الخاتمة

لا يُضيف التلخيص الصريح للموضوعات المذكورة في أحد الكتب كثيرًا لرسالة الكتاب، كما أن التكرار هو الملجأ الأخير للكاتب الذي استنفد طاقته. من ناحية أخرى، فإن تقييم حصافة الاقتراح، بأثر رجعي، ليس فقط أمرًا مسموحًا به، بل هو بالتأكيد أمر ضروري. دعونا إذن نلقي نظرة شاملة.

عرضتُ في المقدمة ثلاثة اقتراحات تمثِّل جوهر هذا الكتاب. يتعلق الأول بالفروق الجينية بين الشمبانزي والبشر؛ فقد اتضح منذ عَقدين تقريبًا أن جينومي النوعين — مجموع جزيئات الدي إن إيه لديهما — متشابهين بنسبة تزيد عن ٩٥٪. ثمَّة تفسيران لهذه النتيجة؛ الأول أن معظم جينات الشمبانزي والإنسان هي نفسها، مع وجود عدد صغير — أقل من ٥٪ — يكون بوجه عام حكرًا على الشمبانزي أو حكرًا على الإنسان. أما التفسير الثاني فيتمثل في أن كل الجينات، في المتوسط، أكثر من ٩٥٪ يشبه بعضها بعضًا وأن أقل من ٥٪ هي المختلفة. اخترتُ أنا التفسير الثاني، الذي يؤدِّي إلى استنتاج أن الجينات الخاصة «بالبشر» لا وجود لها. ربما يبحث العلماء عنها، لكنهم لن يَعثروا عليها؛ فكل ما سيكتشفونه هو نُسخ بشرية من الجينات الموجودة في الرئيسيات الأخرى.١ رأينا في الفصل الثاني أن تحليل الأحداث الجزيئية التي يحدث بسببها انفصال الأنواع يَدعم هذا الرأي تمامًا. تنسحب هذه الحُجة بالطبع على عملية التطور بأكملها؛ فلا توجد جينات خاصة ﺑ «القرد» في مقابل جينات ﻟ «السعدان»، وهكذا. فجميع الكائنات التي عاشت على الإطلاق مكوَّنة من جينات يمكن تتبعها حتى أول فرد متعدد الخلايا في المملكة الحيوانية ظهر منذ نحو ٥٠٠ مليون سنة. وحتى هذا الكائن وَرث الجينات المسئولة عن عملية التمثيل الغذائي لديه من البكتيريا العتيقة التي عاشت قبل هذا بمليونَي سنة. لا ينتج التطور جينات جديدة خاصة بنوع واحد؛ فإن ما يفعله مجرَّد تعديل في الجينات الموجودة بالفعل ويُضيف عليها بعض الأشكال. نحن ننخدع بالتنوع الموجود في أشكال الحيوانات؛ من قنافذ البحر وقنديل البحر، وديدان الأرض والنمل، والتماسيح والأفيال. وعند فحصنا للجينات الأساسية، نجد أن ثمَّة علاقة بين جناح النحلة وذراع الغوريلا، وجلد الأفعى وجلد القندس؛ فكل التكوينات هي في النهاية أشكال متنوِّعة من فكرة مشتركة. بالطبع إذا قارنَّا جينات الشمبانزي بجينات دودة مثل الربداء الرشيقة فسنجد اختلافًا كبيرًا، إلا أن السبب في هذا أن هذَين الكائنين يفصلهما أكثر من ٥٠٠ مليون سنة من التطور. فكِّر في هذا؛ يوجد أكثر من ١٠ ملايين نوع من الحيوانات تعيش في عصرنا الحالي،٢ و١٠ مليارات نوع آخر انقرضت، ونحن نشترك مع كلٍّ منها على الأقل في ٥٠٪ من تكويننا الجيني، لكنَّنا لا نملك إلا ٣٠ ألف جين؛ ألا يجعل هذا وجود جينات مقصورة على نوع معيَّن وضعًا بعيدَ الاحتمال للغاية؟
