شبهات كثيرة

عندما التقى الأصدقاء مرةً أخرى، كان كل منهم — كما حدث في المرة السابقة — يحمل كميةً كبيرةً من المعلومات … وكميةً أكبر من الشبهات … ولكنهم لم يبدءوا الحديث كلهم مرةً واحدةً كما حدث في المرة السابقة، بل اتفقوا على أن يتحدَّثوا بترتيب الجلوس.

كانت «لوزة» أول من تحدَّث فقالت: كما تعلمون … فإن «حسنية» قالت في التحقيق إنها قضت الليلة عند أسرتها … ولكن التحريات التي قمتُ بها أمس أثبتت أنها لم تكن في بيتها تلك الليلة … فقد سمعت والدها أو شقيقها يتشاجر معها؛ لأنها قضت تلك الليلة خارج البيت.

وقد استطعت مقابلة «حسنية» اليوم … وتستطيعون أن تتأكَّدوا أنها خارج حدود الشبهات … فقد قضت الليل عند صديقة لها … والسبب أنها ليلة الحادث عندما ذهبت لأسرتها، كان معها بعض النقود التي ادخرتها، وحول شقيقها وهو متعطِّل عن العمل أن يأخذها منها، ولكنها رفضت … وقامت مشاجرة، فخرجت «حسنية» مسرعة، وذهبت إلى صديقة لها حيث قضت الليل عندها.

تختخ: وهل تأكَّدتِ من صحة كلامها؟

لوزة: طبعًا؛ فقد ذهبتُ إلى صديقتها، وتأكدتُ أن «حسنية» دخلت عندها في الثامنة مساءً، ولم تخرج إلا في صبيحة اليوم التالي.

وجاء الدور على «نوسة» فقالت: إنني أُتابع زوج «علية»، وقد استطعت أن أحصل على معلومات هامة من الجيران … هذه المعلومات لا تنفي الشبهات عنها، بل تُؤكِّدها.

وانتبه الأصدقاء جميعًا واستمرَّت «نوسة»: لقد علمتُ أن زوجها لص هارب من السجن … وهذا هو السبب الذي دفع «صفية» ابنتها، وبائع الحلوى أن يرفضا الإجابة على سؤالي عنه … وهذا اللص يُدعى «الكفراوي» خرج من السجن منذ أسبوع، وقد شوهد يتردَّد ليلًا على منزل زوجته «علية» … وعلم رجال الشرطة بهذا، فهاجموا المنزل، ولكنه استطاع الفرار … وكما نعرف جميعًا، فإن «علية» كانت تعلم بأمر النقود والمجوهرات … وفي تصوُّري أنها أبلغت زوجها عنها، بقصدٍ أو بدون قصد … ودبَّر هو السرقة بناءً على هذه المعلومات.

قال «محب» معلِّقًا: إنها معلومات هامة جدًّا، ويمكن أن تُلقي شبهات قويةً على «الكفراوي» زوج «علية»، ولكن عندي معلومات عن «عبده» البوَّاب وصديقه «حسنين» لا تقل أهميةً وخطورة …

وسكت «محب» قليلًا، ثم عاد إلى الحديث: لقد علمتُ أن «عبده» هو ابن عم «حسنين»، ويقوم بالإنفاق عليه، و«حسنين» هذا لا يقوم بأي عمل؛ فهو يبقى في غرفته طول النهار لا يُبارحها، ثم يخرج في المساء أحيانًا ليغيب بضع ساعات ثم يعود … ولا أحد يعرف عنه شيئًا مطلقًا. إنه شخص غامض لا يختلط بالناس، ولا يُقابله أو يحضر إليه أحد إلا «عبده».

كان الأصدقاء جميعًا يستمعون في اهتمام، ونظر إليهم «محب» طويلًا وهو يقول: وفي ليلة الحادث … شاهد أحد الجيران «حسنين» يخرج في العاشرة والنصف ليلًا، وقد غيَّر ملابسه التي اعتاد أن يلبسها بملابس أخرى … فهو عادةً يلبس الجلَّابية كأولاد البلد، ولكنه في تلك الليلة كان يلبس بذلةً سوداء … ثم خرج ولم يعد حتى الآن … وقد ذهبتُ إلى صاحب المنزل الذي يسكن فيه، وعلمتُ منه أنه أرسل له في صباح يوم الحادث مفتاح الغرفة، والأجرة المتأخِّرة عليه … ورسالةً بأنه لن يعود إلى الغرفة مرةً أخرى، فماذا يعني هذا في رأيكم؟

