مقدمة

يوجد موضوعان استحوذا على اهتمامٍ غير عادي منذ القِدَم وحتى يومنا هذا في عالم اليونان القديمة، وهما هوميروس والإسكندر الثالث المقدوني، ويجدر بنا أن نذكر وجه الصلة بينهما؛ إذ زعم الإسكندر أنه ينحدر من نسل آخيل، ويقال إنه كان ينام وفي متناول يده نسخة من الإلياذة (ومعها سيفه بالطبع). هذان الموضوعان مترابطان من وجهٍ آخر يساعد على تفسير جاذبيتهما على مر العصور؛ إذ يطرح كلاهما تساؤلات جادة يبدو كثيرٌ منها بلا جواب نظرًا لطبيعة الشواهد التي وصلتنا. وربما تستحيل معرفة هوية هوميروس أو الإسكندر الحقيقية؛ إذ رأى بعضهم أن هوميروس لقبٌ لا اسمُ شخصٍ حقيقي، بمعنى أن هوميروس هو المغنِّي الملحمي الأول الخيالي الذي تصوَّروه على رأس فِرَق الغناء الملحمي الإغريقية؛ ومن ثَمَّ كان هناك أكثر من هوميروس واحد جُمِعت حكاياتهم في النهاية كقصيدة طويلة واحدة، لكن كثيرين غير مقتنعين بهذا الطرح، وهكذا يستمر الجدال. وتُعزَى الصعوبة في اكتشاف طبيعة الإسكندر إلى طبيعةِ ما وصَلَنا من شواهد تُسْبِغ عليه شخصياتٍ مختلفةً متعددة؛ فمع أن حقيقة وجود فردٍ يُعرَف باسم الإسكندر الثالث المقدوني ليست محلَّ شكٍّ، فإننا نجد أنفسنا في مواجهةِ أكثر من إسكندرٍ واحد؛ ومن ثَمَّ فالجدل الأكاديمي المحيط بهوميروس والإسكندر له جذور عميقة وأثارَ نقاشًا محتدمًا.

موضوع هذه الدراسة هو الإسكندر، فلا نأتي على ذكر هوميروس إلا هامشيًّا؛ وبهذا نكون اجتنبنا الوقوع في الأحبولة المعروفة باسم «المسألة الهوميرية»؛ ﻓ «مسألة الإسكندر» عويصة بما يكفي، وهي ليست مجرد شاغل أكاديمي؛ فبفضل قوة شخصية الإسكندر يجري تقديمها لجماهير شعبية فيما لا يُحصَى من الكتب والمقالات والقصص المصوَّرة والوثائقيات والأفلام الطويلة، التي كلَّفَ إنتاجُ أحدثِها، وعنوانه «الإسكندر» وأخرَجَه أوليفر ستون، مئات الملايين من الدولارات، وستُنتَج أفلام أخرى يقينًا في محاولةٍ لاكتشاف الإسكندر الحقيقي. ونتيجةً لذلك، توجد بالفعل صور مختلفة كثيرة جدًّا لهذا الملك المقدوني، وتواصِل هذه الصورُ الازدياد.

يصعب استيعاب هذا الموقف في البداية؛ بما أننا نعرف أسماء ٢٠ من معاصِرِيه نشروا كتاباتٍ عنه، لكنَّ جزءًا كبيرًا من المشكلة منبعه أن هذه الكتابات ذاتها لم يُكتَب لها البقاء؛ فلم يُكتَب البقاءُ إلا لجزءٍ من عمل معاصر واحد تضمَّنَه عملٌ نُشِر فيما بعدُ، ونعني التقريرَ الرسمي الذي أعَدَّه قائدُ أسطول الإسكندر الذي أبحَرَ عائدًا من الهند إلى الخليج الفارسي، والذي كُتِبَ له البقاء ضمن سردٍ أوفى لحياة الإسكندر وضَعَه آريانوس في أواخر القرن الثاني بعد الميلاد. أما سائر الأعمال الكبرى التي كُتِبَ لها البقاء فتعود إلى القرن الأول قبل الميلاد والقرنين الأول والثاني بعد الميلاد؛ ومن ثَمَّ فقد وُضِعت بعد موت الإسكندر بثلاثة قرون أو أكثر. توجد أيضًا مواد مقتبسة من أعمال أخرى — لم تصلنا — ضُمِّنت أعمالًا متأخرة؛ إذ كتب بطليموس، أحد ضباط الإسكندر وأصدقائه، قبل موته سنة ٢٨٣ قبل الميلاد، تأريخًا لقائده اعتُبِر من بين مصدرَيْن أساسيين، مشهورَيْن بموثوقيتهما، اعتمد عليهما آريانوس في مؤلَّفه. ما يدعو للأسف أن الجودة الظاهرية لكثير من الأعمال الأصلية الأخرى لم تكن عالية بالقدر نفسه، وهو ما يفسِّر عدم الحفاظ عليها؛ فعن أحد واضعي هذه الأعمال قال الخطيب ورجل الدولة الروماني شيشرون: «كان موضوعه سيئًا، شأنه شأن أسلوبه في الحديث.» ونذكر مثلًا أنه في معرض تفسير احتراق معبد أرتميس يومَ ميلاد الإسكندر، ذكَّرَ كاتبُ العمل الذي احتقره شيشرون قرَّاءه بأن أرتميس كانت بعيدة عن معبدها تساعد في وضْعِ هذا الوليد غير العادي.