تمثَّل اقتراحي الثاني في أن البحث جزء أساسي لدى كل شكل من أشكال الحياة. فتبحث النباتات عن ضوء الشمس الذي يُساعدها في النمو، وتبحث النباتات آكلة اللحم عن غذاء لها أيضًا، ويفعل كثير من الجراثيم الأمر نفسه. ومن هذا المنطلَق توسعتُ في تطبيق أفكار أليستر هاردي،٣ التي أشرتُ لها في الفصل الأول، إلى أبعد من مملكة الحيوان، بحيث امتدت إلى أول جرثومة عاشت على الإطلاق. وقد أمكن التعرف على بعض الجينات، ومن ثم البروتينات، الأساسية في عملية البحث. إذن هل يوجد تماثُل بين البروتينات المشتركة في عملية البحث عن الضوء، التي تقوم بها النباتات والجراثيم، والعمليات البصرية لدى الحيوانات، التي يكون دون وجودها البحث عن الرفيق والطعام والماء مستحيلًا؟ والإجابة أن ثمَّة تماثُلًا؛ فأوضحتُ في الفصل الثالث أن كثيرًا من الجزيئات التي تدخل في عملية الإبصار لدى الحيوانات (والبشر) تُشبه تلك المسئولة عن البحث واستخدام الضوء لدى النباتات والبكتيريا التي تمارس التمثيل الضوئي. ثمة تسلسل في التركيب الجزيئي من أبسط أشكال الحياة إلى أكثرها تعقيدًا؛ فإذا كان الدافع الاستكشافي لدى الحيوانات يعتمد على الضوء، فيُمكن إرجاع أصوله إلى أول بكتيريا ظهرت على سطح الأرض منذ ٣ مليارات سنة. وبكتابتي لهذه الجملة، أجد نفسي أُكرِّر تعليقًا قاله الفيلسوف كارل بوبر منذ عَقد مضى: «كل الكائنات الحية تبحث عن عالم أفضل. البشر والحيوانات والنباتات وحتى الكائنات الأحادية الخلية تكون دومًا في نشاط؛ فهي تحاول تحسين وضعها، أو على الأقل تَجنُّب تعرُّضها للتدهور.»٤
إن تطور الكائنات من حيث القدرة المتزايدة على السعي يحل المشكلات التي واجهت بعض أتباع داروين — خاصةً جيمس مارك بولدوين — في أواخر القرن التاسع عشر. ففي اعتقادهم لم يكن عقل الحيوانات يلعب دورًا مهمًّا بما يكفي في عملية التطور، في تكوين كائنات جديدة. فيقول عن هذا الفيلسوف الأمريكي دان سي دينيت إنهم «شرعوا في إثبات أن الحيوانات، نتيجة لأفعالها الذكية في العالم ربما تُعجِّل أو ترشد عملية تطور نوعها.»٥ ويستخدم دينيت الرافعة كتشبيه هندسي لوصْف كيف من المحتمل أن تعمل الحيوانات، من خلال وجود «خدعة جيدة»، على تحسين تنظيمها فيما يُطلق عليه «مساحة التصميم». أما أنا فقد وسعتُ نطاق هذه الفكرة لتشمل جميع الكائنات — النباتات والجراثيم بالإضافة إلى الحيوانات — وعرَّفتُ استخدام بولدوين «للعقل» ودينيت للرافعة أو الخدعة الجيدة، بقدرة الكائن على البحث؛ وكلما زادت مهارته في ذلك، أصبح أكثر نجاحًا من الناحية التطورية.٦