قال «عاطف» معلِّقًا: إنه يُلقي شبهات قويةً حول «حسنين» و«عبده» معًا؛ فمن الواضح أن «عبده» قد أبلغ حسنين بالمعلومات … وقاما معًا — أو «حسنين» وحده — بتدبير السرقة، وممَّا يُؤكِّد هذا كله أنه دفع إيجار غرفته المتأخِّر، وترك الغرفة ولم يعد ولن يعود إليها مرةً أخرى … وحكاية تغيير ملابسه … وحياته الغامضة تجعل منه متهمًا من الدرجة الأولى.

تختخ: إن عندنا الآن معلومات عن زوج «علية» المدعو «كفراوي»، و«عبده» و«حسنين» … ما يكفي لإلقاء الشبهات عليهم … لكن هناك شخصًا رابعًا هو «إيبو»، يمكن أن يكون هو اللص أيضًا …

عاطف: قبل أن نتحدَّث عن «إيبو» سأتحدَّث عن «منير» الموسيقار؛ فحكايته واضحة، وليس حوله أية شبهات … لقد ذهبت لزيارته اليوم في شقته التي تُطل على قسم الشرطة … إنه شاب مُهذَّب، وقد اعتذر لي بأنه لن يستطيع إعطائي دروسًا في العزف على الكمان لأنه مُسافر قريبًا لإتمام دراسته الموسيقية في الخارج … وهي أمنية عاش من أجلها طويلًا.

تختخ: أليس لك أية ملاحظات عليه؟

«عاطف» ضاحكًا: ملاحظة واحدة مضحكة … إن عنده «نبلة» ممَّا يستعمله الأطفال في صيد العصافير … وغرفة مغلقة.

اشترك الأصدقاء في الضحك مع «عاطف» على الملاحظة الطريفة، ثم قال «تختخ»: إن «إيبو» شاب مُريب حقًّا … إنه يسكن ﺑ «المعادي» منذ فترة طويلة، وقد اعتاد أن يُغيِّر الشقة التي يسكن فيها بين فترة وأخرى … هذه ملاحظة هامة كما ترَون … فمن عادة اللصوص والمجرمين أن يُغيِّروا أما كنهم لتضليل رجال الشرطة … ولكن هناك ملاحظةً أهم … إن «إيبو» أحيانًا لا يدفع إيجار شقته … ويشتري حاجياته من المحلَّات بالدَّين … وأحيانًا أخرى يُصبح غنيًّا فجأة … يُسدِّد ديونه … ويُنفق ببذخ، وهذه أيضًا يمكن أن نعدها من عادة اللصوص … فهم إذا قاموا بسرقة أغرقوا أنفسهم في المتع … ثم إذا انتهت نقودهم، عاشوا كالفقراء.

قالت «لوزة»: إن الملاحظتَين في غاية الأهمية … ولكن الأهم منهما هو حالته الآن … هل يعيش في فقر أو في بذخ؟

تختخ: سؤال هام فعلًا … إنه منذ يومَين يعيش في بذخٍ شديد، أكثر من هذا إنه اشترى سيارةً جديدةً صباح اليوم.

نوسة: سيارة جديدة؟!

تختخ: نعم، من نوع «الأوبل» … غاية في الأناقة، وبها راديو … وبيك آب.

عاطف: وكيف عرفت كل هذا؟

تختخ: ببساطة شديدة … فقد كنت أركب السيارة معه اليوم … وقام بتوصيلي إلى المنزل؛ فقد أصبحنا صديقَين.

محب: هكذا بسرعة … يا لك من داهية!

ردَّ «تختخ» في تواضع قائلًا: لقد تعرَّفت به بدعوى أنني أُعِد موضوعًا عن «نيجيريا» باعتبارها دولةً صديقة، وطلبت منه معلومات عنها، فأعطاني كل ما أريد … أكثر من هذا وعدني بهدية من الطوابع.

نوسة: طوابع بريد!

تختخ: طبعًا. هل تظنين أنها طوابع دمغة مثلًا؟ ضحك الأصدقاء مرةً أخرى، وقالت «نوسة»: إذن ستُعطيها لي!

