الفصل الثالث

هل السحر محض وهم؟

لطالما تضمَّن التاريخ المدوَّن مشككين في حقيقة السحر، وآخرين ثاروا في مواجهة تبجُّح السحرة الأجوف. وهناك أطروحة رائدة بعنوان «عن المرض المقدس» تُنسب لطبيب القرن الخامس قبل الميلاد أبقراط، ندد فيها بالسَّحَرة وباعتمادهم حجة الإرادة الإلهية في الإصابة بالأمراض، فضلًا عن الطقوس التي استخدموها. ركز أبقراط على مرض الصرع تحديدًا لأن عامة الناس كانوا يعدونه ابتلاءً مقدسًا؛ الأمر الذي شكَّل حجة مناسبة تستر كذب أولئك الذين ادَّعَوْا أنهم يكافحون القوى الخارقة. وقد كانت جوانب هذا النقد الشرس كالتالي:

السحرة (المجوس) والمطهرون (كاثاريا) والكهنة المتسولون (أجورتاي) والدجالون (آلازونس)؛ كلهم مثل بعضهم يدَّعُون أنهم متدينون ويعلمون الكثير. وهكذا، فإن هؤلاء الأفراد، بتستُّرهم وراء الإرادة الإلهية واتخاذهم إياها ذريعة لتبرير عجزهم، يستفيدون من ذلك بحيث لا ينكشف جهلهم التام.

لم يكن أبقراط من المتشككين في مسألة التدخل الإلهي، لكنه كان ضد المفهوم القائل بأن الإرادة الإلهية تتلف الجسد البشري؛ فالآلهة تعمل على تطهير البشر لا تدنيسهم. ويمكن أن نلمس الإعراب عن مشاعر مماثلة في هجاءٍ كذلك الذي كتبه لوقيان السميساطي الذي عاش في القرن الثاني الميلادي؛ فقد تعرض لوقيان مرارًا لحماقة الخرافة، وسخر ممن «يطهرون أنفسهم بدواء مقدس، وآخرين تخدعهم ترانيم يبيعها الدجالون، وغيرهم البلهاء الذين يقعون في شَرَك تعاويذ اليهود». لكنْ ثَمَّةَ نمط يظهر لنا هنا، ألا وهو فضح زيف السحرة مع الإحجام عن التصريح مباشرة بأن السحر لا وجود له. هذا الهجوم الأبقراطي على «ممارسي» السحر كان قالبًا للتشكك اللاحق الذي اتُّبِعَ إلى حدٍّ كبير حتى عصر التنوير.

ويمكن العثور على أحد أروع وجهات النظر القديمة المتعلقة بالتشكك في السحر في فلسفة المفكر الإغريقي الراديكالي إبيقور (٣٤١–٢٧٠ق.م)؛ فقد جعل الآلهة بعيدين كل البعد عن حياة البشر حتى إن الصلوات والابتهالات لا تفلح في جذب الانتباه الإلهي، وكان يروج لفكرة أن المرء ينبغي ألا يصدق إلا ما يراه رأيَ العين أو يستدل عليه، وتضمنت استنتاجاته أن العالم تحكمه ذرات متصادمة وليس الأرواح، وما من إلهام إلهي أو يد مرشدة توجه عالم البشر. لكن — للأسف — لم تصلنا من كتاباته سوى شذرات تعرَّفنا منها على أفكاره، ولكن مما نعرفه، لم يكن للسحر مكان بين أفكاره.

كانت مظاهر التشكك أو الارتياب في حقيقة السحر خلال العصور الوسطى معنية بأنواع معينة من السحر لا برفض ممارسته كليًّا؛ فقد كان السحر بالغ التشابك مع علم اللاهوت والعلم التجريبي. لكن خلال القرن السادس عشر، تمخضت حركة الإصلاح الديني ومحاكمات الساحرات عن عدد صغير من الأشخاص المثقفين — لكن المهمين — الذين أعربوا عن قلقهم إزاء عقلانية الإيمان بالسحر. امتدت هذه النقاشات إلى حد أنها ذهبت إلى أن عصر المعجزات قد انتهى منذ زمن. كان من نتائج ذلك أن زاد الاهتمام بتقديم تفسيرات لمسببات ما يبدو أنه سحر، وتصدَّر النقاش مجالان رئيسيان هما: السحر بوصفه خداعًا ووهمًا، والسحر بوصفه حالة نفسية.

هل السحر مجرد وهم؟

لطالما كان هناك اتفاق على أن الوهم مكوِّن من مكونات السحر بمعناه الأوسع. وقد تحدث عالم القرن الرابع عشر العربي ابن خلدون عن «سحر الحواية» أو (الشعوذة) واصفًا إياه بأنه ممارسة تأثير على قوى المخيلة؛ وفيه يُلقي الممارس وسط جمهور مشاهديه «أنواعًا من الخيالات والتخيلات والصور … ثم ينزلها منزلة الإدراك الحسي.» لكن في الواقع، لا وجود لشيء مما ينتجونه في العالم الظاهر. كان هناك بالطبع أوهام مادية أيضًا. وقد قدم عالم القرن العاشر الباقلاني — وهو من بغداد — مثالًا على خدعة ملء كيس حريري بالزئبق لحمل الناس على الظن بأن ما فيه حية تسعى. لكن كان هناك أيضًا تفسير خارق للطبيعة جعل الوهم يندرج في مجال السحر المحظور. وقد صُوِّر الشيطان على أنه المضلل الأكبر، وأن حَوَارِيِّيه من السحرة والساحرات يستطيعون الاستعانة بقوته في هذا المجال. وكان هناك جدل كبير بشأن الخدع التي استخدمتها «عرافة عين دور» لخداع الملك شاول وحمْله على الظن بأنها استحضرت روح النبي صموئيل للتنبؤ بمستقبله. من المنظور الإغريقي القديم، كان هذا عملًا من أعمال استحضار الأرواح، لكنه أثار عاصفة من الجدال في المسيحية حول حقيقة هذه الواقعة، كما جاء في العهد القديم (سفر صموئيل).