بدا الاقتراح الثالث للوهلة الأولى مُتناقضًا؛ فيبدو ثمة تناقض بين الإشارة إلى أن جميع الكائنات تمارس البحث، وفي الوقت نفسه اقتراح أن البحث هو ما يُميِّز الإنسان عن الشمبانزي. يختفي هذا التعارض عند تعريف سعي الإنسان على نحوٍ أكثر دقة؛ فليس البحث في حدِّ ذاته هو الذي يُميِّز الإنسان، بل قدرته المتزايدة على فعل هذا. إن الاختلاف بين الإنسان والشمبانزي كَمِّي وليس نوعيًّا. وأرى أن هذا الاختلاف يعتمد على تفاعل بين أربع صفات، يسهم المزج بينها في السلوك المميز للبشر. ظهرت المشية المستقيمة، الضرورية من أجل تحرير اليدين، بالفعل في رئيسيات مثل الأوسترالوبيثكوس وإنسان كينيا، التي سبقت الأنواع الأولى للإنسان بعد ملايين من السنين. وعلى مدار مليونَي سنة تالية ظهرت الصفات الأخرى التي تميِّز البشر بالتدريج؛ أولًا المهارة اليدوية عبر الإبهام الدوَّار بالكامل، ثم صندوق الصوت الذي يعطي صاحبه القدرة على الكلام؛ وتزامَن مع هذين التطوُّرين زيادة حجم القشرة الدماغية في المخ تدريجيًّا. ويتطلَّب امتلاك كلٍّ من هذه الصفات حدوث تغير طفيف في وظيفة الجزيئات الأساسية المعنية، وحدوث أقل قدر مُمكن من التغير داخلها؛ على سبيل المثال، لا يوجد اختلاف بين الشمبانزي والإنسان في أكثر من اثنين من أصل ٧١٥ حمضًا أمينيًّا في حالة البروتين FOXP2 الأساسي في الحديث واللغة. يتناسب هذا بالتأكيد مع الاقتراح الأول بعدم وجود شيء يُسمى جينًا «بشريًّا».

منذ مِائة ألف سنة، عندما كانت مجموعات من الإنسان العاقل تسير عارية على طول الوادي في صدع شرق أفريقيا، وتأكل التوت وتصطاد الطرائد — وإن كان هذا باستخدام أسلحة وأدوات بدائية صنَعها بالفعل جدهم الإنسان المنتصب والإنسان الماهر — لم يكن يوجد اختلاف كبير بينهم وبين الشمبانزي الشائع الذي كان يعيش حولهم في هذا الوقت. منذ ذلك الحين بالكاد تغيرت جينات الإنسان العاقل؛ تمامًا مثل جينات الشمبانزي الشائع. فقد كانت قدرة الإنسان على الكتابة والرسم، والتحليل والبناء، والقمع والذل، موجودة منذ ١٠٠ ألف سنة. لقد كنا في ذلك الوقت نتمتع بقدر من الذكاء وحب الانتقام تمامًا بقدر ما نتمتَّع به في عصرنا الحالي. فكل ما حدث — خاصةً على نحو سريع في آخر ١٠ آلاف سنة — هو تراكم للإنجازات. وكما أشرتُ في الفصل السادس، المعرفة تراكُميَّة؛ فتَنتقل إنجازات أحد الأجيال رأسيًّا إلى الجيل التالي، وتنتشر أفقيًّا في جميع أنحاء العالم مثل عشب الطيور. من ناحية أخرى، ظل المنطق السليم دون تغير، شأنه شأن حجم كبدنا أو طول أحبالنا الصوتية. إذن إلى أيِّ مدًى يَصمد الافتراض الثالث؟

