المبحث الثالث

مكانة الأخلاق من الفلسفة

لا بد لهذا البحث من أن نقدم له بكلمة قصيرة عن معنى الفلسفة وإطلاقها قديمًا وحديثًا، نخلص بعدها إلى مكان الأخلاق منها ونسبتها إليها، فقد قال بحق الفيلسوف الهولندي: هارالد هوفدنج Harald Hoffding (١٨٤٣–١٩٣١): «بما أننا نتعلم أن نعرف المرء من تاريخ حياته، يكون إذن من الواجب إذا أردنا أن نعرف أي علم الرجوع إلى تاريخه، وطبيعي أن نسير في هذا الطريق في الفلسفة أيضًا.»١

(١) أصل كلمة «فلسفة»

إذا رجعنا لأصل هذه الكلمة من ناحية الاشتقاق وجدنا أنها تتركب من لفظين معناهما «محبة الحكمة»، وهي كلمة إغريقية اقتبسها العرب واشتقوا منها فعلًا فقالوا: «تفلسف، يتفلسف»، أيام إقبالهم على ترجمة ما وصلت إليه قرائح الأمم، التي لها في عالم العلم والعرفان تاريخ معروف، من معارف وعلوم وفنون، وها هو ذا نص عبارة المعلم الثاني أبو النصر الفارابي٢ في بيان معنى اسم «الفلسفة».
قال في اسم الفلسفة: «اسم الفلسفة يوناني، وهو دخيل في العربية، ومعناه إيثار الحكمة … والفيلسوف مشتق من الفلسفة … ومعناه المؤثر للحكمة، والمؤثر للحكمة عندهم هو الذي يجعل الوكد من حياته وغرضه من عمره الحكمة.»٣
حدثت هذه الكلمة في القرن السادس قبل الميلاد؛ إذ كان أول من استعملها هو فيثاغورس٤ كما تقول جمهرة المؤرخين، أو سقرط كما يقول آخرون، ذلك أنه كان متواترًا كما يؤكد شيشرون٥ أن فلاسفة الإغريق الذين سبقوا فيثاغورس كانوا يلقبون أنفسهم الحكماء، حتى جاء هذا الفيلسوف فوجد اللقب فضفاضًا عليه وعلى أمثاله، فأعلن أن الحكمة لله وحده وأن الأليق بنا أن نختار لأنفسنا لقب «محب الحكمة».

وكيفما كان الأمر في سبب حدوث هذه الكلمة، فقد كان مقصد الفلاسفة السابقين البحث عن الحقيقة وعن المادة التي تكون منها العالم ما هي؟ فكان منهم من رأى أنها الماء، فهو أصل الكون كله، ومنهم من رأى أنها الهواء، ومنهم من أعلن أنها النار، أما فيثاغورس فقد أكد أنها الأعداد.

ومهما يكن في هذه الآراء من صواب قليل وخلط كثير، فهؤلاء المفكرون الأولون، الذين توفروا على البحث عن الحقيقة، هم الألى يستحقون أن يلقبوا بالحكماء أو بالفلاسفة كما يرى فيثاغورس، وهو في هذا يقول كما رواه شيشرون أيضًا: أغلب الناس عبيد، البعض عبيد للشرف والمجد والجاه، والآخرون عبيد للمال والثراء. إلا أنه نجد منهم عددًا قليلًا عُنُوا بالبحث عن الطبيعة وفهمها، وهم الذين يسمون الفلاسفة.

(٢) إطلاقها قديمًا

كانت الفلسفة قديمًا تطلق على كل المعارف البشرية؛ من بحث عن الطبيعة في العالم وأصله ونشأته، ومن فلك وطب وهندسة وإلهيات وغيرها، أيام كان العقل كالطفل الغرير يتلمس المعارف تلمسًا ولا تنهال عليه انهيالًا كما في العصور الحديثة، وكان في مقدوره أن يقوم بها كلها لقلتها وعدم تفرعها كثيرًا في ذلك الزمن القديم.

وإذا رجعنا الآن إلى تاريخ الفلسفة نفسها، لا إلى تاريخ اللفظ الدال عليها فحسب، وجدنا أن مسألة المعرفة ومسألة السلوك الإنساني كانتا أهم ما شغل به الفلاسفة أنفسهم، وبعبارة أخرى: كانت هاتان المسألتان على ما يظهر هما العناصر الأساسية للبحث الفلسفي.