مثلما كشف ليونيل بيرسون في دراسته هذه «التأريخات الضائعة»، تخلط الروايات التي كُتِب لها البقاء ملخصاتِ التأريخات السابقة بكتاباتٍ متأخرة؛ ومن ثَمَّ يشدِّد بيرسون على ضرورة فصل الإضافات الجديدة عن الكتابات القديمة للوقوف على هُوِيَّة المؤلِّف المسئول عن أجزاء معينة من القصة. ولا يَصْدُر أيُّ حُكْم بالإجماع على عملية فرز الكتابات ونسبتها. وهكذا نجد باحثًا حديثًا — وهو دبليو دبليو تارن — يصف بطليموس بأنه «موثوق فيه» كمصدر، بينما نجد آخَر لا يتفق مع هذا التوصيف، مؤكِّدًا أن مصدر هذه المعلومة أحد التأريخات «غير الموثوق فيها». وسيؤثِّر هذا التبايُن على الصورة التي تبرز لنا؛ لأن معقولية أيِّ إعادة بناء للشخصية تعتمد دون شك على موثوقية الشواهد.

لا يقتصر الجدل على البيانات الواقعية بشأن الموضوع الرئيس، والحقيقة أنه يمكن تجميع تسلسل زمني لا اختلاف عليه عمومًا للتواريخ والأحداث الأساسية في حياة الإسكندر القصيرة؛ غير أن إنجازاته كانت من العظمة بحيث تجعلنا نريد التعرُّفَ على دوافعه وأهدافه ومشاعره، بمعنى أننا باختصارٍ نريد التعرُّفَ على الكينونة الداخلية والشخصية اللتين وجَّهتا حياةَ الملايين في اتجاهات جديدة بعد إنهاء حياة ملايين غيرهم. وفي هذه الناحية تحديدًا تخذلنا المصادر. وصف أحد كبار الباحثين المحدَثين الإسكندر بأنه حالمٌ يرجو إقامةَ أخوية بين البشرية، ووصفه بلوتارخُس — الذي عاش في أواخر القرن الأول وأوائل القرن الثاني بعد الميلاد — بأنه أعظم الفلاسفة. وسِيقت حججٌ قوية دعمًا لتوصيفٍ مناقِضٍ لهذا تمامًا؛ إذ يرى البعض أن الإسكندر برع في سفك دماء الملايين من البشر، أما صورته الذائعة الصيت كقائدٍ فذٍّ فتلطِّخها صورةٌ أخرى له كسِكِّير. ويُعتقَد أنه كان يرى نفسه بطلًا هوميريًّا، أو ربما ابن الإله زيوس، أو من الجائز أنه كان مدفوعًا بمكائد أمه أو بنرجسيته. ويرى بعضهم أن الصداقة كانت السبيل إلى نجاحه، بينما يعتقد آخرون أنه كان ببساطة يستغلُّ الناسَ ويتخلَّى عنهم تبعًا لنزواته المشوبة بالغضب، وذهب بعضهم إلى أن الإسكندر أدرك حكمةَ اعتناق عادات الفرس ما إن ألحق هزيمةً بقواتهم، بينما تقول الحجج المعارضة إنه كان يرى نفسه بحق كملك شرقي. انطلق الإسكندر: (١) لمواصلة خطط أبيه. (٢) أو للانتقام للإغريق من الفرس. (٣) أو لأنه كان مدفوعًا بحماس المستكشفين. هذا مجرد عدد ضئيل من التقييمات، لكنها تبرهن على صحة اعتراف برادفورد ويلز (الذي جاء في مراجعته كتاب «الإسكندر الأكبر: الحصافة والقوة» لمؤلِّفه فريتس شاخرماير، المنشورة في «أمريكان جورنال أوف أركيولوجي» ٥٥ (١٩٥١) ٤٣٣–٤٣٦): «من الأمانة أن نعترف بأننا في النهاية نقدِّم الإسكندر بالصورة التي نريدها أو نراها معقولة.»