تجاسر اثنان من الشكوكيين الإنجليز، هما النبيل الإليزابيثي ريجنالد سكوت (تقريبًا ١٥٣٨–١٥٩٩)، وأديب منتصف القرن السابع عشر توماس آدي، وخاطرا بإبداء رأيهما بسبب انزعاجهما من البؤس الذي تسببه محاكمات الساحرات في مجتمعاتهما. كان سكوت أكثر الاثنين مباشرة وصراحة في رفضه إمكانية وجود السحر الشيطاني والاتصالات بالأرواح والمعجزات، لكنْ كلاهما ركز تركيزًا كبيرًا على فن الحواية، أو ما نطلق عليه اليوم سحر المسرح. وكانا — من خلال شرح كيفية تنفيذ الحيل — يأملان في أن يُثبتا أن العديد من المظاهر التي تُنسب للسحر أو الشعوذة يسهل تقليدها من خلال بعض الأدوات وخفة اليد. وقد أخذ سكوت على عاتقه المهمة غير الهينة لتعلُّم خدع هذه المهنة؛ بحيث يؤديها كما يؤديها العديد من السحرة المتجولين الذين يجوبون الأسواق والمهرجانات. لكنه شعر بوخز الندم على كشفه ألاعيبهم و«اعتراض سبيل عيْش هؤلاء المساكين بذلك.» إلا أنه أنزل وابلًا من الازدراء والإساءة بمن كانت في رأيه مجموعة المحتالين الرئيسية الأخرى، قاصدًا بها مجموعة رجال الدين الكاثوليكيين. كان الكُتَّاب البروتستانتيون يروق لهم أن يوضحوا كيف يستخدم رجال الكهنوت الخدع لحمل الناس على تصديق فعالية ما يمارسونه من طرد للأرواح الشريرة، أو جعلهم يتخيلون أنهم في حضرة أرواح الموتى، كي يدعموا الإيمان بمفهوم التطهر الذي يدر على الكهنوت المال الوفير.

fig5
شكل ٣-١: صورة لأحد حواة العصور الوسطى، من مخطوطة فرنسية يعود تاريخها للقرن الحادي عشر.1
ومن بين الحيل العديدة التي يشرحها سكوت في كتابه «اكتشاف عالم السحر» (١٥٨٤)، كيفية إخفاء «كرة واحدة أو أكثر»، وكيفية «نقل نقود من إحدى يديك إلى الأخرى»، و«تمزيق منديل من وسطه، ثم جعله سليمًا تمامًا من جديد»، و«ابتلاع سكين، ثم إخراجه مجددًا من أي مكان آخر»، والخدعة الأكثر إثارة على الإطلاق؛ «قطع رأس أحدهم، ووضعه في طبق». سعى آدي لإظهار كيف يحمل هذا الخداع شبهًا مباشرًا بالظواهر التي نسبها الشهود للساحرات في المحاكمات. وقد كتب آدي هذه الأعمال بعد بضع سنوات من اشتعال مطاردة الساحرات في شرق إنجلترا التي حرض عليها الجنرال ماثيو هوبكنز «صائد الساحرات» (تُوُفِّيَ عام ١٦٤٧). فقد حدث أن ظهرت مزاعم بأن الساحرات لهن عفاريت شيطانية صغيرة أو رفاق في هيئة حيوانات منزلية مرارًا وتكرارًا في أدلة إدانة المئات من المتهمات اللائي اعتقلن. وهكذا أشار آدي إلى كيفية استنساخ هذه الرفاق من خلال فنون الحواية والشعوذة. فهذا المشعوذ يكون معه:

جلد فأر مرقط بالريش، أو فأر اصطناعي ملتصق بمؤخرته سلك بارز طوله حوالي قدم أو يزيد، وحينما يبدأ في عرض خدعته في أحد المهرجانات أو الأسواق أمام العامة، يخرج عفريته الصغير هذا، ويجعله يبرز منه مرة أو اثنتين على الطاولة.

وعن أساليب الإلهاء التي كانت تصاحب أداء هذه الحيل، يتذكر آدي أن:

أحد الرجال امتاز في هذه الحرفة عن سواه، وكان يتجول في زمن الملك جيمس، ويطلق على نفسه «أبرع سحرة أصحاب الجلالة الملوك الساحر هوكاس بوكاس»، وهكذا بات الناس ينادونه؛ وذلك لأنه حينما كان يؤدي أيًّا من حيله كان يقول: «هوكاس بوكاس، تونتوس تالونتوس، فادي سيليريتير جوبيو»، وهي توليفة مبهمة من الكلمات، الهدف منها غشية أبصار المشاهدين لتمرير حيلته دون أن تنكشف؛ وذلك لأن إلهاء عين الرائي وأذنه يجعل من الصعب اكتشاف الحيلة وتمييز الدجال.

لم تكن لهذه الكلمات — «هوكاس بوكاس» — أي قوة، وإنما كانت مجرد أداة إلهاء. وكما يوضح سكوت: كانت «كلمات السحر» تُستخدم «من ناحية لإطالة المدة، ومن ناحية أخرى لنيل التصديق والإعجاب». وهكذا تفسر «حيل الحواية» هذه سبب شهرة سيمون المجوسي والمعجزات المشبوهة للكهنة الوثنيين في العالم القديم. خلاصة القول أنهما فضحا أمر السحر التوراتي؛ مما أدى إلى تطهير الكتاب المقدس من التفسيرات «الخرافية».