تختخ: كم تدفعين؟

نوسة: كل طابع هام بكوب من الجيلاتي!

تختخ: سأُهديها لك كلها مقابل دعوتنا جميعًا إلى الجيلاتي.

نوسة: موافقة.

تختخ: هذا إذا حللنا اللغز.

عاطف: نعود إلى الحديث عن اللغز.

تختخ: إن عندنا الآن أربعة تُحيطهم الشبهات … «الكفراوي» زوج «علية» … «عبده» البوَّاب، وصديقه «حسنين» … و«إيبو» … من منهم يا تُرى تُحيط به الشبهات أكثر؟

عاطف: «الكفراوي».

نوسة: «عبده» البوَّاب وصديقه.

لوزة: «إيبو».

محب: على كل حالٍ نحن مُضطرُّون للتركيز على شخصٍ واحد فقط هو «إيبو»؛ ﻓ «الكفراوي» لا نعرف مكانه، و«عبده» في يد رجال الشرطة، و«حسنين» اختفى … فما هو الموقف الآن يا «تختخ»؟

عاطف: رأيي أن نضع الحقائق كلها بين يدَي المفتش «سامي» ليحاول برجاله أن يصل إلى مكان «حسنين» و«الكفراوي»، ونُتابع نحن «إيبو».

تختخ: لعله قد عاد … وسوف أُقابل الشاويش «علي» اليوم لأعرف منه ما حدث بالنسبة ﻟ «عبده» البوَّاب فلعله اعترف، ونكف عن بذل الجهد بلا فائدة!

لوزة: وهل نكف نحن عن التحريات؟

تختخ: من قال هذا؟ إن على كلٍّ منكم أن يستمر في تحرياته … فقد يصل أحدكم إلى الحقيقة.

وهكذا افترق الأصدقاء، ولم يستطِع «تختخ» مقابلة الشاويش إلا في الثامنة ليلًا؛ فقد كان الشاويش غائبًا طول النهار في القاهرة.

استقبل الشاويش غريمه الدائم «تختخ» ببرود شديد، ولكن «تختخ» كان متعوِّدًا هذه المعاملة من الشاويش، فلم يتضايق، بل وجدها فرصةً لإثارة الشاويش كالمعتاد، فقال له بعد أن حيَّاه: هل وجدتم لص المجوهرات والنقود الخاصة بالسيدة «كريمان»؟

احمرَّ وجه الشاويش وقال: وما دخلك أنت؟

تختخ: أردت أن أعرف … فقد أعثر عليه أنا.

الشاويش: أنت؟!

تختخ: نعم.

الشاويش: فرقع من هنا ولا تُضايقني.

تختخ: هل عاد المفتش «سامي»؟

عندما سمع الشاويش اسم المفتش هدأ غضبه بسرعة، وقال باحترام: سيعود غدًا … لماذا تسأل؟

تختخ: كنت سأرجوه أن يبحث عن شخص يُدعى «حسنين» صديق «عبده» البوَّاب؛ فهذا الرجل تُحيط به شبهات قوية.

الشاويش: ما هي هذه الشبهات؟

روى «تختخ» للشاويش ما عرفوه عن «حسنين»، فقام فجأةً صائحًا: إنه هو اللص … من المؤكَّد أنه هو اللص … وسأعثر عليه حتى لو كان قد صعد إلى القمر.

وانطلق الشاويش خارجًا … وترك «تختخ» مكانه يُحدِّق فيه مذهولًا.

عندما خرج «تختخ» من مبنى القسم بعد مقابلة الشاويش، لاحظ أن الشارع مظلم على غير المعتاد، ونظر إلى حيث يسكن الأستاذ «منير» عبر الشارع في مواجهة القسم، فوجده يجلس كالشبح في الظلام في مكانه المعتاد في الشرفة يُدخِّن، وفكَّر أن يزوره، ولكنه قرَّر أن يذهب إلى «إيبو» لعلَّه يعثر على معلومات جديدة.