يبدو لي أنه يوجد متَّسع لنهج آخَر في تناول هذا الشاب الإشكالي، الذي وصفه ويل كابي في كتابه «اضمحلال وسقوط الجميع تقريبًا» وصفًا موجزًا وبدقة بالغة فقال: «لا أستطيع في الحقيقة أن أقول بالضبط ماذا كان هذا الشاب المزعج يظن نفسه فاعلًا، ولماذا. ولست على يقين من أنه كان يستطيع تفسيرَ هذه النقطة تفسيرًا معقولًا. كان من عادته تقطيب حاجبَيْه، ولا غَرْو» (الصفحة ٤٨).

وأعترفُ — شأني شأن كابي، لكن على النقيض ممَّن وجدوا مفتاحًا سرِّيًّا إلى كينونته الداخلية — بأنني لا أستطيع قول ماذا كان الإسكندر يظن نفسه فاعلًا. لكن توجد سُبُل لفهم الشخصِ الذي صار إليه الإسكندر، والأسلوبِ الذي تعامَلَ به مع ظروفه؛ إذ توجد معلومات لا بأس بها معروفة عن عالمه؛ فالقرن الرابع قبل الميلاد موثَّق جيدًا في الروايات التاريخية المكتوبة وفيما وصلنا من شواهد آثارية؛ وهذا مرجعه نوعًا ما إلى أن الأحداث المضطربة التي شهدَتْها فترةُ حياة الإسكندر أثارَتِ التعليقات، ونوعًا ما إلى أن الحضارتين الإغريقية والفارسية قد صارتا آنئذٍ على مستوًى عالٍ من معرفة القراءة والكتابة بالمقارنة بالفترات السابقة. ومع أن هذا النوع من الشواهد موجود، فإنه محدود. من حُسْن الحظ، توجد أبواب أخرى تقود إلى الماضي؛ ذلك أن الناس يُولَدون في بيئات اجتماعية ومادية معينة، ويُنشَّئون كأطفال في مجتمعهم ويتعلمون قِيَمه وتقاليده، ومع بلوغهم النضج يمضون لمواكبة عالَمِهم وتعلُّم الاستراتيجيات التي يَغْلب نجاحها في ضوء أعراف تلك الجماعة وبيئتها الاجتماعية والمادية. لا شك أن البشر لديهم موروث بيولوجي جيني يحدِّد قدرًا معينًا من سماتهم الفردية البدنية والعقلية، أو يفسِّر افتقارهم إليها؛ ومن ثَمَّ توجد فرصة للقصدية الفردية، لكن حتى تلك القصدية تتأثَّر — دون أن تتحدَّد بالضرورة — بفِعْل قوًى خارجة عن الفرد. وتقدِّم الشواهد المادية التي وصلَتْ إلينا معلوماتٍ عن هذه البيئات؛ وفي حالة مقدونيا، يشهد السجل الآثاري والمعرفة بالطبيعة المادية للمملكة أثناء فترة حياة الإسكندر تناميًا مستمرًّا، وأكثر ما كان ذلك في فترة الثلاثين سنة الماضية أو نحوها.

إيمانًا بصحة هذه الرؤية بشأن التفاعل بين الفرد وعالَمه، فإن استقصاءَ دورِ القوى التكوينية الفاعلة في القرون التي تطوَّرت فيها مقدونيا إلى المملكة التي عرفها الإسكندر وحكمها؛ سيقرِّبنا إلى الإسكندر ذاته. ربما لن نتمكَّن أبدًا من الولوج إلى دواخل عقله، لكننا سنفهم العوامل التي أدت إلى سيرته المتألقة. وسيتناول هذا الكتاب، بعد تقديم نبذة مختصرة عن التسلسل الزمني الأساسي لحياته، ستَّ قوًى رئيسة شكَّلت تلك الحياة.

