عُنْقُودُ الْعِنَب
(١) بَيْتُ «سَعِيدٍ»
هذا بَيْتُ سَعِيد …
بِهذا الاسْمِ يَعْرِفُهُ الجِيرانُ وَأَهْلُ الْحَيِّ؛ لِأَنَّ صاحِبَ الْبَيْتِ اسْمُهُ «سَعِيدٌ»، وَكَذَلِكَ لِأَنَّ السَّعادَةَ مُتَوَافِرَةٌ فِي هَذا الْبَيْتِ، فَهُوَ حَقًّا بَيْتٌ سَعِيدٌ.
السَّيِّدَةُ «سَلْمَى» هيَ سَيِّدَةُ الْبَيْتِ، وَهِيَ تَعْرِفُ واجِباتِها وَتُؤَدِّيها أَحْسَنَ أَداءٍ، فِي نَشاطٍ واهْتِمامٍ.
تَعْتَنِي بِزَوْجِها الْأَبِ «سَعِيدٍ»، وَلا تَتْرُكُهُ مَشْغُولًا بِشَيْءٍ مِنْ شُئُونِ الْبَيْتِ، فَكُلُّ شَيْءٍ مُرَتَّبٌ وَمُهَيَّأٌ عَلَى أَجْمَلِ نِظامٍ.
وَالسَّيِّدَةُ الْأُمُّ كَذَلِكَ تَرْعَى ابْنَتَها «أَنِيسَةَ»، وابْنَها «فِكْرِي»، وَهُما يُطاوِعانِها فِي كُلِّ ما تَنْصَحُ بِهِ؛ يُقْبِلانِ عَلَى الْمَدْرَسَةِ، وَلا يُهْمِلانِ دُرُوسَهُما. كَذَلِكَ هُما يَحْتَرِمانِ أَباهُما، وَيَسْتَمِعانِ لِإرْشادِهِ، وَلا يُخالِفانِ لَهُ أَمْرًا، وَيَعِيشانِ أَحْسَنَ عِيشَةٍ فِي بَيْتٍ سَعِيدٍ.
(٢) حَدِيقَةُ الْبَيْتِ
السَّيِّدَةُ «سَلْمَى» أُمٌّ عَظِيمَةٌ، وَسَيِّدَةٌ كامِلَةٌ.
وَمَعَ أَنَّ بَيْتَها صَغِيرٌ اسْتَطاعَتْ مَعَ زَوْجِها الْأَبِ «سَعِيدٍ» أَنْ تُنْشِئَ فِيهِ حَدِيقَةً صَغِيرَةً لَطِيفَةً، لِكَيْ يَتَمَتَّعَ أَهْلُ الْبَيْتِ بِمَنْظَرٍ جَمِيلٍ، مَنْظَرِ الْخُضْرَةِ وَالزُّهُورِ، وَلِكَيْ يَشَمُّوا رائِحَةً طَيِّبَةً، رائِحَةَ الْوُرُودِ والرَّياحِينِ.
وَعَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ أَصْبَحَتِ الْحَدِيقَةُ نامِيَةً، فِيها أَصْنافٌ مُخْتَلِفَةٌ مِنَ الزَّهرَاتِ النَّاضِرَةِ، وَالثَّمَراتِ النَّاضِجَةِ.
وَقَدْ أَحَبَّ «فِكْرِي» حَدِيقَةَ الْبَيْتِ، وَكَذَلِكَ أَحَبَّتْها أُخْتُهُ «أَنِيسَةُ»، وَأَصْبَحَ كُلٌّ مِنْهُما يَأْتَنِسُ بِالْجُلوسِ فِيها لِلْمُذاكَرَةِ، أَوْ لِلرَّاحَةِ والتَّمَتُّعِ بِالْمَنْظَرِ الْجَمِيلِ، وَالْجَوِّ اللَّطِيفِ.
وَأَحْيانًا يَحْضُرُ أَصْدِقاءُ «فِكْرِي» أَوْ صَدِيقاتُ «أَنِيسَةَ»؛ فَيَقْضُونَ وَقْتًا طَيِّبًا يَتَبادَلُونَ فِيهِ الْأَحادِيثَ وَالْفُكاهاتِ الْمُسَلِّيَةَ.
وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ كُلَّهُمْ يَشْتَرِكُونَ فِي خِدْمَةِ الْحَدِيقَةِ، وَيُساعِدُونَ عَلَى أَنْ تَبْدُوَ مُنَظَّمَةً تَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيَقْضُونَ فِيها وَقْتَ الرَّاحَةِ وَالاسْتِمْتاعِ.
الْجَمِيعُ يُحِبُّونَ الْحَدِيقَةَ، وَيُحِبُّونَ الْعَمَلَ فِيها، وَيَحْرِصُونَ عَلَى أَنْ تَنْمُوَ وَتُنْبِتَ نَباتًا حَسَنًا، وَتَجِدُهُمْ فَرِحِينَ جِدًّا حِينَ يَرَوْنَ زَهْرَةً تَفَتَّحَتْ، أَوْ غُصْنًا ظَهَرَ. لَقَدْ أَصْبَحَتْ حَدِيقَةُ الْبَيْتِ جُزْءًا مِنْ حَياتِهِمْ، فِيهِ تَرْفِيهٌ وَتَسْلِيَةٌ، وَفِيهِ إِنْعاشٌ لِلنُّفُوسِ.
(٣) عُنْقُودُ الْعِنَبِ
فِي صَباحِ يَوْمٍ نَزَلَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى» بَعْدَ أَنْ أَتَمَّتْ شُئُونَ البَيْتِ، إِلَى الْحَدِيقَةِ الْحَبِيبَةِ، لِتُؤَدِّيَ لَها ما يَلْزَمُ مِنَ السَّقْيِ وَالتَّنْظِيفِ.
وَلاحَتْ مِنْها نَظْرَةٌ إِلَى عَرِيشٍ صَغِيرٍ لِلْعِنَبِ، أَنْشَأَتْهُ فِي الْحَدِيقَةِ، وَتَعَهَّدَهُ أَهْلُ الْبَيْتِ كُلُّهُمْ، يَنْتَظِرُونَ أَنْ يَقْطِفُوا مِنْهُ عِنَبًا لَذِيذًا عَنْ قَرِيبٍ.
فَرِحَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى» فَرَحًا شَدِيدًا، لِأَنَّها فُوجِئَتْ بِأَنَّ قِطْفًا مِنْ قُطُوفِ الْعِنَبِ النَّاشِئَةِ قَدْ نَضِجَ، وَسَبَقَ جَمِيعَ الْقُطُوفِ الْأُخْرَى، فَأَصْبَحَ لَوْنُهُ مائِلًا إِلَى الصُّفْرَةِ، وَحَبَّاتُهُ شَفَّافَةٌ رَقِيقَةُ الْقِشْرَةِ.
وَسَأَلَتِ الْأُمُّ نَفْسَها: «هَلْ أَتْرُكُ الْعُنْقُودَ النَّاضِجَ فِي عَرِيشِ الْعِنَبِ، حَتَّى يَحْضُرَ أَفْرادُ الْأُسْرَةِ، لِيَنْظُرُوا إِلَيهِ، وَلِيَشْتَرِكَ الْجَمِيعُ فِي قَطْفِهِ؟»
وَكادَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى» تَنْصَرِفُ، صاعِدَةً إِلَى الْبَيْتِ وَتَتْرُكُ الْعُنْقُودَ فِي عَرِيشِ الْعِنَبِ، انْتِظارًا لِحُضُورِ أَفْرادِ الْأُسْرَةِ.
وَلَكِنَّها فَكَّرَتْ قَلِيلًا، ثُمَّ قالَتْ: «سَأَقْطِفُ هَذا الْعُنْقُودَ، وَأُفاجِئُ بِهِ أَهْلَ الْبَيْتِ، وَسَيَفْرَحُونَ بِرُؤْيَتِهِ أَشَدَّ الْفَرَحِ.»