كان «التكلم من البطن» فنًّا آخر من الفنون التي يمكن أن تبدوَ سحرية؛ فقد عرَّف أحد معاجم القرن السابع عشر «المتكلم من بطنه» بأنه: «شخص بداخله روح شريرة تتحدث في بطنه، أو شخص يستطيع بالممارسة والاعتياد أن يتكلم وكأنه يُخرج الصوت من بطنه، من دون أن يحرك شفتيه.» وقد تأمل الطبيب الهولندي والمشكك في السحر يوهان فاير (١٥١٥–١٥٨٨) — وأحد المعجبين بعمل أبقراط «عن المرض المقدس» — كيف كان التكلم من البطن يُستخدم لخداع السذج واستغلالهم. وروى عن حالات كان الصوت ينبعث فيها من تحت الإبطين ومن فروج النساء. وقد حدث بالفعل أن حكى أحد الإيطاليين عن حالة مماثلة لتلك الأخيرة في مدينة روفيجو.

فقد سمع مرارًا صوت روح دنسة بالغ الخفوت لا شك، لكنه مفهوم تمامًا، ودقيق على نحو مدهش بشأن أمور ماضية وحاضرة، لكنه مشكوك في صحته فيما يتعلق بالمستقبل عمومًا، وكثيرًا ما يكون خاملًا وخادعًا.

كثيرًا ما كان التكلم من البطن يُقدَّم كتفسير للخدع التي قامت بها عرافة «عين دور»، وللمعجزات الإغريقية، ولما لَفَّقَه الكهنة الكاثوليكيون من خدع الأشباح. وكان يُعتقَد أيضًا أنه يفسر بعض حالات ما زُعم أنه مس شيطاني.

كان «إلهاء حاستَي السمع والبصر» — على حد قول آدي — هو مفتاح سحر الدجل؛ فمن خلال التعاويذ والتكلم من البطن تُخدع الآذان، ومن خلال خفة اليد تبدو الأشياء وكأنها تظهر وتختفي. يمكن أيضًا خداع عضو الإبصار من خلال أشكال تكنولوجية من الحيل؛ فقد كان هناك «السحر البصري»، وهو فرع من فروع السحر الطبيعي، الذي يُؤدَّى باستخدام عدسات ومنشورات ومرايا لإخراج صور ظاهرية تخدع العين. وقد لاحظ عالم الغيبيات النابولي جامباتيستا ديلا بورتا الذي كرس جهدًا بحثيًّا هائلًا لاستكشاف هذه المسألة أن هناك: «طرقًا متعددة للإبصار؛ بحيث يمكن أن يبدوَ الشيء وكأنه شيء آخر.» وقد تضمن كتابه المهم والذي طُبع عدة مرات «السحر الطبيعي» (١٥٥٨) تعليمات بشأن كيفية رؤية «أشياء غير حقيقية في حجرة ما» وكيفية إنشاء «صورة تُرى من خلال زجاج أجوف». وفيما يلي ما قاله بشأن كيفية جعل صورة تطير في الهواء:

إذا أراد أي شخص أن يفعلها، يمكنه ذلك بسهولة على النحو التالي: ثبت قطعتين من الخشب ببعضهما في شكل زاوية قائمة أو كعقربَي قرص الساعة الشمسية، وبتثبيتهما معًا سينتج شكل مثلث قائم الزاوية، أو متساوي الساقين. ثم ثبت في كل ذراع منهما مرآة كبيرة، على مسافتين متساويتين، بحيث تواجه كلٌّ منهما الأخرى، وتبعد المسافة نفسها عن الزاوية القائمة بين الذراعين. اجعل إحداهما في وضع أفقي، واجعل المشاهد يتخذ مكانًا في الوسط، وبارتفاع قليل عن الأرض، بحيث يستطيع أن يرى بسهولة شكل كعب الحذاء في رواحه وغدوه؛ تلاحظ ذلك للتوِّ إذا اتخذت مكانًا في اتجاه اليمين يقطع تلك الزاوية ويبعد مسافة متساوية عن الأفق. وهكذا سترسل المرآة المستقبلة الصورة إلى المرآة الأخرى التي ينظر إليها المشاهد، وسوف تبدو وكأنها تحرك الأيدي والأقدام، كما تفعل الطيور وهي تطير؛ وهكذا سيرى المشاهد صورته تطير نحو الأخرى؛ ومن ثَمَّ تبدو دائمًا وكأنها تتحرك، لكن على ألا يتحرك من مكانه وإلا فستفسد الحيلة برُمتها.

أجرى ديلا بورتا تجارب أخرى على الكاميرا المظلمة، التي نشأ عنها الشكل الحديث للتصوير الضوئي. وكانت تتكون من صندوق مزود بعدسة محدبة، يسقط عليها الضوء الطبيعي الساطع، وينعكس الضوء على سطح أبيض في التجويف المظلم؛ وهكذا يمكن أن يظن أي شخص موجود في غرفة مظلمة ولا فكرة لديه عما بداخل هذه الغرفة من أشياء أن ما يراه سحر، حتى لو كانت الصور مقلوبة. وباستخدام مرآة إضافية، تمكَّن ديلا بورت من أن يلف وضع الصورة بصورة صحيحة إلى الأعلى، وهو أمر مدهش التأثير. في القرن السابع عشر أدى التطور في مجال تكنولوجيا العدسات ووضع مصدر ضوئي داخل الصندوق المظلم وإنتاج الشرائح الزجاجية إلى اختراع ما كان جديرًا حقًّا باسم «الفانوس السحري». وكان عرض صور الهياكل العظمية والعفاريت المرسومة على شرائح زجاجية أمرًا شائعًا ومثيرًا. وقد رُويت قصص من سبعينيات القرن السابع عشر تحكي كيف أن أشخاصًا في منتهى الشجاعة «هربت دماؤهم أمام مشهد هذه الألاعيب والحيل السحرية». بحلول القرن الثامن عشر، كانت عروض الفانوس السحري تجوب المقاطعات، وبدا واضحًا أن بعض مؤدي هذه العروض لا يجدون غضاضة في أن يقدموها على أنها سحر «حقيقي».