سنبدأ بمقدونيا التي وُلِد الإسكندر فيها وترعرع؛ حيث حدَّدَتِ الأوضاع المادية للمنطقة طبيعةَ الحياة الممكنة داخلها. كان ذلك البلد، وفقًا لرؤية القدماء بشأن الفروق بين المناطق، بلدًا «صعبًا» لا «سهلًا»، وهكذا فالأرجح أن يكون سكانه أقوياء لا ضعفاء. وعندما نأخذ الموارد الطبيعية بعين الاعتبار، يتسنَّى لنا توسيع فهم دور مقدونيا إزاء الآخرين. فهل كانت هناك موارد طبيعية اجتذبت الآخرين إلى المنطقة؟ ولو كان الأمر كذلك، فما العلاقات التي تطورت بين المقدونيين وغيرهم؟ وهل أتاحت تلك الموارد ميزة داخلية للأطراف الفاعِلة المستقبلية في منطقتَيْ بحرِ إيجة وشرقِ البحر المتوسط الأوسع، سواء في دور شركاء تجاريين أم كفاتحين؟

سكان مقدونيا هم الجانب الثاني من جوانب دلالة مقدونيا في حياة الإسكندر. فمَن المقدونيون القدماء؟ ومِن أيِّ صنف كان الجيران الذين وجدهم المقدونيون على حدودهم؟ وكيف ارتبط مختلف تلك الجماعات البشرية بعضها ببعض؟ بمعنى هل تمخَّضَ الجوار عن استعارات ثقافية، أم عداوة متواصلة، أم انصهار جماعات كانت ذات يوم مستقلة؟ معروفٌّ أن أبا الإسكندر أنشأ مملكة موحَّدة امتدت من البحر الأدرياتي مرورًا بشمال بحر إيجة وحتى الأراضي الواقعة على ساحل البحر الأسود الشمالي وعلى نهر الدانوب. والطريقة التي ضُمَّتْ بها هذه الأراضي إلى المملكة عاملٌ آخَر له دور في العالَم الذي وُلِد فيه الإسكندر ونشأ حتى صار رجلًا. وتكشف عملية التوحيد التي اتبعها فيليب عن «الأدوات» التي يحتاج إليها الموحِّد المستقبلي الذي صار إليه الإسكندر لدى «وراثته» المُلْك، وتكشف التوترات التي تمخضت عنها. إذن فطبيعة الحياة في مقدونيا منتصف القرن الرابع تقرِّر مَعلَمين أساسيين في قصة أيِّ فرد عاش في مملكة مقدون (مقدونيا القديمة) في ذلك الوقت، وتحديدًا البيئة المادية والبشر الذين شكَّلوا حياةً تناسِب موقعهم.

سنلتفت بعد ذلك إلى نَسبه، الذي سيعيد تركيز الاهتمام من مقدونيا ككلٍّ إلى مقدونيين أفراد؛ ففيليب الثاني — أبو الإسكندر — كان متألقًا في إنجازاته؛ فما الميراث (البدني والمزاجي وعلى وجه الخصوص الإنجازات) الذي تركه لابنه؟ وماذا عن أمه أوليمبياس ونَسَبها وشخصيتها؟ وهل يَبرز دورها كابنة الأسرة المالكة في مملكة إبيروس وفيما بعدُ كزوجةٍ للملك المقدوني بقوةٍ في تكوين الإسكندر؟ بالإضافة إلى أبويه، سيكون من المفيد أن نُلقِي نظرة أوسع على نسبه؛ لأن الإسكندر كان أحد أبناء السلالة المالكة، بمعنى أنه كان أرغيًّا. فما الذي كان متوقَّعًا من ابن ملك حاكم؟ وكيف دُرِّب كوريث محتمَل للمُلك؟ وهل نشأت مشكلات عن انتمائه إلى السلالة الأرغيَّة؟ ولو كان الأمر كذلك، فما مدى خطورة تلك المشكلات؟

