من الخارج ومن الداخل
ولا شك أن ثمة عواملَ سوسيولوجية ساهمت في أن تصبح الرياضيات علوم التعاليم، عوامل تخلَّقت في البيئة الحضارية الإسلامية، فجعلَتها ثقافة مُنجبة وحاضنة لعطاء رياضياتي باذخ كان عطاءَها الأوفى. وقد باتَت النظرة السوسيولوجية ضرورة للطرح التاريخي. ومن بعد ثورة توماس كون المذكورة، لم تَعُد فلسفة العلم تنفصل عن تاريخه؛ وأيضًا لم يعودَا معًا يكتملان من دون النظرة السوسيولوجية، بل وإسهام سوسيولوجيا العلم أو علم اجتماع العلم.
إنها النظرة إلى النسق العلمي من الخارج من حيث اشتباكاته بالكيانات والعوامل المحيطة به. النظرة إلى ظروفه الحضارية في المرحلة المعنية والواقع الثقافي الذي أنجبه؛ لأن العلم لا يهبط من السماء ولا يسبَح في الفراغ، بل يُفلح أرضًا مهَّدَتها الحضارة السائدة، ويحصد زرعًا أنتجَته الثقافة الماثلة، يتمثل في إجابات البحث العلمي عن التساؤلات المطروحة والاحتياجات والمتطلبات، كاستجابة لعوامل وفاعليات راهنة. العلم ليس نسقًا معزولًا محكومًا فقط بالقواعد الميثودولوجية والمحكات المنطقية كما تُوحي النظرة التي تبنَّتها فلسفة العلوم قبل الثورة أو المرحلة الكونية، فاقتصر بحثها على أُسُسِه المنطقية وموجهاته الميثودولوجية. إن النسق العلمي ببساطة نشاطٌ إنساني وإنجاز بشري وفاعلية اجتماعية، في إطار حضاري متعين.
وقصة العلوم الإسلامية إجمالًا كانت مرحلة من أهم مراحل العلم القديم طرًّا، ذروته وتاجه، حيث صياغة المنهج العلمي وآلياته الإجرائية، متميزة وواضحة، كنظرية وكواقع وكممارسة، ناشئة عن النموذج المعرفي الشامل، ومتفاعلة مع إطارها الحضاري. تتميز هذه المرحلة بوضعية خاصة للقيم وتوليد لإيجابيات قيمية علمية، بفضل تفعيلٍ حيٍّ لعوامل ثقافية، مركزُها نصٌّ ديني دافع إلى النظر العقلي، والتأمل في ملكوت السموات والأرض، وفي الأنفس.
وكانت تحديد مواقيت الصلاة والشعائر والأعياد الدينية يدفع الإسلاميِّين إلى اهتمام مكثَّف بالفلك (الهيئة)، خصوصًا وأن البيئة الصحراوية دفعَتهم إلى الاعتماد على التقويم القمري بصعوباته في تحديد التواريخ سلفًا، وفي الوقت نفسه اهتموا بالتقويم الشمسي في الأمصار الزراعية التي دانَت لهم من أجل تحديد أوقات جباية الجزية والضرائب والزكاة وفقًا لمواسم الحصاد. والمحصلة أن استطاع العرب تطويرَ علم حساب المثلثات، وتصنيع آلات فلكية لتعيين المواقيت والاتجاهات، وكانت من أدوات اكتشاف الأمريكتَين، وإثبات كروية الأرض.
•••
هذه العوامل السوسيولوجية المتعينة تلفت الانتباه إلى أن الرياضيات الإسلامية التي هي علوم التعاليم أو العلوم التعليمية إنما تشمل التعليم النظري والتعليم العملي، وهذا ما يناظر بمصطلحات عصرنا: الرياضيات البحتة والرياضيات التطبيقية. فأينعت في الحضارة الإسلامية علوم رياضية بحتة من حساب وجبر وهندسة، وأينعت أيضًا علوم رياضية تطبيقية من قبيل علم المساحة وعلم الحِيَل المتحركة (الحيل الميكانيكية)، وعلم جر الأثقال وعلم الأوزان والموازين وعلم الآلات الجزئية وعلم المناظر والمرايا وعلم نقل المياه …
•••
وننتقل إلى نظرة إبستمولوجية للرياضيات الإسلامية؛ أي نظرة إلى العلم داخل العقل العلمي الإسلامي، وفي بنية نسقه المعرفي.
أخذ الإسلاميون بتقسيم الإغريق للمباحث الرياضية إلى أربعة علوم أساسية، هي: الحساب (الأريثماطيقا) والهندسة (الجومطريا) والفلك (الأسطرنوميا/علم الهيئة) والموسيقى (التآليف)، وتتفرع فروعًا عدة، ويُعدُّ الجبر — إنجاز الرياضيات العربية الأعظم — امتدادًا أو فرعًا للحساب.
