب الكونتس وهي تحاول اجتنابك.

– هو ذاك، فماذا تستنتجين من ذلك؟

– لم أستنتج شيئًا من ذلك بعد، ثم إن ما بينكما لا يدل على الفتور فقط بل على الكره الشديد فإنها قد تجاهر بكرهك، وأنت إذا ذُكر اسمها أمامك يصفر وجهك.

– إني لم أفهم قصدك بعد.

– أتريد أن تفهم كل ما يجول في خاطري؟

– إني مصغ إليك.

– أرى يا أبي أنه يوجد بينك وبين الكونتس دي مازير سر هائل … وربما كان بينكما أيضًا …

وهنا توقفت عن الكلام كأنها لم تجسر على إتمام الحديث، فقال لها أبوها: ماذا ترين بيننا أيضًا؟

– عفوك يا أبي، فإني مدينة لك بالاحترام وأخشى أن أتجاوز حده إذا قلت هذه الكلمة التي توقفت عن قولها، ولكنها تحرق شفتي.

– قوليها ولا بأس عليك.

– أخاف أن يكون بيننا ما هو فوق السر.

– لعلك تريدين القول إن بيننا جريمة؟

فأطرقت أورور برأسها ولم تجب.

وساد السكون هنيهة بينهما، إلى أن عاد أبوها إلى الحديث فقال: إني لا أستطيع يا ابنتي أن أقول لك شيئًا، فقد يكون سرًّا أو فوق السر كما تقولين، غير أني لا أستطيع أن أبوح لك بشيء إلا بعد زواجك.

– ولكني قلت لك إني لا أريد أن أتزوج لوسيان.

– ولكنك ستتزوجين سواه؛ إذ لا بد لك من الزواج، وعند ذلك أي حين تستبدلين اسم والدك باسم ذلك الزوج نعود إلى تتمة هذا الحديث.

فألحت عليه وقالت: ما يمنعك أن تقول اليوم ما تريد أن تقوله غدًا؟

– إن ألمي شديد يا أورور، فلا تلحي عليَّ أو حسبت إلحاحك عصيانًا لإرادتي.

ثم قرع جرسًا أمامه، فدخل خادم حجرته فقال له: أنر يا بنيامين طريق ابنتي وأوصلها إلى حجرتها وعد إليَّ، فإن أعراض الداء شديدة عليَّ الليلة.

وهكذا خرجت أورور من حجرة والدها مع ذلك الخادم الشيخ.

أما ذلك الخادم، فقد كان قديمًا في خدمة هذا البيت حتى إنه نشأ فيه وولدت أورور مدة خدمته.

فلما رآها تضطرب ورأى عينيها تتقدان، أدرك شيئًا من حقيقة ما جرى فأوصل الفتاة إلى حجرتها وهو ينظر إليها نظرات حزن لم تخف عن الصبية، فدخلت وهي متأثرة من والدها ومن نظرات ذلك الخادم تأثرًا شديدًا، وقالت في نفسها: إنه إذا كان هناك سر فلا شك أن بنيامين عارف بهذا السر.

وكان بنيامين هذا ألماني الأصل يُدعى فرينز، فلما رجع إلى فرنسا مع والد أورور سماه سيده بنيامين.

وكانت والدة أورور ألمانية أيضًا، فاتصل بنيامين بخدمتها قبل أن تلد أورور، وقد ماتت الأم وابنتها طفلة فلم تكد تذكرها.

ولكن جميع تذكارات الحداثة عادت إليها في هذه الليلة، فذكرت أن بنيامين كان يبكي بكاء شديدًا حين وفاة أمها، بل ذكرت أنها سمعت حديثًا جرى بين الخادم وبين والدها، فذكرت أن الخادم كان يقول له: كلا، لا أبرح هذا المنزل؛ لأنها قبل وفاتها أمرتني ألا أفارق ابنتها لحظة.

وهو حديث غريب بين خادم ومخدوم.

بل ذكرت أيضًا أن بنيامين كان يعبدها عبادة في زمن حداثتها، ثم أخذت ظواهر حنوه تتناقص تدريجيًّا حتى بات كأنه لا يكترث بها، فكيف حدث هذا الانقلاب؟

عزمت أورور في هذه الليلة أن تعلم كل ما أشكل عليها من هذه الحوادث، فلم تعد تفتكر بلوسيان بل كانت أفكارها منصرفة إلى أمها.

وأقامت في غرفتها وصبرت إلى أن سمعت صوت إقفال حجرة والدها، فخرجت من غرفتها ولقيت بنيامين خارجًا من عند والدها، ووضعت يدها على كتفه وقالت له: اتبعني.

وسارت به إلى حجرتها وأقفلت الباب.

وقد لبث بنيامين واقفًا في حضرتها تأدبًا فقالت له: اجلس يا بنيامين، فإني سأحدثك وإن حديثنا سيطول.

وامتثل الخادم وجلس قربها، فقالت له: إنك عرفت أمي يا بنيامين، أليس كذلك؟

فقال لها الخادم الشيخ: نعم يا سيدتي.

وقد اضطرب وسالت دمعة على خده.

وقالت له أورور: لماذا لم تحدثني عنها؟ ولماذا انقلبت هذا الانقلاب وبت تنهج معي مناهج الاحتراس والتحفظ بعدما عودتني الحب الأكيد في زمن الحداثة.

وأطرق الشيخ دون أن يجيب.

وسألت: وأخيرًا عما حدث بين أبي وامرأة عمي، وما يدعوهما إلى الكره؟

وارتعش الشيخ لقولها، وقال لها: لماذا تسألينني هذه الأسئلة يا سيدتي؟

أجابته بلهجة أثرت عليه تأثيرًا عظيمًا: ذلك لأني أريد أن أعرف كل شيء، ولماذا لم تذكر لي أمي مرة في جميع مدة اتصالك بنا؟ أجب إني أريد أن أعرف كل شيء.

واتقدت عيناه ببارقٍ دلَّ على تولد إرادة فجائية في نفسه وقال: اعلمي يا سيدتي أن أمك لم يكن لها غير صديق واحد حين فارقت هذه الحياة، وهذا الصديق كان أنا.

– ألم تعهد إليك بالعناية بي؟

– نعم.

– لعل أبي طردك بعد وفاتها من المنزل، أليس كذلك؟

فدهش وقال: كيف عرفت هذا؟

– إني سمعت الحديث حين كنت طفلة، ولا يزال عالقًا في ذهني إلى اليوم.

– إذن اعلمي أن أمك عهدت إليَّ بمهمة، وإذا كنت ترين أني لم أقم بقضائها، وإذا رأيت مني هذا التحفظ الشديد عقب ذلك الحب القديم، فذلك لأني لا أراك تنهجين مناهج أمك في شيء.

– ماذا تعني بذلك؟

– إن أمك كانت من ملائكة الله يا سيدتي، وأنت أصبحت متكبرة عنيفة شديدة الوقع على الفقراء، قليلة الاكتراث بمصائب البؤساء، وشتان بينك وبينها، فأنت وإياها على طرفي نقيض.

– وإذا ثُبْتُ إلى رشادي، واقتلعت هذه الطباع من نفسي وتخلقت بأخلاق أمي؟

فجثا الشيخ على ركبتيه واغرورقت عيناه بالدموع وقال: أرى أنك بدأت تشبهينها؛ لأن صوتك لا يختلف عن صوتها.

– بل أريد أن يكون لي قلبها، وقد قلت لي إن أمي عهدت إليك بمهمة، فما هي هذه المهمة؟

– سوف ترين، فتفضلي بانتظاري يا سيدتي.

ثم تركها وخرج من الغرفة وغاب هنيهة، ورجع يحمل صندوقًا صغيرًا من خشب الأرز ووضعه أمام الفتاة وقال لها: هذا ما أمرتني أمك أن أسلمك إياه وهي على فراش الموت حين تبلغين سن الرشاد.

ثم دفع إليها مفتاح الصندوق، فأخذته وفتحت الصندوق بيد ترتجف ووجدت فيه مدالية وأوراقًا.

وقد استلفتت المدالية في البدء نظرها، فأخذتها ونظرت فيها فإذا هي رسم امرأة، ولكنها لم تكد تتبين الرسم حتى صاحت قائلة: رباه! ماذا أرى؟ لعلي جننت؟

ذلك أن هذا الرسم كان يشبه تلك الفتاة التي رأتها عند داغوبير شبهًا عجيبًا حتى كأنه رسمها، فالتفتت إلى بنيامين وقالت له: بربك قل لي، من هي صاحبة هذا الرسم؟

فلم يجبها بنيامين بحرف وخرج من الغرفة تاركًا الصندوق أمام أورور.

١٢

مر بذلك ثلاثة أيام، كانت أيام رموز وأسرار إذا صدقت تلك الحوادث التي جرت في قصر بوربيير، وهو القصر الذي يقيم فيه لوسيان وأمه الكونتس دي مازير.

إن والدة لوسيان لم تكترث بخصام ابنها وخطيبته، وكانت تعتقد أنه سيذهب في الصباح إليها ليصالحها.

غير أن لوسيان لم يفعل شيئًا من هذا، فإنه ركب في الصباح جواده يصحبه الشفالييه وقد لبس كلاهما ملابس الصيد.

وكانت أمه تراقبهما من وراء زجاج النافذة، حتى ابتعدوا وهي تحسب أن ابنها ذهب توًّا إلى خطيبته ليسترضيها، ويذهب بها إلى الصيد.

غير أن رجاءها قد خاب؛ لأن لوسيان رجع في المساء وحده لأن صديقه الشفالييه رجع إلى منزله.

فدخل لوسيان إلى حجرته لتغيير ملابسه، واغتنمت أمه هذه الفرصة وعلمت من دليل الصيد أن ابنها لم يذهب إلى منزل أورور خطيبته وأنها لم تحضر حفلة الصيد.

ورجعت إلى غرفتها ودعت ابنها إليها وقالت له: لا يزال لدينا ساعة قبل أوان العشاء فلنتحدث في خلالها.

ونظر لوسيان إلى أمه، ورأى أن هيئتها تدل على الجد والخطورة.

وكانت والدة لوسيان بين العمرين، ولكنها أقرب إلى عهد الشباب منها إلى عهد الكهولة كما تدل ظواهر جمالها، في حين أنها بلغت الخامسة والأربعين.

وكانت ممشوقة القوام، شقراء الشعر، سوداء العينين، إذا ابتسمت دل ابتسامها على الترفع واحتقار ما يبدو لأنظارها، ومعظم هيئتها تدل على العظمة والجلال.

وكانت مثل الكونت دي مازير والد أورور كثيرة السويداء، إذا تاهت في مهامه التفكير ظهر أنها متعبة البال وأن في حياتها سرًّا من الأسرار التي يؤلم تذكارها.

غير أن لوسيان لم يكن مثل أورور، فإنه لم يكترث لظواهر أمه ولم يكن يحاول أن يكتشف أسرارها، ولم يخطر له أن يبحث عن ماضيها في حال من الأحوال.

فلما نادته أمه وجلس قربها يسمع ما تريد، قالت له: لقد بلغت الآن سن الرشاد يا بني، وقد آن لي أن أكلمك كما أكلم الراشدين.

فذعر لوسيان لملامح جدها، وقال لها: ماذا عسى أن تقولي لي يا أماه؟

– إني أريد أن أحدثك بشأن مستقبلك، فإنك اختصمت منذ يومين مع ابنة عمك الكونتس أورور، في حين أنك تعلم علم اليقين أنها ستغدو امرأتك.

فأطرق لوسيان دون أن يجيب.

فقالت له: إن أورور تهواك يا لوسيان.

– كلا.

– كيف ذلك؟ لعلها كتبت لك أنها تكرهك؟

– كلا.

– إذن على أي شيء تعتمد في ثقتك أنها لا تهواك؟

– على هذه الرسالة.

ثم أعطاها الرسالة التي كتبتها أورور وأرسلتها إليه مع الشفالييه يوم حادثة الصيد، فأخذتها أمه وقرأت ما يأتي:

يا ابن عمي

أنت بت عالمًا مثلي دون ريب أنه لم يبقَ فائدة من هذه المواربة التي قد تنتهي بيننا إلى ما لا تحمد عقباه، فارجع عن خطبتي لأني لا أستطيع أن أهواك، ولنعش قريبين لا خطيبين، فإن زواجنا محال.

ابنة عمك
أورور

فلما أتمت تلاوته قالت له: إن هذا الكتاب يدل على محاولتها نكايتك.

– ربما، ولكنه يتضمن أمرًا آخر لا ريب فيه.

– ما هو؟

– هو أنها لا تحبني.

– أنت مخطئ يا بني، فإن النساء لا يؤخذن بأقوالهن.

– إذا كنت مخطئًا في عرفان قلبها، فلست مخطئًا في عرفان قلبي.

– كيف هذا؟

– إني لا أحبها.

فاضطربت أمه ونظرت إليه نظرة تشف عن الانذهال العظيم، ثم قالت له: ما معنى هذه الأقوال يا لوسيان؟

– إنها الحقيقة.

– ما هذا يا بني؟ هل جننت؟

– إني لا أحب أورور ولا أكرهها، ولكني لا أريد أن أتزوجها.

– لماذا؟

فاحمر وجه لوسيان ولم يجب.

وكأنما هذا السكوت قد أثر على أمه، واستشفت منه دلائل العزم الأكيد، فقالت له: أرى أنه لا بد لي أن أذكر لك أمورًا كنت أؤثر الإغضاء عنها.

ونظر إليها لوسيان منذهلًا وقال: ماذا تعنين يا أماه؟ وما هذه الأمور؟

– أنت تعجب دون ريب حين تراني مصرة على تزويجك بأورور، في حين أنت تراني أكره أباها أشد كره.

– هي الحقيقة، فقد خطر لي مرارًا ذاك الخاطر دون أن أستطيع تأويله.

– لقد آن أوان الإباحة بكل شيء.

– تكلمي يا أماه إني مصغ إليك.

– لقد كان لأبيك يا بني شقيقان، أحدهما والد أورور والآخر كبير بيت دي مازير.

وكانت أسرة مازير فقيرة ولكنها عريقة بالنسب، فتزوج عمك الأكبر أميرة ألمانية فنال منها ثروة عظيمة.

فمنذ سبعة أعوام؛ أي بعد وفاة والدك بزمن طويل، احترق قصر عمك فالتهمته النار مع امرأته وولده، وهو هذا القصر الذي نقيم فيه الآن، وقد اتصل إلينا بالإرث وأعدنا بناءه.

– لعلنا ورثنا أمواله؟

– نعم، ولا.

– إني لا أفهم ما تقولين.

– إن رجال الشرع حين جردوا ثروة عمك صاحب هذا القصر الذي ورثناه منه، قالوا إن ثلاثة أرباع هذه الثروة مفقود، وإن المال المفقود كله أوراق مالية موضوعة في صندوق صغير من الحديد، غير أن هذا الصندوق لم نجده فلم نرث غير الأرض، فاقتسمناها مع عمك والد أورور.

– ألم تعلموا من أخذ الصندوق؟

– كلا، ولكن أصغ لي، فإن لعمك المتوفى قصرًا في باريس في شارع باي، كان الصندوق فيه، فلما كان عمك المتوفى هنا دخل لص إلى القصر في باريس ومعه شريكان، فأوثقوا حارس القصر وكمموا فمه غير أن الحارس عرف اللص بالرغم من تنكره.

– لعله تمكن من سرقة الصندوق؟

– هذا ما نظنه.

– ولكن أية علاقة يا أماه بين هذه السرقة وبين كرهك عمي والد أورور؟

– إن ذلك اللص الذي عرفه حارس القصر كان عمك والد أورور.

وقف لوسيان منذعرًا وقال: رباه! ماذا أسمع؟ أيمكن هذا أن يكون؟

– لقد كان، فإننا لو افترضنا أن الحارس قد خدع به فكيف اختفى الصندوق؟

فسكت لوسيان هنيهة ثم قال: أرأيت يا أماه كيف أني لا أستطيع الاقتران بأورور؟

– لماذا؟

– كيف تسألينني وأنت تقولين إن أباها سرق المال؟ فهل تريدين أن أتزوج ابنة لص؟

– إني أريد أن تتزوجها كي يعود هذا المال إليك بعد وفاة أبيها، وليس ذاك اليوم ببعيد، فإن مرضه شديد.

فقاطعها لوسيان وقد بدت عليه علائم الكراهة والاشمئزاز وقال: يشهد الله يا أماه أعبدك وأحترمك ولا أحب حبًّا يعادل حبي لك في هذا الوجود، ورجائي أن ما أردت قوله الآن غير تجربتي.

ثم حيا أمه وحاول الانصراف، فأدركت أمه أنها تسرعت في إخباره مثل هذه الأمور مرة واحدة وقالت له: إذا كان الأمر كذلك، فلندع أمر هذا الزواج في الوقت الحاضر.

– بل وفي كل حين، وأرجو ألا تحدثيني به فإنه محال. وبعدها فتح الباب ودخل الخادم وقال: إن العشاء يا سيدتي قد تهيأ.

فدخل لوسيان مع أمه إلى قاعة الطعام فتعشيا ثم افترقا.

ودخلت أمه إلى غرفتها فجعلت تقول في نفسها: إني قد أخطأت خطأ عظيمًا بعدم مراقبة لوسيان، فإن قراءة كتب الفلاسفة قد جعلته يحتقر المال ويميل إلى مبادئهم، وقد أخطأت أيضًا بما رويته له عن عمه، ولكني أرجو أن يصلح اجتماعه بأورور ما أفسدته بتسرعي.

وفيما هي تناجي نفسها دخلت عليها تنوان وهي وصيفتها، فقالت لها الكونتس: أرأيت لوسيان يا تنوان؟

– نعم، إنه يتنزه في الحديقة ولكن ملامح الغضب بادية بين عينيه، ولا شك بحت له ببعض الأسرار.

– نعم، فلقد أخبرته بشأن عمه.

– أخطأت يا سيدتي خطأ لا يغتفر، لا سيما وأنت تتهمين والد أورور نفس التهمة التي يتهمك بها.

– لم أفهم ما تقولين؟

– إن الكونت إذا كان يريد تزويج ابنته أورور بلوسيان فلاعتقاده أنك أنت سارقة الصندوق.

فذهلت الكونتس وجعلت تنظر إلى الوصيفة نظر الفاحص دون أن تتكلم.

١٣

إن هذه الوصيفة كانت تبلغ عمر سيدتها الكونتس، وهي ليست على شيء من الجمال، ولكن في عينيها سر عجيب ولنظراتها تأثير غريب.

وكانت من إحدى قبائل النور، قدمت إلى باريس في صباها تلتمس الرزق، فاقتبست في تلك العاصمة من الدهاء والحيلة ما جعلها في طليعة الماكرات من بنات حواء.

وبعد أن ارتكبت جميع أنواع الموبقات، سنحت لها فرصة فاتصلت لدهائها بوالدة لوسيان وكانت لها وصيفة دون أن تعرف حقيقة ماضيها، فلم يمض بها ردح من الزمن حتى باتت سيدة القصر المطلقة لها الكلمة النافذة والقول الفاضل فيه، حتى إن لوسيان نفسه كان يخشاها والكونتس لا تخرج في شيء عن رأيها.

ولم يكن دخولها في خدمة الكونتس إلا لمآرب لها، فقد وقفت لمكرها على أسرار الكونتس، وكانت تعرف مصطلحات فن التنجيم فكانت تتذرع بها إلى بلوغ غاياتها.

فلما دخلت إلى الكونتس وقالت لها: إن الكونت يعتقد أيضًا أنك أنت سارقة الصندوق.

ساد السكون هنيهة بينهما، ثم قالت لها الكونتس: لقد تقدم لك أنك ألمت لي مثل هذا القول، فكيف تبرهنين عليه؟

فقالت لها النورية: على ماذا تريدين البرهان؟ أعلى اعتقاد الكونت أنك السارقة؟

قالت: نعم.

فجلست تنوان النورية قربها وقالت لها: إذن فاعلمي أن والد أورور نفسه قال لي هذا القول.

– متى؟ وكيف كان ذلك؟

– إني ذهبت برسالة إلى مدموازيل أورور فلم تكن ساعتئذ في القصر لانشغالها بالصيد، فلقيني أبوها واستقبلني استقبالًا حافلًا وأجلسني بجانبه، ثم جعل يسألني الأسئلة العديدة، فكان مما قاله لي: أتعلمين يا تنوان أن سيدتك تعيش عيش اقتصاد لا ينطبق على ثروتها الطائلة؟

فقلت له: ولكن ثروة سيدتي لا تزيد عن ثروتك، فقد اتصلت إليكما من مصدر واحد واقتسمتماها على السواء.

فهز كتفيه وقال: والصندوق؟ ولكن لا بأس فابنتي ستجده إذا أنكرت الكونتس وجوده.

فقاطعتها الكونتس وقالت: أهو قال هذا القول؟

– نعم.

– أكانت لهجته صادقة؟

– إني تبينت صدقه في اعتقاده من لهجته ومن عينيه.

– إذا كان كذلك، فلا أبالي بعد الآن بما حدث من المقاطعة بين لوسيان وأورور، فإنه يجد كثيرًا من الفتيات الغنيات يتزاحمن عليه.

– وفوق ذلك يا سيدتي، فإن أخلاق أورور مناقضة لأخلاق لوسيان أتم التناقض فلا يجدان في زواجهما ساعة هناء.

غير أن الكونتس لم تكن تفتكر بولدها أورور، بل كانت منصرفة باهتمامها إلى الصندوق، فقالت للنورية: إذا كان والد أورور لم يسرق هذا الصندوق، فمن سرقه؟ وأين هو؟

فاتقدت عينا نورية لهذا السؤال الصريح وقالت: إني واثقة يا سيدتي من أنك تصغين لي إلى النهاية.

قالت: تكلمي.

– إخالني واثقة من معرفة السارق.

– من هو؟

– هو الكونت دي مازير نفسه، بكر هذه العائلة وتارك الإرث.

– ما هذا الجنون يا تنوان؟ إن الكونت قد التهمته النار مع امرأته وابنته.

فابتسمت النورية وقالت: أأنت واثقة يا سيدتي أن الابنة قد احترقت أيضًا في القصر؟

فارتعشت الكونتس وقالت: إذا لم تكن قد احترقت فأين هي؟ وماذا جرى لها؟

– إنهم وجدوا جثتي الكونت والكونتس ولكنهم لم يجدوا جثة الفتاة.

– من أنقذها؟

– لا أعلم الآن.

– أتظنين أن لاحتجاب الفتاة علاقة بالصندوق؟

– دون شك، فإن ما يحتويه هذا الصندوق من المال الجزيل إنما جعل مهرًا لهذه الفتاة.

فاضطربت الكونتس وقالت: أحقٌّ ما تقولين؟

– هذا ما بدا لي، وفوق ذلك فإن صناعة التنجيم لا تدع خفيًّا إلا أظهرته.

– أتظنين أن الكونت قد أحرق نفسه بالنار؟

بل أعتقد اعتقادًا راسخًا.

– إذن من أنقذ الفتاة؟ ولكنها لم تكد تقول حتى احمر وجهها ومرت في خاطرها ذكرى بعيدة فقالت: هو هو دون شك.

وقد عرفت النورية هذا الرجل الذي عنته الكونتس دون أن تلفظ اسمه، فقالت لها: لعلك تعنين يا سيدتي راوول دي مورليير؟

– نعم.

– ألم يقولوا لك يا سيدتي إنه قتل في البلاد الأميركية؟

– هو ذاك.

– إنك صدقت أقوالهم يا سيدتي، أما أنا فلم أصدقها.

– فاضطربت الكونتس وقالت لها: لا تذكري أمامي اسم هذا الرجل، فإنه مجلبة للشر وشؤم عليَّ.

فضحكت النورية وقالت: لا يجلب الشر يا سيدتي غير الخوف وتقريع الضمير، وإذا كنا قد قتلنا الأم فقد يتفق أن الذي كان يزال يذكرها أنقذ ابنتها.

ولم يكن موقف المرأتين في تلك الساعة موقف خادمة ومخدومة، بل موقف آثمتين اشتركتا في جريمة هائلة، فكانت الكونتس ترتعش وتضطرب والنورية تنظر إليها وتبتسم، ثم رجعت الكونتس إلى سكينتها فقالت: أظن يا تنوان أن خوفنا لا محل له، فإن راوول قد مات، وفوق ذلك فإنه لم يكن في هذه البلاد حين شبت النار في القصر.

قالت: إنك مخطئة يا سيدتي.