صعد «تختخ» إلى حيث يسكن «إيبو»، ودقَّ جرس الباب، وبعد لحظات فتح الشاب الأسمر الباب، ورحَّب ﺑ «تختخ» ودعاه إلى الدخول … ولم يكن «إيبو» وحده، بل كان معه صديق له، وكانا يتسليان بلعب الكوتشينة، ولم يكد «تختخ» يُلقي نظره على الورق حتى أدرك أن ورقة الكوتشينة التي عثر عليها في غرفة نوم السيدة «كريمان» من نفس النوع! ودقَّ قلبه سريعًا، وأحسَّ أنه قد عثر على أثر هام قد يُؤدِّي إلى ظهور الحقيقة … فلو كانت هذه الكوتشينة تنقص ورقة العشرة الحمراء؛ فلا شك أن هذا سيكون دليلًا قويًّا ضد «إيبو».

استأنف الصديقان اللعب … وجلس «تختخ» يُشاهد وهو متوتر الأعصاب. كانا يلعبان «البصرة»، وهي لعبة تستدعي توزيع أربع ورقات لكل لاعب، وأربع ورقات على المائدة في بداية اللعب … وانتظر «تختخ» حتى انتهى الدور الأول، ثم انتظر بداية الدور الثاني بلهفة … ليرى ماذا سيحدث … وقد حدث ما توقَّع بالضبط … فقد وزَّع «إيبو» الورق … فأعطى صديقه أربع ورقات … وأخذ هو أربع ورقات … وبدلًا من أن يضع أربع ورقات على المائدة … وضع ثلاثًا فقط … وهذا ما يحدث عادةً إذا كانت الكوتشينة تنقص ورقة … وأراد «تختخ» أن يتأكَّد أن «إيبو» … لم ينسَ وضْع الورقة الرابعة فقال: لكن يا «إيبو» … هناك ثلاث ورقات فقط على الأرض!

ردَّ «إيبو» ببساطة: نعم … فالكوتشينة تنقصها ورقة!

وبنفس البساطة سأل «تختخ»: أي ورقة؟

إيبو: إنها العشرة الحمراء!

دارت رأس «تختخ» … وهو يسمع الإجابة … لقد حصل على أهم دليل حتى الآن في اللغز … دليل يُؤكِّد أن «إيبو» … هو اللص … إنه الآن يجلس بجوار لص المجوهرات والنقود … فأي حظ حسن ألقى به في هذه اللحظة في هذا المكان؟! … وكيف يتصرَّف؟!

كان «إيبو» وصديقه يلعبان وهما يضحكان … وكلٌّ منهما يُحاول أن يغلب الآخر، فلم يُلاحظا التغيير الذي حدث ﻟ «تختخ» في هذه اللحظات الحاسمة … وظلَّ «تختخ» يُفكِّر طويلًا ويتظاهر في نفس الوقت أنه يُشاهد اللعب … ولكنه كان في وادٍ آخر.

قال «إيبو»: تستطيع أن تذهب إلى الثلاجة وتأخذ زجاجة ليمونادة باردة يا «توفيق» … فإنني مشغول باللعب ومعذرة.

رحَّب «تختخ» بهذا؛ فقد كان يُريد الابتعاد عن اللاعبين. كان يُريد أن يخلو إلى نفسه بهدوءٍ ويُفكِّر فيما يفعل … وهكذا قام واتجه إلى المطبخ، وفتح الثلَّاجة … وأخذ يتكاسل وهو يفحص الزجاجات ليأخذ أكثرها برودة، ثم أغلق باب الثلاجة، وبدلًا من أن يعود إلى الصالة حيث يجلس «إيبو» وصديقه، ذهب إلى شُرفة المنزل … ووقف يُحدِّق في الظلام ويُفكِّر هل عنده الآن أدلة كافية ضد «إيبو» ليُبلِّغ عنه؟ إن هناك أدلة قوية … الزرار المقطوع من «الجاكت» …«البايب» القديم … قطعة النقود … ثم ورقة الكوتشينة وهي أكثر الأدلة أهمية! وتذكَّر «تختخ» أيضًا المعلومات التي حصل عليها، والتي تُؤكِّد أن «إيبو» كثير التنقل من شقة إلى أخرى.

أدلة كثيرة … تكفي فعلًا لإبلاغ المفتش «سامي»، أو حتى الشاويش «علي» … ولكن «تختخ» بعقلية الباحث المدقِّق كان يشك في شيء واحد … ولكنه هام جدًّا. هل من المعقول أن يترك أيُّ لصٍ على أيِّ قدرٍ من الذكاء كلَّ هذه الأدلة في مكان الجريمة؟ … إنه بالقطع يكون أغبى لصٍّ في العالم … فهل «إيبو» على هذه الدرجة من الغباء؟ هل من المعقول أن يأخذ معه كل هذه الأشياء ويتركها في مكان الجريمة لتدل عليه؟!