السحر يحارب السحر

رغم أن المسئولين عن قضايا التشرد والجرائم الصغيرة كثيرًا ما اعتبروا الحواة وسَحَرة الأسواق والمهرجانات محتالين يستغلون سذاجة الفقراء، بل ويعتبرونهم آفات ضارة، فإن هؤلاء كانوا السحرة يقومون بوظيفة اجتماعية إيجابية؛ فقد كانوا — على حد تعبير توماس آدي — مثل «شمعة في الظلام» لأن عروضهم الجماهيرية كانت تتفوق على استنكارات الواعظين أو كتابات المشككين اليائسة في فضح زيف «الخرافات». وكما يفسر سكوت، فإن ألاعيب الحواة «ليست مقبولة فحسب، بل جديرة بالثناء أيضًا»؛ فهي «دائمًا ما تُعرب صراحة عن مكمن سر الحيلة، وبهذا يمكن كشف الحيل الأخرى الشريرة وغير المشروعة وفضح أمرها.» لكن دور نواب التنوير الذي بوأه الحواة أنفسهم لم يلقَ قبولًا حقيقيًّا إلا بدءًا من أواخر القرن الثامن عشر وما بعده.

كان الحواة، والمتكلمون من بطونهم، وسحرة المسارح يتخذون في إعلاناتهم وشهرتهم وعروضهم دور معلمي الجماهير؛ فتقلد بعضهم لقب «البروفيسور»، بينما وصف آخرون أنفسهم بأنهم فلاسفة وعلماء رياضيات، فقد كانوا متعهدي تقديم الترويح «العقلاني» للناس. وقد أعلن الساحر الاسكتلندي والمتكلم من بطنه جون راني — الذي أصبح مثار ضجة كبيرة في أمريكا خلال جولة له عام ١٨٠١ — عن رغبته في «إزالة الغشاوة من فوق أعين من لا يزالون يعتنقون الإيمان الأحمق بالأشباح والساحرات واستحضار الأرواح والمس الشيطاني … إلخ.» وقد أصبح سحر المسرح أيضًا خلال مطلع القرن التاسع عشر يشكل منتجًا معلوماتيًّا ترفيهيًّا رئيسيًّا في القاعات العلمية العامة التي كانت تقام باعتبارها مشروعات تجارية. أكثر هذه العروض شهرة كان في إنجلترا في المعهد الملكي للفنون المتعددة، الذي بدأ يقدم عروضًا تشرح علم الخدع السحرية، إلى جانب عروضه عن الكهرباء والمحركات والفوانيس السحرية والتفاعلات الكيميائية والبصريات. وبدءًا من خمسينيات القرن التاسع عشر، قدم موضوع «سحر» الوساطة الروحانية لمحاضريه مادة شديدة الثراء لتقديمها.

كما لعب السَّحَرة الصليبيون دورًا سياسيًّا استعماريًّا أيضًا؛ ففي القرن التاسع عشر، أثارت أنشطة المرابطين في شمال أفريقيا قلق السلطات البريطانية والفرنسية، كما أثارت أنشطة طائفة الفقراء في الهند قلق السلطات البريطانية؛ إذ كانوا يتمتعون بإيمان شعبي قوي، وبالنظر لافتخارهم بما يتمتعون به من قدرات سحرية، كانوا يشكلون إحدى نقاط المقاومة المحتملة ضد الحكم الاستعماري. وفي عام ١٨٥٦، قررت السلطات الفرنسية في الجزائر أن تستخدم سحر المسرح الغربي لتقويض تأثير المرابطين. وكان سلاحها المختار في ذلك هو الساحر الفرنسي الشهير جان يوجين روبرت هودين (١٨٠٥–١٨٧١)، الذي صار فيما بعد مصدر إلهام للأمريكي إريك ويز — محترف فن التخلص من القيود — الذي أطلق على نفسه اسم هوديني. وقد أوضح الساحر الفرنسي هودين مهمته لاحقًا قائلًا:

كنا نأمل — أملًا رشيدًا — أن يفهم العرب من عروضي أن حيل المرابطين ليست سوى لعب أطفال تافهة وبسيطة … وقد استلزم هذا بطبيعة الحال أن نظهر أننا متفوقون في كل شيء، وأنه إذا ما ذكر السحر، فليس هناك من يمكن أن يضارِع الفرنسيين مهارة.

قدم هودين — بأناقته المعهودة في حلته المسائية الغربية — عروضًا متعددة للجمهور الجزائري، والذي كان يشمل بوضوح بعض المرابطين. وكانت إحدى أكثر هذه الحيل تماشيًا مع هدفه المنشود حيلة «البندقية» التي تضمنت أن يتلقى الساحر طلقًا ناريًّا دون أن يمسه أذًى وسط ذهول الحاضرين، ثم يستخرج من فمه أو من أي شيء قريب من جسده الطلقة التي ضُرب بها، والتي سبق أن وُسمت بعلامة ظاهرة على مرأًى من الجمهور قبل حشوها في البندقية. وقد كانت السلطات تشعر بالانزعاج من قيام بعض المرابطين باستعراض مناعتهم من خلال تعريض أنفسهم لتجربة مماثلة بصورة مثيرة للشك. وقد حدث خلال أول عرض لهودين أن تحمس أحد هؤلاء المرابطين المدَّعين للتطوع بإطلاق النار عليه، إلا أنه سرعان ما غمرته الرهبة عندما رأى مهارة هودين الحقيقية. وقد استعرضت الصحافة رحلة هودين باعتبارها انتصارًا للعقلانية الاستعمارية، وقالت إحدى الصحف: «اليوم انهارت سمعة المرابطين وسط مواطنيهم.»