– كيف ذلك؟

– أتذكرين يا سيدتي جاك؟ ذلك الجزار الشيخ الذي كان يقول إن الكونت قد وضع النار بيده في القصر.

– نعم، وهو قد مات.

– ولكنه أخبرني قبل موته أنه رأى فارسًا في ليلة الحريق جاء إلى دكانه فربط جواده في إحدى أشجار الغابة وتعشى عند الجزار، فلما اربدَّ الظلام برح دكان الجزار بعد أن سأل عن الطريق المؤدية إلى قصر بوبيير.

– على ماذا يدل ذلك؟

– في اليوم الثاني رأى الجزار هذا الفارس يخترق الغابة وأمامه فوق جواده ولد صغير.

فاضطربت الكونتس اضطرابًا شديدًا وقالت: رباه! لعل يوم عقاب الله قد دنا؟

فأجابتها تلك النورية الهائلة: إني لا أثق بالله، ومن عرف أن يخفي جريمته ويتقي العقاب لا يعاقب.

فارتعدت الكونتس وقالت: اذهبي عني، فما أنت إلا شيطان رجيم، وإني بت أخافك.

غير أن النورية بقيت في مكانها وقالت: أرى أنه يجدر بسيدتي أن تسمع بقية حديثي وتعلم كل ما أعلمه بدلًا من أن تخافني.

– تكلمي.

– إنك أخطأت بما أخبرت به ابنك عن عمه الكونت دي مازيير والد أورور.

– إن لوسيان لم يعد راغبًا في زواج أورور، فلا بأس بما قلته.

– إنك مخطئة يا سيدتي، فليس والد أورور الذي حال دون هذا الزواج، وهو لو كان من الأبرار الصالحين لما رضي لوسيان بهذا الزواج.

– لماذا؟

– لأن الصياد يستطيع أن يطارد أرنبين، ولكن الرجل لا يستطيع أن يهوى امرأتين، فإن ابنك يا سيدتي بات من العشاق.

فدهشت الكونتس وذكرت أن ابنها قد تغيرت أخلاقه منذ شهرين، فبات منقبضًا مفكرًا مهمومًا بعد زهو، ثم قالت لها: بمن هو مفتون؟

– إني لا أستطيع أن أذكر لك اسم التي يهواها؛ فإني لا أبرح القصر كما تعلمين ولا أعلم ما أسمعه، غير أني أقول لك إن لوسيان يعود إلى القصر متأخرًا ساعتين وثلاثًا عن رجال الصيد.

– ماذا تستنتجين من ذلك؟

– أستنتج أولًا أن لابنك عشيقة يزورها بعد الانتهاء من الصيد، ثم أرى أن الشفالييه يعلم من أمره أكثر مما أعلم.

– كيف عرفت ذلك؟

– سمعت هذا الشفالييه يقول لابنك وهما خارجان إلى الصيد: اعتمد عليَّ يا لوسيان تجد أن الأمور تجري على ما تريد، ولا أظنه يسأله الاعتماد عليه إلا في هذا الغرام.

فقالت لها الكونتس: اذهبي عني الآن يا تنوان، واحذري أن تروي كلمة من حديثنا لأحد. فابتسمت النورية وانصرفت دون أن تجيب.

وفي اليوم التالي لم يذهب لوسيان إلى الصيد فاجتمعت به أمه وقالت له: إذا كنت غير راغب في الزواج يا بني بابنة عمك، فليكن ما تشاء وثق أني لا أحدثك عنها بعد الآن.

فعانقها لوسيان فرحًا مسرورًا وقال لها: لا شك عندي أنك خير الأمهات.

وعند ذلك دخل الشفالييه، فخفق قلب الكونتس وقالت في نفسها: لا بد لهذا الشفالييه أن يبوح بكل شيء.

١٤

كان هذا الشفالييه عائدًا من قصر بوربيير، فلما دخل على لوسيان وأمه نظر إلى لوسيان نظرة معنوية باغتتها الكونتس، فقالت في نفسها: لا شك أن بينهما سرًّا لا بد لي من الوقوف عليه.

وجلسوا جميعهم حول مائدة العشاء، فكان لوسيان باشَّ الوجه منبسط النفس لما رآه من موافقة أمه على عدم زواجه بابنة عمه، فلما فرغوا من العشاء دعت الكونتس الشفالييه إلى ملاعبتها بالشطرنج.

وكانت تقصد بذلك الاختلاء معه، فإنها كانت تعلم أن ابنها يكره الشطرنج كرهًا شديدًا بحيث لا يجلس في مجالس لاعبيه.

وقد اتفق لها ما أرادت، فإنه بعد أن أحضر الخادم لهما الشطرنج أقام لوسيان معهما هنيهة ونزل إلى الحديقة.

وعند ذلك خلت الكونتس بالشفالييه فقالت له: إنك صديق ولدي الحميم، أليس كذلك يا شفالييه؟

– أتشكين بذلك يا سيدتي؟

– ليس لي أقل ريب، ولهذا أردت أن أكلمك بشأنه على انفراد، فإن ولدي يخبرك بسرائه وضرائه، وأنت واقف على جميع أسرار قلقه دون شك.

– هو ذاك يا سيدتي، فإني أعلم أن العلائق فاترة بينه وبين ابنة عمه.

– إنهما مختصمان.

– ولكنه خصام لا خطورة فيه.

– وفوق ذلك فقد علمت أنه يعشق سواها، وأريد أن أعرف منك تلك التي يعشقها.

فنظر إليها الشفالييه متكلفًا الانذهال دون أن يجيب، فقالت له: إني لست من الأمهات الظالمات، فإذا كان لوسيان يأبى الزواج بابنة عمه فلا أعترضه فيما يريد وليتزوج من يشاء، غير أني أريد أن أعرف تلك التي يهواها.

فسُرَّ الشفالييه لما رآه من عدم إصرار الكونتس على زواج ابنها بابنة عمه؛ فإن ذلك يمهد له سبيل الزواج بها، وقال للكونتس بعد أن تظاهر بالتردد: إنك تسألينني يا سيدتي أن أبوح لك بسر قد تكون الإباحة به خيانة.

– إني لم أفهم ما تقول.

– افترضي يا سيدتي أنني بدلًا من أن أحدث أمًّا ذكية الفؤاد مثلك أكلم أمًّا ملأ قلبها الحنو.

فقاطعته وقالت له بخيلاء: لقد كنت من نساء البلاط يا سيدي الشفالييه.

فانحنى الشفالييه وقال: لولا يقيني يا سيدتي من ذكائك لكنت آثرت الكتمان على خيانة لوسيان؛ ولذلك أعترف لك بما أعلمه من أمره وأبدأ بالقول إنه حقيقة عاشق مفتون، ولكني أرجو ألا يكون من وراء ذلك ضرر.

– ولكن من هي التي يهواها؟

– هي فتاة في منزل حداد يلقبونها بربيبة الدير.

فضحكت الكونتس ضحكًا عاليًا وقالت: من هو هذا الحداد؟

– إنه يُدعى داغوبير.

– والفتاة؟

– إنها تُدعى حنة، وهي في السادسة عشرة من عمرها، ولها أدب جم وجمال عظيم.

– أشكرك يا سيدي الشفالييه، فقد طمأنتني بعد أن كنت شديدة الاضطراب.

– هذا ما أوده يا سيدتي غير أن هذه الفتاة قد سلبت عقل لوسيان.

فضحكت الكونتس وقالت: إن هذا الغرام يكلفه بعض المال، وهذا كل ما فيه من الخطر، فقص عليَّ حوادثه فإني أجد بها تسلية عظيمة، ولنبدأ بالحداد فقل لي أين يقيم هذا الرجل؟

– عند باب الدير.

– لقد عرفته، فهل هذه الفتاة بنته؟

– كلا، بل هي قريبته.

– وكيف لقبت بربيبة الدير؟

– أظن أنها لقبت بهذا اللقب لأن الرهبان يتولون حمايتها.

فضحكت وقالت: إذن لا يروق في عيونهم هذا الغرام.

– لا تضحكي يا سيدتي، فإن الأمر أشد خطورة مما تظنين، لا سيما وأن نسب هذه الفتاة مجهول لا يعلمه أحد.

– ألم تقل إنها قريبة داغوبير؟

– نعم، وإنما رويت إشاعة من الإشاعات المتناقلة عنها، ومن هذه الإشاعات أن داغوبير كان يريد الزواج منذ ستة أو سبعة أعوام ويبحث مع مريديه عن عروسة له، ولكنه رجع فجأة عن هذا القصد لانتقال هذه الفتاة إلى منزله دون أن يعلم أحد كيف أتت حق العلم، ولكن الشائع أنها بنت الأب جيروم.

– من هو الأب جيروم هذا؟

– هو رئيس الدير، وحياة هذا الراهب مكتنفة بالأسرار، وقد كثرت الإشاعات فيه.

– تقول إن الفتاة جيء بها إلى داغوبير؟

– نعم.

– أهي التي ولع بها ابني؟

– إن ولوعه بها شديد يا سيدتي، حتى إنه يريد أن يتزوجها.

فضحكت الكونتس ضحكًا عاليًا استاء له الشفالييه، فحادثها عن سبيل الانتقام بجميع ما جرى لابنها مع داغوبير وأنه طلب مقابلة رئيس الدير فأبى أن يقابله.

غير أن الكونتس لم يسؤها شيء مما جرى لولدها، وقالت للشفالييه: إذن هذه الفتاة حسناء؟

– إنها خُلقت كما اشتهت.

– ولا يعلمون أصلها؟

– إن في أصلها ثلاثة أقوال؛ الأول: إنها قريبة داغوبير، والثاني: إنها بنت الأب جيروم وُلدت سفاحًا في أيام غروره قبل أن يأتي إلى الدير، والثالث: قول آخر تفرد بروايته جزار القرية.

فارتعشت الكونتس وقالت: ماذا يقول هذا الجزار؟

– يقول إن فارسًا جاء في صباح يوم إلى داغوبير، فأودع عنده تلك الفتاة التي يهواها ابنك لوسيان.

– وماذا جرى للفارس؟

– إنه سافر ولم يعد يعلم أحد ما جرى له بعد ذلك.

فأطرقت الكونتس مفكرة ثم قالت: كل ما قلته لي مُفْكِهٌ ما خلا مسألة الزواج، فإن لوسيان لا فرق عنده بين العامة والنبلاء.

– ولكننا بالقرب منه، نراقبه فنقيه هذا الخطر.

– كيف نقيه؟

– بإبعاد داغوبير عند الاقتضاء وبمغافلة الأب جيروم واختطاف الفتاة.

– إن ذلك سهل بالقول لا بالعمل، وفوق ذلك فإنك على طول عشرتك لولدي لم تختبره حق الاختبار، فإنك إذا اختطفتها تزوجها.

فابتسم الشفالييه وقال: إذا لم أكن قد أحسنت اختباره يا سيدتي فقد أحسنت صداقته، فلا يعقد هذا الزواج وأنا ساهر عليه.

قالت: بورك فيك يا شفالييه، وأنا سأكون لك عونًا في انتزاع هذه الوساوس من صدره فينجو من هذا الخطر المحدق به بإذن الله.

– وعسى أن يحقق الله رجاءنا ويرجع لوسيان إلى هداه.

– إني واثقة من صداقتك وأنك ستلزمه لزوم الظل، والآن فإنك ذكرت لي أن حياة الأب جيروم تكتنفها الأسرار، فهل لك أن تذكر لي ما تعلمه من الإشاعات عنه؟

– حبًّا وكرامة يا سيدتي.

فاتكأت الكونتس على كرسيها وجعلت تسمع بملء الإصغاء حكاية الأب جيروم.

١٥

وقد قص لها جميع ما عرفه القراء من الإشاعات عن الأب جيروم، وزاد على ذلك هذه الحكاية وهي أن الأب جيروم قبل دخوله إلى الدير قدم مع خادم له، فأقام في فندق يومه، وفي المساء ذهب إلى الدير، فعاد الخادم إلى ذلك الفندق وحده في اليوم التالي وهو يبكي بكاء شديدًا، فلم يعلم أحد منه شيئًا عن مولاه سوى أنه لم يدخل إلى الدير إلا لنكبة غرام.

فقاطعته الكونتس وقالت: ألم تعرف اسمه الحقيقي؟

– لم يُعرف منه سوى أن صاحبة الفندق روت أنها سمعت خادمه يناديه بعض الأحيان باسم أموري.

فدهشت الكونتس دهشًا عظيمًا وقالت: أموري؟

– نعم يا سيدتي، لعلك تعرفين هذا الاسم؟

فثابت الكونتس من دهشتها وابتسمت قائلة: إن بيت أموري بيت قديم، وأذكر أني عرفت رجلًا من هذه الأسرة كان حارسًا في بلاط الملك السابق.

– ألا يمكن أن يكون الأب جيروم؟

– كلا، فإن ذلك الحارس لم يكن على شيء من مبادئ الزهد والنسك، وقد سررتني أيها الشفالييه بما رويته لي من هذه الأقاصيص لا سيما في ما تعلق بغرام ولدي لوسيان، ولكني أعترف لك أنك لو لم تعهد لي بمراقبة لوسيان لكان خوفي عليه عظيمًا، فإنه كثير الإقدام لا يحفل بالتقاليد ولا يكترث بالأنساب، فهو في ذلك على مذهب فلاسفة اليوم.

– كوني مطمئنة يا سيدتي فلا خوف عليه من مغبة هذا العار وأنا ساهر عليه.

– أتتعهد لي بمراقبته الليل والنهار؟

– بل أقسم لك.

– وإني أريد منك عهدًا آخر وهو ألا تخبر لوسيان بما جرى بيني وبينك، وأرى أنه يجب أن توافيه إلى البستان أو الحديقة؛ إذ لا بد أنه يتنزه الآن فيهما ويناجي نفسه بأماني الغرام، فلا تولد في نفسه الشك.

– لقد أصبت يا سيدتي وها أنا ذاهب إليه.

ثم قبل يدها وانصرف للاجتماع بلوسيان، فلم يخرج من الغرفة حتى نادت الكونتس وصيفتها النورية فقالت لها: أظن أنك غير مخطئة يا تنوان.

– بماذا؟

– باعتقادك أن ابنة الكونت دي مازير لم تمت.

– إني واثقة كل الوثوق.

– ولكن أتعلمين أين هي؟

– كلا.

– إذن فاعلمي أنها تقيم على مسافة مرحلتين من هنا في محل رجل حداد عند باب الدير، وهي الفتاة نفسها التي يعشقها لوسيان، ثم أتعلمين من هو رئيس الدير؟

– هو الأب جيروم.

– هو ذاك، ولكنه كان يُدعى قبل الدخول إلى الدير أموري.

– إني لا أعرف هذا الرجل.

– لقد نسيت أن أخبرك بهذه الحوادث القديمة، ولكن إذا كان هو نفس أموري الذي عرفته من قبل فهو صديق راوول الحميم، وقد أحبها.

– أحب من؟

– أحبها هي.

فقطبت النورية حاجبيها، ورجعت الكونتس إلى الحديث فقالت: ولكن إذا كانت ربيبة الدير ابنة الكونت دي مازير كما تبين لي، فلا شك أن الأب جيروم هو نفس أموري الذي عرفته.

– وماذا تستنتجين من ذلك؟

– أستنتج أن صندوق الأوراق المالية موجود لدى الأب جيروم.

– هذا لا ريب فيه.

فاتقدت عين الكونتس وأجابت: لا بد لي من الاستيلاء على هذا المال.

فابتسمت النورية ابتسام الأبالسة وسألت: من أخبرك يا سيدتي بجميع هذه الأمور؟

– الشفالييه دي فولون.

– أيعلم أن ابنة الكونت لم تمت؟

– إنه لا يعلم شيئًا من هذه الأسرار ما خلا أن داغوبير الحداد عهد إليه منذ ستة أعوام بتربية هذه الفتاة التي يعشقها ولدي لوسيان.

فأطرقت النورية هنيهة مفكرة، ثم قالت: ألا يمكن لسيدتي أن تستغني عن خدمتي يومين؟

– ماذا تفعلين في خلالهما؟

– أعلم إذا كانت الفتاة هي حقيقة ابنة الكونت دي مازير.

– أتذهبين إلى الدير؟

– بل إلى دكان الحداد.

– بأية حجة؟

– إن الحجج كثيرة.

– ولكن بماذا تستعينين على كشف هذه الخبآت؟

– بتضلعي في فن التنجيم.

– ولكنها فنون خرافة، إذا صدقت الظواهر فيها مرة كذبت ألفًا.

فابتسمت النورية وقالت: أكذبت فيك مرة يا سيدتي؟

– هو ذاك، وقد يكون صدق ما تنبأت لي عنه من قبيل الاتفاق، وما كنت أحسبك ممن يعتقدون بهذه الترهات.

– كيف لا أعتقد بها وقد تركت بما دلتني عليه ولدي.

فدهشت الكونتس وقالت: أنت لك ولد وأنا لا أعلم؟

– نعم، وإنما كتمت عنك أمره؛ إذ لم أجد مجالًا لرواية خبره، لا سيما وأني عولت على الابتعاد عنه دهرًا طويلًا.

– لقد أدهشتني بهذا الخبر، فأين ولدته؟ وأين تركته؟ وكيف عولت على الابتعاد عنه؟

– إني ولدته سفاحًا فوق قمة في قرية يوجيفال، وعهدت بتربيته إلى امرأة صاحبة حانة تُدعى مدام فيبار، أما السبب في ابتعادي عنه فهو اتصالي بك والتصاقي بخدمتك، وهذا التنجيم الذي تعلمته في بلادي منذ الحداثة.

– وما كشف لك التنجيم؟

– إني نظرت في يد ولدي بعد ولادته فذعرت لتلك الظواهر، وأيقنت أنه سيكون له في هذا الوجود أعظم شأن، وسيجري فيما يمر به من أدوار الحياة شوطين؛ شوطًا يكون فيه رسول جهنم على الأرض، وشوطًا يكون فيه من ملائكة الله ولذلك سميته روكامبول.

– ما معنى هذا الاسم الغريب؟

– إنه في لغتنا النورية يراد به الملكان، وهما ملاك الخير وملاك الشر، وقد جمع هذان النقيضان بولدي فإنه في بدء أمره ستكون راؤه رعبًا، وواوه وزرًا، وكافه كفرًا، وألفه إثمًا، وميمه معرة، وباؤه بلية، ولامه لؤمًا، ثم ينقلب بعد تفاقم شره فتصبح الراء رحمة، والواو ورعًا، والكاف كمالًا، والألف إحسانًا، والميم مبرة، والباء بركة، واللام لواذًا، فبينما هو حليف الأبالسة إذا هو من رسل الله؛ ولذلك أردت الابتعاد عنه حذرًا من بطشه إلى أن يفرغ من شوطه الأول ويعيش عيش الأبرار فأنضم إليه إذا فسح في الأجل.

– أهو الآن في شوطه الأول؟

– إنه يتمرن عليه.

فابتسمت الكونتس وقالت لها: لا جرم أن الحية لا تلد إلا الحية يا تنوان.

فأجابتها أم روكامبول بمثل ابتسامتها وقالت: والطير لا يقع إلا على شكله يا كونتس.

فلم تظهر الكونتس استياء من هذا التلميح لما كان يصل بين المرأتين من الأسرار، وعادت إلى حديثها الأول فقالت: إذن ستذهبين غدًا إلى دكان هذا الحداد.

– بل أذهب الليلة، فلا أبقي إلى الغد ما أقدر أن أفعله الآن.

– ولكن ألا تخافين أن تجتازي الغابة في ظلام الليل؟

فضحكت تنوان ضحك الأبالسة وقالت: إن من لا يخاف الله، فلا يخاف الإنسان.

– ولكن المسافة لا تزيد عن ساعتين، فإذا ذهبت الآن فأين تبيتين بقية الليل؟

– ولكني سأذهب بعد ساعتين فأصل عند الفجر.

– إذن مري السائق يعد لك المركبة.

– بل إني أعدها بنفسي، وسأركب المركبة المعدة لنقل الخضر وأسوقها أنا، فلا أحب أن يعلم أحد أين أسير.

– افعلي ما بدا لك، فقد عودتني ألا أعترضك فيما تريدين.

– وأنا أرجو ألا تندمي لثقتك بي؛ لأني كما أخلصت لنفسي أخلصت لك.

ثم تركتها وانصرفت إلى الإصطبل، فأعدت العلف للجواد وعادت إلى غرفتها وتأهبت للرحيل.

١٦

بينما كان الجواد يأكل علفه كانت الكونتس في غرفة نومها نائمة في سريرها، وأم روكامبول تتأهب للرحيل وقد تزينت بملابس النور.

وكانت غرفتها ملاصقة لغرفة الكونتس يفصل بينهما باب داخلي يفتح من الغرفتين.

وبينما كانت النورية تنظر إلى نفسها في المرآة وقد فرغت من اللبس، سمعت الكونتس تصيح صياحًا مزعجًا ففتحت الباب وأسرعت إليها، فلما رأتها الكونتس صاحت صيحة أخرى وقالت لها: آه لو عرفت ماذا جرى!

وكانت علائم الذعر بادية في وجه الكونتس، وقد امتقع لونها وغارت عيناها وقالت لها بصوت مختنق: إني رأيتها … وأنا لم أكد أغفو، وقد صحوت لصوت سمعته، ففتحت عيني ورأيت نورًا أبيضَ هنا عند الباب.

فضحكت تنوان وقالت: لقد أوشكت هيئتك أن تخيفني، فما هذا الجنون؟

واصطكت أسنانها من الخوف وقالت: قلت لك إني رأيتها.

– من هي التي رأيتها؟

فأجابتها وهي لا تكاد تفسر اللفظ من الرعب: «هي … هي»، وقد رأيتها مصفرة الوجه، ثم نظرت إليَّ بعينين تتقدان نارًا، وقالت لي: احذري أن تمدي يدك بسوء إلى ابنتي، أو تموتي أفظع موت.

فحاولت تتوان أن تتكلم، ولكن الكونتس قاطعتها وقالت لها: حين قالت لي هذا القول كانت كتلة من نور أبيض، ثم تحولت إلى شعلة من نار بعد أن أتمت وعيدها وتوارت عن الأنظار، فشعرت عندئذ أنهم قبضوا عليَّ وربطوا يدي ورجلي، ثم ألقوني في مركبة وساروا بي، فكان الناس يسيرون أفواجًا في جانبي المركبة وهم ذاهبون بي إلى ساحة الموت الرهيب، ولكني لم أعلم كيف يكون موتي، وعندها صحت صيحة منكرة فاختفى كل شيء.

فضحكت تتوان وقالت: تريدين أنك صحوت من الرقاد.

– إني لم أكن نائمة.

– بل كنت نائمة وأنت لا تعلمين فأصابك الكابوس.

– ليس ما رأيته حلمًا، بل قد رأيتها حقيقة وسمعت صوتها.

– إن الأموات لا يرجعون.

– بل روحها التي تمثلت لي، ولا سبيل معك إلى الجدال فإنك لا تعتقدين بشيء.

– إني لا أعتقد إلا بحقائق العلم وبذلك القدر المرسوم في خطوط الأيدي.

– إذن أعيدي النظر في يدي، وأخبريني إذا كان قد تغير ما كتب لي في لوح المقدور، فأنت نفسك تعترفين أن خطوط اليد تتغير.

ثم بسطت يدها للنورية وقد خف ما خامرها من الرعب، فتأملت تنوان مليًّا في خطوط تلك اليد وقالت: إن خطك لا يزال على ما كان عليه، فستكونين من أغنى الناس.

– متى؟

– في وقت قريب.

– أأجد الصندوق؟

– نعم.

– وهذه الفتاة التي نحسبها ابنتها؟

– سأخبرك بذلك غدًا.

ثم غيرت الحديث فجأة كأنما خطر لها خاطر فقالت: انظري إليَّ جيدًا يا سيدتي، ألا أشبه بملابسي النوريات؟

– هو ذاك.

– ألا يحسبني الناظر إليَّ من اللواتي يقرأن الطوالع ويكشفن غوامض المستقبل؟

– إنك منهن وهذه المهنة مهنتك.

– إني ذاهبة، ورجائي ألا تسترسلي إلى الأوهام وأن تنامي نومًا هادئًا.

– إني واثقة بقريحتك الجهنمية، فاذهبي واعلمي أني أنتظر عودتك بفارغ الصبر.

ثم ودعتها وانصرفت وركبت المركبة، ودفعت جوادها فسار بها وحدها في ظلام الليل إلى الغابة.