(٤) لِمَنِ الْعُنْقُودُ؟
ذَهَبَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى»، فَغَسَلَتْ عُنْقُودَ الْعِنَبِ غَسْلًا جَيِّدًا، وَوَضَعَتْهُ فِي طَبَقٍ نَظِيفٍ، وَهِيَ تَنْظُرُ مُعْجَبَةً، كَأَنَّها تَنْظُرُ إِلَى عِقْدٍ مِنَ اللُّؤْلُؤِ النَّفِيسِ.
وَكانَ أَوَّلُ الْحاضِرِينَ إِلَى الْبَيْتِ ابْنَتَها «أَنِيسَةَ».
فَلَمْ تَسْتَطِعِ الْأُمُّ «سَلْمَى» أَنْ تَكْتُمَ الْخَبَرَ عَنْها، فَقالَتْ لَها: «احْزِرِي … ماذا تَظُنِّينَ أَنْ أُفاجِئَكَ بِهِ؟»
فَقالَتْ «أَنِيسَةُ»: «إِنَّكِ دائِمًا تُفاجِئِينَنا بِكُلِّ ما يَسُرُّنا، ماذا عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ جَدِيدٍ؟»
فَقالَتِ الْأُمُّ: «لَقَدْ بَدَأَ عَرِيشُ الْعِنَبِ يُعْطِي ثِمارَهُ. الْيَوْمَ نَضِجَ أَوَّلُ عُنْقُودِ عِنَبٍ.»
وَأَحْضَرَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى» الْعُنْقُودَ …
فَما كادَتْ «أَنِيسَةُ» تَراهُ، حَتَّى أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ تُقَبِّلُهُ، وَتُشْبِعُ نَظَرَها مِنْهُ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ ثَمَرَةٍ طَيِّبَةٍ مِنْ عَرِيشِ الْعِنَبِ.
وَقالَتِ الْأُمُّ: «إِنَّهُ بَيْنَ يَدَيْكِ، فَتَصَرَّفِي فِيهِ كَما تَشائِينَ، وَسَتَنْضُجُ فِي الْأَيَّامِ الْقَرِيبَةِ الآتِيَةِ عَناقِيدُ كَثِيرَةٌ، بِإِذْنِ اللهِ.»
(٥) حَدِيثُ الْأَخَوَيْنِ
بَعْدَ قَلِيلٍ حَضَرَ «فِكْرِي» أَخُو «أَنِيسَةَ».
وَقَبْلَ أَنْ يَصْعدَ إِلَى الْبَيْتِ دَخَلَ الْحَدِيقَةَ يَجُولُ فِيها جَوْلَةً، وَوَقَفَ أَمامَ عَرِيشِ الْعِنَبِ يَتَأَمَّلُ، وَظَهَرَتْ عَلَى وَجْهِهِ الدَّهْشَةُ: لَقَدْ أَدْهَشَهُ أَنَّ عُنْقُودًا مِنْ عَناقِيدِ الْعِنَبِ النَّاشِئَةِ قَدِ اخْتَفَى … فَأَسْرَعَ بِالصُّعُودِ إِلَى الْبَيْتِ، لِيَعْرِفَ سِرَّ اخْتِفاءِ الْعُنْقُودِ.
وَلَقِيَتْهُ أُخْتُهُ «أَنِيسَةُ»، فَقالَتْ لَهُ بَعْدَ أَنْ حَيَّتْهُ تَحِيَّةً طَيِّبَةً: «سَأُفاجِئُكَ بِشَيْءٍ يَسُرُّكَ.»
فَقالَ لَها: «قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ أُرِيدُ أَنْ أَعْرِفَ: كَيْفَ اخْتَفَى مِنْ عَرِيشِ الْعِنَبِ عُنْقُودٌ؟»
فَعَجِبَتْ أُخْتُهُ مِنْهُ، وَقالَتْ لَهُ: «هَلْ أَدْرَكْتَ أَنَّ مَكانَهُ خَالٍ فِي عَرِيشِ الْعِنَبِ؟»
فَقالَ لَها: «هَلْ تَظُنِّينَ أَنِّي لا أَعْرِفُ كُلَّ ما يَجْرِي فِي الْحَدِيقَةِ؟!
