تاريخ الرياضيات الإسلامية … لماذا؟
وبادئ ذي بَدء نطرح السؤال: لماذا الرياضيات تحديدًا؟
وفي هذه القضية الرياضية يقينية، هي الكيان الوحيد في عالم العلم الذي ينبثق كاملًا، أو هي الوليد المعجز الذي يولد ناضجًا. قد تستوعب المناهج الرياضية المتطورة مشاكل قديمة وتُقدِّم طرقًا أبسط وأعمق لمعالجتها، فضلًا عن فتح آفاق أوسع، لكن طالما ثبتت صحة قضية رياضية في إطار نسقها؛ أي طالما ثبت الارتباط بين المقدم والتالي فيها، فسوف تظل صحيحة إلى أبد الآبدين، وتتمتع القضية الرياضية داخل نسقها بثبات صدق وضرورة منطقية تميِّزها عن قضايا العلوم التجريبية. ومهما علَت الرياضيات في مدارج التقدم لن تسخر من براهين القدامى في العهود السحيقة أو تكتشف خطأها فجأة، كما يحدث في العلوم الأخرى. ظل أينشتين منبهرًا بنظرية فيثاغورث الموضوعة قبل الميلاد بقرون ويعمل على أساسها. وما زالت هندسة إقليدس نموذجًا لبناء النسق الرياضياتي، وقد وضعها في مصر في العصر البطلمي، في الإسكندرية خلال القرن الثالث قبل الميلاد. إن الرياضيات كما قال إيمانويل كانط (١٧٢٤–١٨٠٤) هدية الله للبشر، وخصوصًا للعقل العلمي، الذي يحق اعتباره من أثمن ما امتلكه البشر.
•••
وقد بات العلمُ الحديث بلا جدال أخطر وأهم ظواهر الحضارة، وأقوى العوامل المُشكلة للفكر وللواقع معًا في الحقب الحديثة والحداثية والمستحدثة. ولما كانت مرحلة العلوم الإسلامية هي المقدمة المفضية لمرحلة العلم الحديث، كانت دراسة العلوم الإسلامية وتقنينها ضرورة إنسانية عامة من أجل تفهُّم أصول ومنطلقات العلم الحديث. وذلكم هو المعامل الموضوعي العام لدراسة تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية ووضع الرياضيات فيها، وأثرها في تاريخ العلم، في تطور العقل العلمي بشكل عام، وفي عقلانية العلم الحديث تحديدًا وتعيينًا.
ومثل هذا التناول المتكامل لتاريخ العلم وتاريخ الرياضيات، إنما يُفضي إلى التفهم السليم لمسار العلم الذي تعاقبَت على خلْق فصولِه حضاراتٌ شتى، وإلى جلو حقيقته بوصفه ميراثَ الإنسانية جمعاء وإمكانية للعقل البشري من حيث هو بشري. وفي هذا تمثيلٌ لحقيقة موضوعية ولقاعدة منهجية معًا، مفادُها أو مفادهما أن العلم ليس قصةً غربية خالصة أو نسقًا واحدًا ووحيدًا صنعه وامتلكه الغرب/المركز الحضاري، بل هو أنساق متعاقبة ومتجاورة ومتلاحقة، فعالية إنسانية مستمرة منطلقة، تتوالَى من عصر لآخر ومن حضارة لأخرى.
ولعل نقض ذلك الحكم الجائر، أولى المهام المنوطة بدرسنا لتاريخ العلوم في الحضارة العربية الإسلامية. إثبات دور الرياضيات الإسلامية، والمكان الفسيح الذي شغلَته على مسرح العقل والإنتاج المعرفي الإسلامي، يعني إثبات شرف مواطنة متبادل بين الثقافة الإسلامية والروح العلمية، فيكون تجسيرًا للهوَّة بين الواقع الراهن والواقع المأمول، بين تاريخنا وتراثنا وبين ثورة التقدم العلمي والتقاني الجياشة الموارة، بين الماضي والمستقبل، بين الأصالة والمعاصرة. إنه صلب من أصلاب حل مشكلة الأصالة والمعاصرة العتيدة العنيدة، التي طال انشغالنا بها، نشدانًا لمستقبل أفضل.