•••

بينما كانت تنوان تجتاز الغابة غير هيابة، وقد أوشكت أن تبلغ نهايتها كان جرس الدير بدأ يدق داعيًا إلى صلاة الفجر.

وكان داغوبير قد صحا من نومه، فنزل من منزله إلى دكانه وكان يمشي بحذر خوفًا من أن تصحو حنة.

وقد كان منزل داغوبير يتألف من غرفة واحدة كبيرة، فلما جاءته حنة شطر الغرفة شطرين وجعلها غرفتين، وأقام كل منهما في غرفة.

وكان داغوبير قبل أن تجيء حنة إلى منزله يبدأ عمله قبل الفجر غير مكترث للرهبان، وبات بعد مجيئها يشفق على راحتها إشفاقًا شديدًا، فلا تسمع لمطرقته صوتًا قبل أن تطلع الشمس، فكان يشتغل قبل شروقها أشغالًا لا دوي لها.

وفي ذاك اليوم نزل داغوبير في الساعة الخامسة من صباحه وأوقد النار، ولكنه لم يعمل عملًا، بل كان مفكرًا مهمومًا، وقد كان هذا دأبه منذ ثلاثة أيام فلم يُلْفَ إلا على هذه الحالة.

وفيما هو على ذلك، سمع دوي مركبة، ثم سمع أن المركبة وقفت عند باب دكانه، وأن هذا الباب قد قُرع، ففتحه ووجد أمامه تنوان.

فدخلت تنوان إلى الدكان وقالت له: إن نعل الجواد قد سقط، وقد أتيتك لتصنع لي سواه.

ثم اقتربت من النار تتدفأ ونظرت إلى داغوبير نظرات كهربته وقالت له: أراك قد استأت لحضوري، بل أراك مترددًا في صنع النعل، فهل ذاك لأني فقيرة أكسب رزقي من استطلاع البخت.

– لست ممن يحتقرون الفقراء؛ لأني منهم، ولكنني منذهل لملابسك، هل أنت من النور؟

– إن ملابسي قد دلتك خير دلالة على أصلي.

– أتتجولين وحدك في هذه المركبة؟

– لقد كان لي زوج قضي عليه فبت وحيدة كما تراني.

– إلى أين أنت ذاهبة؟

– إلى بيبتهافر.

– لعلك مضطرة إلى الإسراع بالوصول إليها؟

– لماذا تسألني هذا السؤال؟

– لأني لا أستطيع أن أصنع النعل قبل شروق الشمس.

– لا بأس فسأنتظر.

وقد علمت أنه لا يريد أن يوقظ الفتاة، ولبثت أمام النار تصطلي وداغوبير ينظر إليها معجبًا بأمرها، إلى أن بدأ الحديث معها وقال: أتحترفين مهنة استكشاف الطوالع؟

– هو ذاك.

– كيف ذلك؟ أبالورق؟

– بالورق وبالنظر إلى الأيدي.

فمرت غمامة بمخيلة داغوبير وظهرت عليه علائم التردد.

أما النورية، فإنها جعلت تنظر إليه نظرات ممغطسة جذبت بها حواسه.

١٧

وكان داغوبير واقفًا يحدثها وينظر إليها، ثم غض بصره ولم يستطع مقاومة تلك النظرات التي اخترقت نفسه، وشعر أن لهذه المرأة سلطانًا عليه.

وكانت قد قالت له إنها تكشف مخبآت المستقبل، فشعر بميل عظيم إلى معرفة ما خبأته له الأيام، لا سيما وأنه كان حزين القلب منقبض الصدر منذ ثلاثة أيام.

أما سبب انقباضه فهو أنه باغت حنة في غرفتها ورآها تبكي وعلم لفوره السبب في بكائها؛ وهو أنها تحب ذلك الفتى النبيل الذي طرده من دكانه أقبح طردة وهو لوسيان، امتثالًا لواجب مقدس لم تعرفه الفتاة ولم يعرفه داغوبير نفسه؛ فإنه آلة بيد الأب جيروم.

وكان داغوبير يفكر في جميع هذه الأمور بينما كانت النورية تسلب إرادته بتلك النظرات وهو واقف موقف الخائف المتحير.

وإنما كان خوفه وحيرته لأن الدين يحرم استكشاف الطوالع؛ لأن المستقبل بيد الله.

غير أنه ظهرت عليه فجأة علائم العزم الأكيد، فنظر إلى النورية وقال لها: لعل استكشاف الطالع كثير النفقة؟

– إني أقبض ريالًا من النبلاء.

– ومن كان فقيرًا مثلي لا أقبض منه شيئًا.

فاستفزته الأنفة وقال: إن ذلك لا يكون؛ لأني لا أقبل شيئًا مجانًا على فقري، وإذا شئت أنعلت جوادك فكان ثمن النعل مقابل الأجرة.

– رضيت، هات يدك.

وبسط لها كفه وجعلت تتأمل في باطنه بإمعان.

ويذكر القراء أن داغوبير كان قد وضع في إصبعه ذلك الخاتم الذي ائتمنه عليه الأب جيروم، وأنه قد سوده بالدخان كي يذهب لونه الذهبي ولا يستلفت الأنظار إليه.

غير أن النورية رأت الخاتم وتمعنت فيه خلسة، وعلمت لفورها أنه ليس من الحديد، كما أنها رأت آثار الشعار فيه فاتقدت عيناها ببارق الرجاء وقالت في نفسها: لا شك أن هذا الخاتم يتضمن سرًّا لا بد لي من الوقوف عليه.

وكانت من الدواهي الماكرات، فلم تظهر اكتراثًا لهذا الخاتم وانصرفت إلى خطوط يد داغوبير وقالت له: إني أبدأ بوصف أخلاقك، فإنك حاد المزاج.

– هو ذاك.

– ولكنك طاهر القلب سليم النية.

وكانت تقول هذا القول بلهجة الثقة، غير أن داغوبير جعل يضحك لكلامها وقال لها: أبنعل جواد تهبينني هذه الهبات؟ إنك لا ريب كثيرة الكرم.

ثم قال: إني أفتخر بهذه الصفات.

– وأنت ثابت الإرادة إذا عزمت على أمر لا تنثني عنه.

– لقد صدقت.

– ثم إنك أَلوف حسن الوفاء لمن تحب، ولكن مزاجك يتغلب عليك أحيانًا فتُحزن من تحبه دون أن تريد.

وهنا ارتعش وذكر حنة وبكاءها فعاوده الانقباض.

– هذه هي أخلاقك، أما مستقبلك فهو أنك ستغدو سعيدًا ولكنك تلقى كثيرًا من العثرات.

– أنا أكون سعيدًا؟ وكيف تأتيني هذه السعادة؟

وكانت النورية لا تزال تنظر في يده، ثم اضطربت فجأة وقالت له: ماذا أرى؟

– ماذا؟

– إن هذا محال.

– ولكن ماذا رأيت؟

وظهرت على النورية علائم الاضطراب، ورأى أن اضطرابها أخذ بالتزايد فقال لها: قولي ماذا رأيت؟

– أرى أنك ستغدو من الأغنياء وتكون من النبلاء.

– ما هذا المزاح؟

– لست أمزح، بل أقول الحقيقة، فإنك سوف تتقلد سيفًا وتلبس الثياب المذهبة.

وهنا ذهب كل تأثيرها عليه دفعة واحدة؛ إذ لا يخطر له في بال أن يغدو في حين واحد غنيًّا نبيلًا من رجال السيف.

غير أن النورية لم تكترث لعدم تصديقه نبوتها، فقد كانت منشغلة البال بهذا الخاتم الذي في إصبعه، حتى أوشكت أن تنسى المهمة التي جاءت من أجلها.

وكان الفجر قد انبثق، وبدأ ثغر السماء يبتسم استبشارًا لطلوع الشمس، وانقطعت أصوات الأجراس في الدير إشارة إلى انتهاء الرهبان من الصلاة.

ثم أخذ الرهبان يخرجون أفواجًا من الدير، فيذهب بعضهم إلى الحقول للاشتغال بالزراعة، وبعضهم إلى معامل الصنائع فيشتغل كلهم فيها بما تعلمه من المهن.

فنظر عند ذلك داغوبير إلى النورية، وكانت تائهة الفكر فقال لها: سأنعل جوادك الآن إن النهار قد تعالى.

ثم مشى يريد الخروج إلى الجواد فاستوقفته وقالت له: أرى أنك لم تثق بما قلته لك.

أجابها ضاحكًا: كلا، ولكني سأنعل جوادك على كل حال.

– ولكني واثقة كل الثقة، وما زلت تنعل الفرس دون أجرة فأرني يدك الثانية.

وبسط لها يده اليسرى فارتعشت بعد أن تمعنت فيها وقالت: إنها تشبه اليد اليمنى والخطوط الدالة على السعادة واحدة.

ثم أظهرت دهشة، فقال لها داغوبير: ما هذه الدهشة؟ لعلك رأيت شيئًا جديدًا؟

– نعم، إنك ستسافر.

فاصفر وجهه عند ذلك؛ لأن الأب جيروم قال له منذ ثلاثة أيام إنه سيسافر إلى باريس.

ثم قطب حاجبيه وقال لها: إنك قلت الحقيقة هذه المرة لأني سأسافر، ولكن متى؟

– إنك مسافر اليوم.

وعاد ابتسام الشك إلى شفتيه وقال لها: لا أظن.

وإنما قال ذلك لوثوقه من أن الأب جيروم لا يزال مريضًا، وهو لا يسافر إلا بعد شفائه.

وعند ذلك تركها وخرج إلى الجواد فلم توقفه النورية.

وفيما هو آخذ بصنع النعل، جاءه أحد الرهبان وقال له: تعال حالًا يا داغوبير.

– إلى أين؟

– إلى الدير.

– لعلك محتاج إليَّ؟

– كلا، بل الأب جيروم يريد أن يراك.

– ولكني مشتغل الآن بصنع نعل لجواد هذه المرأة.

– إنها تنتظر.

فقالت النورية: لا بأس، إني غير مستعجلة.

فوقف داغوبير موقف الحائر، فإن حنة كانت في غرفتها وخشي أن تجتمع مدة غيابه بهذه النورية.

غير أن الراهب كان يلح عليه، فلم يجد بدًّا من الذهاب معه وبقيت النورية وحدها في الدكان، فوضعت رأسها بين يديها واسترسلت إلى التفكير.

وكانت تنوان تعتقد كما قدمناه بخطوط الأيدي، فجعلت تقول في نفسها: ما هذا الاتفاق الغريب؟ وكيف يغدو هذا البيطري الفقير الحقير غنيًّا نبيلًا؟ ذلك مكتوب في كفه لا ريب فيه.

وفيما هي تفكر في أمره سمعت صوتًا فوق رأسها، فالتفتت ورأت حنة نازلة على السلم الخشبي الموصل بين الغرفة والدكان، وهي تنزل ببطء.

ولما تبينت النورية وجهها جمد الدم في عروقها وقالت: ماذا أرى؟ إني لو كنت أعتقد بعودة الأرواح لقلت إن هذه الفتاة «هي».

ذلك أن حنة كانت تشبه امرأة عرفتها النورية شبهًا غريبًا، ورجعت إلى مخيلتها ذكرى تلك المرأة.

١٨

كان داغوبير قد ذهب إلى الدير وهو يعتقد أن حنة لا تزال نائمة، غير أن الفتاة لم تكن تعرف النوم منذ ثلاثة أيام، فإنها كانت تظهر في النهار منقبضة النفس وتحتجب في الليل فتسترسل إلى البكاء.

ولم تستطع أن تقول كلمة لداغوبير حين طرد لوسيان ذلك الطرد القبيح، فإنها حين همت بسؤاله فقاطعها فقال لها: إني مخلص لك، أسفك دمي في سبيلك، ولكن لا تسأليني لماذا طردت هذا الفتى.

فسكتت الفتاة ولم تعد تسأله شيئًا، ولكن انقباضها كان يخترق نفسه ويقع في قلبه وقع السهام.

فلما ذهب داغوبير إلى الدير لم تكن نائمة كما يتوهم، وقد سمعت قرع باب محله حين جاءت النورية، فحسبت أن الطارق هو الأحدب فوجف قلبها؛ إذ كانت تعلم أنه رسول لوسيان، فقد رأته حين أوفده لمقابلة داغوبير.

ولذلك نهضت من سريرها ووضعت أذنها على ثقب الباب المؤدي إلى الدكان، فسمعت كل ما جرى من الحديث بين داغوبير وبين النورية.

فلما علمت أن داغوبير ذهب إلى الدير وأن النورية باقية وحدها في الدكان، نزلت إليها ووقفت في أسفل السلم تنظر إليها نظرات الانذهال لزيها الغريب.

أما النورية فإنها وقفت لها احترامًا وحيتها بلقب مدموازيل.

فقالت لها حنة: لست من السيدات … بل أنا فتاة فقيرة من طبقة العمال.

فابتسمت النورية وقالت: إن الفلاحات لا يكون لهن هذه الأيدي الناعمة المترفة.

– لعلك تستطلعين البخت؟

– هو ذاك يا سيدتي، فإذا أذنت لي أن أنظر في يدك أنبأتك بأمور كثيرة يهمك أن تقفي عليها.

فاحمر وجه حنة وقالت: ولكن، إذا رجع داغوبير ورآني معك تكدر.

– لماذا يا ابنتي؟

– لا أعلم.

– ولكني أنبأته بمستقبله، ولو كان ذلك منكرًا لما رضي به لنفسه.

فاطمأنت الفتاة بعض الاطمئنان وغلبها شوق الوقوف على أسرار المستقبل، فبسطت لها يدها كما فعل داغوبير من قبل.

ونظرت النورية إلى باب الدير، فلما وثقت أنه مقفل أخذت يد الصبية وجعلت تنظر فيها فقالت: ماذا أرى؟

فاضطربت حنة وقالت لها بصوت يرتجف: ماذا ترين؟

– أرى أنك معشوقة، وأن الذي يهواك فتى جميل نبيل يريد أن يتزوج بك ويجعلك من النبيلات فإنه كونت.

فصاحت الفتاة صيحة ذهول لما رأته من صدق هذه المنجمة.

ورجعت النورية إلى الكلام وقالت: إنك ستكونين كثيرة الغنى يا سيدتي.

فابتسمت حنة وقالت: أتهزئين بي؟

– كلا يا ابنتي، بل أقول الحقيقة.

ولم تكن حنة تكترث بالغنى، فانصرفت إلى أميال قلبها وقالت لها: لقد قلت لي إني محبوبة.

– هو ذاك، والذي أحبك قد تَدَلَّهَ بهواك.

فارتجفت حنة وقالت: ولكن ألا يعترض هذا الحب صعاب؟

– نعم، ولكن هذا الفتى النبيل الذي يحبك سيتغلب على جميع الصعاب، ثم إن هذه الصعاب لا تكون من جهة أهله.

– إذن ممن؟

– من أهلك، أو من الذين يقولون إنهم يحبونك.

فافتكرت حنة عند ذلك بداغوبير، وقالت لها تنوان: لا تستائي لذلك يا سيدتي؛ لأني أقرأ مستقبلك في يدك كما تقرئين أنت في الكتاب، فأعلم ما سطر لك في لوح المقدر، والذي أراه أن من يهواك سيفوز على جميع الصعاب.

وعند ذلك سمعتا أن باب الدير قد فتح، ورأت حنة أن داغوبير قد خرج منه فأفلتت إفلات الظبي وقالت للنورية: أرجوك لا تقولي لداغوبير إنك رأيتِني.

ثم تركتها وصعدت إلى غرفتها، فبقيت تنوان وحدها.

وبعد هنيهة وصل داغوبير فقال للنورية: إنك إذا كنت قد تنبأت لي بأمور لا أستطيع تصديقها، فقد قلت لي أيضًا أمورًا أكيدة.

– كيف ذلك؟

– لقد قلت لي إني مقبل على سفر، وقد صدقت نبوءتك لأن الأب جيروم رئيس الدير أمرني بالسفر اليوم.

– لعله يرسلك إلى محل بعيد؟

– إلى أورليان.

– إذا كنت قد صدقت في بعض نبوءتي، فلماذا لا أكون صادقة في جميعها؟

– أتعنين أني سأكون غنيًّا نبيلًا؟

– هو ذاك، فقد قرأت ذلك في يدك كما قرأت نبأ سفرك.

فضحك داغوبير لها دون أن يجيب، وأخذ يصنع لها نعل الفرس حتى إذا أتمه قال لها: إنك تستطيعين أن تسافري الآن.

– أشكرك يا سيدي، وسوف ترى أن نبوءتي كانت صادقة فلا تذكرني إلا بالخير.

فضحك وقال لها: وأنت سوف ترين أن نعل فرسك متينًا، فلا تذكريني إلا بالثناء، وواحدة بواحدة جزاء.

وسارت تنوان في مركبتها وهي توهمه أنها سائرة في طريق بيتهافر حتى إذا توارت عن أنظاره، عطفت إلى الغابة وسارت فيها حتى وصلت إلى قصر بوربيير في الساعة الثامنة من الصباح.

وكانت الكونتس لا تزال نائمة، ولكن تنوان كانت تدخل إليها حين تشاء دون استئذان.

ففتحت الباب الموصل من حجرتها إلى حجرة الكونتس، ووجدتها مضطجعة في سريرها دون نوم واحمرار عينيها يدل على أنها لم تنم تلك الليلة، فلما رأتها داخلة إليها فرحت لقدومها وقالت لها: ما وراءك من الأخبار؟

فأخذت تنوان كرسيًّا ووضعته قرب سريرها وجلست عليه، ثم قالت لها: لقد صدق ما كنت أتوقعه.

– أهي بنت المركيز؟

– هي بعينها، ومن يراها يحسب أنه يرى أمها لشدة الشبه بينهما، ولا بد أن يكون عارفًا بسر مولدها ويجب ألا نتغاضى.

– ماذا تقصدين؟

فاتقدت عينا النورية وقالت: هذا الرجل عثرة في سبيلنا يجب إزالتها أو تزوج بالفتاة وكان له المال.

– إنك مجنونة يا تنوان؟

– كلا، بل إني واثقة مما أقول بعد أن رأيت ما رأيت.

– ماذا رأيت؟

– إني قرأت في عينيه سور الغرام والإقدام، وعلمت من خطوط يده أنه سيصبح من الأغنياء، وهذه الفتاة مقيمة عنده منذ حداثتها في منزل واحد، وهو هائم بها لا شك، وإذا لم نحُلْ بينه وبين تزوجها وأصبح له الصندوق وما فيه.

– أأنت واثقة أنها الفتاة التي نبحث عنها؟

– لم يبقَ بعد اجتماعي بها سبيل للريب.

– إذن أوافقك على وجوب إبعاد داغوبير وإزالته من طريقنا.

– هذا ما اقترحته عليك؛ إذ لا بد منه، ولكن كيف الطريقة؟

– إني أعهد إليك بهذه المهمة، والشفالييه سيكون لك خير معين.

فابتسمت النورية ابتسام الأبالسة وقالت: لقد أحسنت باختيارك الشفالييه، فإنه لا يقف عند خطر، ويستسهل كل صعب في سبيل أغراضه ولا سيما في هذه المهمة فله منها فائدة.

وعند ذلك خلت المرأتان، وكانت الكونتس قد خف ما عندها من الاضطراب الذي لقيته في ذلك الحلم الرهيب، فطلبت إلى النورية أن تحدثها بجميع ما اتفق لها في رحلتها.

فحكت لها كيف اجتمعت بداغوبير، وكيف عرفت من خطوط يديه أنه سيغدو غنيًّا من النبلاء.

فقالت لها الكونتس: أتعتقدين حقيقة بما تقولين؟

– بلا شك، فلا بد أن يغدو هذا الرجل ثريًّا نبيلًا.

– ذاك محال ولا أصدقه.

– ولماذا لا تصدقين يا سيدتي؟ إني حين اتصلت بك كنت نورية أطوف في الشوارع لقراءة البخت، فتنبأت لك عن مستقبلك وكشفت لك أحداث ماضيك.

وكان ذاك سبب اتصالي بك، أكذبت في شيء مما قلته لك؟ ألم يحدث كل ما تنبأت به؟

– هو ذاك.

– إن مستقبل كل شخص مكتوب في يده، ولكن لا يعرف أن يقرأه غير القلائل من الراسخين في هذا الفن.

– إذا كان ذلك، فلا بد لداغوبير أن يغدو غنيًّا نبيلًا ويتزوج حنة وينال الصندوق، فلا نستطيع أن نحول دون سعادته.

– لقد أخطأت يا سيدتي، فإنك تجهلين أصول هذه المهنة ولا تعرفين سوى ما يبدو لك من ظواهرها، فإن خطوط الكف تدل على المستقبل دلالة لا ريب فيها، غير أنه بين هذه الخطوط أخاديد تضيق وتنفرج فتغير تلك الدلائل، فالمرء قد تكون خطوط كفه تدل على السعادة؛ لأن بها أخاديد منفرجة بين الخطوط، فإذا ضاقت يصبح لهذه الخطوط دلائل أخرى قد تكون دلائل بؤس وشقاء، أريد أن مستقبل الإنسان قد يتغير بقتل ذاك الإنسان أو إنقاذه.

فاقتنعت الكونتس بتعليلها وقالت: أتمي حديثك.

فأخبرتها النورية عند ذلك بأمر الخاتم الذي وجدته في إصبع داغوبير، وكيف رأت أنه قد سوده بالدخان إخفاء للونه الذهبي، وشعاره الدال على أسرة صاحبه.

فارتعشت الكونتس وقالت: ألهذا الخاتم شعار؟

– نعم.

– أتذكرين رسم هذا الخاتم وحجمه بالتدقيق؟

فلم تجبها النورية، ولكن أخذت ورقة وقلمًا ورسمت على الورقة الخاتم أصدق رسم وعرضته على الكونتس.

فلم تكن الكونتس تراه حتى صاحت صيحة دهش وقالت: إن هذا خاتم الكونت دي مازير، عرفته من رسمه الغريب.

– أي كونت؟

– الكونت الذي احترق بهذا القصر.

– إذن، لقد أحسنت بذهابي إلى هذا البيطري؛ إذ لولا هذه الزيارة لما علمنا بأمر الخاتم.

– ولا بد لنا من الحصول على الخاتم مهما كلفنا ذلك من الجهد والمشاق؛ إذ لا بد أن يكون في جوفه ورقة مكتوبة.

– وما تظنين أنه يوجد في هذه الورقة؟

– لا شك أنها تتضمن الإرشاد إلى موضع الصندوق الذي نبحث عنه فلا نجده، وقد اتهمت والد أورور واتهمني بسرقته.

– إنك ذكرت لي الشفالييه دي فولون منذ هنيهة، وهو رجل ثابت العزم جدير بالإقدام على كل أمر في سبيل غايته.

– أترين أن له غاية؟

– نعم، فهو مفتون بمدموازيل أورور.

– أواثقة مما تقولين؟

– كل الثقة.

– إذن لقد اتضح لي الأمر، فإن اختصام ولدي مع ابنة عمه كان بمكائد الشفالييه، ولكن كل ذلك يفيد يا تنوان إذا كانت ربيبة الدير هي حقيقة ابنة الكونت دي مازير.

لقد قلت لك إن من يراها لا يفرق بينها وبين أمها كريتشن.

فاضطربت الكونتس وقالت: لا تذكري أمامي هذا الاسم.

– ليكن ما تريدين، ولكن ثقي أنها ابنتها.

– إذا كانت هي ابنتها وكان الخاتم هو الذي أعرفه، وكان الأب جيروم هو الذي كان يُدعى أموري من قبل، فأنا أخبرك بما ينبغي أن يكون قد حدث.

– إني مصغية إليك.

– لقد عرفت أن اثنين كانا يحبان والدة الفتاة؛ أحدهما أموري وهو رئيس الدير، والثاني رجل يُدعى راوول لم تعرفيه، ولا بد أن يكون راوول نفس الرجل الذي جاء بالفتاة إلى الأب جيروم فأودعها عند داغوبير، أما الخاتم فإنه يتضمن دون شك سر الصندوق، فمن ناله نال ذلك المال، ولكن يجب أن نحذر ونتوقع عودة راوول.

– ماذا ترين أن نصنع؟

– إن ولدي يحب حنة وحنة تحبه، أليس كذلك؟

– حبًّا ليس بعده حب.

– إذن يجب أن يتزوجا.

– وهذا الذي أراه.

