الأسطورة في الحياة والتاريخ

الأسطورة وما أدراك ما الأسطورة؟ إن هي إلَّا لَهْوُ القلوب وسَمَرُ الأرواح. وقد رافقت الأساطير الإنسان منذ نشأته، وما زالت ترافقه، ولن تنفكَّ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

والنفس البشرية تحتاج إليها احتياج الجسم إلى الغذاء؛ لأن حياة البشر مرتكزة عليها. والأساطير مهما كان شأنها قائمة — ولا شكَّ — على أساس من الحقيقة إلهيٍّ أو بشريٍّ، غير أن الخيال الإنساني تلاعب في هذا الأساس فحوَّله إلى ما تخيَّله له من صور، وألبسه من الأوهام برودًا جعلته بعيدًا عن المعقول، وإن يكن قريبًا من النفوس محبَّبًا إلى القلوب.

وليست الأسطورة قديمها وحديثها بمختصَّة بشعب من الشعوب، وإنما هي مشاع لكلِّ الأمم، على اختلاف مللهم ونحلهم، تتنقَّل بينهم حاملة على أجنحتها غبار القرون وتهاويل الأزمنة المتعاقبة.

وهي عند الباحثين نوعان: بشرية ومؤلهة. فالبشرية حكاية محدَّد مكانها معيَّنة أشخاصها، تشتمل على تقاليد الشعب الذي استنبطها وتداولها واعتقاداته، والمؤلَّهة ترتبط بما وراء الطبيعة ارتباطًا تفسِّره العلاقات المتبادلة بين المؤلهين والبشر، ولكن الدور الأسمى لأولئك الآلهة؛ فإليهم مرجع كل شيء وبيدهم مدار كل أمر.

وقد كان لزامًا على الإنسان القديم أن يخترع الأساطير؛ فإن ما حوله من مدهشات الكون وأعاجيبه التي لم يستطع إدراكها إدراكًا علميًّا حمله على أن يتوهم له تفسيرًا ويتخيَّل أصولًا ووقائع يرتاح إليها، وتزيل حيرة نفسه.

وأقدم الأساطير التي وضعها الإنسان هي — ولا نكير — أساطير تكوين العالم والطوفان. شاهَد الإنسان هذا الكون العظيم ووحدته المتماسكة ونظامه البديع، فأدرك بفطرته أن لا بد لابتداع مثل هذه البدائع من علة أولى عاقلة ذات قوة أسمى من قوى العناصر والكائنات، فعبد عن حقٍّ هذه العلة، وسمَّاها بأسماءٍ حسنى تدلُّ على أزليتها وأبديتها ووحدانيتها وعظمتها، ووضع أساطير تخيَّل فيها كيف برأت السماوات والأرضين، وما فيها من مخلوقات على اختلاف صورها وأشكالها وأحوالها، فأتت أساطيره متِّفقة في مبدئها وإن اختلفت في تفاصيلها وما فيها من أسماء وصفات، فإذا نظرنا إلى ما قاله بيروز الكلداني عن اعتقاد الآشوريين والبابليين في التكوين، وما قاله سنكنيتن المؤرخ الفينيقي عن اعتقاد الفينيقيين، وأوفيد الشاعر اللاتيني عن اعتقاد اليونان والرومان فيه، وما ورد في التواريخ عن معتقد الفرس والبراهمة وغيرهم من الشعوب القديمة، رأينا أن كل هذه المعتقدات، على مختلف تعابيرها، تتفق وما أورده موسى في التوراة عن صورة البدء: خلاء وخواء وظلام وروح أزلي يُرفُّ على وجه المياه.

وهكذا أساطير الطوفان عند الآشوريين واليونان والرومان، فهي تشابه، في تفصيلها وتصويرها للسفينة وتفجُّر عيون الغمر العظيم وتفتُّح كوى السماء، ما ذكره موسى في التوراة، غير أن نوح التوراة يتحول عند الآشوريين إلى كزيزوتروس، وعند اليونان والرومان إلى دوكاليون، وتابوت نوح يرسو على جبال أراراط في أرمينيا، وترسو فُلك كزيزوتروس من أرمينيا على جبال الغوردين، وتتعلق سفينة دوكاليون بجبل البرناس في بلاد الإغريق.

هذه هي أساطير الشعوب القديمة، وإن هي إلا رموز تنطق بمجد الله الخالق المبدع عز وجل وتخبر بأعمال يديه. وقد كان للأساطير احترام عظيم ومنزلة سُميا عند فلاسفة تلك الشعوب ومشاهير شعرائهم، يحدِّثون بها في نثرهم وشعرهم، ويتوسعون في إيراد تفاصيلها، ويتزيَّد كل منهم في تلوين صورها، وهي لا تزال اليوم متعة النفوس لما فيها من الغرائب وجمال الخيال. وليس أمتع للنفوس من الغرائب والتخيلات؛ لأن الحقيقة، على جمالها وعظمتها، جافَّة جامدة، ترضي العقول، ولكنها لا تلامس الأرواح كما تلامسها الخرافات بأجنحتها المخملية، ولا سيما أن عصرنا هذا عصر مادَّة تغذي الجيوب، ولكنها لا تُشبِع الأرواح، تلك الأرواح التي يلذها، من حين إلى حين، أن تسيح في العوالم الخيالية لتُنزِّه عنها وتُفرِّج همومها. وهذا ما حدا بعض الأدباء الغربيين، قبل الحرب الأخيرة، أن يصرفوا همتهم إلى تأليف روايات خرافية، ويعودوا إلى عالم الأوهام، فرأينا في الفرنسية غير واحدة من هذه الروايات ﮐ «خيط آريان» وسواها.

وكنت منذ أخذت أُعنى بالميثولوجية الفينيقية والعربية أتشوَّف إلى جمع بعض أساطير في كتاب يجد فيه قارئه ملهاة له عن هموم الحياة، ومتعة يستمتع بها في ساعات وقوفه عن عمله، حتى قيضت لي مطالعة كتب بعض المؤرخين والشعراء، من يونان ورومان وعرب وفرنسيين وإنكليز، أن أعثر على أساطير كثيرة، اخترت منها ما كان الشرق ملعبها، وكتبتها في شكل حكايات تسلِّي من يطالعها وتفيده في وقت معًا، وقد جعلتها في القسم الأول من الكتاب، أما القسم الثاني فقد ضمَّنته شروحًا تبين صلة كل أسطورة بالتاريخ، ومعجمًا يشرح أسماء الآلهة واختصاصهم، وأسماء الأبطال والأمكنة التي كانت ملاعب لهم، واعتمدت في أكثر الأحيان أسماء الآلهة الرومانية لخفة وقعها على الآذان.

ولا أكتم القارئ الكريم ما عانيت من جهد وما صرفت من وقت لجمع شتات هذه الأساطير من كتب عديدة، واختيار أروع صورة لها من شتى الصور المنثورة في تلك الكتب، حتى تمكَّنت من نظم عقودها، متسلسلة، في حكايات متساوقة صورها، متلاحمة أجزاؤها، وآمل أن أكون قد وُفِّقْتُ إلى الغاية التي استهدفتها.

كرم البستاني

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