فصل في مقارنة بعض معانيه بمعاني غيره

قال أبو العلاء:

جهلٌ بمثلك أن يزور بلادنا
يختال بين أساور وخلاخل
أوما رأيت الليل يلقي شهبه
حتى يجاوزها بحلة عاطل

وقال الوزير ابن زيدون:

قعيدك أني زرت نورك واضح
وعطرك نمَّام وحَليك مرجف
هبيك اعتررت١ الحي واشيك هاجع
وفرعك غربيب وليلك أغضف٢
فكيف اعتسفت الهول خطوط مدمج
وردفك رجراج وخصرك مُخْطَفُ٣

أقول: مدار المعنى في الشعرين على التعجب من مخاطرة هذه المعشوقة في زيارة صاحبها. فتناوله كلا الشاعرين، وتلاعب به، فأبرزه في الصورة التي شاء له اقتداره إبرازه فيها؛ وقد أجاد كل منهما فيما حاوله، وتساويَا في الإحسان، فلا أرى للترجيح مدخلًا بينهما. ويلوح لي أن كليهما اعتمد في توليد معناه على قول أبي الطيب:

قلق المليحة وهي مسك هتكها
ومسيرها بالليل وهي ذُكاء

ولا يظهر ما قلته إلا بزيادة التدقيق، وإطالة التأمل.

•••

وقال أبو العلاء:

آلَى أميرك لا يسري الخيال لنا
إذا هجعنا فقد أسرى وما عَلِمَا
وكم تَمَنَّتْ رجال فيك مُغْضَبَةٌ
أن يبصروه فلم يظهر لهم سَقَمَا

وقال ماني الموسوس وقد سأله محمد بن طاهر إجازة قول الشاعر:

حجبوها عن الرياح لأني
قلت يا ريح بلِّغيها السلاما
لو رضوا بالحجاب كان ولكن
منعوها يوم الرياح الكلاما

فقال:

فتنفست ثم قلت لطيفي
وَيْك لو زرت طيفها إلماما
حَيِّها بالسلام سرًّا وإلا
منعوها لشقوتي أن تناما

أقول: خلاصة المعنى المبالغة في الحجر عليها. فادعى أبو العلاء أن وليَّ أمرها بالغ في حجبها، حتى حلف على خيالها ألا يزور حبيبها، ولكن الخيال غافله وزاره، ولضناه في حبه نحل، فخفى على مَنْ يترصد رؤيته، وقصَّر ماني فلم تصل يده إلى الخيال. وبيتاه على ما فيهما من حسن التخيل وعذوبة الألفاظ ينحطان عن بيتي أبي العلاء.

•••

وقال أبو العلاء:

ذكرت بها قطعا من الليل وافيًا
مضى كمضيِّ السهم أقْصَرَ من قِطْعِ

وقال آخر:

ظللنا عند دار أبي نعيم
بيوم مثل سالفة الذباب

وقال آخر:

ويوم كإبهام القطاة مزيَّن
إلى صباه غالب لِيَ باطله

فأبو العلاء شبه الليل في قصره بالقِطْع، وهو النصل الصغير، والثاني شبه يومه في قصره بعنق الذباب. والثالث شبهه بإبهام القطاة. قال أبو يعقوب النحوي: وهذا أشد مبالغة من قول أبي العلاء، إلا أنه أغرب في الصنعة، من حيث إنه ذكر قطع الليل وقطع السهم، جاعلًا مضي الليل كمضي السهم. ا.هـ.

هوامش

(١) المعتر: الزائر.
(٢) الأغضف: المظلم.
(٣) المخطف: المنطوي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