– وإن الشفالييه سيكون لنا خير معين في هذه المهمة، ولا يجب أن يعلم شيئًا من سرنا، ولكني لا أعلم كيف نستطيع استخدامه في أغراضنا دون أن يعلمها.

فابتسمت النورية وقالت: اطمئني يا سيدتي ودعيني أكون الفكر المرشد وتكوني اليد العاملة.

وعند ذلك نقر باب الغرفة نقرًا خفيفًا، ودخل لوسيان وهو مصفر الوجه وكل ما به يدل على الاضطراب، فذعرت أمه لما رأته وقالت له: ماذا حدث؟

قال: أحب أن أكلمك في خلوة يا أماه.

فأشارت الكونتس إلى تنوان إشارة، فانصرفت وقالت لابنها: اجلس بجانبي وأخبرني بماذا حدث.

– إن نافذة غرفتي تشرف على البستان كما تعلمين، وقد رأيت في صباح اليوم من تلك النافذة تنوان داخلة إليه بمركبة، ورأيت على عجلات المركبة وحلًا أصفر لا يوجد منه إلا في الغابة، فأحببت أن أعلم أين كانت، فنزلت إلى البستان وسمعت البستاني يقول لها: إن نعل الجواد جديد، فأين صنعته؟ فقالت له: عند البيطري المقيم عند باب الدير.

– أهذا الذي تضطرب من أجله يا بني؟

– نعم، فإني أحب أن أعلم ما دعا تنوان إلى الذهاب إلى تلك الجهة.

فأخذت الكونتس يد ولدها بين يديها، وقالت له بلهجة حنو: أصغ إليَّ يا لوسيان، إنك لا تحب ابنة عمك وتهوى فتاة فقيرة تريد أن تتزوجها، أليس كذلك؟

فذعر لوسيان وقال لها: من أخبرك بذلك؟

فابتسمت الكونتس وقالت له: لقد أنبأني به قلبي، وأنت لا تعرف يا لوسيان قلوب الأمهات، إنك ولدي الوحيد وليس لي سواك في هذا الوجود، فكيف أعترض سعادتك! تزوجها يا بني إذا كان في ذلك نعيمك فلا هناء لي إلا بهنائك.

فصاح لوسيان صيحة فرح، وأكب على صدر أمه يعانقها ودموع السرور تذرف من عينيه.

بعد ذلك ببضع ساعات؛ أي بعد أن حسب لوسيان أن أبواب النعيم قد فتحت له، كانت أمه الكونتس مختلية مع الشفالييه دي فولون.

وكانت تقول له: إنك لا تعرف من لوسيان ما أعرفه، فإنه خلق قبل عصره، وهو يحب فتاة الدير حبًّا يقينًا، فلو أردت إقناعه أن زواجه بها محال لما بينهما من تباين المقام، لما فهم هذا القول؛ إذ هو يحسب جميع الناس سواء، ولذلك أذنت له بزواجها.

فدهش الشفالييه وقال: أنت يا سيدتي تأذنين لابنك وهو الكونت دي مازير أن يتزوج فلاحة لا يعرف أصلها؟

فابتسمت الكونتس وقالت: إننا نجد ألف سبب لتأخير هذا الزواج، وفي خلال ذلك يثوب إلى رشده وتبرد لوعة غرامه، أما الآن فيجب أن نصنع كل ما يريد.

– لقد فهمت مرادك يا سيدتي، فليكن ما تريدين.

– ألم تقل لي إن رئيس الدير والبيطري يحرسانها؟

– نعم.

– أيوجد طريقة لمغافلتهما واختطاف الفتاة؟

– إني أتعهد بذلك يا سيدتي.

– بورك فيك، فهذا الذي كنت أتوقعه منك، وما زال الأمر كذلك فلنسرع بالعمل ولنتداول فيه.

– شأنك وما تريدين.

فنادت الكونتس عند ذلك تنوان، فلما جاءت قالت لها: اجلسي بيننا يا تنوان فإننا في حاجة إلى آرائك السديدة. وأقام أولئك الثلاثة يتآمرون على لوسيان بينما كان هذا الفتى الطاهر القلب السليم النية يصطاد العصافير في البستان.

١٩

وبعد أن فض مجلسهم، ذهب الشفالييه إلى لوسيان وقال له: ألا تروق لك المحادثة أيها الصديق؟

فأجابه لوسيان بملء السذاجة: في أي أمر تريد الحديث؟

– وأي حديث يشغلنا الآن غير حديث غرامك، فقل لي ألا تزال تحبها ومصرًّا على زواجها؟

– لا أنثني عن هذا العزم ما حييت.

– وإذا سألتك أن تطلق يدي في أمرك، أتمنحني هذه السلطة؟

– بلا ريب.

– إني أسألك أن تطيعني طاعة لا حد لها.

– سأطيعك في كل ما أردت.

– إذن فاسمع، إن أمك توافق على زواجك بها، أليس كذلك؟

– لقد رضيت بهذا الزواج صباح اليوم.

– ولكن يوجد اثنان لا يرضيان به، وهما الأب جيروم وداغوبير.

– لماذا؟

– لا أعلم، فلا بد أن يكون هناك سبب عظيم، ولكن ما زال هذا دأبهما فلا بد لنا من الاستغناء عن موافقتهما.

– ماذا نصنع؟

– إن أبواب الدير تقفل في الساعة التاسعة من المساء، فلا يخرج الرهبان منه إلا في صباح اليوم التالي بحيث لا يبقى من حارس على الفتاة غير داغوبير.

– وكفى به حارسًا، فإنه يدافع عنها دفاع اللبؤة عن أشبالها.

– لنفترض أن داغوبير غاب عن منزله، وأنك ذهبت إلى هذا المنزل عند منتصف الليل، فقرعت بابه وفتحت لك حنة.

– وبعد ذلك؟

– يصبح الأمر منوطًا بك، فإن حنة تحبك كما أظن.

– إن الحب متبادل بيننا على السواء.

– إذن تبسط لها عند الاجتماع حقيقة موقفها وتظهر لها أنها أسيرة في أيدي الظالمين، وأنك تريد أن تجعلها كونتس، فإذا أحسنت التعبير عن عواطفك وعرفت أن تتكلم بلغة أهل الغرام فإن حنة توافق على أن تتبعك، فتردفها وراءك فوق الجواد فلا يستفيق الرهبان من رقادهم حتى تكون اجتزت الدير بمراحل.

– ولكن إلى أين أسير بها؟

– إلى هنا؛ أي إلى منزل أمك فإنها قد وافقت على زواجك، وليس في ذلك معرة ما زلت تأتي بها إلى أمك؛ إذ يتضح نبل غايتك متى اشتهر الأمر.

فسُرَّ لوسيان سرورًا لا يوصف، ثم انقبض فجأة وقال: ولكنك لم تفطن لأمر، وهو أن داغوبير لا يفارق منزله ودكانه لحظة.

– إني أضمن غيابه عن المنزل.

– أنت تتعهد بإبعاده؟

فابتسم الشفالييه وقال: نعم أنا أتعهد فاطمئن، والآن قل لي أترى بنوات الأحدب غالبًا.

– إني أراه كل يوم ولا بد أن يكون الآن في المطبخ، فقد جاء يسأل إذا كنا عازمين على الصيد غدًا.

– إذن ادعه الآن ومره أن يطيعني كما يطيعك.

– ولكن …

فقاطعه الشفالييه وقال له: لقد وعدت أن تطيعني وتثق بي، فحافظ على وعدك وافعل ما قلته لك.

– سأفعل. ثم نادى أحد الخدم وأمره أن يدعو له الأحدب، فلما جاء قال له: أريد منك يا بنوات أن تصحب الشفالييه، وأن تطيعه كما تطيعني.

فنظر الأحدب إليه نظرة إنكار كأنه يقول له: إني أؤثر أن تأمرني بالذهاب إلى الموت على أن تأمرني بطاعة هذا الرجل.

فأدرك لوسيان قصده؛ إذ كان يعلم كرهه للشفالييه وقال له بلهجة السيادة: إني أريد أن تطيعه.

وعند ذلك قال الشفالييه: اذهب الآن وأعد لي الجواد.

– لعلك تريد الذهاب إلى الغابة؟

– ربما.

فمشى الأحدب وهو يتمتم قائلًا: إن الكونت بات يثق بهذا الشفالييه، ولكن اعتقادي راسخ أنه من رجال الشر.

وبعد ساعة كان الاثنان يسيران في الغابة، وقد امتطى الشفالييه جواده وتبعه الأحدب ماشيًا.

حتى إذا توسطا في الغابة ووصلا إلى طريق ضيق فيها وقف الشفالييه وقال في نفسه: إنه إذا صدقت تنوان، فإن داغوبير قد سافر إلى أورليان ماشيًا، ولا يوجد غير هذا الطريق بلا بد له من العودة الليلة؛ إذ لا يدع الفتاة تبيت وحدها في المنزل.

ثم التفت إلى بنوات وقال له: أتعرف يا بنوات طريقة نصب الفخاخ للثعالب والأيل؟

قال: لا يوجد خدعة يا سيدي من خدع الصيد لا أعرفها.

– إني لم أر إلى الآن هذا النوع من الصيد، وأحب أن أراه الليلة، وقد أحضرت معي الفخ.

– كما تريد، ولكن هذا المكان لا يصلح لنصب الفخاخ؛ إذ هو طريق عام والأيل لا يمر به.

– ولكني أريد أن تنصبه هنا.

– أهنا في وسط الطريق؟

– نعم.

فنظر إليه الأحدب نظرة إنكار وقال: أرى أن سيدي الشفالييه يريد أن يصطاد إنسانًا لا أيلًا.

– ربما.

– إذا كان ذلك، فإني لا أشترك معك يا سيدي؛ فإني لا أحب صيد الناس.

فغضب الشفالييه وقال له: لعلك نسيت أيها الوقح أن الكونت أمرك بطاعتي؟

– هو ذاك، ولكن الكونت قد لا يكون عارفًا بقصدك.

– بل هو عارف.

فذعر الأحدب وتراجع إلى الوراء، فأخرج الشفالييه غدارة وصوبها إلى الأحدب وقال له: إذا حاولت الفرار فاعلم أني أقتلك دون إشفاق.

فرأى الأحدب أن الموقف حرج، وحاول أن يطيل الوقت بالجدال فقال له: ما زال الكونت لوسيان عارفًا بقصدك كما تقول فلا أجد بدًّا من طاعتك ولكن …

– ولكن ماذا؟ لعلك تريد أن تعرف الرجل الذي أريد إيقاعه في الشرَك؟

– نعم.

– هو رجل أساء إليَّ وإلى الكونت.

– إذن ليكن ما تريد، ولكنك تعلم يا سيدي أن الرجل لا يؤخذ بالشرَك كما يؤخذ الأيل.

– تريد أن الأيل يسير منخفض الرأس فيعلق الشرَك بعنقه ويخنقه، خلافًا للرجل فإنه يسير مستوي القامة فيعلق الشرك بساقيه ولا يقتله.

– هو ذاك، وأرى يا سيدي أنك تعرف طريقة نصب الفخاخ كما أعرفها، فانصب الفخ أنت.

– لا بأس فسأنصبه أنا، فأمسك جوادي.

ثم ترجل عن جواده ووضع غدارته في جيبه وأخذ من حقيبة كانت على الجواد ذلك الفخ؛ لينصبه بشكل لا يستطيع المار بذلك الطريق الضيق أن يسلم منه.

وكان القمر يتألق في السماء ويضيء ضوء النهار، فلم يكد يتم نصب الفخ حتى سمع الأحدب يصيح صيحة دهش، فأسرع إليه وقال له: ماذا جرى؟

وكان الأحدب جالسًا القرفصاء على الأرض وهو ينظر في آثار قدم عليها، فقال له: لقد عرفت صاحب هذه القدم.

– من هو؟

– هو داغوبير البيطري عند باب الدير.

– أحقًّا ما تقول؟

– إنه هو الذي مر بهذا الطريق، وإنك قد نصبت الفخ له دون شك.

– ربما.

– ولكني لا أريد أن يؤخذ داغوبير كما تؤخذ الثعالب.

– لماذا لا تريد؟

– لأنه صديقي.

فشاغله الشفالييه بالحديث، ثم هجم عليه فجأة فقبض على عنقه وألقاه إلى الأرض وهو يقول: إنك إذا صحت أقل صياح خنقتك دون رحمة. ثم حمله بين يديه فوضعه فوق جواده ووثب إلى ظهر الجواد، فأطلق له العنان وسار الجواد ينهب الأرض إلى قصر بوربيير والأحدب عليه أمام الشفالييه وهو ضاغط عليه فلا يستطيع حراكًا.

٢٠

ولنعد الآن إلى الدير حين ذهب إليه داغوبير بدعوة رئيسه، فإن الأب جيروم كان قد شفي فجأة من هذا المرض الخفي الذي أصابه، فلما جاءه داغوبير قال له: إن الوقت قد أزف يا بني، فإني أجد من نفسي قوة تعينني على هذا السفر الذي أخبرتك عنه.

– إني مستعد يا سيدي للذهاب معك إلى حيث تريد.

– ولكني لا أستطيع مبارحة ديري، إلا بإذن خاص من الرئيس العام المقيم في أورليان؛ ولذلك سأرسلك يا بني بهذا الكتاب إلى الرئيس.

ثم أعطاه كتابًا ضخمًا مختومًا بالشمع بختم الدير، فأخذه داغوبير وقال: أيجب أن أذهب الآن؟

– كلا، بل نسافر بعد الظهر، وفي خلال ذلك تخبر حنة بعزمنا على السفر كي تتأهب له.

فأخذ داغوبير الكتاب وعاد إلى دكانه، فوجد تنوان النورية وحدها فإن حنة كانت قد أسرعت بالعودة إلى غرفتها كما تقدم.

وبعد أن ذهبت تنوان وبقي داغوبير وحده يشتغل، نزلت إليه حنة فحيته وقبل جبينها كما عودها منذ الحداثة، ثم جلست بجانبه فقال لها: إني مسافر اليوم إلى أورليان بأمر الأب جيروم.

– أهي بعيدة من هنا؟

– سبع مراحل.

– متى تسافر؟

– عند غروب الشمس.

– متى تعود؟

– بعد انتصاف الليل، ولكني سأقفل باب الدكان حين انصرافي، فإذا طرقه طارق فاحذري أن تفتحي إلا إذا كان الطارق أنا، أتعدينني بذلك؟

– بلا ريب.

– بقي أمر يجب إخبارك به وهو أننا مسافرون كلنا غدًا.

فارتعشت حنة وقالت: من كلنا؟

– أنا وأنت والأب جيروم.

فاصفر وجهها وقالت: إلى أين نسافر؟

– إلى باريس.

– ما عسانا نصنع في باريس؟

– نذهب إليها للبحث عن ثروتك.

– أنا لي ثروة!

– نعم فإنك ثرية، وربما وجدنا عائلتك أيضًا.

فقالت بلهجة الأسف: ألم تقل لي مرات إن أهلي قد ماتوا؟

– هو ذاك، ولكن ألا تذكرين اليوم الأول الذي أتيت به إلى هنا؟

– نعم أذكر ذلك فقد كنت صغيرة، وجاء بي إلى هنا عمي راوول، ولكنك قلت لي أيضًا إنه مات.

– إني كنت أحسبه ميتًا، غير أن الأب جيروم يقول إنه حي.

فظهرت عليها علائم السرور وقالت: أهذا أكيد؟

– هذا ما يقوله الأب جيروم، وربما وجدنا عمك في باريس.

فعادت الفتاة إلى الانقباض، ثم تنهدت وقالت: إن عمي قد يخطر له أن يبقيني عنده.

– ذلك ممكن.

فاضطرب صوتها وقالت: إذن لا أعود إلى هنا؟

فقال لها بلهجة تشف عن الحزن العميق: ألم أقل لك إنك من النبلاء، وإنه لا يمكن أن تعيشي كل العمر في منزل حداد فقير مثلي.

فاغرورقت عيناها بالدموع وقالت: إني سعيدة هنا. ثم عانقت داغوبير وجعلت تقول وهي تبكي: إني أحبك ولا أحب أن أفارقك.

– إذن، إذا رأيت عمك ألتمس منه أن يأذن لي بالبقاء معك في خدمتك.

وكان من حق هذا الجواب أن يخفف دموعها، ولكنها بقيت تسيل وصعدت إلى غرفتها فجعلت تشغل نفسها بإعداد الطعام.

وعند الظهر جلست مع داغوبير على المائدة، فلم تكن تبكي ولكنها كانت حزينة منقبضة تأكل بدون شهية.

وبعد ذهاب البيطري عادت فاسترسلت إلى البكاء.

أما البيطري فإنه خرج من المنزل واليأس ملء قلبه، فكان يقول في نفسه: إني أعلم يقينًا السبب في بكائها، فإنها لا تبكي إشفاقًا على فراقي بل على فراق هذا الكونت. وتوغل في الغابة فجعل يبكي بدوره بكاء أشد من بكائها.

وما زال يسير وهو على هذه الحالة من القنوط حتى وصل إلى أورليان، فدفع إلى الرئيس العام رسالة الأب جيروم وأخذ جوابه، ثم رجع لفوره وهو يوسع الخطى.

وكان القمر على وشك الزوال وقد حجب نوره تكاثف أشجار الغابة، فما زال يسير وهو مشتت البال، حتى وصل إلى موضع الفخ في ذلك الطريق الضيق، فشعر فجأة أنه التطم به ثم شعر أن ساقيه قد تقيدا، وعلم لفوره أنه سقط في فخ الثعالب.

٢١

ولنعد الآن إلى الشفالييه دي فولون، فإن القراء يذكرون أنه وضع بنوات الأحدب أمامه فوق الجواد وانطلق في تلك الغابة إلى قصره.

وقد حاول الأحدب أن يصيح ويستغيث، ولكنه لقي من وعيد الشفالييه وغدارته ما حمله على الخوف والسكوت.

وما زال سائرًا به على هذا الشكل حتى وصل إلى قصره، فنادى الخدم ودفع الأحدب إليهم فقال لهم: خذوا هذا الفتى فاربطوا يديه ورجليه وضعوا كمامة في فمه، ثم ألقوه على هذه الحالة في القبو إلى أن أفرغ من مهمتي فإنه يثقل عليَّ.

فقال له الأحدب: لو علم الكونت أنك مسيء إليَّ هذه الإساءة لما رضي أن تكون بينك وبينه معرفة وولاء.

فقال له الشفالييه: إن الذنب ذنبك، فقد أمرك الكونت أن تطيعني فأبيت الامتثال.

– إن لوسيان طاهر القلب نبيل الأخلاق، فلو علم ما أردت عمله في الغابة لما أمرني أن أطيعك.

– قلت لك إنه يعلم.

– وأنا أقول لك إنه لا يعلم، فإنه يترفع عن الإساءة إلى الناس.

فغضب الشفالييه لهذا التكذيب والتقريع وأخذ سوطه فجلده به جلدًا مؤلمًا، ثم قال للخدم: احملوا هذا الوقح إلى حيث أمرتكم، وعودوا إليَّ في الحال فإني محتاج إليكم في هذه الليلة.

فقيدوا الأحدب وكمموه وألقوه في قبو المطبخ وعادوا إلى سيدهم، فأمر اثنين منهم ليتبعوه، فتبعاه وعاد بهما إلى حيث وضع الفخ في الغابة فدلهما عليه وقال لهما: إني نصبت هذا الفخ لرجل سيمر بهذا الطريق بلا ريب ويعلق به، فاكمنوا بين أشجار الغابة حتى إذا رأيتماه علق في الفخ قيدا رجليه ويديه قبل أن تطلقاه من الشرك، فإنه شديد وله قوة الثيران.

فقال له أحدهما: لعلنا نعرف هذا الرجل يا سيدي؟

– نعم، فهو داغوبير البيطري.

– لقد عرفناه يا سيدي، فماذا نصنع به بعد ذلك؟

– تنتظراني حتى أعود.

ثم تركهما وانصرف واضطجع الرجلان على العشب بين الأشجار.

وبعد ذلك بساعة سمع أحد الخادمين وقع أقدام، فنبه رفيقه وقال له: أعد الحبل فهذا رجلنا قد وصل.

– إنه في يدي.

ثم اقترب القادم، فحبس الخادمان أنفاسهما.

كان القادم داغوبير، فلما وصل إلى الفخ وسقط به أسرع الشقيان وانقضا عليه، فلم يثب من دهشته حتى رأى أنه بات مقيد اليدين والرجلين بقيد وثيق.

وكان شديد القوى فبذل جهدًا عنيفًا كي يقطع قيده فلم يتمكن، فجعل يصيح ولكن الرجلين كمماه فانقلب صياحه إلى أنين.

•••

أما الشفالييه فإنه ذهب إلى قصر بوربيير، فوجد لوسيان وأمه وتنوان لا يزالون ينتظرونه، فلما وصل وجدهم مجتمعين في غرفة الكونتس.

وكانت الكونتس قد اتفقت مع ولدها حين غياب الشفالييه اتفاقًا تامًّا، فقد قالت له: إنك تحب يا بني هذه الفتاة، ومعاذ الله أن أعترضك في سبيل سعادتك، غير أن البيطري لا يغفل عنها طرفة عين.

فهاجه الغضب؛ إذ ذكر إهانة البيطري وصبه الماء على رأسه فقال: إني سأؤدب هذا الشقي فأجعله عبرة لسواه.

– ولكنك إذا أدبت البيطري يبقى أولئك الرهبان، وهم يحرصون على الفتاة أشد مما يحرص البيطري عليها، واعلم يا بني أني ما كنت لأوافق على هذا الزواج الذي يشيننا لو لم أكن قد رأيت أن هذه الفتاة غير وضيعة كما يدل ظاهرها.

– ولكن أية فائدة للرهبان من الحرص عليها؟

– إنا يا بني في زمن ضاعت فيه حقائق الدين، وبات رجال الله أشد تمسكًا منا في متاع الدنيا، فإن هؤلاء الرهبان والقسس على ما يبدو من ظواهر نبلهم وزهدهم في الدنيا واشتغالهم للآخرة في خدمة الله أشد منا حرصًا على المال وسعيًا لاكتسابه، حتى إن بعضهم قد يدفع بهم الطمع والشراهة على اكتسابه من غير الوجوه المحللة المشروعة.

– ماذا تريدين بذاك يا أماه؟

– أريد أن الفتاة التي تحبها قد لا تكون قريبة داغوبير كما يقولون، بل قد تكون من أسرة نبيلة وأن الرهبان قد ضبطوا ثروتها.

– أيمكن ذاك؟

– هذا الذي أعتقده.

– ولكن إذا كان كما تقولين كانوا القيمين عليها، فماذا أصنع؟

فابتسمت الكونتس وقالت: أتكتم عني أسرارك يا بني، ألا تدري أني واقفة على جميع أمرك؟ فإن الشفالييه أخبرني بكل شيء.

فاحمر وجهه وقال: أحقًّا ما تقولين؟

– إن داغوبير سيغيب اليوم عن منزله بحيث تبقى الفتاة وحدها في المنزل.

فأخذ لوسيان يد أمه فقبلها وقال لها: إنك لا شك من خير الأمهات، وعلى ذاك فإنك تأذنين باختطاف حنة؟

– نعم، على أن تأتي بها إلى هنا فتبقى تحت حمايتي إلى يوم الزواج.

فكاد لوسيان يجن من فرحه، وجعل يعانق أمه إظهارًا لامتثاله.

وعند ذاك دخل الشفالييه، فقالت له الكونتس ولوسيان بصوت واحد: ماذا حدث؟

– لقد جرى كل شيء وفق ما أردناه، فهلم أيها الصديق واركب جوادك فقد آن الأوان.

– والبيطري؟

– إنه سقط في الفخ.

– كيف كان ذاك؟

– إن الوقت لا يتسع الآن لإخبارك بهذه التفاصيل.

فقالت الكونتس: ائذن لي بكلمة أيها الشفالييه، وهي هل بات البيطري في قبضتك؟

– سيكون في قبضتي بعد ساعة.

ثم التفت إلى لوسيان وقال: هلم بنا.

فامتثل، وخرج الاثنان حتى إذا ركبا جواديهما قال الشفالييه: إني لا أقتصر على نيلك مرادك ممن تحب، بل إني أريد الانتقام لك ممن أساء إليك دلالة على إخلاصي في صداقتك، فإنك لا تزال تذكر الماء البارد الذي صبه البيطري عليك، أما انتقامي منه فإني اصطدته كما يصطادون الثعالب بالفخاخ.