أولى وجهات نظر الطب النفسي

قال المتشككون في السحر مثل المفكر الفرنسي الكاثوليكي ميشيل دي مونتين (١٥٣٣–١٥٩٢) بأن القصص حول الأعمال السحرية المذهلة التي اتَّهم البعض السحرة بارتكابها — والتي اعترفت بها بعض الساحرات المشتبه في ممارستهن للسحر — في أغلب الأحيان تكون نتاج الخيال؛ فقد كتب مونتين بعد زيارة مجموعة من النساء العجائز المدانات بتهمة السحر يقول: «في نهاية الأمر — وبكل الصدق — ما كنت لأصف لهن نبات الشوكران السام، وإنما زهرة الخربق.» وهو يقصد بذلك أنهن يستحققن العلاج لا الموت. ويستطرد مونتين مستشهدًا بالمؤرخ الروماني تيتوس ليفي: «إن حالتهن تبدو أقرب إلى نوع من الجنون منه إلى سلوك إجرامي.» وقد قدم الطبيب الهولندي يوهان فاير في كتابه «عن السحر» نقاشات مفصلة تذهب إلى أن الخدع التي تمارسها الساحرات فيما يتعلق بقدرتهن السحرية ناجمة عن تخيلات وهلاوس.

اعتقد فاير وديلا بورتا وغيرهما أن بعض هذه الحالات الهذيانية ناجمة عن نباتات سامة ومخدرة، كان البعض يظنون أن هؤلاء السحرة المدعين يستخدمونها في تحضير مراهمهم وممارسة طقوسهم — ونبات الشوكران أحد هذه النباتات — التي كانت السبب في منحهم إحساسًا بالتحليق عاليًا. وقد يكون الناس الذين اعتقدوا أنهم تعرضوا للسحر قد تناولوا — دون قصد — من هذه المواد المخدرة؛ إذ يحكي فاير أن امرأة أطعمت من يعملون لديها خبزًا من طحين الجاودار، وبعد أن تناولوه «أصابهم مس من الجنون» وغطوا في سبات ممتد وعميق، وحينما توقفت عن إطعامهم خبز الجاودار، تعافَوْا من هذه الأعراض. ربط فاير بين هذه الأعراض وخبز الجاودار، لكن ما لم يكن يعلمه هو والمرأة أن العمال — على الأرجح — تناولوا الفطريات التي تنمو على نبات الجاودار والمعروفة باسم (الأرجوت)، الذي يحتوي على بعض الخصائص التي تسبب الهلوسة، والذي استُخرج منه في القرن العشرين عقار الهلوسة المعروف بثنائي إيثيل أميد حمض الليسرجيك (إل إس دي). وقد أدى اكتشاف هذه الحقيقة إلى تفشي الدعوات التي ترى أن خيالات اجتماعات السحرة — المعروفة باجتماعات السبت — وأوهام التحرر من المس على أيدي السحرة يمكن عزوها جميعًا إلى التسمم بالأرجوت. لكن التفسير الرئيسي — كما كان فاير يدرك جيدًا — الذي يبرر اعترافات السحرة بالعربدة الشيطانية هو التعذيب الذي تعرضت له الكثير من المتهمات بممارسة السحر في أوروبا وفي اسكتلندا. فقد انتزعت الاعترافات القسرية ما أراد الجلادون سماعه من السحرة، من خلال طرح الأسئلة التوجيهية التي توحي بالإجابات التي يريد السائل سماعها.

حدد فاير وغيره أن الحالة المعروفة بالكآبة مصدر رئيسي للإيمان بالسحر. وفي حين أن هذه الفئة الطبية من الأمراض العقلية التي ظهرت في أوائل العصر الحديث تشمل ما نطلق عليه اليوم الاكتئاب، فقد كان ينظر إليها أيضًا من منظور فلسفي وأدبي وقانوني وروحي أوسع. وكان نبات الخربق يُستخدم لعلاج بعض أعراض الاكتئاب، وأيضًا لدرء الساحرات والأرواح الشريرة التي كان يُظن أنها قادرة على إصابة الفرد بالكآبة. وكان يُعتقد أن النساء — لا سيما العجائز منهن — أكثر عرضة للكآبة من غيرهن؛ وبالتالي أكثر عرضة للاعتقاد بأنهن الْتَقين في خيالاتهن البائسة بالشيطان، وطرن لحضور اجتماعات السبت، ورقصن مع الجنيات، وألحقن ضررًا بجيرانهن من خلال السحر. تضمن كتاب فاير «عن السحر» فصلًا عن «الخيال المريض للمصابين بالكآبة»، شرح فيه:

كيف يمكن أن يدرك خيال المرء أطيافًا غريبة يتشاركها بوجه عام مع الكائنات المرئية وحالته العقلية من خلال وسيط هو العصب البصري، وهكذا يمكن أن تتجرأ هؤلاء السيدات الموهومات أمام مواجهة التهديد بالموت على التأكيد بأنهن رأين أو فعلن أشياء لم تُر في الواقع، ولم يكن لها وجود على الإطلاق.