إِنِّي مَشْغُولٌ بِمُلاحَظَةِ عَناقِيدِ الْعِنَبِ النَّاشِئَةِ، أُراعِيها يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ.
وَقَبْلَ صُعُودِي الآنَ لاحَظْتُ اخْتِفاءَ عُنْقُودٍ مِنْ هَذِهِ الْعَناقِيدِ.»
فَقالَتْ «أَنِيسَةُ»: «هَذِهِ هِيَ الْمُفاجَأَةُ الَّتِي كُنْتُ أَنْتَظِرُ أَنْ أُفاجِئَكَ بِها؛ رَأَتْ أُمِّي هَذا الْعُنْقُودَ قَدْ نَضِجَ، وَهِيَ تَسْقِي الْحَدِيقَةَ فِي الصَّباحِ، فَقَطَفَتْهُ، وَسَأُرِيكَ إيَّاهُ.»
وَسُرْعانَ ما أَحْضَرَتْهُ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهِ مَسْرُورًا، وَقالَ: «هَذِهِ أَحْسَنُ بُشْرَى. سَنَأْكُلُ هَذا الْعامَ عِنَبًا مِنْ غَرْسِ أَيْدِينا، بِفَضْلِ اللهِ.»
فَقالَتِ الْأُخْتُ: «لَقَدْ أَعْطَتْنِي أُمِّي الْعُنْقُودَ لِأَتَصَرَّفَ فِيهِ كَما أَشاءُ، وَأَنا أُحِبُّ أَنْ أَخُصَّكَ بِهِ.»
فَشَكَرَ لَها «فِكْرِي» عاطِفَتَهَا الْأَخَوِيَّةَ الْكَرِيمَةَ، وَقالَ لَها: «بَلْ هُوَ لَكِ، لِأَنَّكِ أَوَّلُ مَنْ حَضَرَ إِلَى الْبَيْتِ، وَتَلَقَّى الْبُشْرَى. وَسَأَنْتَظِرُ الْعُنْقُودَ الَّذِي يُنْضِجُهُ عَرِيشُ الْعِنَبِ بَعْدَ ذَلِكَ.»
فَقالَتْ لَهُ «أَنِيسَةُ»: «يَسُرُّنِي أَنْ تَأْكُلَهُ أَنْتَ، وَسَأَنْتَظِرُ أَنا الْعُنْقُودَ التَّالِي.»
فَقالَ لَها «فِكْرِي»: «إِذَنْ نَقْسِمَهُ مُنَاصَفَةً بَيْنَنا، نِصْفُ حَبَّاتِهِ لِي، وَالنِّصْفُ الآخَرُ لَكِ.»
فَقالَتْ «أَنِيسَةُ»: «إِنَّهُ عُنْقُودٌ صَغِيرٌ، وَلا داعِيَ لِقِسْمَتِهِ. لَكَ أَنْ تَأْكُلَهُ هَنِيئًا.»
فَقالَ لَها «فِكْرِي»: «أَنْتِ يا أُخْتِي تَمْلَئِينَ نَفْسِي إِعْزازًا لَكِ بِما تَفْعَلِينَ. وَلَيْسَتْ قِيمَةُ عَمَلِكِ فِي نُزُولِكِ عَنْ عُنْقُودِ الْعِنَبِ لِي، وَلَكِنَّ الْقِيْمَةَ الْكُبْرَى هِيَ صَفاءُ الْأُخُوَّةِ بَيْنَنا، فَإِنَّكِ تُحِبِّينَ أَخاكِ أَكْثَرَ مِمَّا تُحِبِّينَ نَفْسَكِ.»
فَشَكَرَتْ «أَنِيسَةُ» لِأَخِيها «فِكْرِي» أَنَّهُ مَسْرُورٌ بِحُبِّها لَهُ، مُقَدِّرٌ لِعاطِفَتِها نَحْوَهُ.
وَقالَتْ لَهُ أَخِيرًا: «سَأَتْرُكُ لَكَ الْعَنْقُودَ لِتَتَصَرَّفَ فِيهِ كَما تَشاءُ.»