تضطلع الرياضيات الإسلامية بدور رئيس في تحقيق المعاملين الموضوعي والذاتي لدراسة تاريخ العلوم في الحضارة الإسلامية. وتتقدم — وهي ربَّة العطاء الأوفى — بالحيثية الأولى والكبرى من حيثيات نقض الحكم الجائر على ثقافتنا الإسلامية وهويَّتنا العربية بغربة العلم عنها، وتُعطينا أسانيد لتوطين روح العلم والمنهجية العلمية في حضارتنا العربية الإسلامية، مرة أخرى نشدانًا لمستقبل أفضل.
•••
ومع مثل هذا الحضورِ المهيب والدور الضروري الملحِّ للتراث الإسلامي الرياضياتي، فإنه — ويا لَلغرابة ويا لَلتقصير — قليلًا ما نلتفت إليه ونُعنى به! ونادرًا ما يحتلُّ موقعه الملائم، أو يحتل موقعًا أصلًا، في مقارباتنا المتكاثرة والمتراكمة للتراث الإسلامي وللحصاد التاريخي للعقل الإسلامي في مرحلته الذهبية التي قُدِّر لها أن يكون فيها مركز الحضارة الإنسانية وقاطرة التقدم البشري.
هذا لولا ثلَّةٌ من المخلصين المقتدرين، بذلوا جهودًا هائلة مؤزرة، تحقيقات وترجمات ودراسات معمقة، لكشف النقاب عن بعض ذخائر كنوز الرياضيات العربية، والتي اتفقنا على أنها من أثمن ما أنجز العقل الإسلامي، أو هي عطاؤه الأوفى. في طليعتهم عَلَمان مصريان خرجَا من قسم الفلسفة. أولهما رشدي راشد، الذي تجاوز عامَه الثمانين أطال الله بقاءَه وعطاءه، وقد اتخذ من فرنسا مهجرًا وموطنًا منذ أكثر من خمسين عامًا، ليحوزَ اعتراف العالم أجمع كأبرز العلماء المتعمقين والمبدعين في تاريخ الرياضيات الوسيطة. ببساطة، وبغير حاجة إلى تفصيلات، لا تاريخ للرياضيات الإسلامية الآن من دون رشدي راشد وإسهامه الدافق.
أما العَلم المصري الثاني، فهو عبد الحميد صبرة (١٩٢٤–٢٠١٣). ولأن المناظر — أي البصريات والضوء — من فروع علم الرياضيات الإغريقية ثم الإسلامية، يسطع دور صبرة في تأريخها من خلال جهده الباذخ بشأن أهم أعلامها، الرياضياتي/الفيزيائي الأول، الحسن بن الهيثم (٣٥٤–٤٣٣ﻫ).
سوف نتوقف لاحقًا عند الحسن بن الهيثم وكتابه «المناظر» ودوره في تاريخ الرياضيات الإسلامية. ولكن لا بد أن تنطلق رحلتُنا معها الآن من نظرة عامة على وضع الرياضيات في الحضارة الإسلامية، نظرة من الخارج ومن الداخل، أو من السوسيولوجي ومن الإبستمولوجي.
Roshdi Rashed, Conceivability, Imaginability and Provability in Demonstrative Reasoning: Alsijzi and Maimondes on II, 14 of Apollonius “Conic Sections”, in: Fundamenta Scientiae, Vol. 8, no. 3/4, Brazil, 1987. pp. 241–256.
«القابلية للتصور والقابلية للتخيُّل والقابلية للإثبات في التفكير البرهاني: السجزي وابن ميمون في القضية ١٤ الكتاب الثاني، من كتاب أبوللونيوس (القطوع المخروطية)». في المقدمة المستفيضة وضعت تخطيطًا مبدئيًّا لتاريخ الرياضيات الإسلامية، ولماذا وكيف ينبغي أن ندرسها؟ وعدتُ لهذا الموضوع عبر العشرين عامًا الماضية أكثر من مرة في أكثر من موضع.
المجلد الأول: في الإبصار على الاستقامة، رقم (٤) من السلسلة التراثية، ١٩٨٣. (٨٠٠ صفحة).
المجلدان الثاني والثالث رقم (٢٧): في انعكاس الأضواء ومواضع الخيالات المبصرة بالانعكاس، الجزء الأول: النص، المقدمات، جداول المقارنة، الجزء الثاني: جهاز التحقيق، الأشكال، الملحقات، الألواح، ٢٠٠٢.
والترجمة الإنجليزية:
The Optics of Ibn Al-Haytham, Translated with Introduction and Commentary by A. I. Sabra, The Warburg Institute, London, 1989.