هذا هو السؤال الذي كان يُحيِّر «تختخ» وهو يقف وحده في الظلام يُفكِّر … ويُمعن في التفكير … وهناك شيء أهم من هذا كله … إن «إيبو» لم يُخفِ الكوتشينة … أكثر من هذا إنه قال ببساطة إن هناك ورقةً ناقصةً هي العشرة الحمراء … فلو كان هو اللص هل كان من المعقول أن يقول الحقيقة بهذه البساطة المذهلة؟ لعله يظن مثلًا أن «تختخ» ليس له علاقة بالحادث فتحدَّث أمامه بهذه الصراحة والبساطة … ولكن أي لص في العالم لا يمكن أن يتحدَّث عن دليل عليه هكذا أمام أي شخص … هناك احتمال آخر أن «إيبو» لا يعلم بوجود ورقة الكوتشينة في مكان السرقة!

أفكار كثيرة … محيِّرة … محيِّرة … و«تختخ» يقف في الشرفة مُحدِّقًا في الفضاء … وفجأةً سمع صوتًا خلفه … والتفت فوجد «إيبو» يقف … وقد لمعت أسنانه البيضاء في الظلام مبتسمًا قائلًا: لماذا تقف هكذا؟ هل تُفكِّر في شيء؟

أحسَّ «تختخ» فجأةً بالخوف يتسلَّل إلى قلبه … وفكَّر في أن «إيبو» يشك فيه ويُحاول أن يتكلَّم، ولكن الكلمات وقفت في حلقه … وبحركة لا إرادية رفع زجاجة الليمونادة وشرب جرعة.

عاد «إيبو» إلى الحديث قائلًا: لقد خرج صديقي وأصبحنا وحدنا. وفكَّر «تختخ»: هل يُهدِّده «إيبو»؟ هل يقول له إنني عرفت كل شيء ولن تخرج من هنا؟

نظر «تختخ» إلى «إيبو» فوجده يبتسم، وحاول أن يُفسِّر ابتسامته … ولكن «إيبو» مدَّ يده إليه قائلًا: تعالَ نجلس معًا في الصالة … لقد أحضرت لك مجموعةً من الطوابع النادرة.

واتجها معًا إلى الصالة … ودخل «إيبو» إحدى الغرف، ثم عاد ومعه عدد من المظاريف والكتب وضعها جميعًا على المائدة، وجلس يُحدِّث «تختخ» عن «نيجيريا» … كان «إيبو» يتحدَّث ببساطة وظرف، وهو شديد الاهتمام بأن يُوضِّح ﻟ «تختخ» كل شيء عن بلاده … وأحسَّ «تختخ» بالخجل الشديد؛ لأنه ظنَّ كل الظنون بصديقه الأسمر … وبعد ساعة من الحديث الشيِّق، استأذن «تختخ» في العودة إلى منزله؛ فقد كانت الساعة قد اقتربت من العاشرة … وأصرَّ «إيبو» أن يُوصله بسيارته … وهكذا نزلا معًا … وأخرج «إيبو» سيارته الجديدة اللامعة من «الجراج»، وركب «تختخ» بجواره، ثم انطلقت السيارة، وعندما مرَّا أمام قسم الشرطة، أشار «إيبو» إلى المنزل المواجه للقسم قائلًا: لقد كنتُ أسكن هنا من شهرَين … ولكن الجيران شكونا إلى الشاويش، فاضطُررت لترك المنزل.

قال «تختخ» باهتمام: ولماذا شكاك الجيران؟

إيبو: لأنني كنت أُقيم حفلات للأصدقاء، نُغنِّي ونرقص فيها حتى ساعة متأخِّرة من الليل … وأنت تعرف حب الأفريقيين للرقص على نغمات الطبول الراقصة. إن كل الموسيقى الحديثة أصلها أفريقي … وقد كوَّنت جمعيةً لموسيقى الجاز في الجامعة، وكان زملائي يحضرون عندي للمِران … ولكن ذلك لم يُعجب الجيران.

تختخ: إن هذه معلومات مهمةً جدًّا.