كلما زاد ما نعرفه عن تصرفات الحيوانات، وخاصةً الرئيسيات، اتضح أكثر أن قدرة الإنسان على التفكير — الإنسان العاقل — ليست ما يُميزه عن الأنواع الأخرى. وأنا لا أعتقد أيضًا أن الوعي صفة خاصة بالإنسان. في الواقع ثمة مَن لا يرَوْن الوعي لدى البشر أكثر من مجرد إدراك للبيئة، ومن هذا المنطلق يَستطيعون تتبع حيازته وصولًا إلى البكتيريا؛ فقد رأينا في الفصل الثالث كيف تتجنَّب بكتيريا، مثل سالمونيلا تيفيموريم، وبروتوزوا، مثل ستنتور، المحفِّزات الضارة باستخدام الزوائد الشبيهة بالسوط أو الأهداب لتُحرِّك نفسها إلى موضع جديد. إن مثل هذا الإدراك يمثل أساس التطور الذي تعرَّضت له مملكة الحيوان، وأنا أقول إن تجنُّب الخطر ما هو إلا الوجه الآخر للبحث عن الطعام. منذ ربع قرن مضى اخترع ريتشارد دوكينز كلمة «الميم» كوحدة للمحاكاة لوصف النظير الثقافي للجين. اشتق الكلمة من الكلمة الإغريقية mimeme لكنه اختصرها حتى تشبه في نطقها كلمة «جين»، وأراد منها أيضًا أن تعبِّر عن جوانب «الذاكرة» وكلمة «نفس» بالفرنسية.٧ فمثلما يكون الجين «أداة نسخ» للمعلومات الجزيئية — إذ تُنسَخ بأمانة من جيل لآخر، لكنها تتعرض في غضون وقت التطور إلى تغير بطيء — فإن الميم هو «أداة نسخ» للأفكار؛ وللقصص والأغاني؛ وللعادات والمهارات؛ وللاختراعات والإجراءات. فتتعرَّض هذه الأشياء للنسخ، إلى حدٍّ ما مثل الجينات — بالمحاكاة في هذه الحالة — من جيل إلى جيل. وتُصبح الميمات، مثل الجينات، متنوعة بمرور الوقت، لكن بمعدَّل أسرع بكثير؛ في غضون سنوات، وليس ألفيات. يَعتقد علماء النفس، مثل سوزان بلاكمور في إنجلترا، أن الميمات هي التي تُفرِّق البشر عن الرئيسيات الأخرى.٨ يبدو هذا بعيد الاحتمال، فنحن نعلم أن الحيوانات بدايةً من الأسماك حتى الثدييات تقلِّد بعضها طوال الوقت؛ وبالطبع تدرك بلاكمور هذا، وتضع بعض القيود الصارمة على استخدامها لكلمة «تحاكي» حتى تستثني أي شيء غريزي، مثل تجنُّب الخطر. ومع ذلك، كما ذكرنا في الفصل الرابع، لا يكون تجنُّب الخطر دومًا أمرًا غريزيًّا؛ فحيوان الموظ الذي يعيش في حديقة يلوستون الوطنية فقَد قدرته على التعرف على الحيوانات المفترسة مثل الدب الرَّمادي والذئاب بعد اختفائها من الحديقة. وحتى يدرك مرةً أخرى أن هذه الكائنات تُنذر بالخطر عليه أن يتعلم هذا، مثل الميم. وتُظهر التجارِب على طيور الشحرور أنها تملك القدرة على تقليد بعضها لبعض لأسباب أخرى بخلاف حاجتها لذلك؛ فمثل البشر الذين يَهتفون في مباراة لكرة القدم، فإن هذه الطيور تصدر صوتًا حادًّا لمجرد أن أعضاءً أخرى في مجموعتها تفعل هذا.٩ وماذا عن القدرات اللغوية لدى الشمبانزي القزم بانبانيشا والغوريلا كوكو، الواردة في الفصل الرابع؟ إلا أن اللغة، في رأي بلاكمور، هي ميمٌ نموذجي. ويمكن لمفهوم الميم تفسير بعض من طرق استخدام الإنسان لصفاته المتمثِّلة في المهارة اليدوية والكلام ومستوى الذكاء الأكثر ارتفاعًا، في صنع أنماط ثقافية، لكن يجب ألا يقتصر على «الإنسان العاقل وحده».