وهنا قص عليه كيف نصب الفخ للبيطري، فارتعد لوسيان وقال: لا أنكر استيائي من هذا الرجل، على أني لا أريد أن يبلغ انتقامي منه هذا الحد، فإني أريد تأديبه لا قتله وهذا الفخ يخنقه دون شك.

– كلا، فقد نصبته بشكل إذا سقط فيه تقيدت رجلاه دون أن يصاب بأذى، فاطمئن بالًا فما زلت من المشفقين.

وسار الاثنان حتى قربا من موضع الفخ، فصفَّر الشفالييه ولم يكد يدوي صفيره في تلك الغابة حتى أجيب بمثله، وهي إشارة اتفق عليها مع خادميه فأيقن أن داغوبير بات في قبضتيهما، وأطلق لفرسه العنان وهو يقول للوسيان: اتبعني فقد سقط في الفخ.

فتبعه حتى وصلا إلى حيث كان الخادمان، فوجدا أنهما قيدا داغوبير وكمماه وألقياه إلى الأرض.

وكان يضرب الأرض برأسه ويئن أنينًا مزعجًا كأنه يحاول الانتحار ليأسه فلا يجد إلى الموت سبيلًا.

فدنا منه الشفالييه وقال له بلهجة الساخر: أرأيت نتيجة الاعتداء على النبلاء أيها الوقح؟

فنظر داغوبير إلى محدثه ورأى على نور القمر وجه لوسيان، فهاج ثائره وتحرك حركة عنيفة فكاد يقطع قيده، ثم أدرك عجزه فنظر إلى لوسيان نظرات تتقد بنار الغضب وعاد يضرب برأسه الأرض.

فدنا لوسيان من الشفالييه وهمس بأذنه قائلًا: أول ما أشترطه أيها الصديق ألا يُساء إلى هذا المنكود بشيء فقد كفاه ما يلقاه.

– لا فائدة لنا من الإساءة إليه، وإنما نريد إقصاءه، وسأحبسه في القبو مع الأحدب.

فاضطرب لوسيان وقال: أحبست بنوات؟

– نعم؛ لأنه يخدعك ويخونك.

– إن هذا محال.

– بل هي الحقيقة أرويها لك في غير هذا الموضع، فهلم بنا الآن إلى منزل داغوبير فإن الوقت غير فسيح.

وقد سمع داغوبير هذه الكلمات الأخيرة، فأنَّ أنينًا هائلًا خرج من صدره كزئير الأسود.

فارتعش لوسيان وتوجع لمصابه، فقال للشفالييه: هلم بنا، فإني لا أستطيع النظر إلى شقاء هذا التعس.

فأمر الشفالييه خادميه أن يذهبا بداغوبير إلى حيث سجنوا الأحدب، فقطع الخادمان غصنين ضخمين ووضعاه عليهما وحملاه فوق الغصنين على كتفيهما وسارا به إلى منزل الشفالييه.

وكان جميع الخدم قد عادوا إلى النوم، فلم يشعروا بقدوم الخادمين بالأسير.

أما الخادمان فإنهما أدخلا داغوبير إلى المطبخ وفتح أحدهما باب القبو والمصباح بيده، فلم يكد ينزل درجتين في سلمه حتى صاح صيحة قنوط؛ إذ لم يجد الأحدب في القبو.

٢٢

وعند ذلك ترك الخادمان داغوبير ملقًى على الأرض وبحثا عن الأحدب في القبو وجميع أنحاء القصر فلم يقفا له على أثر.

وذهلا إذ لم يدع أقل أثر لفراره، لا سيما وأنه كان موثقًا بحبل لا سبيل إلى قطعه.

ولنعد الآن إلى الأحدب فنبسط كيفية فراره من سجنه بعد وثوق الشفالييه وخدمه من استحالة الفرار.

فقد كان هذا الفتى ذكي الفؤاد شديد الصبر على المكاره، فلما رأى أن القوة في جانب الشفالييه عمد إلى الحيلة فتظاهر بالتسليم والرضوخ لما قدر له؛ لأنه كان يعلم يقينًا أن الشفالييه يقتله إذا كابر.

وقد كانوا قيدوا يديه وجعلوهما وراء ظهره بحيث بات نحو نصف ساعة لا يستطيع حركة لمتانة القيد.

وكان ملقى على ظهره، فبينما هو على هذه الحال سمع أصواتًا غريبة فوق رأسه.

ثم شعر كأن أنفاسًا تهب على وجهه، ثم صاح صيحة منكرة إذ أحس بالجرذان والفيران تصوصي من حوله، فذعر ذعرًا عظيمًا حتى إن الرعب ضاعف قوته فتمكن من الجثو على ركبتيه.

غير أن الجرذان بقيت تطوف حوله وهو يئن أنينًا مزعجًا؛ إذ لم يكن يستطيع الدفاع.

على أن الجرذان أجفلت لأنينه فهربت بحيث تمكن الأحدب أن يبلغ زحفًا إلى الجدار ويستند عليه فيقي ظهره عضها.

ولكن الجرذان لم تلبث أن عادت إليه، وكأنها أيقنت ووثقت من عجزه فلم تعد تحفل به.

وعضه أحدها عضة مؤلمة هاجت أعصابه، وزادت قوته فتمكن من قطع قيد ساقيه فوقف وجعل يركض في هذا القبو المظلم وقد ملء قلبه رعبًا، فكان يدوس برجليه تلك الجرذان وهي تبلغ المئات.

وظل العراك بينه وبين الجرذان نحو ربع ساعة وهو يركض كالمجانين، فيبلغ برجليه من رءوسها ما تبلغ أنيابها من لحمه، فقد صعد بعضها على جسمه حتى بلغ وجهه.

فكان إذا شعر بدبيبها على خده ألقى نفسه إلى الأرض ومرغ وجهه فيها فتقلب عليها تقلب الملسوع، ثم رجع إلى الوقوف فكان إذا سحق بقدمه جرذًا صاح صيحة ألم، فأجابه الأحدب بمثلها لأن رفاق الجرذ القتيل كانت تنتقم للفور.

ولبث على ذلك حتى أعياه التعب وأوشك أن يسقط، فرجع واستند على الجدار كي يستريح هنيهة ثم يرجع إلى الصراع.

غير أنه سمع فجأة أن جموع الجرذ أخذت تهرب منذعرة، كأن السماء أرسلت نصيرًا لهذا التعس.

وفيما هو منذهل يفكر في أسباب رحيلها رأى نقطتين تتقدان كأنهما نجمان يتألقان في سماء مظلمة.

فأيقن أنهما عينا هر وجد منفذًا إلى القبو، فكان السبب في خلاصه من أفظع موت.

وكان الهر واقفًا فوق سلم، فخيل للأحدب أن هذا الهر معلق في القبة؛ إذ لم يكن يرى السلم لشدة الظلام، ولكنه حين أمن شر الجرذان عاد إليه رشده، فأيقن أن الهر فوق سلم.

وخطر له خاطر سريع ولده في نفسه موقفه الحرج، فمشى إلى جهة الهر حتى عثر بالسلم، فصعد درجاته وهو مكتوف اليدين فلم يعد يرى عيني الهر لأنه خاف من الأحدب كما خافت الجرذان منه فهرب.

أما الأحدب فإنه حين بلغ آخر السلم شعر أن رأسه قد التطم بخشب تحرك إثر الالتطام.

فعلم أنه باب يفتح من أرض المطبخ وينزل منه إلى القبو، فرفعه برأسه فارتفع وصعد درجة وهو يفتح الباب برأسه حتى وصل إلى آخر درجة من السلم فوثب منه إلى أرض المطبخ.

وكان المطبخ مظلمًا كالقبو غير أن أشعة القمر كانت تنفذ إليه من إحدى نوافذه فكان يرى ما حواليه.

وقد رأى في ما رآه المستوقد، فقال في نفسه: لا بد أن يكون فيه بقية نار خلال الرماد.

وقد خطر له عند ذلك خاطر غريب، فإن المستوقد كان منخفضًا فنبش رماده برجله فانكشف عن بقية نار، ورأى قرب المستوقد أعشابًا جافة تستخدم للوقيد فاستعان بفمه على وضع هذه الأعشاب فوق النار، ثم جعل ينفخ فيها فالتهبت وتعالى لهيبها.

فأدار ظهره عند ذلك ووضع يديه المكتوفتين فوق ذلك اللهيب بشكل عرض فيه الحبل للنار.

فاحترقت قميصه، ثم احترقت يداه، ولكن الحبل احترق معهما وانقطع.

فألقى نفسه في الحال إلى الأرض فتمرغ فوقها بحيث انطفأ لهيب القميص، ثم أسرع إلى موضع الماء البارد ووضع يديه فيه فخف ما كان يجده من الألم.

وجعل يبحث في المطبخ حتى عثر بزجاجة زيت فصبها فوق يديه المحترقتين فساعد الزيت على تخفيف آلامه.

ولما انتهى من ذلك وبات مطلق اليدين لم يعد يخطر له سوى الفرار، فخرج من المطبخ إلى البستان، فاعترضته الكلاب وهمت أن تنبح، ولكنها كانت تعرف صوته لاشتراكه في جميع حفلات الصيد.

وجعل يناديها بأسمائها ويبتعد حتى وصل إلى سور البستان، فتسلق الجدار ووثب منه إلى الخارج.

وانطلق يعدو في الغابة حتى وصل إلى الموضع الذي نصب فيه الفخ فلم يجد له أثرًا، وقال في نفسه: إما أن يكون داغوبير قد سقط في الفخ، وإما أن يكون الشفالييه قد يئس منه لعدم مروره في ذلك الطريق، فرفع الفخ.

ولذلك رأى أن يذهب في البدء إلى دكان داغوبير، ويقف على الحقيقة.

٢٣

ولنعد الآن إلى لوسيان وصديقه الشفالييه، فإنهما بعد أن أمر الشفالييه خادميه بالذهاب بداغوبير إلى القبو سار الفارسان في طريق الدير، فقال لوسيان لرفيقه: قل لي الآن ماذا فعل بنوات؟

– أراد خيانتنا.

– هذا محال، فقد عرفت الفتى حق المعرفة.

وأخبره الشفالييه بجميع ما اتفق إلى أن قال له: إن الأحدب عرف من آثار الأقدام في الطريق الذي نصب فيه الفخ أنها آثار البيطري، وأن الفخ قد نصب له فأبى الرضوخ لأن البيطري صديقه.

فلما علم لوسيان أن الأحدب صديق داغوبير وهو كان يرسله بمهمات إليه بات يكره الاثنين، وقال لصديقه: لقد أحسنت كل الإحسان؛ لأن عوام الشعب باتوا متفقين علينا يتآمرون على التنكيل بنا كل يوم، وهذا ما جرته علينا أفكار الفلاسفة التي تساهلت الحكومة في أمر نشرها، فكانت وبالًا علينا نحن النبلاء، وأخذت تنتشر بين هذا الشعب.

إلا أن لوسيان لم يكن يرتئي رأي رفيقه فلم يناقشه في هذا الموضوع، وسأله عما فعل بالأحدب فأخبره.

وسأله: وماذا تصنع بداغوبير؟

– كما صنعت بالأحدب.

– لعلك تطيل سجنه؟

– إلى أن يتم عقد زواجك بحنة، فإنه إذا خرج من السجن قبل الزواج ذهب إلى رئيس الدير وأخبره بما اتفق، فأفسد عليك الأمر؛ لأن الأب جيروم إذا وقف على الحقيقة قبل فوات الأوان، ذهب إلى رئيس الدير العام فأقام الدنيا وأقعدها واسترجع منك الفتاة.

وعلى ذلك يجب أن نحتاط كل الاحتياط، وإني واثق من رجالي ولا خوف من إفلات البيطري والأحدب، فإذا أحسنت السلوك كانت حنة طوع إرادتك بعد ساعة وتذهب بها إلى أمك، وفي اليوم التالي تسافر بها إلى باريس.

– إذن ستحتفظ بداغوبير والأحدب؟

– نعم.

– ولكنك لا تسيء إليهما؟

– أعدك وعد صادق.

– إذن أنا ذاهب إلى حنة.

فنظر الشفالييه في ساعته وقال: كلا، لم يحن الوقت بعد؛ إذ يجب أن ننتظر حتى يبدأ الرهبان بصلاة الفجر.

فتنهد لوسيان وتاه في فيافي التصورات، وكان يحسب كل ما هو فيه حلمًا؛ لأنه سيختطف حنة وقد أسرَ البيطري ووافقت أمه على زواجه، وكل ذلك لم يكن يخطر له في بال.

ثم إنه مضى به ثمانية أيام لم يقف في خلالها على شيء من أخبار ابنة عمه أورور.

وكان يفكر في جميع هذه الأمور وهو ساهي الطرف، والشفالييه ناظر إليه يقرأ أفكاره ولا يكلمه إلى أن نظر لوسيان إليه فجأة، وقال له: إني خائف أيها الصديق.

– مما الخوف؟

– أخشى ألا توافقني حنة على الفرار؛ لأنها تحترم داغوبير أشد الاحترام.

– ولكنها تحبك أشد حب.

– هو ذاك، ولكنها ربيت تربية دينية، وهي تعتبر داغوبير قيمًا عليها، فأخاف أن يغلب دينها حبها فيمنعها عن ارتكاب هذه الهفوة.

– إذن قل لها الحقيقة، وهي أنها ضحية الرهبان وأن داغوبير آلة في أيديهم.

– وإذا أصرت على الإباء؟

– عندها ترجع إليَّ ونختطفها بالقوة، ومتى وصلت إلى منزلك ورأت أمك يخف ما عندها؛ إذ توقن عندئذ من نبالة قصدك.

– سأذهب على بركة الله وليفعل الله ما يشاء.

وعندها أوقف الشفالييه جواده فجأة، وقال للوسيان بصوت منخفض: اصمت وأصغ.

وأصغى لوسيان هنيهة، ثم قال لرفيقه: ماذا سمعت فإني لم أسمع شيئًا؟

– لقد خيل لي أني سمعت وقع أقدام بين الأدغال.

– ربما كان ذلك صوت مسير حيوان.

– ربما، ولكني قلق البال.

– ما يحملك على القلق؟

– إني لو لم أكن واثقًا أن بنوات الأحدب سجين، لقلت أن هذا الصوت صوت وثبه.

– إنك واهم أيها الصديق، فربما كان الذي سمعته صوت حفيف الأوراق.

– ربما، فلنواصل السير.

وسار الفارسان ولم يبتعدا قليلًا حتى رجع الشفالييه إلى الوقوف، وقال: إني لست مخطئًا هذه المرة، وقد سمعت الصوت نفسه ولا بد لي أن أتحقق.

ثم دفع جواده إلى جهة مصدر الصوت، فطاف هنيهة باحثًا وعاد وقال: أظن أني مصاب بدوي في أذني لأني لم أر أحدًا.

– قد يكون ذلك صوت سير حيوان كما قلت لك، ولنواصل السير فقد اقتربنا من الدير.

– بل أرى الأفضل أن أنتظرك هنا.

– لماذا؟

– لأنك إذا كنت وحدك قد تفتح لك حنة الباب، وأما إذا رأتني فلا يمكن أن تفتحه.

– لقد أصبت أيها الصديق.

– إذن سر، فإذا أصرت على الرفض ورأيت أنك محتاج إليَّ، فصفِّر لي أحضر إليك في الحال.

فتركه لوسيان وانصرف وبقي الشفالييه وحده ينتظره، فما مضت هنيهة حتى ارتعش؛ إذ سمع ذلك الصوت السري للمرة الثالثة.

ولكن الصوت كان قريبًا جدًّا منه، فقال في نفسه: لم يبقَ لدي ريب أن الصوت صوت أقدام لص.

وعند ذلك أخذ مسدسه من جيبه، ودفع جواده إلى الغابة.

ولم يكد ينتقل به من مكانه حتى أصيب برصاصة بندقية، فصاح صيحة ألم وانقلب يهوي عن جواده إلى الأرض متضرجًا بالدماء.

٢٤

ولا بد لنا لمعرفة هذا القاتل من اتباع الأحدب حين خروجه من القبو، وقد تركناه متوجهًا إلى منزل داغوبير ليعلم إذا كان قد سقط في الفخ، أو سلم منه فينذره إذا وجده في منزله بأن لوسيان يريد اختطاف حنة.

وكان يعرف جميع طرق الغابة، وقد وثق أن لوسيان يبغي اختطاف الفتاة بدليل اتفاقه مع الشفالييه على أسر داغوبير.

وجعل يسير بسرعة الغزلان في أقصر الطرق المؤدية إلى الدير، وهو يرجو أن يبلغ إليه قبل وصول الكونت والشفالييه، فإما يجد البيطري ويخبره أو لا يجده ويحول دون بغية الكونت في الحالين.

وفيما هو يعدو في تلك الغابة وقد احتجب القمر بالغيوم، سمع فجأة صوت رجل يقول له: من أنت؟

فذعر وقال: أنا بنوات.

– لقد أخفتني يا بنوات.

وعرفه الأحدب من صوته وقال له: أهذا أنت يا جاك؟

وكان هذا الرجل الفلاح الذي أساءت إليه الكونتس أورور في بدء هذه الرواية لقتله الأيل التي كانت تطارده.

ودنا الأحدب منه وقال له: لقد بكرت بالصيد يا جاك.

– كلا، إن الفجر سوف ينبثق، وقد حسبتك أحد حراس الغابة فخفت منك.

وكان الأحدب قد رأى عن بعد فارسًا قبل أن يرى جاك يسير في طريق الدير، فحسبه داغوبير وجعل يثب بغية إدراكه، حتى التقى بجاك فحال دون قصده، فقال لجاك: إني أراك قادمًا من جهة الدير، أرأيت داغوبير؟

– كلا.

– ولكن من هو الفارس الذي يسير في طريق الدير؟

– ليس هو فارسًا بل فارسين لم أعرفهما لأني لم أتبينهما.

– وا أسفاه! إني أخشى أن يكون أصيب داغوبير بمكروه.

ثم أخبره بجميع ما عرفه عن المكيدة.

فغضب الفلاح وقال: يجب أن نضع حدًّا لعسف هؤلاء الذين يدعون أنفسهم نبلاء، وما هم إلا من أسافل الرعاع.

– إذا كان الذين رأيتهما فارسين لا بد أنهما الكونت والشفالييه، هلم نتبعهما فإنهما ليسا بعيدين عنا.

وعند ذلك جعل الاثنان يعدوان إلا أن الأحدب رأى رفيقه لا يستطيع مجاراته في العدو.

ورجع إليه وقال له: إنك لا تستطيع إدراكهما معي أيها الصديق، فأعطني بندقيتك.

– أتريد أن تقتل بها لوسيان؟

– كلا، بل الشفالييه الذي دفعه إلى ارتكاب هذا المنكر.

– خذ، إني أود قتل كل نبيل يتذرع بنبله إلى الشر.

ولم يكن بنوات هذا قد أساء إلى أحد في حياته، فقد فُطِر على الصلاح، إلا أن الانتقام هاج بصدره وسهل له ارتكاب الجريمة، لا سيما وأنه كان لا يزال يشعر بألم شديد في يديه من الحرق.

وأخذ البندقية وجعل يثب بين الأدغال في أثر الفارسين، وبجنب الطريق العام حتى أدركهما على قيد عشرين خطوة.

ورأى أن لوسيان قد انفصل عن الشفالييه فوضع البندقية على كتفه وصوبها على الشفالييه، ثم أطلقها عليه مرتين وأصابه إصابتين إحداهما في كتفه والأخرى في صدره فسقط صريعًا وانتقم الأحدب منه.

وكان لوسيان قد بعد نحو ثلاثمائة متر عن الشفالييه وسمع دوي البندقية ولكنه لم يسمع صيحة الشفالييه فحدثه قلبه بمصاب، إلا أنه كان قد اقترب من منزل داغوبير ورأى عن بعد نورًا يضيء فيه، فارتجف قلبه وقال في نفسه: إن حنة قد تكون في انتظاري.

ولم يعد يفتكر بذلك الدوي، وقال: قد يكون ذلك من أحد الصيادين.

ودفع جواده إلى منزل داغوبير، وهو يكاد يسقط عنه لفرط اضطرابه.

فلما اقترب من المنزل أوقف جواده، وترجل عنه وربطه في إحدى أشجار الغابة، ومشى إلى المنزل، ورأى أن النور ينبعث من الدكان لا من المنزل.

ووجف قلبه واقترب من الدكان ووضع عينه على ثقب الباب، فلم يكد ينظر إلى الداخل حتى تراجع، وقد اصفر وجهه، وجمد الدم في عروقه.

ذلك أنه رأى حنة جالسة في وسط الدكان ولكنها لم تكن وحدها، بل كان معها امرأة أخذت يدها بين يديها دون كلفة، وهي تحدثها وتبتسم لها ألطف ابتسام.

أما تلك الفتاة فقد كانت خطيبته السابقة، مدموازيل أورور ابنة عمه.

٢٥

ولا بد لنا لإيضاح السبب في وجود الكونتس أورور عند ربيبة الدير في هذه الساعة المتأخرة من الليل، أن نعود بالقارئ إلى منزل هذه الكونتس.

لقد تركناها وقد فتحت ذلك الصندوق الذي أعطاها إياه الخادم الشيخ بنيامين، وإنها أخرجت منه مدالية فيها تمثال امرأة وصاحت صيحة دهش حين رأت تلك الصورة؛ لأنها كانت تشبه ربيبة الدير شبهًا عجيبًا، ونادت عند ذلك بنيامين، ولكنه كان قد انصرف حين دفع لها الصندوق.

ولبثت أورور حائرة مترددة لا تعلم أتنادي بنيامين أيضًا، أم تتم فحص ما حواه الصندوق إلى أن أقرت على الرأي الأخير.

ووجدت في ذلك الصندوق كتابين، كتب على أحدهما: «إلى ابنتي تفتحه حين تبلغ الخامسة عشرة من عمرها»، وعلى الثاني: «إلى ابنتي تفتحه بعد الكتاب الأول بعامين.»

فقالت أورور في نفسها: إني قد بلغت الآن الثامنة عشرة من عمري فصار يحق لي فتح الكتابين.

وعند ذلك ذهبت إلى باب حجرتها وأقفلته من الداخل، وعادت إلى الكتابين ففضت الأول منهما وقرأت ما يأتي:

إلى ابنتي الحبيبة

أكتب إليك هذا الكتاب من ميونخ، وأنا في شر حال وقد اجتمع الأطباء حول سريري يتشاورون في أمري.

إن هؤلاء الأطباء الذين أنارهم العلم لم يتفقوا على مرضي، ولكنهم اتفقوا على موتي فرأى بعضهم أني أعيش أيضًا ثلاثة أشهر، وارتأى آخرون أني أموت بعد أسبوعين.

إني كنت مطبقة عيني حين قضوا عليَّ هذا القضاء المبرم فحسبوني مغميًّا عليَّ، ولكني كنت أسمع ما كانوا يقولون فذعرت يا ابنتي ذعرًا شديدًا حين سمعت بأذني القضاء عليَّ بالموت، إلا أني لم أخش الموت حبًّا بالحياة فقد طالما ناديت رسوله، ولكني خشيته لأنه سيكون السبب في التفريق بيني وبينك.

إنك لا تزالين طفلة حين أكتب هذا الكتاب يا أورور، فإن قدر لك أن تفتحيه بعد موتي؛ أي بعد أن تفصل بيننا هوة الأبد.

إني لا أعلم ما يكون مصيرك بعدي، فإما أن تكوني ابنة قلبي وأحشائي أو تكوني ابنة الأحشاء فإني أكون بعيدة عنك، ولكن عيني بنيامين الوفي المخلص الأمين ستنظران إليك، وهو الذي يعلم حقيقة مصيرك.

إن أباك يا ابنتي الحبيبة مذنب عظيم، بل أجسر على القول إنه من أهل الجرائم، فهل تكونين ابنتي أو ابنته؟ وهل تمزج طباعه وأخلاقه الفاسدة في دمائك أم ترثين من أخلاقي؟ هذا هو الشك الهائل الذي لا يروعني سواه وأنا أنزل درجات القبر.

إنك حين تفتحين هذا الكتاب تكونين قد بلغت مبلغًا من الصبا يعينك على درس أخلاق والدك، فإذا قدر لك أن تفتحيه فارثي لحال أمك واعلمي أنها ماتت موت الشهداء.

إن بيني وبين والدك الشفالييه دي مازير سرًّا هائلًا يا ابنتي لا يخلق أن تعلميه وأنت لا تزالين في مقتبل الشباب، فإذا بلغت الثامنة عشرة من عمرك يدفع إليك بنيامين كتابي الثاني فتقفين على هذا السر وتعلمين ما يجب أن تصنعيه، ويعلم بنيامين أي الخلقين ورثت من والدك وأمك.