وانْصَرَفَتْ «أَنِيسَةُ» وَنَفْسُها راضِيَةٌ عَمَّا صَنَعَتْ مَعَ أَخِيها، وَعَمَّا قالَتْهُ لَهُ.
(٦) خَواطِرُ «فِكْرِي»
جَلَسَ «فِكْرِي» يَتَحَدَّثُ إِلَى نَفْسِهِ، وَعَيْنُهُ عَلَى الْعُنْقُودِ الصَّغِيرِ، أَوَّلِ وَليدٍ فِي عَرِيشِ الْعِنَبِ الْجَدِيدِ.
لَقَدْ كانَتْ أُمُّهُ «سَلْمَى» أَوَّلَ مَنْ رَأَى الْعُنْقُودَ ناضِجًا، وَلَمَّا قَطَفَتْهُ لَمْ تَشَأْ أَنْ تَأْكُلَهُ وَتَسْتَمْتِعَ بِهِ، فَانْتَظَرَتْ حَتَّى تُفاجِئَ بِهِ أَوَّلَ مَنْ يَحْضُرُ إِلَى الْبَيْتِ.
فَلَمَّا حَضَرَتْ «أَنِيسَةُ» كانَتْ هِيَ الَّتِي رَأَتِ الْعُنْقُودَ، وَتَرَكَتْ لَها الْأُمُّ حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.
وَلَكِنَّ «أَنِيسَةَ» اخْتارَتْ أَنْ تَسْتَبْقِيَ الْعُنْقُودَ؛ لِتُرِيَهُ لِأَخِيها الْعَزِيزِ، وَلَمْ تَذُقْ مِنْهُ حَبَّةً وَاحِدَةً، وَتَرَكَتْهُ لَهُ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ كَما يُحِبُّ.
ماذا يَفْعَلُ «فِكْرِي»؟ حَقًّا إنَّ الْعُنْقُودَ تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ، وَقَدْ ظَلَّ «فِكْرِي» يَنْتَظِرُ أَنْ يَنْضَجَ عِنَبُ الْحَدِيقَةِ مُنْذُ أَيَّامٍ.
قالَ «فِكْرِي» لِنَفْسِهِ وَالْعُنْقُودُ بَيْنَ يَدَيْهِ: «لا أَرْضَى أَنْ أَخُصَّ نَفْسِي بالْعُنْقُودِ.
الْأَحْسَنُ أَنْ أُفَكِّرَ كَما فَكَّرَتْ أُمِّي، وَكَما فَكَّرَتْ أُخْتِي.
سَأَتَصَرَّفُ أَنَا فِي هَذا الْعُنْقُودِ تَصَرُّفًا كَرِيمًا، يُشْبِهُ تَصَرُّفَ أُمِّي وَأُخْتِي.»
(٧) الْعُنْقُودُ بَيْنَ يَدَيْ «سَعِيدٍ»
انْتَظَرَ «فِكْرِي» فَلَمْ يَقْرَبِ الْعُنْقُودَ، حَتَّى حَضَرَ وَالِدُهُ «سَعِيدٌ»، فَذَهَبَ إِلَيْهِ فِي حُجْرَتِهِ، وَحَيَّاهُ تَحِيَّةً طَيِّبَةً، وَقالَ لَهُ: «إِنِّي جِئْتُ إِلَيْكَ بِمُفاجَأَةٍ تَسُرُّكَ.»
فَقالَ الْوالِدُ الْعَطُوفُ: «إِنِّي مَسْرُورٌ بِكَ، وَبِمُفاجَآتِكَ الْحَمِيدَةِ دائِمًا يا بُنَيَّ.»
فَقَدَّمَ «فِكْرِي» لِوالِدِهِ الطَّبَقَ، وَعَلَيْهِ عُنْقُودُ الْعِنَبِ، وَقالَ وَهُوَ يَبْتَسِمُ ابْتِسامَةً مُشْرِقَةً: هَلْ رَأَيْتَ عُنْقُودَ عِنَبٍ أَجْمَلَ مِنْ هَذا الْعُنْقُودِ يا أَبِي؟ هَلْ تُصَدِّقُ أَنَّنِي لَمْ أَشْتَرِهِ مِنَ السُّوقِ، وَلَمْ يَكُنْ هَدِيَّةً لَنا مِنْ أَحَدٍ؟
إِنَّهُ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَى حَدِيقَتِنا الصَّغِيرَةِ.