إيبو: وما وجه أهميتها؟

اضطرب «تختخ» وقال: أقصد … أقصد أنني أُحب موسيقى الجاز أيضًا!

إيبو: إن هذا يُقرِّب بيننا أكثر.

تختخ: وهل هذا هو سبب انتقالك الكثير بين منزل وآخر؟

ابتسم «إيبو» قائلًا: من أين عرفت؟

ومرةً أخرى اضطرب «تختخ»، ولكنه أجاب بسرعة: لا أذكر بالضبط من قال لي إنك تُغيِّر مسكنك باستمرار.

إيبو: هذا صحيح … ففي هذه السنة انتقلت في ثلاث شقق … برغم صعوبة وجود شقة خالية في هذه الأيام.

أحسَّ «تختخ» بارتياح كبير عندما عرف كل هذا … فمعناه إزالة بعض الشبهات عن «إيبو» الذي بدأ «تختخ» يميل إليه كثيرًا، ويتمنَّى ألا يكون هو لص المجوهرات.

قال «إيبو»: هل عندك مانع أن نمر بالكورنيش؟ … إن الجو لطيف، والسيارة ممتلئة بالبنزين … وفي إمكاننا أن نأخذ نزهةً على الكورنيش في دقائق قليلة.

كانت فرصة «تختخ» … ليسأل «إيبو» عن شراء السيارة، ولماذا لا يكون معه نقود أحيانًا، وأحيانًا أخرى تتوافر معه نقود كثيرة … إن هذه الحكاية أحد الأدلة التي جمعها ضد «إيبو».

قال «تختخ»: إنها سيارة جميلة، بكم اشتريتها؟

إيبو: في الحقيقة إنني لم اشترِها بعد. إنها ملك أحد رجال سفارة «نيجيريا» … في القاهرة، وهو قريبي، وقد أعطيتُه مبلغًا من المال تحت الحساب؛ لأنه مسافر في رحلة إلى فرنسا … وصدِّقني أنني ندمت على دفع هذا المبلغ؛ فلستُ أدري متى تصلني نقود أخرى من أبي.

تختخ: هل تصلك نقود من أبيك بانتظام؟

إيبو: ليس دائمًا … فهو أحيانًا يكون مسافرًا خارج «نيجيريا»، فلا يتسلَّم خطاباتي، وأحيانًا يُرسل لي ويتأخَّر وصول النقود … وهكذا تجدني حينًا معي نقود كثيرة، وحينًا آخر مفلسًا.

وضحك «إيبو» … وضحك «تختخ» من قلبه، لقد سرَّه كثيرًا أن يتلاشى دليل آخر ضد «إيبو»، ولكن ما شأن بقية الأدلة؟

وكأنما كان «إيبو» يُساعد «تختخ» على إزالة بقية الأدلة؛ فقد أخرج «البايب» وأشعله، وهكذا أتاح ﻟ «تختخ» أن يتحدَّث في دليلٍ ثالث قائلًا: لماذا تُدخِّن الباسي ولا تُدخِّن السجائر يا «إيبو»؟ أو بمعنًى آخر، لماذا لا تكف عن التدخين، وهو كما تعلم ضار بالصحة غاية الضرر؟

قال «إيبو»: إنني أتمنَّى أن أكف عن التدخين، ولهذا أبطلت السجائر ودخَّنت «البايب» على أمل أن أُبطِّله أيضًا.

تختخ: وهل عندك «بايب» واحد؟

إيبو: لا … إن أكثر مُدخني «البايب» يكون عندهم مجموعة من «البايب»، وقد كان عندي واحد آخر ولكني فقدته … لا أدري أين.

تختخ: حاول أن تتذكَّر أين فقدته.

إيبو: وهل هذا يُهمُّك؟ … إنني أُلاحظ أن لك أسئلةً وملاحظات عجيبةً جدًّا هذه الليلة.

أحسَّ «تختخ» بالخجل وقال: هذا صحيح، وقد أشرح لك يومًا لماذا كل هذه الملاحظات … والآن حاول أن تتذكَّر أين نسيت «البايب».

كانت السيارة تدور إلى الكورنيش في طريق العودة، وظلَّ «إيبو» صامتًا يتذكَّر، وعندما وصلا إلى منزل «تختخ» قال «إيبو»: لا أذكر بالضبط يا «توفيق» … ولكني أُرجِّح أنني نسيته في شقتي السابقة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