١٠ بالإضافة إلى ذلك، فهو يَستثني الصفة التي اعتبرتُها بشرية بالدرجة الأولى؛ التفكير المبتكَر. فلا تستطيع الميمات تفسير إبداع ليوناردو دافنشي أو لايبنتس أو شوبرت أو شكسبير. بالتأكيد يكون الاختراع والإلهام عكس المحاكاة. وإذا لم تكن الميمات هي التي تَكمن وراء وضع الإنسان، فما الذي يكمن وراءه؟ هل تكون في النهاية القدرة المتزايدة على السعي — الجسدية والعقلية أيضًا — صفة مناسبة أكثر لتُميِّز نوعنا عن الأنواع الأخرى؟

أرى أن هذا صحيح؛ فتظل الرئيسيات الأخرى داخل بيئتها، أما الإنسان فقد استعمر معظم العالم؛ وتظل الرئيسيات الأخرى على الأرض، في حين تعلَّم الإنسان السباحة (والطيران، بمساعدة بسيطة)؛ وتلتزم الرئيسيات الأخرى بنظامها الغذائي، بينما يغير الإنسان نظامه الغذائي في كل فرصة؛ وتعيش الرئيسيات الأخرى إلى حدٍّ كبير كما كان أجدادها يعيشون، أما الإنسان فلا يتوقف عن تحسين أسلوب بنائه لمأواه. ربما يستطيع الشمبانزي استخدام أدوات، مثل العِصيِّ في جمع النمل الأبيض، أو الحجارة في كسر الجوز، أو أوراق الشجر في تنظيف نفسها، لكن لم يُرَ حتى الآن شمبانزي في البرِّيَّة وهو يَصنع أداة أو يُشعل نارًا. ألا يُعتبر البحث عن أفكار جديدة أكثر معيار مناسب يُمكن أن يوصف به اختراع الإنسان لتكنولوجيا أبعد من أي شيء يُمكن تخيُّله في عالم الحيوان؟ يمكنك القول إن السمات الدماغية التي تُميِّز الإنسان عن الشمبانزي تظهر بوضوح أكبر في صفات مثل الطموح لتحقيق النجاح، والدافع للإبداع، والرغبة في الاستكشاف، والتعطُّش للمعرفة، واشتهاء الفهم، والتلهُّف للتحدي. لكن أليس النجاح والإبداع والاكتشاف والمعرفة والفهم ثمارًا للبحث؟ وألا يُعتبر التلهف لمواجهة تحديات جديدة أحد أشكال السعي؟ وما الاختراع الذي لم يشتمل على تجربة وخطأ، وبحث ورفض؟ أولم تنجح الحضارات التي صنعها الإنسان بسبب البحث عن أساليب جديدة للحكم — كالحكم الفردي والديمقراطي والبيروقراطي — وللتواصل؛ كاللغة والنصوص المكتوبة ورقاقة السليكون؟ وأي ثقافة ابتكَرها الإنسان لم تكن نتيجة للسعي لتحقيق المنفعة والكفاءة والفن؟ أولم تكن الاكتشافات العلمية نتيجة للبحث عن تفسير منطقي؟ أوليست جودة حياتنا نتيجة للبحث عن تحسين؟ أوليس السعي هو سبب ظهور التطورات الحالية التي حدثَت في التكنولوجيا الوراثية من أجل زيادة الإنتاج الزراعي، وتحسين فاعلية تشخيص الأمراض وعلاجها؟ فربما يتساءل الشمبانزي والكلاب والدلافين أيضًا عن العالم من حولهم ويُحاولون تغييره، لكنهم يكونوا مقيَّدين بافتقارهم النسبي للصفات التي أشرتُ إلى كونها أساسية في الكفاءة المُتزايدة لسعي الإنسان.