الوداع يا ابنتي، بل إلى اللقاء، فإني أحب أن أموت متزودة بهذا الأمل المعزي وهو أن نفوس الصالحين تلتقي في العالم الأخير.

أمك
كريتشن

فلما قرأت أورور هذا الكتاب أصيبت بذهول شديد، ثم جعلت تناجي أمها باكية فتقول: عفوك يا أماه، فإن أخلاق أبي قد أفسدت نفسي ولكن روحك الطاهرة ستصلح ما فسد.

وأخذت ذلك الكتاب وجعلت تقبله، ثم اهتزت فجأة وقد ذكرت ما كتبته لها عن ذلك السر، فتاقت إلى الاطلاع عليه وفضت الكتاب الثاني وقرأت ما يأتي:

إنك إذا قرأت يا ابنتي هذا الكتاب تكونين قد اقتبست حقيقة من أخلاق أمك.

ولذلك أستطيع أن أخبرك بكل شيء … إنك تجدين في الصندوق الذي يعطيك إياه بنيامين دفترًا، وهذا الدفتر يتضمن تاريخ حياتي، فقد قلت لك في كتابي الأول إني أموت موت الشهداء، ذلك أني مت مسمومة يا ابنتي في منزل والدك.

إنهم دسوا لي في الطعام سمًّا هائلًا منذ عامين يقتلني تباعًا، كي لا تظهر جريمتهم للعيون.

افتحي الدفتر واقرئي ما فيه تعلمي كيف ماتت أمك التعيسة وتعرفي أسماء قاتليها.

وإني أخبرك يا ابنتي قبل أن أودعك الوداع الأخير، أنه يوجد فتاة تزيدك سنًّا تتصل بك بأشد أواصر القربى، وأنت لا تعلمين أن هذه الفتاة أختك وتحسبين أنك وحيدة.

فلما وصلت أورور إلى هذه الجملة صاحت صيحة دهش وسقط الكتاب من يدها.

ولما ثابت من دهشتها قامت إلى جرس دقته دقًّا عنيفًا وفتحت الباب للحال ودخل بنيامين، فقد كان واقفًا قرب الباب لوثوقه أنها ستدعوه إليها لتسأله، فوجد الدمع يجول في عيني أورور فقال لها: هو ذا أتيت يا سيدتي، فبماذا تأمرين؟

– أريد أن تخبرني كل شيء.

– ماذا تأمرين يا سيدتي أن تعرفي؟

– أريد أن أعرف لماذا لم يقل لي أبي؟ ولماذا لم تقل لي أنت إن لي أختًا؟

– هي الحقيقة، فلك أخت.

– ولكن أين هي؟ وماذا جرى لها؟ لعلها ماتت؟

– لا أعلم.

فقالت بصوت يضطرب: إني قرأت الكتابين يا بنيامين وأريد أن أعرف كل شيء.

– لعلك قرأت الكتاب الثاني إلى نهايته؟

فارتعشت وقالت: كلا.

– إذن أتمي قراءته.

فأخذت الكتاب من الأرض وأتمت قراءته، فقرأت ما يأتي:

إن لك أختًا، وقد حاولوا قتلها كما قتلوني، إلا أن رجلًا مخلصًا لنا أنقذها، وأنا لا أعلم إذا كان يستطيع إخفاءها عن أعين أولئك القتلة الآثمين، ولكني أسأل الله أن يقيها من هذه الوحوش الضارية.

إني لا أعلم يا أورور أين تكون أختك حين تقرئين هذا الكتاب، ولكنك إذا كنت قادرة باسلة، فاجعلي همتك البحث عنها وحمايتها من كيد المعتدين.

الوداع، بل إلى اللقاء فإني أنتظرك في السماء؛ حيث نجتمع لدى الديان نصير المظلومين.

أمك
كريتشن

فنظرت أورور إلى بنيامين وقالت له: إذن لي أخت، ولكن لماذا لم يخبرني أبي بها؟

– لأنه يحسبها ميتة.

– أهي ميتة؟

فأجابها بنيامين بصوت منخفض: لا أعلم، ولكن موتها أفضل من حياتها.

فاضطربت أورور وتوقعت الإباحة بأمر خطير لم تجسر على السؤال عنه، فأخذت الدفتر وجعلت تقلبه بين يديها وهو الدفتر المتضمن تاريخ حياة أمها وبيان أسماء قاتليها.

وكان الدفتر مختومًا بالشمع الأسود، فكانت تدني يدها من ذلك الختم فتقشعر منه كأنه نار يحرقها ولا تجسر على مسه.

وفيما هي على ذلك، أصاب نظرها تلك المدالية المرسومة فيها صورة المرأة، فاختلجت وقالت لبنيامين: من يمثل هذا الرسم؟

فأجابها بصوت يتهدج: إنه رسم أمك يا سيدتي.

فصاحت الكونتس صيحة دهش وقالت: إذن لقد بت واثقة أن أختي لا تزال في قيد الحياة.

وعندها خرج بنيامين وقرأت أورور ما يأتي …

٢٦

إن أسرة ولدتر كارلوتنبورج هي أقرب أقرباء الأسرة المالكة في بافاريا، ولم يكن باقيًا من هذه الأسرة النبيلة إلا فتاة وهي الأميرة هيلانة.

إن هيلانة دي كارلوتنبورج كانت بين الثامنة والعشرين والثلاثين من العمر، وهي بارعة الجمال كثيرة الدلال والإدلال، فكانت سمر النوادي العالية في حلقات المتحدثين.

وقد كان رغب في زواجها كثير من الأمراء غير أنها أبت إجابة أحد من خطابها احتفاظًا باستقلالها.

إلا أنهم كانوا يتحدثون همسًا في الآذان أنها متزوجة زواجًا سريًّا منذ بضعة أعوام برجل نبيل يدعى الكونت دي مازير.

وكان هذا الكونت في الثلاثين من عمره، تدل ظواهره على الغنى وهو فقير، ولكنه نال منصبًا كبيرًا بفضل المساعدة الخفية فأرسله ملك فرنسا سفيرًا لمملكته إلى بلاط ميونخ.

فبعد أن تولى هذا المنصب بعامين استدعي فجأة إلى باريس لسبب موت أحد أخويه.

وكان أخوه قد مات عن أرملة وطفل صغير يبلغ بضعة أشهر، وهو فقير أيضًا مثل أخيه الكونت السفير.

ففي اليوم التالي لسفره لوحظ أن البرنسيس هيلانة لم تكن في البلاط، وعلموا بعد يومين أنها سافرت إلى باريس، فلم يبقَ شك لدى جميع نبلاء ميونخ أنها متزوجة حقيقة بالكونت دي مازير.

وكانت هذه الأميرة كثيرة الغنى يحبها الملك حبًّا شديدًا أبويًّا ولا يصبر على فراقها، فكانت كثيرة الإدلال عليه تنال بنفوذها عليه كل ما تريد.

وهي شديدة الكبرياء، ومن أخلاقها الغيرة وحب الانتقام، ولم يكن لديها من المخلصات لها إلا فتاة فرنسية ولدت في ألمانيا، فكانت لهذه الأميرة صديقة ووصيفة، وقد وهبتها الطبيعة جمالًا باهرًا فكان هذا علة شقائها.

إن هذه الفتاة كانت تُدعى كريتشن، وأما اسم عائلتها فقد كانت تجهله.

إلا أن الأميرة كانت تعلم اسم عائلة كريتشن ولكنها لم تكن تخبرها به لسبب خفي لم تستطع إدراكه على شدة اتصالها بها.

وكل ما كانت تعرفه كريتشن عن عائلتها أن أباها قدم إلى ميونخ مضطهدًا فقيرًا، فتزوج نبيلة من نساء تلك العاصمة، وأن أباها مات بعد شهر من موت أمها وهي لم تبلغ العام من العمر، ولم يعلم أحد كيف كان موتهما ما خلا رجلًا كان خادمًا في منزلهما يدعى فريتز.

فلما بلغت كريتشن الخامسة عشرة من عمرها ورد إلى فريتز كتاب من فرنسا، فسافر إلى فرنسا على إثر ورود الكتاب تاركًا كريتشن لعناية امرأته.

وقد طال غياب فريتز فمرضت امرأته وماتت بعد ستة أشهر لسفره، فباتت كريتشن فريدة وحيدة في هذا الوجود.

إلا أن عين العناية كانت ترمقها، فإنه لم يمر بها على انفرادها ثلاثة أيام حتى وقفت مركبة تجرها أربعة جياد وعليها شعار النبلاء وخرجت منها سيدة وهي البرنسيس هيلانة دي كارلوتنبورج، فإن الأميرة كانت مرت منذ بضعة أشهر بهذا البيت ورأت كريتشن فأثر بها جمالها وأرادت أن تجعلها في حاشيتها.

فلم تجد كريتشن بدًّا من القبول؛ إذ باتت وحيدة في الوجود.

على أن فريتز لم يكن قد مات كما توهمت كريتشن، فلما عاد من فرنسا إلى ميونخ وعلم بأن كريتشن عند الأميرة تجهم وجهه، وذهب إلى قصر الأميرة فالتمس مقابلتها، فوجد أن كريتشن باتت في أرقى منزلة لدى البرنسيس، فلم يجسر على أن يسألها الفرار معه، ولكن البرنسيس أذنت بمقابلته، فخلا بها مليًّا، ولم تعلم كريتشن ما دار بينهما من الحديث في ذلك الاجتماع إلا بعد زمن طويل.

غير أن فريتز أقام منذ ذلك اليوم في قصر الأميرة خصيصًا لخدمة كريتشن، فكان يلازمها ملازمة ظلها كأنها مهددة بخطر سري هائل.

ومر عامان، وفي ذلك العهد سافرت الأميرة إلى باريس وصحبت معها كريتشن وفريتز.

وكانت كريتشن قد تربت أفضل تربية في قصر الأميرة وتعلمت خير تعليم، وقد ترعرعت وباتت فتنة الناظرين بجمالها حتى إن الكونت دي مازير الذي كان لا يكاد ينظر إليها في بدء دخولها في خدمة الأميرة بات الآن مدلهًا مفتونًا بها.

وكانت الأميرة قد تزوجت حقيقة بالكونت دي مازير، وإنما بقي هذا الزواج مكتومًا لأن ملك بافاريا أبى الموافقة عليه.

أما الكونت فقد كان في مقتبل الشباب، وهو جميل الوجه حلو الحديث كثير التفنن خلافًا لكريتشن، فقد كانت على أتم السلامة، فلم يستطع قلبها الصغير مقاومة عيني هذا الكونت فعلقت في شركه، وكانت الأميرة لا تعلم شيئًا مما جرى بينهما، على أن الكونت كان قد أقسم لكريتشن أنه عشيق الأميرة وليس زوجها كما يشيعون، وأنه سيتزوج كريتشن، فصدقته الفتاة لسلامة نيتها وسقطت في حبال غرامه.

وكانت مدة إقامة الأميرة في باريس قصيرة لا تتجاوز شهرين، غير أن كريتشن كانت تصحب الأميرة إلى الأوبرا فكانت تدهش الناس بجمالها، وقد اتفق يومًا أنها كانت في صحبة البرنسيس، فلقيهما اثنان من حراس الملك وأظهرا لها ودادًا عظيمًا.

وكان أحدهما يدعى الكونت دي بوفوازين، والآخر راوول دي مورليير.

ففي اليوم التالي ورد إلى كريتشن كتابان من هذين الحارسين، فعثر فريتز اتفاقًا على أحد هذين الكتابين وهو كما يأتي:

سيدتي

إني رأيتك ساعة واحدة فأحببتك، ولي صديق وفيٌّ رآك كما رأيتك وأحبك كما أحببتك، وكلانا يضع نفوذه وثروته رهن خدمتك، وأقسم كلانا أن يبقى على وفاء صاحبه إذا قدر لأحدنا أن ينال حظ رضاك عنه دون الآخر.

وكان هذا الكتاب موقعًا عليه باسم الكونت دي بوفوازين ولم يصل إلى كريتشن.

أما كتاب راوول فقد وصلها، ولكنها كانت وا أسفاه تحب الكونت دي مازير، ولم تكن لتقابل راوول لو لم يكن قد ورد إليها منه كتاب آخر في منتهى الخطورة.

وهنا توقفت أورور هنيهة عن القراءة، وقالت: رباه! إن كريتشن هذه كانت أمي.

ثم عادت بعد استرسالها إلى التفكير إلى تلاوة كتاب راوول الثاني، فقرأت ما يلي:

إلى مدموازيل كريتشن دي فلارس

لقد عرفنا يا سيدتي باتفاق غريب اسمك ورسم عائلتك، فأنت من بقايا أسرة أقسمت مع رفيقي على أن نسفك في سبيل الإخلاص لها دماءنا.

وإن كلينا يا سيدتي يحبك أصدق حب، وكلانا يرجو تحقيق رجائه بزواجك، ولكننا لا نخدمك من أجل الحب وحده، بل إن الذي يدفعنا إلى هذه الخدمة واجب مقدس يجب علينا قضاؤه.

إنك يا سيدتي على جمالك وطهارة قلبك وكونك من ملائكة الله، يحيط بك أعداء أشداء لا بد لنا أن ننقذك من قبضتهم.

وكلانا شريف وفيٌّ، فاعتمدي على وفائنا وشرفنا، واعلمي أنه يجب أن نراك في هذه الليلة نفسها كي تعلمي ما يحدق بك من الأخطار.

وإن مقابلتك في قصر الأميرة محال، ولكن يوجد منزل مقابل لذاك القصر يدخل إليه من رواق ضيق، فإذا كنت لا تشكين بولائنا فاحضري إليه في الساعة الثامنة من مساء اليوم تجديني في انتظارك مع صديقي الكونت دي بوفوازين فإننا نقيم سواء في هذا المنزل.

المخلص الوفي
راوول دي مورليير

غير أنه حال دون قصدها عزم الأميرة على الرجوع إلى ميونخ في اليوم نفسه.

وكان الفارسان قد رشوَا أحد خدم القصر فأوصل إلى كريتشن هذه الرسالة، واضطرت كريتشن أن تبقى مع الأميرة كل ذاك اليوم لإعداد معدات السفر فلم تفارقها لحظة.

حتى إذا خرجت الأميرة مع حاشيتها إلى المركبات دنا الخادم من كريتشن وأعطاها ذاك الكتاب.

وقد ركبت الأميرة والكونت دي مازير في المركبة الأولى، وركبت كريتشن وسيدة لابسة ملابس الحداد ومعها طفل صغير في المركبة الثانية.

أما السيدة التي كانت لابسة ملابس الحداد فقد كانت أرملة أخي الكونت دي مازير الذي مات حديثًا، وقد رضيت بالسفر إلى ألمانيا والعيش مع أخي زوجها في منزل الأميرة.

وأما كريتشن فإنها لم تستطع فتح الكتاب إلا في المحطة الأولى.

ولما أقبل المساء وصلوا إلى سانوتياري فنزلوا في أحد فنادقها، وهناك أطلعت كريتشن فريتز على كتاب راوول، فقرأه فريتز واصفر وجهه وقال لها: لم يعد لي بد يا سيدتي من أن أقول لك الحقيقة، فإن الاسم الذي ذكر في الكتاب هو اسمك الحقيقي.

– ولكن كاتب الكتاب يقول إن لي أعداء أشداء، فكيف يكون لي أعداء؟

فاضطرب فريتز وقال: إن أعداءك يا سيدتي هم أعداء أبيك وجميع أسرتك.

– لعلك عرفت أبي؟

– إنه مات بين يدي.

وعندها أخذ فريتز يقص عليها تاريخ أسرتها فقال لها: إن أسرتك فرنسية وقد كانت شهيرة في القرن الماضي، وقد أسر جدك في حصار مجدبورج وسقط في قبضة البارون ولدتر وهو جد البرنسيس هيلانة.

وكان لهذا البارون امرأة صبية حسناء في حين أنه كان شيخًا قبيحًا شريرًا، وكان جدك المركيز دي فلارس جميلًا وهو في الخامسة والعشرين من عمره فأحبته البارونة، ولما عقد الصلح بانتهاء الحصار جاء جدك المركيز إلى فرنسا وقد انثنى عن حب البارونة وحسب أن سر غرامهما لم يعلم به أحد، غير أنه كان منخدعًا في ظنونه.

وبعد أن عاد إلى فرنسا تزوج، فلم يمر بزواجه ثلاثة أشهر حتى ماتت امرأته بعد أن لقيت آلامًا لا تطاق ولم يدر أحد من الأطباء حقيقة مرضها.

وبعدها بشهرين هاجم المركيز جدك عصابة متنكرة فأثخنوه جراحًا وتركوه صريعًا وهم يعتقدون أنه لقي حتفه.

ولكنه لم يمت، بل شفي من جراحه وتزوج ثانية بعد هذه الحادثة بعام، فولدت له امرأته ثلاثة بنين.

ومضى على زواجه عشرون عامًا، فبينما هو نائم ذات ليلة في المنزل دخل بعض الأشرار إلى غرفة رقاده وقتلوه بالخناجر، فأفرغت الحكومة مجهودها في البحث عن القاتل فلم تقف له على أثر.

وكان أبناء المركيز قد شبُّوا، فمات اثنان منهم بذاك المرض الخفي الذي ماتت به امرأة جدك الأولى، أما الولد الثالث فقد وردت إليه رسالة خالية من التوقيع هذا نصها:

احذر لنفسك فإن أباك المركيز قد أغوى امرأة البارون ولدتر كارلوتنبورج، وهذا هو السبب في ما تلقاه عائلتك من النكبات المتتابعة.

أما الولد الثالث فهو أبوك يا سيدتي، وقد كان له صديقان أصغر منه سنًّا وهما ذانك الحارسان اللذان كتبا لك.

وكان يوجد في باريس في تلك الأيام ابن البارون ولدتر الأكبر، وهو شقيق البرنسيس، فخاصمه أبوك وقتله في مبارزة، وكان شاهده في المبارزة صديقاه دي بوفوازين وراوول.

فلما قتل البرنس، وكان الملك قد جعله برنسًا قبيل مقتله حسب أبوك أن جذوة الأحقاد العائلية قد خمدت، ولم يكن له من العمر غير ثلاثين عامًا، فأراد الزواج استبقاء لاسم عائلته؛ إذ لم يبقَ منها سواه.

ولكنه أخطأ في حسابه فإنه في اليوم التالي لزواجه وجد امرأته مخنوقة في سريرها، فملأ الرعب قلبه وبرح باريس متنكرًا وقد غير اسمه، فأقام في ميونخ متنكرًا باسم شارل ريتربرج، وهناك تزوج أمك وبعد عامين ولدتك، وذاك منذ ستة عشر عامًا، لكنها ماتت بعد ولادتك موتًا فجائيًّا، وبعد بضعة أيام مات أبوك، ولكنه تمكن قبل مفارقة الروح من أن يقص عليَّ هذا التاريخ العائلي المحزن.

فلما فرغ فريتز من حكايته قالت له كريتشن: إذن إن هذه الأميرة التي أعيش في ظلها هي ابنة قاتلي أسرتي؟

– نعم.

– إذا كنت تعرف ذاك، فكيف تركتني أقيم في منزلها؟

– إن الأقدار أرادت أن تكوني في منزلها يا سيدتي، فإن أباك حين برح فرنسا باع جميع موجوداته فيها، وقد أمرني وهو على فراش الموت أن أنتظر إلى أن تبلغي الرابعة عشرة من عمرك فأذهب إلى باريس لاسترجاع ثروتك.

فلما بلغت هذا العمر سافرت إلى باريس امتثالًا لأمر أبيك، فبحثت بحثًا مستفيضًا عن تلك الثروة فلم أظفر بها؛ لأن جدتك كانت قد أدركتها الوفاة، ولم يكن يعرف مكان هذه الثروة إلا صديقي أبيك وهما دي بوفوارين وراوول، ولكني لم أعرفهما في ذاك الحين.

فلما عدت بالخيبة إلى ميونخ وعلمت أنك في قصر الأميرة جمد الدم في عروقي من الإشفاق عليك، وأسرعت إلى قصر الأميرة فالتمست مقابلتها وكنت عازمًا على قتلها إذا لم تأذن لك بالخروج معي من قصرها.

إلا أني لقيت منها ما أثناني عن هذا العزم، فإنها أظهرت لي حنوها عليك وحبها إياك والدموع تذرف من عينيها، ودلائل الصدق بادية في لهجتها، ثم قالت لي: إني لست سفاكة ولا أنا من أهل الانتقام، وإني أصلح ما أفسده آبائي بذلك الحقد القديم ويكون ذاك الإصلاح بإحساني إلى هذه الصبية.

ثم تنهدت وقالت: والآن خذها إذا شئت، ولكني أقسم لك بالله العلي أني لا أنتقم منها قياسًا على ما جرت عليه أسرتي مع أسرتها، بل إني أحبها كما تحب الأخت أختها.

وهنا عادت إلى البكاء فلم يبقَ لدي شك بصدق نيتها وسلامة طويتها.

هذا ما أعلمه من سر عائلتك وأنت تعرفين البقية، فانظري الآن في أمرك، فإذا كنت خائفة فارجعي إلى باريس وأقيمي فيها بحماية ذينك الحارسين، وإذا كنت واثقة من ولاء الأميرة فابقي في قصرها.

فخطر لكريتشن في تلك الساعة الكونت دي مازير وقالت لفريتز: بل أبقى مع الأميرة فإن ثقتي بها شديدة.

وإنما أرادت البقاء مع الأميرة لهيامها بالكونت دي مازير.

– إذن عولت على الرجوع إلى ألمانيا؟

– نعم.

– ليحرسك الله ويقيك شر الأعداء.

وفي اليوم التالي سافرت الأميرة مع كريتشن إلى ألمانيا فوصلت إلى ميونخ بعد ثمانية أيام، وكان الكونت قد زاد هيامًا بها وهي بلغت في هواه حد الجنون.

فلما وصلت أورور في قراءة هذا الدفتر إلى هذا الحد، وضعت رأسها بين يديها وقالت بصوت منخفض تكلم نفسها: ترى من هو فريتز هذا الوارد ذكره في هذا الدفتر؟ لعله بنيامين؟

فأجابها بنيامين ذاك الخادم العجوز الأمين وهو واقف وراء كرسيها: نعم يا سيدتي، أنا هو فريتز، وسأخبرك ببقية الحكاية المؤثرة.

فوضعت أورور الدفتر على الطاولة وأصغت إلى حديث بنيامين.

٢٧

كان بنيامين شيخًا قوي البنية طويل القامة، وقد ابيض شعره واتقدت عيناه، فكان له عمر الشيوخ وهمة الفتيان.

فلما جلست أورور تصغي إلى حديثه وجلس أمامها قال: نعم إني مخبرك بسر عائلتك؛ فقد آن لك أن تقفي على كل مكنون من أمورها. ثم قص عليها ما يأتي فقال: إني كنت واثقًا ثقة تامة من إخلاص الأميرة هيلانة لأمك كريتشن ولحنوها عليها بحيث لم أعُد أراقبها مراقبتي الأولى لاعتمادي في ذلك على الأميرة.

ثم إني كنت لم أبلغ بعد حد الكهولة فما عركني الدهر وما خبرت قلوب البشر؛ ولذلك لم أدقق في البحث عما طرأ على أمك من التغيير، فإنها استحالت من حال إلى حال، فبعد أن كانت باسمة الثغر طلقة المحيا أصبحت مفكرة مهمومة تبدو عليها آثار الكآبة في كل حين، فكنت أقول في نفسي إن هذا الانقباض قد تولاها بعد أن وقفت على مصائب عائلتها، ولا بد أن يمحو مرور الأيام هذه الذكرى من مخيلتها فتعود إلى فطرتها.

غير أني كنت مخطئًا في تعليل انقباضها، فإن السبب فيه كان حبها للكونت وعبث الكونت بها.

وقد ساعد الكونت وأمك على هذا الحب حالة البرنسيس في ميونخ؛ فإنها كانت متزوجة الكونت حقيقة، غير أن الكونت لم يكن يحبها، وإنما كان يستخدم حبها لأغراضه، فكان يحضر إلى قصرها في كل يوم، ولكنه كان يقيم في دار السفارة بحيث وثقت أمك لسلامة نيتها أنهما غير زوجين وأن الكونت سيتزوجها كما وعدها بعد ذلك العبث.