هَذا أَوَّلُ ثَمَرَةٍ لِعَرِيشِ الْعِنَبِ، قَطَفَتْهُ أُمِّي فِي الصَّباحِ، وَأَعْطَتْهُ لِأُخْتِي، وَقَدَّمَتْهُ أُخْتِي لِي، وَأَنا أُقَدِّمُهُ لَكَ.»
فابْتَسَمَ الْأَبُ «سَعِيدٌ» ابْتِسامَةً هانِئَةً، وَقالَ لَهُ: «إِنَّهُ عُنْقُودٌ كامِلٌ، لَمْ يَنْقُصْ حَبَّةً واحِدَةً! فَلا أُمُّكَ، وَلا أُخْتُكَ، وَلا أَنْتَ، أَخَذْتُمْ مِنْهُ شَيْئًا.»
فَقالَ لَهُ «فِكْرِي»: «إِنَّكَ يا أَبِي أَحَقُّ بِهِ مِنَّا. وَسَنَنْتَظِرُ الْعَناقِيدَ الَّتِي تَنْضَجُ مِنْ بَعْدُ، وَيَكْفِينا سُرُورًا أَنَّكَ تَسْتَمْتِعُ بِهَذِهِ الْباكُورَةِ الطَّيِّبَةِ مِنْ عَرِيشِ الْعِنَبِ.»
فَقالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ» لِابْنِهِ: «كَثِيرًا ما اشْتَرَيْنا عِنَبًا أَنْضَجَ مِنْ هَذا الْعُنْقُودِ، وَلَكِنَّنَا لَمْ نَفْرَحْ بِهِ فَرَحَنا بِهَذا الْعُنْقُودِ الصَّغِيرِ. أَتَعْرِفُ لِماذا يا بُنَيَّ؟»
فَأَجابَهُ «فِكْرِي»: «نَعَمْ يا أَبِي. أَعْرِفُ لِماذا نَفْرَحُ بِهِ؛ إِنَّهُ مِنْ صُنْعِ أَيْدِينا بِفَضْلِ اللهِ. غُرِسَ فِي حَدِيقَتِنا، وَوُلِدَ بَيْنَنا، فَكَأَنَّهُ جُزْءٌ مِنَّا.»
فَقالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «ما أَحْسَنَ ما قُلْتَ، وَما فِهِمْتَ! حَقًّا إِنَّ فَرَحَ الْإِنْسانِ بِما يَصْنَعُهُ بِيَدِهِ، وَما يَتَعَهَّدُهُ بِنَفْسِهِ، أَضْعافُ فَرَحِهِ بِما يَحْصُلُ عَلَيْهِ، دُونَ جُهْدٍ وَلا تَعَبٍ.»
وَسَكَتَ الْأَبُ قَلِيلًا، ثُمَّ قالَ: «شُكْرًا لَكَ. واتْرُكْنِي أَتَصَرَّفْ فِي الْعُنْقُودِ بِما أَراهُ.»
(٨) حَدِيثُ الزَّوْجَيْنِ
وَبَعْدَ ذَلِكَ الْتَقَى الزَّوْجانِ، الْأُمُّ «سَلْمَى» والْأَبُ «سَعِيدٌ». فَلَمَّا رَأَتْ «سَلْمَى» الطَّبَقَ بَيْنَ يَدَيْ زَوْجِها، وَعَلَيْهِ عُنْقُودُ الْعِنَبِ، قَالَتْ: «لَقَدْ عَرَفْتَ الْمُفاجَأَةَ قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكَ بِها. مَنْ أَخْبَرَكَ؟ وَمَنْ أَحْضَرَ لَكَ الْعُنْقُودَ؟»
فَقالَ لَها: «الَّذِي أَخْبَرَنِي وَأَحْضَرَ الْعُنْقُودَ وَلَدُنَا «فِكْرِي» … ماذا فِي هَذا؟»
فَقالَتِ الزَّوْجَةُ: «لَقَدْ أَعْطَيْتُ الْعُنْقُودَ لِابْنَتِنَا «أَنِيسَة»، وَلَمْ آخُذْ مِنْهُ شَيْئًا. فَلا بُدَّ أَنَّها هِيَ الَّتِي أَعْطَتْهُ لِوَلَدِنا «فِكْرِي»، دُونَ أَنْ تَأْكُلَ مِنْهُ.»
فَقالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «وَوَلَدُنا «فِكْرِي» فَعَلَ مِثْلَ ما فَعَلَتْ أُخْتُهُ؛ لَمْ يَأْكُلْ هُوَ مِنَ الْعُنْقُودِ شَيْئًا، وَأَحَبَّ أَنْ يَخُصَّنِي بِهِ، وَيَتْرُكَ لِي حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ.»
فَقالَتِ الزَّوْجَةُ: «إِذَنْ هُوَ لَكَ، بِالْهَناءِ والشِّفاءِ.»
فَقالَ لَها «سَعِيدٌ»: «أَكُنْتِ تَظُنِّينَ أَنِّي سَأَرْضَى بِذَلِكَ؟ الْحَقُّ أَنَّكِ أَوْلَى بِهِ؛ فَأَنْتِ الَّتِي تَبْذُلِينَ أَكْبَرَ جُهْدٍ فِي الْحَدِيقَةِ، وَأَنْتِ أَوَّلُ مَنِ انْتَبَهَ إِلَى نُضْجِ هَذا الْعُنْقُودِ الْيَوْمَ.
هُوَ لَكِ إِذَنْ، وَسَنَنْتَظِرُ الْعَناقِيدَ الَّتِي تَنْضَجُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَيَكْفِينا فَرَحًا أَنَّ عَرِيشَ الْعِنَبِ قَدْ بَدَأَ يُعْطِينَا ثِمارَهُ.»
فَقالَتْ «سَلْمَى»: شُكْرًا لَكَ، وَإِنِّي سَأَقْبَلُ مِنْكَ هَذا الْعُنْقُودَ وَلَكِنِ اتْرُكْ لِي حُرِّيَّةَ التَّصَرُّفِ فِيهِ كَما أَرَى.»
فَقالَ لَها الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «هَلْ تُبْقِينَهُ مَعَكِ حَتَّى تَنْضَجَ عَناقِيدُ أُخْرَى تَكْفِينا جَمِيعًا؟»
قالَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى»: «لَمْ يَخْطُرْ هَذَا بِبِالِي.»
قالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «هَلْ تُعِيدِينَ الْعُنْقُودَ إِلَى فَرْعِهِ فِي العَرِيشِ، حَتَّى تَنْضَجَ جُمْلَةٌ مِنَ الْعَناقِيدِ؟»
قالَتِ الزَّوْجَةُ، وَهِيَ تَضْحَكُ ضِحْكَةً خَفِيفَةً: «وَهَذا أَيْضًا لَمْ يَخْطُرْ بِبالِي.»
(٩) حَنانُ الْأُمُومَةِ
عادَ عُنْقُودُ الْعِنَبِ إِلَى الْيَدِ الَّتِي قَطَفَتْهُ؛ يَدِ الْأُمِّ «سَلْمَى»، وَلَكِنَّها احْتَفَظَتْ بِهِ، وَلَمْ تَنَلْ مِنْهُ حَبَّةً واحِدَةً.
اخْتَلَتِ الْأُمُّ بِنَفْسِها بَعْضَ الْوَقْتِ، وَهِيَ تُفَكِّرُ فِي حِكايَةِ عُنْقُودِ الْعِنَبِ الَّذِي رَجَعَ إِلَيْها.
لَقَدْ كَشَفَتْ لَها حِكايَةُ هَذا الْعُنْقُودِ عَنْ شَيْءٍ مَلَأَ نَفْسَها سُرُورًا وَانْشِراحًا، شَعَرَتْ بالسَّعادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ لِلصَّفاءِ الَّذِي تَتَمَتَّعُ بِهِ حَقًّا أُسْرَةُ «سَعِيدٍ».