نعم، إنه من الحق أن وجدان المرء نفسه وسط هذا العالم الخضم، واضطرابه في أرجائه ووقوع نظره على ما يتألف منه من عناصر وما يكتنفه ويقع تحت حسه من ظواهر؛ من خسوف وكسوف، ورعد ومطر، وليل ونهار يتعاقبان، وبرد وحر يتناوبان، ونحو ذلك من الظواهر الكونية المختلفة، كل ذلك أيقظ ذكاءه ودفعه بإلحاح إلى التفكير عساه يفهم الكون الذي يعيش فيه، والظواهر التي لا تفتأ تتوالى أمام سمعه وبصره، ولا غرو فالمرء مفطور على حب المعرفة والسعي لها، يتجلى هذا في الطفل حينما يسأل باستمرار لماذا، وكيف؛ إرضاء لغريزة حب الاستطلاع الطبعية فيه. ومن أجل ذلك يعلمنا التاريخ أن الرغبة في المعرفة رغبة أساسية لدى الناس جميعًا في كل الأزمان والبيئات، ليس هناك أي شعب مهما كانت درجة تأخره وانحطاطه لم يظهر فيه هذا الميل الغريزي والحاجة الطبعية للمعرفة، مما يجيز لنا بحق أن نعتبرها عريقة في القدم عراقة الإنسانية نفسها.

وبعد فترة من الزمن، علم مقدارها عند الله وحده، أُشْرب المرء حب التفكير والنظر شوقًا للمعرفة الخالصة التي لا تدفع إليها حاجة ملحة، وأدخل ضمن دائرة بحثه وضع شيء من النظام والمنطقية في أعماله وسلوكه. بهذا وذاك أصبحت عناصر الفلسفة — كما قلنا — اثنين: أحدهما نظري عقلي يتعلق بالمعرفة، والآخر عملي أخلاقي يتعلق بالعمل، هذا ما يرينا إياه تمامًا تاريخ التفكير الإغريقي في العصور القديمة، الذي هو مرجع الفلسفة الغربية.

وعَدَت العوادي على الفلسفة على يد السوفسطائيين؛ إذ نزلوا بها عن مكانتها وجعلوها وسيلة للارتزاق، حتى جاء سقراط فنجاها مما آل إليه أمرها على يد هؤلاء الذين وجهوا همهم وعلمهم وتفكيرهم لجني أكبر ما يمكن جَنْيُه من الفوائد الذاتية، وصاروا يعلمون الناس طرق النجاح في الحياة غير مقيدين في ذلك بمصالح الآخرين، ولا بشيء من العادات والتقاليد التي كانت معروفة حينذاك، كما أنزلها كما يقول شيشرون: «من السماء للأرض»، أي أنه وجه نظر الفلاسفة إلى التفكير في الإنسان وأعماله من ناحية وضع قواعد تتجه به نحو الفضيلة، بدل أن كانوا يتجهون دائمًا في أبحاثهم وتفكيرهم نحو العالم وأصله ومنشئه وتفسير ظواهر الكون المختلفة، وبذلك يُعتبر المؤسس لعلم الأخلاق على أسس عقلية سليمة مستقيمة.

(٣) إطلاقها حديثًا

هكذا كان الحال في الأزمان القديمة؛ يُراد من الفلسفة المعرفة العامة، المعرفة التي كما يقول «شيشرون»: «تضم الأشياء الإلهية والإنسانية، كما تشمل المبادئ والعلل لكل حادث خاص.»

ظلت الحالة كذلك زمنًا طويلًا، حتى تقدم العقل البشري وكثرت العلوم وتنوعت البحوث، فأخذت الفروع العلمية تنفصل شيئًا فشيئًا عن الأم الأولى وهي الفلسفة، وأصبحت معارف وعلومًا مستقلة عنها، وبذلك حصل التخصص بين العلم والفلسفة.

صارت العلوم مختصة بالبحوث المادية، فكان منها ما يبحث في جسم الإنسان وأعضائه ووظائفها، وهذان هما علما التشريح ووظائف الأعضاء، وما يبحث في الأمراض التي تنتاب الإنسان وطرق الوقاية منها وعلاجها، وذلك علم الصحة وفن الطب، وما يبحث في أحوال الشعوب وماضيها وحاضرها، وهذا علم التاريخ، وما يبحث في وصف البلدان: جوها وسكانها وغلاتها، وهو علم الجغرافيا، وما يبحث في حركة الأرض والأجرام السماوية وأبعادها وسائر أحوالها المادية، وذلك علم الفلك … إلى آخر العلوم الأخرى التي لا تكاد تتجاوز الجانب المادي من الناحية التي تبحث فيها.

