فصل في مآخذ الشعراء من شعره

القول في هذا الباب كالقول في سابقه؛ فلهذا نقتصر على ذِكْر ما حضر منه، دون استيعاب سائره. فمنه قول أبي العلاء:

لا تطلبن بآلة لك رفعة
قلم البليغ بغير حظ مِغْزَلُ
سكن السما كان السماء كلاهما
هذا له رمح وهذا أعزل

أخذه أبو إسحق الغزي، فقال:

والحسن والقبح قد تحويهما صفة
شان البياض وزان الشيب والشنبا
ظُبَا المُخَارَفِ١ أقلام مكسَّرة
رءوسهن وأقلام السعيد ظُبَا

•••

وقال أبو العلاء يصف خيلًا:

ولما لم يسابقهن شيء
من الحيوان سابقن الظلالا

أخذه ابن حمد يس فقال وأجاد:

ويكاد يخرج سرعة من ظله
لو كان يرغب في فراق رفيق

•••

وقال أبو العلاء:

إذا اشتاقت الخيل المناهل أعرضت
عن الماء فاشتاقت إليها المناهل

أخذه الطغرائي فقال:

ونفس بأعقاب الأمور بصيرة
ما من طِلاع الغيب حاد وقائد
وتأنف أن يشفي الزلال غليلها
إذا هي لم تشتق إليها الموارد

وقال أبو العلاء:

وما ازدهيت وأثواب الصبا جُدُدٌ
فكيف أُزْهَى بثوب من صبًا خَلَقِ

أخذه الطغرائي أيضًا فقال:

لم أرتض العيش والأيام مقبلة
فكيف أرضى وقد ولت على عجَل

•••

وقال أبو العلاء:

وافقتَهم في اختلاف من زمانكم
والبدر في الوَهْنِ مثلُ البدر في السحر

أخذه الطغراني فقال:

مجدي أخيرًا ومجدي أولا شَرَعٌ
والشمس رأد الضحى كالشمس في الطَّفَل

قال الصفدي: ولكن قول المعري ألطف عبارة، وأحسن شارة وإشارة؛ لأن الطغرائي أغرب عن لفظتي رأد والطفل، وعذوبة الألفاظ أمر مهم في البلاغة. انتهى. وقد ناقشه بدر الدين الدماميني في «نزول الغيث» بما لا يخلو إيراده من فائدة، ونص عبارته: «أقول: الإغراب في اللفظ، هو الإتيان به غريبًا، وقد نص بعض الأئمة على أن الغرابة كون الكلمة وحشية غير ظاهرة المعنى، ولا مأنوسة الاستعمال؛ فمنه ما يحتاج في معرفته إلى أن ينقر ويبحث عنه في كتب اللغة المبسوطة، ثم الغريب منه حسن، وهو الذي لا يعاب استعماله عند العرب؛ لأنه لم يكن وحشيًّا عندهم، مثل اشمَخَرَّ واقمطرَّ، ومنه قبيح يعاب استعماله مطلقًا، ويسمى الوحشي الغليظ؛ وهو أن يكون، مع كونه غريب الاستعمال، ثقيلًا على السمع، كريهًا في الذوق، ويسمى المتوعر أيضًا، مثل اطلخمَّ الأمر. وعلى كل تقدير فلا نسلم أن رأد والطفل من الغرابة في شيء، كما ادعاه الصفدي. وفي قوله: وعذوبة الألفاظ أمر مهم في البلاغة، قرينة دالة على أنه أراد أن الرأد والطفل من الغريب المستكره في الذوق، المسمى بالمتوعر. وظاهرٌ أن ذلك خطأ نشأ من سوء الذوق، وعدم المعرفة بكلام القوم، والإعراض عن التدبر لاصطلاحهم». انتهى كلامه.

•••

وقال أبو العلاء:

وأغدو ولو أن الصباح صوارم
وأسري ولو أن الظلام جحافل

أخذه عفيف الدين التلمساني فقال:

أسير ولو أن الصباح مواكب
وأسري ولو أن الظلام قتام

•••

وقال أبو العلاء في سيف:

ودبَّت فوقه حُمر المنايا
ولكن بعدما مُسخت نمالا

أخذه الوزير أبو محمد عبد الغفور فقال:

تريه المنايا الحمر فيه وجوهنا
مماثلة الأرواح في خِلقة الذرِّ

•••

وقال أبو العلاء:

والنجم استصغر الأبصار رؤيته
والذنب للطرف لا للنجم في الصغر

أخذه التهامي فقال:

لم أَخْفَ إلا للعلوِّ وإنما
تُخطِي السها لعلوه الأبصارُ

•••

وقال أبو العلاء:

وفضل الشمس في الأيام باق
وإن مدَّت من الكبر اللُّعَابَا

أخذه ابن سناء الملك، فقال من قصيدة يهجو بها الشمس:

أنت عجوز لِم تبرجتِ لي
وقد بدا منك لعاب يسيل

•••

وقال أبو العلاء:

خفف الوطء ما أظن أديم الأ
رض إلا من هذه الأجساد

أخذه مهيار الديلمي فقال:

رويدًا بأخفاف المطي فإنما
تداس جباه في الثرى وخدود

•••

وقال أبو العلاء فأجاد:

الموقدون بنجد نار بادية
لا يَحْضُرُونَ وفقد العز في الحَضَر
إذا هَمَى القَطْرُ شبتها عبيدهم
تحت الغمائم للسارين بالقُطُر

أي إذا أطفأ المطر نارهم شبتها عبيدهم بالقُطْرِ، وهو العود ليهتدي الساري برائحته. قال الصفدي: وعليه اعتمد ابن عباد في قوله، على أنه ما فارق المغنى، ولا خالف المعنى؛ وهو:

المكثرين من الكِباء٢ بنارهم
لا يوقدون بغيره للساري

•••

وقال أبو العلاء:

سألن فقلت مقصدنا سعيد
فكان اسم الأمير لهن فالا

أخذه عصر يّنا سليم رحمي بك رحمه الله، فقال في محمد شريف باشا وزير مصر:

يقول القوم مطلبكم عزيز
فقلت نعم ومقصدنا شريف

•••

وقال أبو العلاء:

تحية كسرى في السناء وتُبَّع
لربعك لا أرضى تحية أَرْبُع

أخذه أحمد شوقي بك، فقال في مدح السلطان عبد الحميد:

سلام الله لا أرضى سلامي
فكل تحية دون المقام

هوامش

(١) يقال: رجل مخارف، بالمعجمة، ومحارف بالمهملة وبفتح الراء فيهما، أي: محدود ممنوع.
(٢) الكباء ككساء: عود البخور، أو ضرب منه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