ترتبط قصة مقدون القديمة ارتباطًا لا ينفصم بقصة اليونان، وكان ذلك في البداية من خلال القرب الجغرافي الذي أدى إلى استعاراتٍ ثقافية من أنواع كثيرة. وطبيعةُ تلك الرابطة هي العنصرُ الثالث الأساسي في عالَم الإسكندر. يكتمل وصف التفاعل من فترة الحروب الفارسية في أوائل القرن الخامس، أثناء حكم فيليب الذي ضمَّ الدول الإغريقية تحت الهيمنة المقدونية عسكريًّا وسياسيًّا على السواء؛ فهل يمكن تفسير هذا النجاح انطلاقًا من عوامل تضاف إلى القوة العسكرية المقدونية؟ لا نَنْسَ أن الإغريق والمقدونيين استشعروا من قبلُ آثارَ المحاولات الفارسية للتوسُّع في غرب بحر إيجة في أواخر القرن السادس وأوائل القرن الخامس، وربما كان الإحساس بوجود عدو مشترك رابطةً أخرى محورية؛ ممَّا جعل من «انتقام» الإغريق من الفرس مجهودًا مشتركًا لذلك الاتحاد الرسمي. وكان للتفاعل بين اليونان ومقدون دلالته أيضًا من الناحية الثقافية، وكان مصدر أحد جوانب هذا التأثير الثقافي على الإسكندر معلمه الفيلسوف أرسطو المولود في مدينة أسطاغيرا الإغريقية في شمال بحر إيجة؛ فهل سيعطينا فَهْم احتكاك الإسكندر بهذا الفيلسوف الموسوعي الإغريقي لمحةً عن طبيعة الإسكندر نفسه؟

تلعب ضرورة وجود القوة العسكرية دورًا بارزًا في العلاقات مع الآخرين، لكنها تستحق أيضًا استقصاءً مستقلًّا في الفصل الخامس، وخصوصًا لأن سلامة تراب المملكة كانت تقتضي قوةً عسكرية فعَّالة دائمةَ التأهُّب. فما ركائز المملكة فيما يخصُّ هيكل مقدونيا الاجتماعي وتنظيم جيشها ومتطلبات نجاحها العسكري؟ وكيف لعبَ الملكُ المقدوني دورًا في هيكل مملكته العسكري؟

رأت مقدون واليونان رأْيَ العين قوةَ الإمبراطورية الفارسية التي كان ملكها أحشويرش من القوة بمكانٍ — كما روى هيرودوت — حتى إن شخصًا عاديًّا عجب لأمره بقوله: «لماذا اتخذتَ يا زيوس هيئةَ رجلٍ فارسي واسمَ أحشويرش بدلًا من زيوس لكي تدمِّر اليونان، ومن خلفك كل هؤلاء الرجال؟ كان بإمكانك فِعْل هذا دون كل هذه الجهود» (الكتاب السابع، ٥٦). فلماذا يتوقَّع ملك مقدوني بأي حال أن يهزم مثل هذا الحاكم القوي الذي يتربَّع على عرش أكبر إمبراطورية قامت في تاريخ الشرق الأدنى القديم حتى ذلك الزمان؟ يجب أن تشمل الإجابة عن هذا السؤال معرفةً بالهيكل الإقليمي والإداري لتلك الإمبراطورية، وحالة ذلك الهيكل في منتصف القرن الرابع؛ فإلى أيِّ مدًى كان الملوك المقدونيون يعرفون طبيعةَ بلاد فارس معرفة جيدة؟ وهل وُجِدت بين المملكتين أوجهُ تماثُل معينة من شأنها تيسير فهم إحداهما الأخرى؟ وبما أن الإسكندر نجح في إلحاق هزيمة بالفرس، صارت قوة التقاليد الفارسية وتأثيرها على الإسكندر عاملًا آخَر في عالَمِه.

يمكننا تكوين صورة أوضح للإسكندر الثالث المقدوني، المعروف منذ القِدَم باسم الإسكندر الأكبر، على أساس التوصُّل إلى فهْمٍ للظروف والقوى والأعراف السائدة في منطقة بحر إيجة في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد. وسيتألف الفصل الأخير من «صورة» لذلك الشخص؛ إذ نبيِّن كيف أن مقدونيا ونَسَبَه الأرغيَّ وتفاعُلَه مع اليونان والزخمَ العسكري للمملكة الأصلية والعلاقات مع الإمبراطورية الفارسية قد شكَّلوا الرجل ومسيرته على السواء. قد يقول قائل إن انحرافه عن تلك التأثيرات هو بالضبط ما جعله «الأكبر»، لكن سيتضح أنه لم يكن بوسعه أن يتخلَّى عن إرثه قصدًا أو دون قصد. وفي الوقت نفسه، فإنه لم يكن طرفًا سلبيًّا في عالمه؛ إذ استخدم منصبَه الموروث في ظروفٍ لم يشهدها أرغيٌّ سابق. ومع ذلك، فمن دون الأدوات والمنصب اللذين حصل عليهما الشابُّ لدى المناداة به خليفةً للملك فيليب الثاني، ما كان ليفوز بلقبه هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