في القرن التاسع عشر، عزز مجال الطب النفسي من قوة الربط بين النساء والاضطراب العقلي والسحر؛ فقد حلل الطبيب النفسي الفرنسي الرائد جان مارتن شاركو (١٨٢٥–١٨٩٣) وزملاؤه في مستشفى «سالبيترير» للأمراض العقلية للسيدات في باريس؛ الروايات التي روتها المدانات بالسحر في المحكمة عن المس والشعوذة ومشاعر النشوة التي أحسسن بها، فاكتشفوا أوجه تشابه واضحة بين ما وصفنه، والأعراض «الهيستيرية» التي تعانيها المريضات من السيدات. وهكذا نشأ مفهوم «الاعتلال الشيطاني»، أو حالة المس الشيطاني باعتبارها نوعًا من الجنون. وقد أشاد شاركو وأعضاء الوسط الطبي النفسي الأوائل بفاير باعتباره أول طبيب نفسي، الأمر الذي يجعله طبيبًا سبق عصره بكثير. أما حقيقة أن فاير نفسه كان يؤمن بالتدخل الشيطاني، وبقدرة الشياطين على إلحاق الضرر بأجساد البشر، فقد كان من اللياقة أن يجريَ تجاهلها.

fig6
شكل ٣-٢: لوحة «درس سريري في مستشفى سالبيترير» (١٨٨٧)، للفنان أندريه بروييه (١٨٥٧–١٩١٤). تصور اللوحة شاركو وهو يشرح مرض الهيستيريا في مستشفى «سالبيترير» على حالة المريضة بلونش فيتمان (١٨٥٩–١٩١٣) المعروفة باسم «ملكة الهيستيريا».2

إن مشكلة هذه المحاولات المبكرة لإضفاء طابع الطب النفسي على السحر بدرجة تكاد تلغي وجوده في الواقع؛ هي أن عددًا كبيرًا جدًّا من الأشخاص آمن بصحتها كي يستطيع تبرير الاعتقاد بالسحر، والمرور بتجربة السحر على أساس الوهم والخداع والسذاجة والخدع البصرية والمخدرات والكآبة والهيستيريا؛ إذ راح أطباء القرن التاسع عشر النفسيون يستخلصون النتائج من تجارب عصبية فردية ليصوغوا نظريات عن الأمراض المجتمعية التي تحدث وليدة الدين والجهل. صحيح أنهم قدموا أفكارًا مثيرة وجريئة، لكنها مع ذلك لم تكن واقعية؛ ومن ثَمَّ كان الأمل أن يؤديَ التعمق في استكشاف اللاوعي إلى نتائج أكثر إقناعًا.

فرويد

برع سيجموند فرويد (١٨٥٦–١٩٣٩) في مجال الغيبيات على صعيد استكشاف أعماق العقل الإنساني الخفية. وقد نجم اهتمامه بمحاكمات الساحرات — على سبيل المثال — عن فترة دراسته في مستشفى «سالبيترير» مع شاركو، الذي كان مصدر إلهام بالنسبة لفرويد، وقد استخدم في أعماله المتعددة أسلوب «العلاج الاستعادي»، أي توظيف الحالات التاريخية لإثبات الطبيعة العالمية والخالدة لأنواع التحليل النفسي للاختلال الوظيفي الذي يلاحظه على المرضى. ولا شك أن دراساته على الهيستيريا تأثرت كثيرًا بنهجه هذا. لكن مشكلة هذا الأسلوب — على الأقل على النحو الذي استخدمه به فرويد — هي أن الحالات التي اختيرت لتخضع للدراسة كانت منتقاة بعناية كبيرة، ولا تمثل بالضرورة عموم الحالات كما وصفها هو. يضاف إلى ذلك أنه في دراسته للشعوذة والهيستيريا، دمج بين حالة المس وحالة الساحرات المتهمات، وتجاهل إلى حدٍّ كبير أن اعترافات الساحرات التي اعتمد هو عليها لتبيان التشابه بين الحالتين كانت قد انتُزعت بالتعذيب؛ أي إنها لم تكن بالضرورة من نسج خيال الساحرات، بل من نسج خيال المحققين؛ ومن ثَمَّ علينا أن نسأل: أيَّ لاوعي كان فرويد يستكشف؟

اتخذت رؤى فرويد بشأن السحر والدين إطارها من التصنيف التطوري للسحر على أنه تعبير عن أقدم مراحل الثقافة البدائية؛ وبالتالي، نجح الإيمان بهذا التصنيف في البقاء على قيد الحياة، وإن كان له شكل نفسي أكثر منه ثقافي. كان فرويد في أعماله يستخدم مفردة «السحر» دون تقيد، خاصة فيما يتعلق بقوة الكلمات؛ فقد قال — على سبيل المثال — عن الفترة التي أمضاها مع شاركو أن «السحر كان يتدفق من نظراته ويدوي في صوته.» وقد تطلبت محاولته تعريف هذه المفردة أن يفرق تفريقًا جوهريًّا بين «الشعوذة» و«السحر»، رغم أنه كان على دراية بالمسافة اللغوية الإشكالية بين المفردتين. وهكذا كانت الشعوذة في نظر فرويد «بالأساس هي فن التأثير في الأرواح من خلال التعامل معها بنفس الطريقة التي يتعامل بها المرء مع البشر في ظروف مماثلة.» أما السحر فهو «يتجاهل الأرواح ويستخدم إجراءات خاصة لا أساليب سيكولوجية معتادة.» وهكذا فإن السحر سبق الشعوذة على درجات السلم التطوري؛ فالسحر بدلًا من أن يضرب بجذوره في التفاعل الاجتماعي، كان يضرب بجذوره في الحالة العاطفية الفردية: أي إنه ارتبط بالنفس، وإن لم يخلُ هذا الارتباط من عواقب اجتماعية.