الْأُمُّ تُعْطِي لِابْنَتِها الْعُنْقُودَ، وابْنَتُها تُعْطِيهِ لِأَخِيها، والْأَخُ يُعْطِيهِ لِأَبِيهِ، وَالْأَبُ يُعْطِيهِ لِزَوْجَتِهِ، لِأَنَّها كانَتْ أَوَّلَ مَنِ انْتَبَهَ إِلَى نُضْجِ الْعُنْقُودِ، وَأَوَّلَ مَنْ قَطَفَهُ.
كُلُّ واحِدٍ مِنْهُمْ يُحِبُّ الْآخَرِينَ، وَيُراعِي شُعُورَهُمْ، وَلا يَرْضَى أَنْ يَخُصَّ نَفْسَهُ بِعُنْقُودِ الْعِنَبِ الْجَدِيدِ.
إِنَّ هَذا الْعُنْقُودَ أَصْبَحَ لَهُ شَأْنٌ عَظِيمٌ، لِأَنَّهُ اسْتَطاعَ أَنْ يُطْلِعَ أَهْلَ الْبَيْتِ عَلَى حُبِّ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
قالَتِ الْأُمُّ لِنَفْسِها أَخِيرًا: «هَلْ يُمْكِنُ أَنْ أَخُصَّ نَفْسِي بِهَذا الْعُنْقُودِ الطَّيِّبِ الْكَرِيمِ؟»
(١٠) عَلَى مائِدَةِ الْأُسْرَةِ
وَفِي الْمَساءِ جَلَسَتِ الْأُسْرَةُ إِلَى مائِدَةِ الْعَشاءِ، وَبَعْدَ أَنْ تَعَشَّوْا قالَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى»: «انْتَظِرُوا، حَتَّى أُحْضِرَ لَكُمُ الْفاكِهَةَ.»
وَانْصَرَفَتِ الْأُمُّ «سَلْمَى»، ثُمَّ عادَتْ بِطَبَقٍ بَيْنَ يَدَيْها، وَقَدْ بَدَتْ فِيهِ حَبَّاتُ الْعِنَبِ مُتَفَرِّقَةً تَلْتَمِعُ، وَقالَتْ:
«هَذِهِ الْحَبَّاتُ الطَّيِّبَةُ ثَمَرَةُ جُهْدِنا كُلِّنا، فِي خِدْمَةِ عَرِيشِ الْعِنَبِ وَتَعَهُّدِهِ. كُلُّنا اشْتَرَكْنا فِي الْغَرْسِ، والسَّقْيِ، والتَّنْظِيفِ، وانْتِظارِ الثَّمَرَةِ.
ما أَحْلَى أَنْ نَشْتَرِكَ جَمِيعًا فِي الاسْتِمْتاعِ بِأَوَّلِ الثَّمَراتِ.»
فَقالَ الْأَبُ «سَعِيدٌ»: «ما أَجْمَلَ تَفْكِيرَكِ، وَأَحْسَنَ تَدْبِيرَكِ، أَيَّتُها الزَّوْجَةُ الْمُبارَكَةُ، والْأُمُّ الْحَنُونُ.»
وَأَقْبَلَتْ «أَنِيسَةُ» وَ«فِكْرِي» عَلَى أُمِّهِما يُقَبِّلانِها، واشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِي أَكْلِ حَبَّاتِ الْعِنَبِ، فَكانَ أَحْلَى عِنَبٍ أَكَلُوهُ فِي حَياتِهِمُ السَّعِيدَةِ.
يُجابُ مِمَّا في هذه الحِكايةِ عن الأسئلة الآتيةِ:
ومن الذين كانوا يشتركون في رعاية الحديقةِ وتنمِيَتِها؟
وماذا دار بيْنه وبيْنها من حِوارٍ؟
وماذا عرض عليه؟ ولماذا كان فَرَحُ الأبِ وابْنِه؟
وإلى أيِّ شيء انتهى الحِوارُ بينهما؟
وكيف كان تصَرُّفُها في عُنقودِ العِنب؟