إذن هل يدعم وصفي للأحداث التي وقعت على مدار آخر ١٠٠ ألف سنة — التي تشكل معظم هذا الكتاب — مفهوم كون سيطرة الإنسان على العالم الذي يعيش فيه نتيجةً لبحثه؟ أترك للقارئ الحكم على هذا، وأنتظر ردَّه بترقب شديد، وكذلك أنتظر رأي النقاد المحترفين بقدرٍ من التخوف. وحتى أتجنَّب بعضًا من هذه الانتقادات، دعوني أعود إلى نقطة تحدثتُ عنها في فصل سابق. عند إشارتي إلى مجتمعات تعيش حياة زراعية بسيطة بعيدًا عن جيرانها «المتحضرين» — في الوادي الكبير في بابوا غينيا الجديدة أو على طول شواطئ نهر أورينوكو في غابات الأمازون — حرصتُ على ألا أنسب إليهم عدم الرضا؛ فكل ما ذكرتُه أنهم صعدوا سُلم الإنجاز تمامًا كغيرهم. لكن ثمة بعض الذين لا يرَوْن أن السُّلم المتحرك (الفصل السادس) يؤدي إلى الأعلى على الإطلاق. فبالنسبة لهم يكون الاتجاه إلى الأسفل؛ فيكون التحضُّر مدمِّرًا، وليس خلاقًا. استمع إلى كلمات أحد المعتنقين لوجهة النظر هذه، عالم الأنثروبولوجيا روبن فوكس: «منذ تطور الإنسان ليصبح نوعًا يصطاد ويقتات على الحيوانات والنباتات، ترتَّب على هذا تدميره للحيوانات والنباتات وحتى الأفراد الآخرين من نوعه الذين يُهدِّدونه.»١١ كانت ذروة تاريخ الإنسان في العصر الحجري القديم. فمن أجل منع انقراض نوعنا، علينا الكفاح من أجل استعادة الظروف التي كانت موجودة في العالم السابق لظهور الزراعة. فعلينا اعتماد نمط حياة شعب الكونج الصائد جامع الطرائد في صحراء كالاهاري في أفريقيا، أو قبيلة يانومامي في فنزويلا، أو السكان الأصليين لأستراليا في المناطق النائية بها. لا يفعل فوكس أكثر من مجرد ترديد آراء الكُتَّاب القدماء، مثل اختصاصي السلوك عند الحيوانات النمساوي (والحاصل على جائزة نوبل عن أبحاثه على سلوك الإوَز) كونراد لورنتس. يرى لورنتس أن الحضارة تشبه تمامًا عملية استئناس الحيوانات؛ فهي حدَث مُؤسِف وغير طبيعي. ورغم فصلي عند حديثي عن سيطرة الإنسان على العالم بين تطور ظهور الزراعة وتأسيس الحضارات — كما يفصلهما زمنيًّا نحو ٥ آلاف سنة — فإن هذه تُعتبر نقطة ثانوية. فإذا اختار علماء أحياء محدَّدون رؤية آخِر ١٠ آلاف سنة على أنها «انحدار الإنسان»، فإن هذا من حقهم.
يختلف رأيي أنا عن هذا؛ فالحضارة ليست أكثر من مجرد نتيجة لجيناتنا؛ فامتلاكنا إبهامًا متحركًا، وأحبالًا صوتية مكانها منخفض، وعددًا كبيرًا من الخلايا العصبية في القشرة الدماغية؛ كانت كلها نتيجة لطفرات بالمصادفة في الدي إن إيه لدينا جعلت الإنسان العاقل ينجو في وقت العصر الحجري الحديث، بينما انقرضت كل أنواع البشر الأخرى، مثل إنسان نياندرتال. لماذا؟ ربما لأنها كانت أقل قدرة على التنافُس مع القدرة المتزايدة عند الإنسان العاقل على البحث. ويُعتبر احتكار الإنسان للعالم — الذي يشتمل أحيانًا، بالفعل، على تدميره الوحشي لبيئته والكائنات الأخرى — مجرد استمرارٍ لبحثه. عليك أن تَعتبر هذا هبوطًا أو صعودًا كيفما تشاء؛ أنا أختار الثانية ببساطة لأن معظم الناس يرَون أن أسلوب الحياة الأكثر تطورًا يُعَد تقدُّمًا، وليس تراجعًا. ومع ذلك، فإن مضمون حديثي لا يتسم بالذاتية؛ فإن معدل التغيير في نمط حياتنا أكبر من أي كائن آخر، سواء كان نحلة أو حوتًا أو غوريلا. وتكون هذه السرعة نتيجة للقدرة المتزايدة على ممارسة الدافع الفطري على السعي الموجود داخل كل كائن حي. بالطبع سأُتهم بكوني داروينيًّا اختزاليًّا يرى سلوك الإنسان الفريد على أنه مجرَّد سلوك حيوان متطور إلى حدٍّ ما. حسنًا، ليكن هذا. ألم أفترض في فصل سابق١٢ أن كل شعور إنساني، سواء كان سعادة أو يأسًا، إيمانًا أو شكًّا، إبداعًا أو كرهًا، يمكن في النهاية تفسيره بالتفاعلات الجزيئية؟ إن عقلنا جهاز في غاية التعقيد، لكن هذا التعقيد ليس مرادفًا لعدم القدرة على التفسير. بالطبع تؤثر البيئة التي نعيش فيها على طريقة تفاعل الجزيئات؛ ومن ثم تؤثِّر في سلوكنا تمامًا مثل تأثيرها في تمثيلنا الغذائي؛١٣ وبما أن أفعالنا تغيِّر البيئة — بداية من إحلال الأراضي الزراعية والمدن محل الغابات، ووصولًا إلى تلوث الماء والهواء — توجد دائرة من التعزيز المتبادل بين الاثنين. لكن لا يوجد سبب لاستدعاء علاقة «خارج الجزيئات» بين الإنسان والعالم الذي يعيش فيه من أجل تفسير تطور مخِّه وظهور الثقافة والحضارة.