بقي بعد هذا كله الصلات العامة التي تربط العلوم بعضها ببعض، والنواحي غير المادية من الكون والإنسان، والله وما يتصل به؛ للفلسفة.

بقي للفلسفة البحث في مبدأ الكون والنواميس التي يسير عليها والغاية التي ينتهي إليها، والبحث في العلة الأولى أو الموجود الأول، والجواهر الروحانية وهي الملائكة وما يتعلق بها، والوحي والبعث والحياة الآخرة وكيف تكون، وماهية الروح وأصلها وغايتها وكيفية تأثيرها في الجسم وهي من جوهر مغاير له، والبحث في الإنسان من الناحية المعنوية، أي محاولة تعرف العقل وطبيعته وقواه وآثارها ومظاهرها، وكيف يصل إلى ما ينبغي أن يبلغه من كمال، وبعبارة أخرى: بقي للفلسفة هذه النواحي من البحوث وأمثالها التي لا تتناولها العلوم على اختلافها.

(٤) تقسيم الفلسفة

للباحثين طرائق متعددة في تقسيم الفلسفة، فبعضهم يقسمها باعتبار الغاية منها إلى فلسفة نظرية غايتها المعرفة والعلم فحسب، وفلسفة عملية غايتها العمل والعلم وسيلة له، والمنطق مقدمة لا بد منها للبحث في هذا الضرب أو ذاك، والقسم الأول يشمل الفلسفة الإلهية أو فلسفة ما بعد الطبيعة، والفلسفة الرياضية والفلسفة الطبيعية، والقسم الثاني يشمل فلسفة الأخلاق والفلسفة المنزلية والفلسفة السياسية أو المدنية. وبعضهم يقسمها باعتبار موضوع البحث الذي هو الله أو العالم أو الإنسان، فتكون لذلك أقسامًا ثلاثة، هي: فلسفة ما بعد الطبيعة، وموضوعها الخاص الله وسائر ما لا يدركه الحس عامة، والفلسفة الطبيعية، وموضوعها العالم وما يشمل من الأشياء التي تقع تحت الحس وإدراكه، والفلسفة الإنسانية وموضوعها الإنسان من نواحيه النفسية المعنوية المختلفة، وتشمل علم النفس والأخلاق والمنطق.

وربما كان منشأ تسمية بعض أقسام الفلسفة ﺑ «ما بعد الطبيعة» أن الذين رتبوا مؤلفات أرسطو جعلوا ما كان خاصًّا منها بالإلهيات ونحوها بعد ما كان خاصًّا بمباحث الفلسفة الطبيعية؛ ومن ثَمَّ نجد ابن خلدون يقول عن علم الإلهيات، وهو فلسفة ما بعد الطبيعة: «وهو تالٍ للطبيعيات في ترتيبهم؛ ولذلك يسمونه علم ما وراء الطبيعة.»٦

هذا، والتقسيم على النحو الأول هو جوهر تقسيم أرسطوطاليس، وعلى النحو الثاني تقسيم بعض الفلاسفة والمفكرين المحدثين، وقد استوحى المسلمون في تقسيمهم الفلسفة تقسيم أرسطو فجعلوه أساسًا لهم، وما يوجد بينهم وبينه في هذه الناحية من اختلاف يسير أو كبير، فمرجعه إلى ما تأثرت به الفلسفة اليونانية في طريقها للمسلمين من اعتبارات، وما أُضيف إليها من فروع وبحوث.

والذي يرجع إلى «مبادئ الفلسفة القديمة» للفارابي، و«تسع رسائل» لابن سينا، و«مفاتيح العلوم» للخوارزمي، و«المقدمة» لابن خلدون، و«كشاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي؛ يرى أن الفلاسفة والمفكرين المسلمين بعد أن تكلموا في الفلسفة وتقسيمها اختلفوا في المنطق ومكانته من الفلسفة، هل هو مقدمة لها، أو جزء بين الفلسفة النظرية، أو جزء ثابت يُبحث فيه من حيث إنه ناحية مستقلة لا آلة للعلوم؟