ولم تكن الأميرة عارفة بشيء من أسرار هذا الغرام، غير أن امرأة أوقفتها على كل خفي، وكانت هذه المرأة تلك الأرملة التي جاء بها الكونت دي مازير إلى ميونخ، وأقامها في قصر الأميرة؛ أي امرأة أخيه الذي مات في باريس عنها وعن طفل صغير …

فقاطعته أورور وقالت: ألم يكن هذا الطفل ابن عمي لوسيان؟

قال: بلى يا سيدتي، فإن الكونت دي مازير كان يحب عائلته، وكان ملك بافاريا راضيًا عنه يريد له الخير، فاغتنم هذا الرضى الملكي فجاء بامرأة أخيه وابنها، فأقامهما في قصر الأميرة هيلانة، وجاء بأخيه الثالث فجعله من رجال التشريفات في بلاط الملك.

– مَن هو أخوه الثالث؟ أليس أبي؟

– بلى هو أبوك الشفالييه دي مازير، وقد رأى أمك كريتشن فأحبها، وهو يعلم أن أخاه المحسن إليه يحبها حبًّا لا يُوصف، ولكنه لم يبالِ بأخيه.

وأما امرأة عمك؛ أي والدة لوسيان، فإنها حين رأت أمك المرة الأولى نفرت منها وكرهتها كرهًا شديدًا لحسد منها.

غير أن الكونت دي مازير لم يكن يحب حبًّا أكيدًا من جميع مَن كان حوله غير كريتشن.

وجعلت الأيام تتوالى وأمك تبالغ في إخفاء غلطتها، حتى دنت الأيام التي لا يمكن بها للنساء أن يسترن هذه الزلات، وقد كانت في كل حين تتوسل إلى الكونت أن يرحمها ويفي بوعده بزواجها، فكان يعللها بالرجاء ولا يفي بما وعده.

إلى أن دنا موعد ولادتها، ولم يَعُد للكونت حيلة في التسويف، فكتب إلى باريس وطلب أن يستدعوه، فأجابه وزير الخارجية إلى ما طلب.

فلما ورده الإذن بالسفر وعلمت الأميرة بسفره أرادت أن تسافر معه، غير أن ملك بافاريا حال دون بغيتها ومنعها عن السفر، فسافر الكونت وحده وقد وعدها أنه لن يغيب غير بضعة أسابيع.

ولم يكن أحد في القصر قد وقف على زلة أمك غير امرأة عمك والدة لوسيان، وهي امرأة شريرة كثيرة المطامع لا تقف في سبيل أغراضها عند حد من الجرائم، في حين أن الناظر إليها يحسبها من ملائكة الله لجمالها.

أما مطامع والدة لوسيان فهي أنها رأت أن الأميرة كثيرة الضعف، وأن الأطباء قد رأوا أنها في الدرجة الأولى من السل، وأن هذا الداء الوبيل لم يبلغ منها مبلغه بعدُ لكثرة العناية بها، فقالت في نفسها: إنها إذا أصيبت بتأثير شديد قتلها التأثير، ولم تفدها عناية.

وقد كانت تعلم أنها تزوجت الكونت، وأنها لم ترزق منه بنين، فإذا ماتت فإن الكونت يرث مالًا كثيرًا من ثروتها الطائلة.

وكانت والدة لوسيان لا تزال في ريعان الشباب والجمال، فكان رجاؤها أن تتزوج الكونت بعد موت زوجته الأميرة.

وما زالت تعلل نفسها بهذا الرجاء حتى وقفت على غرامه بكريتشن، فكان غرام الكونت بأمك ضربة قاضية على آمالها، فوضعت عند ذلك خطة هائلة ولدتها لها قريحتها الجهنمية، ووصيفة نورية هي شيطان رجيم بصورة إنسان، فجعلت منذ ذلك الحين تتودد إلى كريتشن حتى باتت صديقتها الحميمة، وباتت أمك لسلامة طويتها لا تكتم عنها شيئًا من أسرار قلبها لاعتقادها بصدق إخلاصها.

فلما أوشكت كريتشن أن تصبح أمًّا باحت بسرها لوالدة لوسيان فقالت لها: لا تخافي، فأنا أنقذك من هذا الخطر.

فوثقت كريتشن بها واختلقت والدة لوسيان أسبابًا تدعوها إلى السفر، ثم احتالت على الأميرة حتى أذنت لكريتشن بمرافقتها فسافرتا.

وكان الكونت دي مازير لا يزال في باريس، وقد كان ينكر أمام جميع الناس ما أشيع عن زواجه بالأميرة، فذهبت والدة لوسيان إليه فتظاهرت أنها تجهل أمر زواجه، وقالت له: إني جئت ألتمس منك إصلاح غلط ارتكبته إشفاقًا على اسم عائلتك النبيل.

فارتعش الكونت وقال لها: ماذا تقصدين بذلك؟

– إنك أغويت كريتشن ويجب أن تتزوجها.

وكان لوالدة لوسيان نفوذ على الكونت، بل كان يحترمها احترامًا شديدًا لأنها كانت طامعة بزواجه، فكانت تظهر أمامه بخير المظاهر مما يدعو إلى الاحترام، فاعترف لها الكونت عند ذلك بجميع أمره، وأخبرها أنه متزوج زواجًا شرعيًّا بالأميرة.

فقالت له: إذا كان ذلك كما تقول، فإن زواجك كريتشن محال، ولكن يجب أن تنقذ هذه المنكودة مما هي فيه، فإن اليأس سوف يقتلها.

ثم أخبرته أنها جاءت بكريتشن إلى باريس، وأنها مقيمة معها في منزل للأميرة في شارع أباي، وأنها باتت قريبة من الولادة، فهي في حاجة قصوى إلى العناية الشديدة.

فكاد الكونت يذوب حنوًّا على كريتشن؛ لأنه كان يحبها حبًّا أكيدًا، وسار مع امرأة أخيه إلى ذلك المنزل الذي كانت تقيم فيه.

وهناك أقسم لها الكونت أنه يحبها حبًّا أكيدًا، وأنه لا بد له من الزواج بها، ولكنه أقسم للأميرة هيلانة أنه لا يتزوج إلا بعد أن تبلغ الأربعين من عمرها، وهي قد بلغت الآن السادسة والثلاثين من العمر فلا بد إذن من الصبر أربعة أعوام.

ثم جعل يعرب لها عن عواطف قلبه، ويظهر لها مكنونات غرامه بلغة وجدت سبيلًا إلى قلبها الضعيف، فصدقت وعوده وغفرت له.

أما الكونت فإنه لم يكن كاذبًا في هذا الوعد، فإنه كان يرى أن حياة الأميرة قصيرة، فإن أخاه الشفالييه كان يرسل إليه التقارير عن صحتها في كل يوم، وقد أثر بها فراق الكونت تأثيرًا عظيمًا، فزاد صحتها اعتلالًا.

وكان ملك بافاريا لا يزال مصرًّا على عدم الإذن لها بالسفر، فكانت تكتب كل يوم إلى الكونت تسأله الإسراع بالعودة، فيعللها الكونت بقرب رجوعه ويقول إنه لا يستطيع تعيين موعد الرجوع؛ لأنه مضطر إلى البقاء في باريس لأشغال خطيرة جدًّا، فكانت والدة لوسيان تكيد المكائد في خلال ذلك دون أن يدري أحد بمقاصدها، وذلك أن امرأة نورية تُدعى تنوان كانت متصلة بها فكانت لها شر معين، وقد جاءت في ذلك اليوم من بافاريا …

فقاطعته أورور وقالت: أهي تلك المرأة نفسها التي لا تزال في قصر امرأة عمي؟

– هي نفسها.

فقالت له بصوت يضطرب: أتم حديثك يا بنيامين فإني أراه عجيبًا.

– إن تنوان هذه كانت تستكشف الطوالع، وكانت الأميرة هيلانة من أهل التطير والاعتقاد بالأوهام الباطلة، فكانت تنوان تستكشف طالع الأميرة وتخبرها بما يوافق أغراضها بالاتفاق مع والدة لوسيان، ثم تكتب إليها كل يوم عما تحدثه مكائدها في نفس تلك الأميرة.

وما زالت بها حتى غرست في نفسها بذور الغيرة، فأيقنت أن الكونت لا يحبها، وأن قلبه منشغل في باريس، فكادت تجن لغيرتها، وكل ذلك بحسن دهاء هذه النورية.

ولم تكن تستطيع السفر إلى باريس لأن الملك لم يأذن لها، فأفضت بها الغيرة إلى إرسال تنوان إلى باريس للاستطلاع وموافاتها بالخبر اليقين.

وقد وصلت النورية تلك الليلة إلى القصر المقيمة فيه كريتشن ووالدة لوسيان، وكان وصولها إليه حين خروج الكونت دي مازير منه.

ولا شك أن والدة لوسيان كانت تنتظر قدومها، فإنها نزلت لاستقبالها إلى آخر السلم، وعانقتها معانقة الأخوات ثم قالت لها: إلى أين وصلت بنا الحوادث؟

– إلى حيث أردنا، فإن الأميرة تكاد تجن من الغيرة.

– وكيف صحتها؟

– على ما يشتهيه أعداؤها.

– والشفالييه دي مازير؟

– إنه مدلَّه بغرام كريتشن، فإنه يأتي كل يوم إلى قصر الأميرة يسأل عن زمن عودتها.

– أتظنين أنه لا يعرف شيئًا من أمرها؟

– بل أؤكد.

فاتقدت عينا والدة لوسيان ببارق من الرجاء وقالت: لقد دنت الساعة.

ثم ذهبت بالنورية إلى حجرة معتزلة في القصر كي لا تعلم كريتشن بقدومها إلى باريس.

٢٨

ولم يدر أحد ما جرى بين تلك النورية الداهية وبين والدة لوسيان الطامعة، غير أنه في الليلة التالية دعيت إلى القصر ولادة مشهورة في باريس ففحصت كريتشن وقررت أنها ستلد بعد ثمانية أيام أو أقل.

فلما انصرفت الداية اختلت تنوان بوالدة لوسيان خلوة طويلة، وفي فجر اليوم التالي سافرت النورية عائدة إلى الأميرة.

وقد استأجرت مركبة بريد خاصة، وكانت تنثر الذهب وتقتل الجياد جريًا، فسارت بها المركبة سيرًا متصلًا أربعة أيام وثلاث ليالٍ، وفي الليلة الرابعة وصلت إلى قصر كارلوتنبورج، فوجدت الأميرة قد زادت اعتلالًا، وقد تمكنت منها الحمى.

فلما رأتها الأميرة برقت عيناها وقالت لها: ماذا فعلت؟ أرأيت الكونت؟

فتكلفت تنوان هيئة الكآبة، وقالت: إنه يا سيدتي من الخائنين.

فتطاير الشرر من عينيها وقالت: أهو خانني؟ ومن هي التي أحبها؟

قالت: سيدتي، إني أقسمت يمينًا مغلظة ألا أبوح لك باسم تلك الفتاة السافلة التي اغتصبت منك قلب الكونت.

فهاج غضب الأميرة وقالت: ولكني أريد أن أعلم؟

– إني أقسمت يا سيدتي ألا أبوح باسمها، ولكني لم أقسم بأني لا أذهب بك إلى باريس وأثبت لك هذه الخيانة بالبرهان.

– أهي في باريس؟

– نعم، وإن الخائنة ستغدو أمًّا بعد أربعة أيام، فتعالي معي إلى باريس تحضري ولادتها وتمتعي النفس بسرور الكونت بهذا المولود.

فانقض عليها هذا الكلام انقضاض الصواعق، وبلغت منها الغيرة حد الجنون، فلم تعد تكترث لأوامر الملك، وأمرت بإعداد المركبة وسافرت خفية مع تنوان.

فكانت الحمى وتأثير هذا الخبر قد أثرا بها تأثيرًا بليغًا، فلم يمر بها اليوم الأول من السفر حتى انتهكت قواها، ولكنها أبت الوقوف والراحة، واستمرت على السير، فكانت تصاب في الطريق بإغماء شديد كان يطول عدة ساعات، فإذا عادت إلى رشدها أخذت تنوان تشجعها، تهيج مكامن غيرتها فتأمر بمواصلة السير.

وسارت المركبة حتى وقفت عند فندق النسر الأسود لاستبدال الجياد، وكانت الأميرة مغميًّا عليها في ذلك الحين.

أما تنوان فإنها أطلت من المركبة فرأت فارسًا وقف أيضًا عند باب الفندق وثيابه ملوثة بالوحول وجواده يلهث تعبًا، فرأى النورية وأشار إليها إشارة، فالتفتت النورية إلى الأميرة فرأت أنها لا تزال مغميًّا عليها، فأشارت مثل إشارته فدنا منها وأعطاها رسالة.

ففتحت تنوان الرسالة وقرأت ما يأتي:

تقول الداية إنها لا يبدأ مخاضها إلا بين الساعة الثامنة والتاسعة من المساء، فاجتهدي أن تؤخري قدومك كي تصلي حين الأوان.

فقالت تنوان للفارس: حسنًا، قل لها سيكون ما تريدين. فودعها الفارس وانطلق بجواده.

أما تنوان فإنها أمرت السائق ألا يستبدل الجياد؛ لأن الأميرة مضطرة إلى الراحة، ثم أمرت بنقل الأميرة وهي لا تزال مغمى عليها إلى الفندق.

ثم إنها لم تبذل شيئًا من الوسائل في سبيل إيقاظها من إغمائها، بل تركتها على حالها حتى تعالى النهار واستفاقت من نفسها فوجدت أنها مضطجعة في سرير، وأن تنوان جالسة في كرسي عند سريرها، فذهلت وقالت لها: ما هذا الذي أنا فيه؟ وأين نحن الآن؟

قالت: إننا يا سيدتي في شاتو ياري، وإنما اضطررت إلى إراحتك في هذا الفندق لما رأيت عليك من دلائل التعب، فما جسرت على مواصلة السفر قبل أن تستفيقي.

وكان التعب قد أنهك قوى الأميرة، غير أن الغيرة شددت أعصابها فقالت لها: كلا، لا أريد الراحة بل أريد مواصلة السير في الحال.

فأمرت تنوان عند ذلك بإعداد المركبة، وبعد نصف ساعة عادت بهما إلى السير في طريق باريس، والأميرة مضطجعة في المركبة وهي مطبقة العينين كأنها تحاول الرقاد، وأين لها النوم وهي كأنها نائمة فوق جمر.

حتى إذا اقتربت من باريس فتحت عينيها فجأة وقد اتقدتا بشهاب من نار، فشدت على يد تنوان وقالت لها: لقد علمت.

– ماذا علمتي يا سيدتي؟

– اسم مزاحمتي في الكونت.

فأجابتها بلهجة المتهكم: أحقًّا ما تقولين؟

– إنها كريتشن، وقد كان يجب أن أفطن لغرامها قبل الآن.

فقالت لها النورية: لك يا سيدتي أن تظني ما تشائين، أما أنا فإني لا أنكر ولا أثبت ما تقولين.

فارتعدت الأميرة وقالت: نعم، نعم … هي بعينها، ولكني سأعذبها أشد العذاب، وأنكل بها أفظع تنكيل، ويح لهذا الإنسان ما أكفره بالنعمة!

إني أحسنت إلى هذه الفتاة وعفوت عنها في حين أن أباها قتل أبي، وحنوت عليها حنو الأمهات، فكان جزائي منها أنها سلبتني قلب من أحب وعاملتني بالجحود والكفران … نعم، لقد صدق القائل حين قال: اتق شر من أحسنت إليه، إلا أن خيانتها إذا كانت شديدة فسيكون انتقامي أشد.

فقالت لها تنوان: إنك يا سيدتي سيدة عظيمة، وما أنا إلا نورية حقيرة، ولكن أهل بلادي يعرفون أساليب الانتقام أكثر مما يعرفها جميع الناس.

– كيف ينتقمون في بلادك؟

– إني لو كنت يا سيدتي في مكانك لما انتقمت من خصيمتي بالقتل، فإن عذاب القتل لحظة، بل انتقمت بما هو أشد من القتل فقتلتها كل يوم مرارًا.

– ماذا كنت تصنعين؟

– إني أبدأ فأسلبها ولدها الذي ستلده.

فبرقت عينا الأميرة وقالت: وبعد ذاك؟

– أكرهها على الزواج برجل لا تحبه، ويكون هذا الرجل من أهل الشر والفساد فأجعله آلة بيدي لتعذيبها.

فقالت لها الأميرة: لقد أصبت يا تنوان، فإن حقدي عليها لا يموت بموتها ولا يبرد غليلي إلا الانتقام منها في كل يوم.

– أتجرين إذن على طريقتي؟

– دون شك.

– ولكن الانتقام يا سيدتي على ما أعرفه أنا مادة لطيفة منحصرة في زجاجة رقيقة، بحيث إن أقل ارتجاج يصيبها يكسرها ويسيل تلك المادة التي هي فيها.

– ماذا تقصدين؟

– أعني إذا استحسنت خطتي وجب أن تجري عليها إلى النهاية.

– سأفعل، فما هي خطتك؟

– هي أن تبتسمي لخصيمتك وتتظاهري بالصفح عنها، فتخفي ما في قلبك من الحقد.

فابتسمت الأميرة، ثم استحالت هيئتها للفور من اليأس إلى الزهو وقالت لها: إني وريثة البارون ولدتر، ذاك الذي أباد عائلة بأسرها، ومثلي يعرف أن يخفي غضبه تحت ظواهر الرضا والابتسام.

ففرحت تنوان فرحًا شديدًا وقالت لها: إذن لم يبقَ لدي شك أنك ستنهجين النهج الذي أضعه لك وتدركين به ما تتمنين.

وعند ذاك رسمت لها تنوان خطتها الهائلة، وظلت المركبة سائرة حتى بلغت القصر قرب انتصاف الليل، فنزلت الأميرة منها وهي نشيطة بعد أن كانت تشبه الأموات كأنما محادثة تنوان قد أعادت إليها القوى.

وكانت ظواهر هذا القصر تدل على اضطراب ساكنيه، فلما صعدت إلى الدور الأول سمعت صراخًا شديدًا، فقالت لها تنوان: إنها تتألم آلام الولادة فهل تسمعين؟

– نعم، ولكن أين هو الكونت؟

– لا بد أن يكون عندها؛ إذ لا يفارقها في مثل هذه الساعة.

– إني سأعاقبه أيضًا شر عقاب.

فقالت النورية بصوت منخفض: اذكري يا سيدتي ما أوصيتك به.

– لقد أصبت، فإذا خانني الجلَد لأول وهلة فلا يخونني بعد الآن.

إذن هلمي معي فسأوصلك إلى غرفتها؛ أي إلى غرفتك يا سيدتي، فإن الكونت أقام خليلته في غرفتك في نفس قصرك.

فذكرت الأميرة عند ذاك والدة لوسيان وقالت: وهذه أيضًا ستنال حظها من عقابي.

– إنك إذن تكونين مخطئة مسيئة إليها، فإنها هي التي أخبرتني بخيانة الكونت، وهي مخلصة لك منتهى الإخلاص.

وكانت الأميرة تسير متوكئة على كتف النورية، وكلما مشت خطوة زاد ارتفاع الصراخ حتى بلغت إلى الغرفة التي كان يخرج منها الصوت، فدفعت بابها ففتح ورأت كريتشن تعض يديها من الألم، ورأت الكونت دي مازير قربها يبكي لتوجعها بكاء الأطفال.

٢٩

على أنه كان لكريتشن ثلاثة يحمونها، وهم فريتز والكونت دي بوفوازين وراوول.

ويذكر القراء أن راوول كتب إلى كريتشن يوم سفرها مع الأميرة إلى ميونخ فلم تتمكن من فتح كتابه إلا بعد السفر، مما دعا إلى الإباحة لها بجميع ما بسطناه عن نكبات عائلتها.

غير أن فريتز كان واثقًا من إخلاص الأميرة، فلما وصلوا إلى ميونخ حمل كريتشن على أن تكتب كتاب الشكر لراوول، وأن تخبره أنها آمنة من كل خطر.

فلما عادت كريتشن مع والدة لوسيان إلى باريس كي تستر زلتها كان فريتز مسافرًا.

فلما وافاها إلى باريس لم يعلم شيئًا في البدء مما جرى، ولكنه عرف الحقيقة بعد بضعة أيام فقال في نفسه: إن ابنة سيدي قد أهينت، ولا بد للكونت أن يغسل عارها بالزواج.

ذلك أنه لم يكن عالمًا أن الكونت دي مازير متزوج زواجًا شرعيًّا بالأميرة هيلانة.

ولما وقف على حقيقة حالة كريتشن خطر في باله أن يستعين بالكونت دي برفوازين وراوول، فذهب إليهما وأخبرهما بجميع ما اتفق، فأقسم له الحارسان أن ينتقما لشرف الفتاة.

وكان كلاهما يعشقها ويتألم دون أن يبوح بهواه، وهما يودان سفك دمائهما من أجلها، فاتفقا على قتل الكونت إذا أبى أن يتزوجها.

وفي اليوم التالي لقدوم الأميرة إلى باريس، أسرع فريتز إلى الحارسين وهو يكاد يجن من يأسه، وأخبرهما أن كريتشن قد وضعت بنتًا بحضور الأميرة، وأن كريتشن قد رعبت لقدومها فأغمي عليها وأصيبت بعد الإغماء بحمى شديدة، وأنهم يخشون الآن على صوابها.

فقال راوول: بل إننا نخشى أيضًا على حياتها؛ لأن الأميرة لا بد أن تنتقم منها لاغتصابها قلب من تهواه.

فأخبرهما فريتز أن الأميرة احتقرت الكونت وأهانته، غير أنها صفحت عن كريتشن وتجاوزت عن ذنبها.

فهز راوول رأسه شأن المشكك وقال: إن بيت هذه الأميرة لا يعرف التجاوز عن الزلات، فإنهم كتموا أحقادهم ثلاثة أجيال كان الأعقاب في خلالها يتوارثون الانتقام.

وعند ذلك اتفق الحارسان على أن يذهب أحدهما، وهو الكونت دي بوفوازين إلى حيث تقيم كريتشن فيحملها من الأميرة، وأن يذهب راوول إلى دي مازير فإما أن يكرهه على الزواج بكريتشن أو يقتله.

أما الأميرة فإنها جرت على الخطة التي رسمتها لها تلك النورية الجهنمية، فتظاهرت بالعفو عن كريتشن والإشفاق عليها، وتوددت لها توددًا عظيمًا أنساها ما هي فيه.

أما الكونت فإنه حين رأى الأميرة دخلت إلى غرفة كريتشن أسرع بالفرار من وجهها اتقاء لبوادر غضبها وهاجر إلى باريس، فذهب إلى قرية في الضواحي تُدعى ماريس.

وهناك لقيه راوول وبادره بالحديث قائلًا: إن سبب زيارتي يا سيدي الكونت لا يخطر لك في بال، ولكني أقول لك إني كنت صديق المركيز دي فلارس.

ولم يكن الكونت يعرف شيئًا من تاريخ كريتشن فقال: إني لا أعرف هذا المركيز.

– إن المركيز يا سيدي والد كريتشن، تلك الفتاة المنكودة التي أغويتها.

فاصفر وجه الكونت وقال: كريتشن!

– نعم، ولا بد لك الآن أن تكون علمت سبب زيارتي.

– ولكن يا سيدي …

فقاطعه راوول وقال: لا سبيل إلى الاعتراض فيما لا يفيد؛ إذ يجب عليك أن تتزوج هذه الصبية وترد لها شرفها.

– يسوءني جدًّا يا سيدي أن أرفض هذا الطلب؛ لأنه مستحيل، ولكني …

غير أن راوول لم يدعه يتم حديثه، بل صفعه على وجهه فانقطع سيل المحادثة والمخابرة، ولم يعد بد من المبارزة بعد الصفعة.

وكان المنزل الذي اختبأ فيه الكونت من غضب الأميرة محاطًا بحديقة متسعة.

وقام الاثنان إليها وكلاهما يتقلد سيفه، وجرت بينهما مبارزة عنيفة، فتقارعا بالسيفين مدة طويلة دون أن يفوها بكلمة، إلى أن وجد سيف راوول سبيلًا إلى صدر الكونت فاخترقه، وسقط الكونت مجندلًا والدم يتدفق من فمه.

غير أن الكونت لم يمت، فحمله راوول إلى سريره، ولما ذهب الخادم لإحضار الطبيب أشار الكونت إلى راوول كي يدنو منه، وقال له بصوت متقطع: أرجوك يا سيدي أن تصفح عني، فقد أبيت الزواج بكريتشن لأني متزوج.