•••

إذن ما هي رسالة هذا الكتاب؟ ليس للأفراد فحسب، بل للمؤسسات والمجتمعات ودول العالم؟ إنها رسالة بسيطة: استمرُّوا في البحث. فلم تستمرَّ دولة مثل أفغانستان تحت حكم طالبان، الذين ألغَوا الابتكار والتعليم والفن.١٤ أما دولة مثل الصين، التي تتَّسم بالجرأة والإبداع، والتي تُجرِّب أساليب جديدة حتى إن أخفقت أحيانًا، فتظل باقية. استخدم الخصائص التي مُنحت إليك — اليدين والصوت والعقل — حتى تُطلق الْعِنان لفضولك. فمَن يبحث عن دروب جديدة في الحياة يزدهر أكثر ممَّن يتبع المسار الذي يسير فيه الجميع. فالإنسان الذي يتقاعد ليُصبح شخصًا كسولًا يَنهار؛ أما الذي يبدأ مشروعات جديدة في سن متقدمة فيظل يقظًا؛ فالخلايا العصبية مثل العضلات، تبقى وقتًا أطول عند استخدامها. وبالفعل لاحظ ليوناردو دافنشي منذ ٥٠٠ سنة أنه «كما يصدأ الحديد عندما لا يُستخدم، وتُصبح المياه كريهة الرائحة عند ركودها أو تتحوَّل إلى جليد عن تعرُّضها للبرودة، يتدهور الذكاء عند التوقف عن استخدامه.» لا يعني البحث الذهني أن عليك اعتناق الاتجاهات الموجودة في عصرنا الحالي. فإذا لم تكن تحب المراكز التِّجارية الحالية، أو الطُّرق السريعة ذات الحارات الثماني، أو حدائق الملاهي الصاخبة التي تُقام حول منزلك، وإذا لم تكن ترغب في الانضمام إلى زملائك في رحلتهم الأولى إلى القمر وأبعد من ذلك، وإذا لم تكن ترغب في معرفة الأصوات والرؤية المقبولة في الفن في العصر الحالي، فعليك الانضمام إليَّ في سعيي؛ لنذهب إلى بقعة في الريف يُمكننا فيها الاستماع إلى تغريد العصافير وحفيف أوراق الأشجار، وحيث يُمكننا استنشاق عبير الطبيعة ورائحة دخان الحطب، وحيث يُمكننا مشاهدة سنجاب يجري مُرتعدًا مع غروب الشمس وتلاشيها في الأفق، وحيث يُمكنك التخطيط لمشروعك الجديد ويُمكنني أنا تأليف كتابي التالي.