ومهما يكن من خلاف في تقسيم الفلسفة إلى أصول وفروع قد يتداخل بعضها في بعض، فإنه مما لا ريب فيه أن مما تبحث فيه الفلسفة تفكيرنا وإرادتنا وعواطفنا وإحساساتنا ومشاعرنا وسائر قوى الإنسان المعنوية، وذلك موضوع علم النفس،٧ ثم أفكارنا وإرادتنا تتجه إلى غايات لها، والعلم الذي يدرس هذه الغايات هو الأخلاق. والتفكير في بحثه عن الحقيقة يتبع طريقة معينة، فدراسة هذه الطريقة هو المنطق. وهذه الفروع الثلاثة، أي علوم النفس والأخلاق والمنطق، هي ما يكوِّن العلوم النفسية، لأن كل واحد منها يتناول الجانب النفسي المعنوي في الإنسان من ناحية خاصة: علم النفس من ناحية ما فيه من قوى التفكير والإرادة والعواطف والمشاعر ونحوها، والأخلاق من ناحية توجه أعماله الإرادية إلى ناحية الخير ووضع قواعد لها، والمنطق من ناحية قيادة فكره ووضع قواعد تعصمه من الخطأ حين يبحث للوصول عن الحقيقة.٨

والخلاصة بعد ما تقدم من بيان أن لنا أن نقرر أن علم الأخلاق فرع من فروع الفلسفة الإنسانية أو النفسية، الشاملة له ولعلم النفس والأخلاق، والتي هي قسم من أقسام الفلسفة العامة. فمكانة علم الأخلاق إذن من الفلسفة هي مكانة الجزء من الكل، فهو غصن الدوحة الوارفة الظلال التي تؤتي أكلها كل حين، وتفيد الإنسانية فائدة لا يُقدَّر قدرها.

(٥) صلة علم الأخلاق بغيره من العلوم

لا غنى عن علم الأخلاق لكثير من العلوم، كالتشريع والاقتصاد السياسي والتربية؛ إذ يبين المبادئ التي تعتبر أسسًا لها، والتي بدونها تكون علومًا خادعة ضارة؛ ومن أجل ذلك يسميه أرسطو بالعلم الجليل الخطر، العلم المنظم، العلم الأساسي.

لهذا، لا بد للباحث في علم الأخلاق من تبيُّن الصلة بينه وبين ما يمتُّ إليه من العلوم الأخرى بسبب من الأسباب؛ حتى يكون على بينة مما يرتبط منها ببحوثه. وها نحن أولاء نذكر كلمة عن هذا الموضوع مكتفين بذلك ببيان ما تمس إليه الحاجة من هذه العلاقات، وخاصة بينه وبين العلوم التي هي أمسُّ به رحمًا وأقرب إليه وشيجة.

(٥-١) الأخلاق وعلم النفس

يبحث علم النفس في الميول والرغبات والتفكير، وفي الإرادة والشعور والعواطف واللذة والألم، وهذه مباحث لا يستغني عنها دارس علم الأخلاق؛ ليهتدي للتقدير السديد والحكم الصحيح على الأعمال التي تتأثر بهذه القوى النفسية المختلفة، ومن هنا يقول «سانتهلير» في مقدمته لكتاب «الأخلاق» لأرسطو:

بدون المشاهدة السيكولوجية — أي النفسية — لا يتحقق علم الأخلاق أو يكون علمًا تحكميًّا.

كما يقول:
إن علم النفس بتحاليله المضبوطة يجب أن يكون دليلنا الوحيد، ولنا أن نضع فيه كل ثقتنا.٩
ولشدة حاجة دارس الأخلاق لعلم النفس كان الفلاسفة الأخلاقيون يقدمون بين يدي بحوثهم وتأليفهم بحوثًا أخرى في علم النفس؛ هذا أرسطو وضع قبل كتابه في الأخلاق كتابًا في علم النفس سماه «النفس»، وقد شرحه أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الفيلسوف الإسلامي المعروف،١٠ كما بدأ مسكويه١١ كتابه «تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق» بفصل ممتع في النفس الإنسانية وطبائعها وقواها المختلفة، وهكذا صنع الغزالي في كتابه «الإحياء».

(٥-٢) الأخلاق والمنطق

لكل من العلمين صلة بالآخر تتجلى فيما يلي:
  • (١)

    كل منهما يبحث في ناحية معينة من نواحي قوى النفس، فيبحث المنطق في التفكير والأخلاق في الإرادة وما يصدر عنها من أعمال.

  • (٢)

    كلاهما علم مقياسي، فكما يبحث المنطق عن مقياس للحقيقة يبحث علم الأخلاق عن مقياس لسلوك الإنسان.

  • (٣)

    يعمل كل منهما على وجوب الاتفاق مع المقياس الذي ينتهي إليه، فيعمل المنطق لاتفاق الذهن في تفكيره مع مقياس الحقيقة، والأخلاق تقول بوجوب اتفاق السلوك ومقياس الخير.