فصاح راوول صيحة دهش وقال: أنت متزوج!

– نعم، وامرأتي البرنسيس هيلانة دي ولدتر، إلا أني أحببت كريتشن حبًّا صادقًا، وإني الآن على فراش الموت، فغاية ما ألتمسه منك يا سيدي في هذه الساعة أن تتولى حماية كريتشن لأن الأميرة من أهل الحقد والانتقام.

ثم أغمي على الجريح.

وفي الوقت نفسه الذي جرت فيه هذه المبارزة، كان الكونت دي بوفوازين مختليًا مع الأميرة هيلانة في المنزل الذي وضعت فيه كريتشن مولودها، فأقسمت أنها لا تقتصر فقط على الصفح عن كريتشن، بل إنها ستتولى حمايتها، وتحافظ على حبها وحب ابنتها، فوثق الكونت بصدق كلام الأميرة.

وهنا توقف بنيامين عن مواصلة الحديث للاستراحة، بعد أن قال: وا أسفاه! فلو أنقذنا أمك في ذاك اليوم من مخالب هذه الأميرة لبقيت عائشة إلى الآن.

فذرفت الدموع من عيني أورور، وقالت له: أتم حديثك يا بنيامين.

٣٠

وعاد بنيامين إلى تتمة الحديث فقال: إن الكونت دي بوفوازين خدع بأقوال البرنسيس كما خدعت أنا.

أما هؤلاء النسوة الثلاث؛ أي الأميرة ووالدة لوسيان وتنوان النورية فقد اتفقن حتى بتن شخصًا واحدًا لا يعمل إلا للانتقام.

وكانت النورية تدير أعمالهن، وقد بدأت بتنفيذ خطتها الجهنمية في اليوم التالي لولادة كريتشن.

وأما الأميرة فقد مرضت على أثر ما أصابها من الاضطراب، ورأت والدة لوسيان أن حياة هذه الأميرة باتت قصيرة، فرأت أن الزمن قد حان لتنفيذ مأربها بواسطة تنوان.

وقد كان لهذه النورية نفوذ شديد على الأميرة، لا سيما بعد صدقها باكتشاف خيانة الكونت، فلم تكن الأميرة تخالفها في أمر.

وكذلك والدة لوسيان، فقد رأت أن لهذه النورية فضلًا عظيمًا عليها بما بلغت إليه من المنزلة لدى الأميرة، وبما كانت تعد لها من أسباب الوصول إلى غايتها، فكانت تمتثل لها في كل ما تريد.

وباتت تلك النورية الآمرة الناهية في الحقيقة، وهي في الظاهر من الوصيفات.

وأما الكونت دي مازير فقد لبث شهرين وهو بين الموت والحياة، غير أن شبابه وقوة بنيته تغلبا على الموت، فشفي من مرضه وزال عنه الخطر.

وكانت الأميرة قد غفرت له ذنبه بالظاهر، وذهبت إلى منزله فأقامت مدة إلى أن زال الخطر فأخبرته بعزمها على الرجوع إلى ألمانيا.

وكان ملك بافاريا العجوز قد توفي في خلال هذين الشهرين، وخلفه أحد أعضاء العائلة، وأذن للأميرة بإعلان زواجها السري بالكونت دي مازير.

ومع ذلك فإن الأميرة طلبت إلى زوجها الكونت ألا يعود إلى ميونخ، وأن يتم معالجته في باريس.

وكان ذلك بإيعاز من النورية لأغراض لها تظهر فيما بعد.

أما راوول فإنه بعد أن جرح الكونت جعل يزوره في كل يوم، حتى تمكنت الألفة بينهما، وباح له الكونت بأسرار قلبه.

فأخبره أنه يحب كريتشن حبًّا صادقًا، وأن امرأته مصابة بمرض قاتل، فهو لا بد له من الزواج بكريتشن متى قضي على زوجته وبات مطلق السراح.

وكانت والدة لوسيان قد أدركت هذا القصد بفضل هذه النورية، فرأت أنه لم يبقَ بد من وضع حاجز شديد بين كريتشن وبين الكونت؛ فإنها كانت تطمع بزواجه بعد موت الأميرة، والتمتع بما يرثه من أموالها الطائلة.

أما هذا الحاجز بينهما فقد كان الشفالييه دي مازير شقيق الكونت وهو من حجاب ملك بافاريا.

فإن هذا الشفالييه — وهو أبوك يا أورور — كان يشبه والدة لوسيان في الدهاء والمكر ونكران الجميل، فإن أخاه الكونت جاء به من باريس وعينه في منصب رفيع في بلاط الملك ودر عليه الأرزاق بفضل الأميرة، فكان جزاؤه منه أنه كان يكرهه ويضمر له السوء، في حين أن أخاه لم يكن يريد له إلا الخير.

فاعتمدت والدة لوسيان على هذا البغض، وجعلت الشفالييه حليفها على تنفيذ أغراضها.

أما كريتشن فإنها عادت بعد شهرين مع الأميرة إلى ألمانيا، فكفلت الأميرة ابنتها وتعهدت بتربيتها.

فسُرَّت كريتشن بهذه العناية الظاهرة، وباتت تحتقر الكونت بعد أن تبين لها كذبه وعلمت أنه زوج الأميرة.

فانصرفت بجميع آمال قلبها إلى ابنتها، ولو لم تعد تكترث بشيء في الوجود ولولا هذه الطفلة لاسترسلت إلى اليأس وانتحرت بعدما ثبت لها خيانة الكونت.

إلا أن هؤلاء النسوة الثلاث اللواتي تعاهدن على الانتقام من هذه المنكودة، كان الفوز مضمونًا لهن بفضل الشفالييه أخي الكونت.

فقد تقدم لنا القول أن الشفالييه كان يهوى كريتشن، فلما ذاع خبر ولادتها وعلم أن أخاه قد أغواها زاد حقده عليه بقدر ما اشتد حقده على كريتشن، وهذا أقصى ما كانت تتمناه والدة لوسيان.

وقد أدركت النورية منه ذلك الحقد والحنق، فخلت به يومًا وقالت له: أرى أنك بت تكره كريتشن، أليس كذلك؟

– إني بت أكرهها بقدر ما كنت أهواها.

– وأخوك الكونت؟

– إني أكرهه أيضًا، فقد خدع الفتاة التي أحببتها وأغواها وهو من المتزوجين.

– إذا كنت تريد الانتقام فقد أعددت لك وسائله، فإن أخاك الكونت لا يزال يعشق كريتشن، وهو يتوقع موت زوجته الأميرة ليتزوج بها.

فاتقدت عينا الشفالييه ببارق من الأمل وقال: لا أحبَّ إليَّ الآن من الانتقام.

– أتريد أن تعذب كريتشن وتلقي اليأس في قلب أخيك؟

– ماذا يجب أن أصنع؟

– إنك على علو منصبك في بلاط الملك لا تزال محتاجًا إلى المال لفقرك، وأنت تعرف مقدار ثروة الأميرة، فهي عازمة على أن تمنح كريتشن مهرًا يبلغ مقدار دخله مائة ألف فرنك في العام.

– أتشترط في ذلك أن أتزوجها؟

– هو ذاك، وحسنًا تفعل يا سيدي، فإنك إذا تزوجتها على هذا الشرط تمتعت بمالها وانتقمت من أخيك الكونت الذي يسلبك من تحب، ومن كريتشن التي تحتقرك وتجدك غير أهل لها، فمتى ملكت زمامها انتقمت منها كما تشاء.

– إني راض بهذا الاقتراح على ما فيه من الحيف؛ لأن الانتقام مسرة الآلهة.

ثم افترقا، فذهب الشفالييه وهو موطد العزم على الاقتران بكريتشن، وعادت النورية إلى الأميرة ووالدة لوسيان وأخبرتهما بما كان.

وفي المساء جاء الشفالييه إلى قصر الأميرة، فاجتمع بكريتشن وقال لها: إن الإخوان متكافلون متضامنون، وقد أساء إليك أخي إساءة لا يستطيع إصلاحها، فأنا أتولى إصلاحها عنه؛ كي لا يُنال شرف بيت دي مازير بسوء، إنك يا سيدتي لا نصير لك ولا معين لابنتك ولا اسم لها، فهل تريدين أن أكون لك زوجًا ولابنتك أبًا ونصيرًا؟

وقد تلبس بلباس الخداع، واندفع يظهر من المروءة ضروبًا خُدعت بها كريتشن، وحسبته صادقًا في ما يظهره من المروءة والإخلاص، فنظرت إليه وهي تبكي وأجابته بمثل إخلاصه فقالت: هيهات يا سيدي أن تجد في قلبي غرامًا، فقد مات غرامه، ولم يبقَ متسع فيه لغير الهم والحسرات.

قال: إنك مسترسلة إلى اليأس أيتها الحبيبة وأنت لا تزالين في نضارة الحياة، ومثلك لا تيأس وقد أحبها مثلي، فسأُجِلُّك إجلال العبادة وأكون لابنتك خير والد، فلا تجدين في عشرتي غير الهناء الدائم، وأنا لا أسألك غير أن ترضي بي زوجًا؛ كي أقيك وأقي ابنتك غدر الزمن.

فخدعت كريتشن بظواهر إخلاصه وأخذت يده بين يديها فقالت: إنك شريف يا سيدي طيب السريرة، فإني إذا كنت لا أستطيع أن أحبك فإني أحترمك وأجعلك من أسعد الأزواج.

وقد رضيت تلك المنكودة به بعلًا، وبدأت خطة النورية الهائلة تنفذ منذ ذلك الحين.

وتزوجت كريتشن به، فلما أعلن هذا الزواج وباتت كريتشن في منزل الشفالييه جاهرت الأميرة بأنها لا تريد التخلي عن الطفلة، وطلبت إلى الزوجين أن يقيما في قصر فرضي الاثنان وانتقلا إلى القصر.

وفي ذلك اليوم خرج من ميونخ فارسان وسافرا إلى باريس، وكان هذان الفارسان راوول ودي بوفوازين، فإنهما كانا مختبئين في ميونخ للمحافظة على كريتشن، حتى إذا علما بزواجها بالشفالييه قالا: إنها باتت زوجة لرجل نبيل فهو يتولى حمايتها عنا، ولم يبقَ لنا شأن في هذه العاصمة.

وكان الكونت دي بوفوازين يحب كريتشن حبًّا عظيمًا، فلم يرَه أحد بعد ذلك في باريس.

وقد تكاثرت الإشاعات عنه في ذلك العهد واختلفت الروايات، غير أن الأكثرين كانوا مجمعين على أنه قنط لغرامه من الحياة، فالتجأ إلى أحد الأديرة وانقطع لخدمة الله، وهي الرواية الصادقة، فإن دي بوفوازين هو الآن رئيس الدير الذي يدعى الأب جيروم ولا يدري بسره أحد.

أما الكونت دي مازير فإنه شفي في هذه المدة من جرحه، فعاد إلى ميونخ وعلم هناك أن كريتشن صارت زوجة لأخيه فاسترسل في البدء إلى اليأس، ولكنه لم يمر به عهد قريب حتى تناسى غرامه القديم.

وقد كان مثلنا جميعًا واثقًا بصدق الأميرة وعفوها عن كريتشن، كما أنه كان واثقًا مثلنا أيضًا أن أخاه الشفالييه يحبها ويجعلها من النساء السعيدات.

وأما الأميرة فكانت لا تزال تقاوم ذلك الداء الذي كاد يودي بها، فأشار عليها الأطباء بالسفر إلى إيطاليا فسافرت إليها مع زوجها الكونت، وبقيت كريتشن في القصر مع زوجها الشفالييه فولدت منه بنتًا … وهي أنت يا أورور.

وهنا توقف بنيامين هنيهة فمسح دمعة قطرت فوق خده، وعاد إلى الحديث فقال: إن الأميرة قد سافرت وتركت انتقامها في القصر.

ولم تكد تسافر حتى بدأ الشفالييه عذابها، وبدأت النورية تسميمها، ورفعت والدة لوسيان نقاب الرياء والتدليس فجاهرت بعدائها.

أما أنا فلم أكن أستطيع إنقاذها من أولئك الظالمين، وقد ذعرت ذعرًا قويًّا حين شاهدت أمك قد أخذ منها الضعف والوهن، فإن تلك النورية الهائلة قد سقتها سمًّا هائلًا يقتل بعد نزع طويل.

وكانت قد ولدتك في ذلك الحين، فإذا ابتسمت لك نسيت آلامها وعذابها، وإذا افتكرت بأختك انقبضت نفسها، فإن الأميرة أخذتها معها إلى إيطاليا مبالغة في الانتقام.

مضى على ذلك عامان كانت أمك تزيد في خلالها اصفرارًا ونحولًا ويأسًا، فإن السم كان يفسد دمها والشفالييه يعذبها ويؤلمها كل يوم بذكر زلتها مع أخيه، ووالدة لوسيان لا تنفك عن نكايتها، إلى أن استفحل يأسها فدعتني إليها وقالت لي: إني يا فريتز مشرفة على الموت.

فصحت صيحة ذعر لما شاهدت من دلائل ضعفها وإشرافها حقيقة على الموت وقلت: ما أصابك يا سيدتي؟

– إنهم دسوا لي السم يا فريتز وصارت أيامي معدودة، فأقسم لي أنك تسهر على ابنتي من بعدي …

فقاطعته أورور وقالت: إذن أنت واثق أن أمي ماتت مسمومة؟

– كل الثقة يا سيدتي، فإن نزعها دام خمسة أعوام، ثم أراحها الله من عذابها، فأُطفئت كما ينطفئ المصباح إذا فرغ الزيت منه.

– ومن الذي دس لها السم؟

– تنوان النورية.

– أكان ذلك بموافقة الأميرة؟

– بل بأمر والدة لوسيان امرأة عمك.

– وأبي؟

– إنه كان يعلم بهذه المؤامرة، وقد وافق على التسميم.

فصاحت أورور عند ذلك صيحة هائلة واتقدت عيناها نارًا وقالت: إنك مت يا أمي ميتة الشهداء ولكن ابنتك ستنتقم لك أفظع انتقام.

٣١

وساد السكوت هنيهة بين بنيامين وأورور فبدت علائم الرعب والاشمئزاز على وجه الفتاة.

وكانت عيناها في البدء قد اتقدت ببارق الانتقام، فأنذرت وتوعدت بالانتقام لأمها.

غير أن البارق انطفأ فجأة واصفر وجهها حتى باتت كالموتى، ثم أحنت رأسها وأطرقت بعينيها إلى الأرض وقالت كأنها تخاطب نفسها: «ولكنه أبي.»

فقال لها بنيامين: يجب عليَّ الآن يا سيدتي أن أقص عليك هذه الفاجعة المؤلمة.

فقالت له بلهجة اليأس: قل فإني مصغية إليك.

– إن أمك يا سيدتي أدركتها الوفاة والكونت دي مازير لا يزال في إيطاليا مع زوجته الأميرة.

ولما حضرت ساعة وفاة أمك وكنت وحدي عند سريرها، أعطتني هذين الكتابين مع الصندوق وأقسمت لها أن أراقبك الليل والنهار وأن أحميك من كيد المعتدين.

أما الأرملة امرأة عمك التي تسكن الآن في قصر بوربيير مع ولدها لوسيان، فكان لا يأتيها كتاب من إيطاليا حتى تختلج بعد تلاوته وتنقبض نفسها.

ذلك أنها كانت تتوقع في كل يوم أن ترد إليها أخبار السوء عن الأميرة؛ لطمعها بزواج الكونت، فإن تلك الأميرة قد سافرت وهي في حالة من الاعتلال تدعو إلى القنوط.

غير أن الله أبى أن تنفذ مآرب أهل الشر، فقضى على مطامع تلك الأرملة وذهبت آمالها السافلة أدراج الرياح، فإن الأميرة بدلًا من أن يفتك بها الداء كما تتوقع لها امرأة عمك، أفادها هواء البلاد وسماؤها الصافية فردت إليها الحياة وباتت كأنها في أتم صحة وعافية.

وبعد ثلاثة أعوام من سفرها عادت إلى بلاط ميونخ فدهش أهل البلاط حين رأوا تلك الأميرة المكلولة عادت إليها نضارة الشباب فزادتها جمالًا.

وكان الكونت قد علم بموت كريتشن فبكاها بالسر؛ إذ كان لا يزال في قلبه بقية من ذاك الحب القديم الذي هاجه الموت.

وقد أعادت الأميرة معها ابنة كريتشن الأولى؛ أي أختك.

وكان الكونت غير عالم بحقيقة السبب في موت أمك فلم يخطر له في بال أنها ماتت مسمومة، وأن أخاه الشفالييه وامرأة أخيه الميت والأميرة والنورية قد اتفقوا جميعهم على قتل هذه المنكودة؛ إذ لم يكن عارفًا بهذا السر غير رجل، وقد باح له به.

– من هو هذا الرجل يا بنيامين؟

– هو أنا.

– وماذا فعل الكونت بعد ذلك؟

– إن الجناية حفرت هوة عميقة بينه وبين امرأة أخيه فلم تعد تكترث لصحة الأميرة؛ إذ لقيت أن الكونت لا يتزوج بها بعد أن غمست يدها في ذلك الدم الطاهر المسفوك.

ولم يكن يستطيع أن يعاقب أحدًا أو ينتقم من أحد، فإن الجميع كانوا بحماية الأميرة شريكتهم بالجريمة.

ولم أعد أعلم شيئًا مما جرى لهذه العصابة عصابة اللؤم والفساد سوى أن الأميرة باعت كثيرًا من أملاكها ووهبت جانبًا مما بقي لأسرتها وسافرت مع الكونت إلى باريس تصحبها ابنة كريتشن الأولى؛ أي أختك ابنة الكونت دي مازير.

وقد أقامت مع زوجها عامًا كاملًا في باريس، إلى أن بنى الكونت قصر بوربيير الذي يقيم فيه الآن الكونت لوسيان وأمه فأقامت فيه مع زوجها والفتاة.

ولم أعلم بعد إقامتها فيه غير ما يعلمه سكان هذه النواحي.

– أتعني بذلك احتراق القصر بساكنيه.

– نعم، أعلم أني أخالف الناس فيما يزعمون من احتراق الفتاة أيضًا وأسباب هذا الحرق.

– ما هي أسبابه؟

– لقد ارتأى كثيرون أن النار قد شبت في القصر قضاء وقدرًا، وعندي أنه لم يكن للقدر يد في هذا الشأن، بل إن الكونت قد أحرق القصر عمدًا بعد أن سجن نفسه مع الأميرة في غرفة بابها من الحديد كي لا يستطيعا كسره والهرب من النار.

– إذن فقد مات منتحرًا؟

– ومنتقمًا أيضًا، فإن الأميرة لم تنسَ إساءته إليها حين عشق كريتشن وهو لم ينس فظاعة انتقامها من كريتشن لسلبها ابنتها وقتلها بالسم، فكانت تحاول الانتقام منه بكل ما تفننه الحياة لأمثالها من نساء الشر، حتى يئس منها ومن الحياة وهاجت في نفسه كوامن الانتقام للشر فأحرقها وأحرق نفسه بالنار.

– والفتاة؟

– أنقذها راوول.

– أتظن ذلك أكيدًا؟

– بل أؤكده، فإن راوول قد زار الكونت في القصر قبل احتراقه، والآن فاعلمي يا سيدتي أن أباك الشفالييه ووالدة لوسيان امرأة عمك كانا لا يزالان في ميونخ حين مات الكونت، فلم يجدا بعد البحث والتنقيب شيئًا من المال النقد ولم يقتسما غير القصر والأرض.

على أنه أشيع أنه يوجد صندوق يحتوي على ثروة عظيمة من الأوراق المالية، فبحثا عنه بحثًا مدققًا فلم يعثرا به.

وعند ذلك وقع الخلاف واشتد النفار بين أبيك وامرأة عمك، فكان أبوك يتهم امرأة عمك أنها سرقت الصندوق كي تبقى الثروة كلها لابنها لوسيان، وهي تقسم الأيمان المغلظة أن أباك السارق، والحقيقة ضائعة بين الاثنين، فإن كليهما بريء من السرقة.

– ولكنك تقول إن الصندوق موجود؟

– نعم، وقد جعل ما فيه من المال مهرًا لأختك، ولكني لا أعلم أين هو الصندوق وأين هي أختك.

– ولكني أعلم أين هي أختي.

فدهش بنيامين وقال لها بصوت يضطرب حنوًّا: أواثقة يا سيدتي أن أختك لا تزال في قيد الحياة؟

– كل الثقة فقد رأيتها.

– ولكن أين؟

– على بعد مرحلتين من هنا … في دكان البيطري المقيم عند باب الدير.

فارتعش بنيامين وذكر ما كان يتحدث به الناس في شأن الفتاة المقيمة عند البيطري، وشدة تباين الأقوال فيها، ولكنه لم يكن رآها؛ فإنه لم يكن يخرج من المنزل إلا للتنزه في الحديقة، ولا يعرف أحدًا من سكان الضواحي.

أما أورور فقد باتت واثقة أن حنة أختها، فقالت لبنيامين: يجب أن تتخذ اليوم حجة تمهد لك مبارحة القصر.

– سأجد هذه الحجة.

– فتذهب توًّا إلى الدير وتدخل إلى دكان البيطري.

– وبعد ذلك؟

– ترى تلك الفتاة التي يربيها داغوبير، فترى أنها أمي بعينها لا تختلف عنها في شيء.

– كيف تعرفين ذلك وأنت لا تعرفين أمك؟

– إنها تشبه هذه الصورة المرسومة في هذه المدالية، أما هي صورة أمي؟

– دون شك، ولكن هل أنت واثقة من وجود هذا الشبه؟

– لا سبيل إلى الريب؛ فإني قد رأيت الفتاة ولا تزال صورتها مطبوعة في ضميري.

– متى رأيتها؟

– أمس مساء، فلما فتحت هذا الصندوق الذي أعطيتني إياه ورأيت هذه الصورة في المدالية دهشت للشبه بينهما حتى حسبت في البدء أن هذا الرسم رسم ربيبة الدير.

– رباه! أيمكن ذلك أن يكون؟

فنهضت عند ذاك أورور وذهبت إلى النافذة تستنشق الهواء العليل، فإن النجوم كانت قد اصفرت في الأفق لأشعة الفجر المتألقة.

وكانت السكينة سائدة فانصرفت أورور إلى التأمل وتاهت في مهامه التفكير وبنيامين واقف وراءها يحترم تأملها ولا يكلمها بحرف.

وبعد هنيهة عادت من النافذة فجأة إلى بنيامين، فأخذت يده بين يديها وسألته: إن الطبيعة ساكنة والسكوت سائد، ولكن قلبي تثور فيه العواصف، إن الابنة لا تنتقم من أبيها يا بنيامين ولو كان قاتل أمها، ولكنها تنتقم من الذين اشتركوا في هذه الجريمة الهائلة.

– ماذا تقصدين يا سيدتي؟

– ألم يكن لأبي شركاء في هذه الجريمة؟

– هو ذاك، بل قد كان ذنبه أخف من ذنبهم، فإن الذي كاد هذا الكيد والدة لوسيان.

– ستنال حظها من العقاب.

– والتي دبرتها تنوان النورية؟

– وهذه سأسحقها سحق الزجاج، ولكن يجب قبل كل شيء أن أنقذ أختي.

– لعلها في خطر؟

– في خطر عظيم، فإن ابن عمي لوسيان يحبها وأخاف أن يفضي هذا الحب إلى ما لا تحمد عقباه.

فارتعد بنيامين وقال: كلا، كلا، إن هذا لا يكون، إن ابن قاتلة الأم لا يمكن أن يهوى ابنتها.

– هو ذاك، فسأتولى أختي بحمايتي فلا يمسها طامع بأذى ولا تنالها يد الأشرار.

وعلى ذاك فقد أصبح للوسيان أربعة أعداء يحولون دون زواجه بحنة، وهم الأب جيروم وداغوبير وبنيامين وأورور.

وعند ذلك قال لها بنيامين: أواثقة أنت من الشبه بين ربيبة الدير وبين أمك؟

– إنك ستراها بعينك وترى ما رأيت.

وهنا قطع حديثهما صوت جرس خرج من غرفة الشفالييه أو والد أورور، وكان الدق عنيفًا، فأسرع بنيامين ليرى ما جرى له، وأخذت أورور صورة أمها حين كانت في العشرين من عمرها فجعلت تقبلها وتذرف الدموع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