أيًّا كانت طبيعة مشروعك من المؤكد أنه سينطوي على عنصر البحث؛ من أجل الحصول على نتيجة ناجحة، إن لم يكن لأي شيء آخر. لكنَّك حتى عندما تُطلق العنان لهذه الصفة البشرية الخالصة، عليَّ أن أُحذِّرك من أن رحلتنا هذه مستمرة:

الإنسان هو المكوك، الذي على بحثه الدائر،
ومروره عبر هذه الأنوال،
كتب الله عليه الحركة، لكنه لم يقضِ له بالراحة.١٥

هوامش

(١) وعلى الأرجح يمثِّل قدرٌ كبير من هذا الاختلاف البالغ ٥٪ الطفرات في المناطق التي لا تحمل شفرة في الدي إن إيه، بالإضافة إلى الطفرات «الصامتة» في الجينات، التي تراكمت على مدار آخِر ٦–٨ ملايين سنة لدى الشمبانزي والبشر على حدٍّ سواء، والتي ليست لها أهمية وظيفية كبيرة.
(٢) ربما يتساءل القارئ عن سبب ذكري لرقم ١٠ ملايين بوصفه عدد كل الأنواع التي تعيش في العصر الحالي — النباتات والجراثيم والحيوانات أيضًا — في فصل سابق. يتمثل السبب في هذا في أن الحشرات تُمثل الغالبية العظمى من الكائنات — نحو ٩ ملايين — بحيث تُمثِّل باقي الكائنات أقلية عددية نسبيًّا.
(٣) إيه سي هاردي، المرجع السابق.
(٤) من كتاب كارل بوبر «البحث عن عالم أفضل: محاضرات ومقالات منذ ثلاثين عامًا» روتليدج، لندن ونيويورك، ١٩٩٢.
(٥) دانيال سي دينيت، المرجع السابق الصفحات ٧٣–٨٠.
(٦) سواء أكان التطور عبر الانتقاء الطبيعي يفسر «كل شيء» عن سلوك الإنسان (والحيوان) أم لا، فهذا موضوع آخر. حتى داروين نفسه ترك المجال مفتوحًا للشك، وأضاف ستيفن جاي جولد ببراعة تحفظاته الخاصة في مقال «مزيد من الأشياء في السماء والأرض»، في الكتاب الذي حرَّره هيلاري وستيفن روس، المرجع السابق، الصفحات من ٨٥ حتى ١٠٥.
(٧) ريتشارد دوكينز، كتاب «الجين الأناني»، المرجع السابق، ص١٩٢.
(٨) سوزان بلاكمور، مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٣ (أكتوبر)، الصفحات من ٥٢ حتى ٦١، ٢٠٠٠.
(٩) لي آلان دوجاتكين، مجلة ساينتيفيك أمريكان، العدد ٢٨٣ (أكتوبر)، ص٥٥، ٢٠٠٠.
(١٠) انظر على سبيل المثال، كتاب فرانس دي واﻟ «القرد وسيد السوشي: تأملات ثقافية لمتخصص في علم الرئيسيات»، ألين لين، لندن، ٢٠٠١، وبيزك بوكس، نيويورك، ٢٠٠١.
(١١) روبن فوكس، المرجع السابق، الصفحات ١٢٧ و٢١٨.
(١٢) تشارلز باسترناك، المرجع السابق الصفحات ٢٤٥–٢٧٦.
(١٣) يُمكن العثور على مثال رائع على الأسلوب الاختزالي، المطبَّق بنجاح على مشكلة التعلم والذاكرة، في محاضرة إريك كاندل عند حصوله على جائزة نوبل في عام ٢٠٠٠ «علم الأحياء الجزيئي للتخزين في الذاكرة: حوار بين الجينات والتشابكات العصبية»، أُعيدت طباعتها من مجلة بايوساينس ريبورتس، العدد ٢١، الصفحات من ١ إلى ٤٧، ٢٠٠١. انظر أيضًا الملحوظة رقم ٢٧ في الفصل الثاني.
(١٤) كتبتُ هذه الجملة في الأصل في شكل تنبؤ قبل عدة أشهر من وقوع الأحداث في خريف عام ٢٠٠١.
(١٥) هنري فوجان، ١٦٢٢–١٦٩٥: «الإنسان» من كتابه «الجرانيت المتلألئ».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