(٥-٣) الأخلاق والاجتماع والاقتصاد السياسي والسياسة

هذه العلوم، بإضافة علم القانون إليها، من الممكن أن نقول عنها إنها العلوم الاجتماعية؛ إذ إنها تُعْنَى بدراسة الإنسان في المجتمع، وإن كان كل منها يدرسه من ناحية خاصة، فبينها إذن وشائج وثيقة العرى.

فعلم الاجتماع يدرس المجتمعات الإنسانية وتطورها، والقوانين التي تخضع لها في تطورها وتقدمها أو انحلالها، وبهذا يكشف لنا عن كثير من العوامل التي يتأثر بها المرء في تفكيره وعمله؛ كالأسرة، والأمة، والدين، والمبدأ السياسي، والنظم التشريعية والاقتصادية التي نعيش تحت ظلالها. ومن ذلك يتبين لنا مقدار ما بين العلمين من صلة متينة، حتى حاول كثير من المفكرين في هذا العصر الحديث بناء الأخلاق على دعائم من علم الاجتماع.

والاقتصاد السياسي يدرس حياة الإنسان في المجتمع من ناحية الثروات وتوزيعها والخدمات وتبادلها، وعلم السياسة يدرس كيف تُحكم الشعوب حكمًا به خيرها وسعادتها، وواضح من ذلك أن هذين العلمين إذا لم يُؤسَّسا على أساس متين من الأخلاق الفاضلة لم يكونا أداة لخير الإنسانية، بل عاملًا لشر كبير يصيبها.

وما أحسن كلمة سانتهلير في مقدمة كتاب أرسطو في «الأخلاق» في بيان صلة السياسة بعلم الأخلاق، حين يقول:١٢

إن السياسة ليس لها مبدأ واحد لم تستمده من الأخلاق، فماذا عسى أن يكون التشريع في الممالك إذا كان لا يستند إلى علم الأخلاق؟ وما عسى أن يكون حال الحكومة وقد خلت من العدل؟ وما مصير الجمعيات الإنسانية بلا أخلاق؟ ألا إن العلم الأساسي المتقدم على غيره بفضل أنه شخصي، والسامي عن غيره بسبب أنه يعطي القانون ولا يأخذ منه، إنما هو علم الأخلاق.

تلك كلمة عن علاقة الأخلاق بسائر فروع الفلسفة الهامة وما يتصل بها، وهي وإن كانت موجزة إلا أنها تكفينا الآن.

١  تاريخ الفلسفة الحديثة، ج١ ص١.
٢  هو أبو النصر محمد بن محمد بن أوزلغ بن طرخان، توفي سنة ٣٣٩ﻫ بعد أن عُمِّر نحو الثمانين تقريبًا، رئيس فرقة المتكلمين في عهده، وأحد الفلاسفة الإسلاميين الأعلام؛ ولذلك يسمى المعلم الثاني.
٣  مبادئ الفلسفة القديمة.
٤  أحد فلاسفة الإغريق القدماء، عاش في القرن السادس قبل الميلاد، كان يزعم أن أصل المادة هو الأعداد وبها يُستطاع تفسير كل الموجودات.
٥  هو أفصح خطباء الرومان وأشهر كتابهم العبقريين، ولد سنة ١٠٦ ق.م، ومات اغتيالًا بوساطة أحد خصومه السياسيين سنة ٤٣ ق.م، وكان يلقب بأبي الوطن؛ لفرط محبة الناس له.
٦  المقدمة، طبع مصر، عام ١٣٢٢ﻫ، ص٣٩٢. ويُرجع إلى «المدخل إلى الفلسفة»، تعريب الأستاذ أبي العلا عفيفي، ص٢٤.
٧  يطلق لفظ العلم هنا وفيما بعده بشيء من التجوز أو الاتساع.
٨  لاروس الكبير العام Larousse universele.
٩  ترجمة لطفي السيد باشا، ج١ ص٩، ١١.
١٠  هو أشهر فلاسفة الأندلس (٥٢٠–٥٩٥)، أبان أن الفلسفة لا تناقض الدين في كتابه «فصل المقال فيما بين الشريعة والفلسفة من الاتصال.»
١١  هو أبو علي الخازن أحمد بن محمد الملقَّب ﺑ «مسكويه»، أي رائحة المسك، المتوفى سنة ٤٢١، جمع بين علوم الأدب والفلسفة والكيمياء.
١٢  ج١ ص٧٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