اتضح التفسير التحليلي النفسي للسحر من منظور فرويد في أدق تفاصيله في مقاله «الإحيائية والسحر والقدرة الكلية للأفكار» الذي ظهر فيما بعد فصلًا في كتابه الشهير «الطوطم والحرام» (١٩١٣). اعتمد فرويد اعتمادًا شديدًا على عمل إي بي تايلور وفريزر وغيرهما ممن أدلَوْا بدلوهم في الجدل حول السحر والدين والعلم، واستنتج أفكاره من خطابهم عن السحر المعدي والسحر القائم على المحاكاة؛ فقد صرح فرويد بثقة كبيرة بأن «من السهل التوصل إلى تفسير شافٍ للسحر بمجرد دراسة نظرية الربط بمزيد من التفصيل والعمق.» وقد فعل ذلك بأن قارن بين ذوات البدائيين المستعبدة للسحر، وبين العمليات العقلية للمصابين بأمراض عصبية والتطور المبكر عند الأطفال. وقال إن الفئات الثلاث أظهرت سمة نرجسية مماثلة. وهكذا فإن السحر قائم على اقتناع أفراد هذه الفئات بالقدرة الكلية لأفكارهم، وعلى الثقة المطلقة في قوة أمنياتهم. باختصار؛ فإن السحر خداع للذات تحل فيه الأفكار بديلًا عن الواقع. ولوضع إطار النظرية بشكل أرحب — أو أكثر جموحًا — رأى فرويد أن السحر مرحلة عامة قبل أوديبية في التطور الثقافي والعقلي.

رأى العديد من علماء الأنثروبولوجيا من جيل ما بعد الحرب العالمية الأولى أن تحليل فرويد ذو قيمة كبيرة. وقد أكد الباحث المجري جيزا روهايم (١٨٩١–١٩٥٣) — الذي كان ممارسًا للأنثروبولوجيا وللطب النفسي — على أهمية الجوانب الجنسية للممارسات السحرية أكثر مما فعل فرويد، واستكشف الجوانب الفمية والشرجية لحالتَي الإحباط والإثارة الجنسية. أما عن أصل السحر، فقد جعل علاقة الأم بالطفل محورًا لنظريته؛ فقد شرح في مقال له نُشر بعد وفاته بعنوان «أصل السحر ووظيفته» كيف انبعث المبدأ السحري الأصلي والثابت من الأفكار القوية المسيطرة لدى الرضيع الذي تُشبع رغباته المعبِّرة الكلامية وما قبل الكلامية من خلال تجاوب الأم؛ وعلى هذا النحو يمكن تفسير التعاويذ. خرج روهايم عن قالب النموذج التطوري؛ وبالتالي ابتعد عن رؤية فرويد، ورأى أن السحر قوة نفسية تحررية، وأنه ليس امتدادًا للبدائية، وإنما عنصر أساسي من عناصر الفكر و«المرحلة المبدئية لأي نشاط».

لم تؤخذ أفكار روهايم التحليلية النفسية على محمل الجد من جانب علماء الأنثروبولوجيا، على عكس تعامل مالينوفسكي مع النظرية الفرويدية. كان مالينوفسكي مقتنعًا إلى حدٍّ كبير بأفكار فرويد النفسية الجنسية للسلوك الإنساني، وإسقاطه هذه الأفكار على الماضي البعيد. لكن فرويد ومالينوفسكي اختلفا في رؤية المسار الفكري والثقافي؛ فقد كان فرويد مقتنعًا بأن «وهم» السحر والدين سينتهي إلى الزوال في عصر العلم، بينما كان مالينوفسكي يرى أن الدين والسحر جزء ضروري من الحالة الإنسانية، في الماضي والحاضر والمستقبل. وكما كتب في مقاله «السحر والعلم والدين»: «إننا نعتبر السحر ملحقًا ثابتًا لكل الأنشطة المهمة. وأعتقد أننا لا بد أن نرى فيه تجسد الحمق السامي للأمل.»

الفكر الخرافي

غالبًا ما كان علماء النفس أكثر ارتياحًا في التعامل مع فئة «الخرافة» من التعامل مع فئة «السحر»؛ فهم لم يتعاملوا عمومًا مع المفاهيم الأنثروبولوجية من نوع «الرؤية العالمية السحرية» إلا إذا كانت ذات صلة بالتطور العقلي للطفل. كان جان بياجيه (١٨٩٦–١٩٨٠) رائدًا في هذا المجال من مجالات علم النفس. وقد راح في سلسلة كتب تتناول تصور الأطفال للواقع والمنطق وكيفية تفسيرهم للعلاقة السببية المادية، يستكشف تطورهم عبر مراحل فكرية سحرية وإحيائية متعددة. وسوف نعود لهذا البحث بشأن «التفكير السحري» في الفصل الأخير.

هناك عدة أسباب وراء تفضيل علماء النفس للتحدث عن «الخرافة» فيما يتعلق بمعتقدات البالغين؛ فبالنظر إلى أنهم ينتمون إلى مجال حريص كل الحرص على أن يتم قبوله على أنه علم؛ فقد كانوا يفضلون استخدام كلمة وصف تشير — على نحو أكثر وضوحًا مما يفعله الاستخدام الثقافي الشائع لكلمة «السحر» — إلى مجموعة من المعتقدات التي كانت — على حد تعبير عالم النفس جوستاف جاهودا — «باطلة بطلانًا واضحًا وقابلًا للإثبات.» وبناءً على ذلك فإن الإيمان بها يعبر عن سلوك نفسي شاذ. لكن جاهودا — الذي ألَّف العمل المهم «سيكولوجيا الخرافة» (١٩٦٩) — كان يدرك جيدًا أن بعض «الخرافات» تصعب على العلم برهنة زيفها، وأن ذلك الزيف نفسه «دائمًا ما يكون ذا صلة بوضع معرفي معين»؛ لذا فإن تعريف الخرافة في سياق علماني حديث يمكن أن يكون مبهمًا إبهام السحر نفسه. وكثيرًا ما ينتهي الأمر باستخدام المصطلحين باعتبارهما مرادفين في نصوص علم النفس، حتى عندما يكون مفهوم الخرافة هو العنوان الرئيسي.