على أنه منذ بدايات النهوض العقلي للحضارة الإسلامية، اهتم العرب بالرياضيات — بعلوم التعاليم — أكثر من سواها من مباحث العلوم العقلية وعلوم الأوائل. وانشغلوا بموقعها في النسق المعرفي. وضعها أبو يوسف بن إسحاق الكندي (١٨٤–٢٥٠ﻫ) — أول الفلاسفة الإسلاميين — كمدخل للعلوم، فتسبقها جميعًا، حتى المنطق ذاته يأتي بعد الرياضيات، وجعلها جسرًا للفلسفة. وللكندي رسالة في أنه «لا تنال الفلسفة إلا بالرياضيات»، وله من الكتب والرسائل أحد عشر في الحساب، وثلاثة وعشرون في الهندسة، فضلًا عن تسعة عشر في النجوم. أما ابن سينا (٣٧٠–٤٢٨ﻫ) — الشيخ الرئيس — فقد اهتم بالرياضيات أكثر من الكندي، لكنه لم يضعها مثله كمدخل للعلوم جميعًا، بل يضع المنطق في المدخل ثم الطبيعيات وبعدها تأتي الرياضيات وأخيرًا الإلهيات، على أساس أن هذا يعكس مسار العقل وتدرج خطاه. وشبيهٌ بهذا ما فعله المعلم الثاني أبو نصر الفارابي (٢٥٩–٣٣٩ﻫ) الذي جعل علوم اللسان هي المدخل؛ ربما لأن الحضارة الإسلامية حضارة مركزها النص القرآني الذي هو ظاهرة لغوية، تحلَّقت حولها الدوائر المعرفية والبحثية المتتالية، وكانت أول دائرة معرفية تشكَّلت حول المركز/الوحي هي دائرة علوم اللغة أو كما أسماها أبو نصر الفارابي: علم اللسان، وذلك في إحصائه وتصنيفه للعلوم إبان القرن العاشر الميلادي.
-
علم العدد: وينقسم إلى علم العدد النظري وعلم العدد العملي. النظري ينظر الأعداد بإطلاق من حيث هي مجردة في الذهن عن الأجسام وعن كل معدود فيها، أو ما يُسمَّى الآن بنظرية الأعداد.
-
علم الهندسة: وتنقسم أيضًا إلى هندسة علمية وهندسة نظرية. الهندسة العملية تبحث الخطوط والسطوح في الصناعات والأجسام، والهندسة النظرية تبحث الخطوط والسطوح على الإطلاق وعلى أي وجه.
-
وعلم المناظر أي البصريات: و«يدخل في جملة ما فحصت عنه الهندسة.»٣ من الأشكال والأعظام والترتيب والأوضاع والتساوي والتفاضل وغير ذلك. ويميز هذا العلم ما يظهر في البصر بخلاف ما هو عليه في الحقيقة؛ أي أغلاط البصر، وكيفية تقدير الأحجام والمساحات من خلال البصر. ويبحث أيضًا المرايا.
-
علم النجوم: وينقسم إلى فرعين هما أحكام النجوم؛ أي التنجيم، وعلم النجوم التعليمي؛ أي الفلك الرياضياتي.
-
علم الموسيقى: وينقسم أيضًا إلى النظري والعملي، ليبحث مبادئ وأصول هذه الصناعة وآلات الصناعة وأوزان النغم وتآليف الألحان.
-
علم الأثقال والموازين: الذي يبدو علمًا تعليميًّا عمليًّا.
-
علم الحيل: الذي يمكن أن يناظر الميكانيكا التطبيقية العملية. على أن الفارابي يُشير إلى أن هذا المبحث يدخل فيه علم الجبر والمقابلة، الذي هو مشترك في علم العدد وعلم الهندسة.٤
على هذا النحو صاغ الفارابي — المعلِّم الثاني — فروعَ الرياضيات أو بمصطلحه علوم التعاليم في الفصل الثالث، ليتلوها العلمُ الطبيعي والإلهي في الفصل الرابع، ثم العلم المدني وعلم الفقه وعلم الكلام في الفصل الخامس والأخير.
وكذلك ابن سينا (٣٧٠–٤٢٨ﻫ) — الشيخ الرئيس — يصنِّف علوم التعاليم إلى علوم رئيسية، يتشعب عنها علوم فرعية. العلوم الرئيسية وهي العدد والهندسة والهيئة (الفلك) والموسيقى، ويتشعب عنها علوم الرياضية الفرعية؛ فعن العدد يتفرع الجمع والتفريق والحساب الهندي وعلم الجبر والمقابلة، وعن الهندسة تتفرع علوم الهندسة العملية التقانية. أما علم الهيئة فيتفرع عنه علم الأزياج والتقاويم. ومن فروع علم الموسيقى اتخاذ الآلات الغريبة … وهكذا، في شتى تصنيفات أقطاب الحضارة الإسلامية للعلوم الرياضية نلاحظ تكامل العلم النظري والعلم التطبيقي، وأن التراث الإسلامي قد سلَّم بالعلوم الرياضية بوصفها تعاليم، مبرهنات يقينية لا بد أن تحتلَّ موقعها في بنية العقل.