ثَمَّةَ سبب ثانٍ وراء التعامل مع «الخرافات» يتعلق بطبيعة أبحاث علم النفس؛ إذ تشكل الاستبيانات أداة مهمة لفهم سيكولوجية الإيمان. ولكي يعتبرها علماء النفس أداة ناجحة فمن المهم للغاية أن يفهم أفراد العينة أو المستجيبون ما هو مطروح عليهم من أسئلة. وفي حالة الخرافة، يوجد لدى الناس فهم أساسي مشترك لما تعنيه كلمة «خرافة»، وفكرة عامة عما يمكن أن يعد سلوكًا خرافيًّا. لكن حينما يكون السؤال عن «السحر»، لا بد أن يسود الارتباك بشأن أي نوع من السحر هو المقصود؛ لذا — ووفقًا لهذا المستوى القاعدي — يجب أن نسأل الشخص: «هل تؤمن بالخرافات؟» وحينئذٍ من المرجح أن نحصل على إجابة ﺑ «نعم» أكبر وأكثر دلالة بكثير من تلك التي كنا لنحصل عليها لو كان السؤال: «هل تؤمن بالسحر؟» يضاف إلى ذلك أن الاستطلاعات النفسية غالبًا ما تركز على مجموعة محدودة من «الخرافات الشائعة» المتعارف عليها على نطاق واسع عبر ثقافات وبلدان وأديان، والتي تتسم بأنها غير معقدة من حيث الغرض منها، والذي يكون عمومًا ضمان حسن الحظ وتجنب تعثر الحظ. فتطرح أسئلة مثل: هل تدق على الخشب؟ أو هل تتجنب المشي تحت السلالم؟ أو هل تعقد إصبعيك؟ وقد أظهر تفسير نتائج هذه الأسئلة أن الاعتقاد «الخرافي» مرتبط بمستويات القلق لدى الفرد وبضعف القدرة على التكيف النفسي. لكنْ ثَمَّةَ عيب واحد يشوب هذه الاستبيانات، هو أنها غالبًا ما تهتم بالخرافات السلبية من نوع «إن كسر مرآة يجلب سوء الحظ». وقد ذهب البعض إلى أن الدراسات الاستقصائية للخرافات الإيجابية، مثل ارتداء التعاويذ التي تجلب الحظ، من شأنها أن تسفر عن نتائج تؤدي إلى تشخيص نفسي مختلف.

بالطبع هناك بعض الروابط بين التفكير السحري والطقوس والاضطراب النفسي. ولعل الاضطراب الوسواسي القهري أوضح مثال على ذلك؛ إذ يقوم المصابون بهذا الاضطراب بأنشطة متكررة، مثل: التحقق من أن الباب مغلق، أو يتسمون بنمطية التجنب مثل: عدم المشي فوق الشروخ الموجودة بالرصيف نظرًا لخوفهم من أن يؤديَ عدم التزامهم بهذه الطقوس إلى نوع من سوء الطالع. في بعض الأحيان يتخذ سوء الطالع صورة محددة، مثل وفاة أحد أفراد العائلة، لكنه كثيرًا ما يكون غير محدد. لَكِنِ المصابون باضطراب الوسواس القهري لا يقومون بطقوسهم لتعزيز حسن طالعهم. والخرافات — من منظور الأطباء النفسيين — لا يمكن تفسيرها بأنها شكل من الأمراض النفسية بوجهٍ عام؛ وذلك لأنها شائعة للغاية على صورة معتقدات وممارسات.

يمكن إيجاز العلاقة الضمنية بين علماء النفس والسحر وتصوُّرهم المبهم له، في لغة دراسة «الخوارق» أو «الروحانيات»؛ فهناك أداة شائعة الاستخدام في هذا المجال من مجالات البحوث النفسية تتمثل في «مقياس الإيمان بالخوارق» الذي تم تطويره في ثمانينيات القرن العشرين، ثم خضع للتنقيح في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. والتعريف العملي للظواهر الخارقة من منظور «مقياس الإيمان بالخوارق» أنها — إذا كانت حقيقية — «قد تخرج على المبادئ الأساسية التي تحدد العلم»، والسحر يمكن تعريفه على النحو نفسه. لكن للأسباب المذكورة أعلاه، لا وجود لفئة «السحر» في «مقياس الإيمان بالخوارق»، أو في نسخته الصينية التي وُضعت بحيث تتماشى مع معتقدات ثقافية مختلفة. ويشمل هذا المقياس فئات سبعًا هي: الاعتقاد الديني التقليدي، والتخاطر، والشعوذة، والخرافة، والروحانية، وأشكال الحياة غير العادية، والاستبصار. والسؤال الوحيد المتعلق بالسحر في هذا المقياس، والذي يسأل عما إذا كان «السحر الأسود موجودًا حقًّا»؛ يشكل فرعًا ثانويًّا من «الشعوذة». ويبدو أن الهدف من الاستدلال هو الخروج بنتيجة مفادها أن «السحر الأسود» شر؛ ومن ثَمَّ مرتبط بالإيمان بالعمل الشيطاني. والأمر المثير للاهتمام أن مفهوم السحر جرى دعمه في النسخة المنقحة من هذا المقياس؛ إذ جرى استبدال عنصرَين في المقياس الأصلي متعلقَين بالإيمان بسحر «الفودو» لأن هذا المفهوم ليس مألوفًا بالنسبة لثقافات عديدة. وقد حل محل أحد هذين العنصرين العبارة التالية: «من خلال استخدام التعاويذ والتعزيم، يمكن إلقاء سحر على الأشخاص.» وهذه دون شك عبارة يمكن فهمها على مستوى العالم، كما سنرى الآن.

هوامش

(1) © 2011 The British Library Board.
(2) © Faculty of Medicine, Lyon/The Bridgeman Art Library.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