المقالة الثالثة والأربعون

كُتابنا١

يستغرب الباحث في طبائع العمران ما وصل إليه أهل المشرق عمومًا، والذين تجمعنا بهم جامعة الوطن والسياسة خصوصًا، من الخمول حتى أصبحوا على عاتق الاجتماع وقرًا، لو أُطلقت عليهم شريعة النحل لقُضي عليهم بالهلاك قتلًا؛ لأن النحل الجاني يقتل كل سنة النحل الذي لا يعود له نفع ويعيش على جني غيره، أتغيَّرت سنن الطبيعة، وضل العلم في تقريره سنن الوراثة؟ أم لسنا نحن نسل أولئك الذين بلغوا في معالم الحضارة القدح المعلَّى، فنبغ الفينيقيون حتى قبضوا بأيديهم على تجارة العالم، والمصريون حتى صاروا نبراس الأمم، يقصدهم الناس من الأقطار الشاسعة لأخذ العلم والفلسفة عنهم، واستنارت أفكار الفلسطينيين وسكان بادية العرب حتى قام منهم هُداة الأفكار، وسنُّوا الشرائع التي يخضع لها أكثر سكان المعمورة اليوم في معاملاتهم وعباداتهم؟ أو ما هو السبب:

حتى انقضت تلك السِّنونَ وأهلها
فكأننا وكأنهم أحلامُ

ولا نُقلِق راحة سكان القبور بالبحث عن أسباب ذلك فيما تقدَّم من العصور، بل نكتفي بإلقاء نظرنا إلى ما حولنا وقصره على جزء منا؛ فإن في ذلك تبصرة لقومٍ يعقلون، ونسأل أنفسنا لماذا لا ينبغ منا كُتابٌ شهيرون كما ينبغ في كل أمة؟ لأننا مع احترامنا للنزر اليسير من أصحاب الاستعداد الفطري الذين لو ساعدتهم ظروف الزمان والمكان لربما كانوا تمكَّنوا من إظهار مواهبهم إلى درجةٍ يتحدث بها الخاص والعام، وتُعيد لهم في عيون الغرباء ما كان لآبائهم من الشأن، لا يسعنا إلا الإقرار بأن لا كُتاب عندنا إذا ذُكِر كُتاب المغرب ذُكِروا معهم كأندادٍ يُنيرون الأفكار، ويستنزلون درر المعاني من سماء العقول حتى يُلقَطن باليد، ويسيرون شوطًا بعيدًا من دون أن تخور منهم القوى. والسبب بسيط إذا علِمنا أن الإنسان ابن الضرورة وصنيعة الحاجة؛ فالحاطب إنما يجمع الحطب لقومٍ يصطلون، والكاتب إنما يكتب لقومٍ يقرءون. الأول لا يستطيع أن ينتقل من حاطبٍ فقير يحمل الحطب على ظهره، إلى تاجرٍ تعظم ثروته وتتسع تجارته، إن لم يجد من يشتري حطبه. والثاني لا يستطيع أن يصير كاتبًا مُجيدًا إن لم يجد من يقرأ كتبه.

فالشرق في تأخُّر عظيم من حيث انتشار العلم، وعدد الذين يقرءون فيه القراءة البسيطة فقط شيءٌ لا يُذكر، فلمن يكتب هؤلاء الكُتاب؟ وكيف تحسن حالهم لتُجيد قرائحهم ويتفرغون للاستفادة والإفادة؟ وهم لو تفرَّغوا لذلك لطوَاهم الفقر قبل أن يطويهم القبر، وهذا ما حملنا على التنبيه في مقالتنا «أ ب ت ث» إلى وجوب نشر التعليم، وشدَّدنا فيها النكير على الحكومة وأعيان الأمة بكلامٍ أقرب إلى التقريع، بعيد عن الالتماس لاعتقادنا أن فيما نُنبِّه إليه قوة لا ينالونها بدونه، وفخرًا تتباهى سائر الأمم بمدِّ يد السبق إليه. أليس ما تراه من افتخار كل أمة بكُتابها، وإقامة التماثيل لهم بعد موتهم بمئات السنين، من الدليل المُقنِع على ما لهم من اليد في تشييد معالم فخرها وإحياء ذِكرها؟ ولا يَثنينا عن ملامنا أعذارٌ يلتمسها بعضهم للحكومة تُخفف من مسئوليتها، كعدم وفاء عدد المُعلمين اللازمين لنشر التعليم بالسرعة التي طلبناها، وما إخاله يراها مُتفانيةً مُتهالكة في سبيل هذه الدعوة.

ومن الأسباب القاضية على نبوغ الكُتاب في المشرق سلوك حكومتهم معهم؛ فقد تعوَّدت الحكومة أن تنظر إلى هذه الطائفة كأنها من الآفات التي ينبغي مقاومتها أكثر من تنشيطها، لا تُميز غثَّها من ثمينها. ولعل السبب عدم مقدرة كثيرين من الحكام على معرفة ما لها من الأهمية، وما لكبارها من النفع في رفع شأن الأمة، وما مِثل أكثرهم إلا مثل ذلك الوزير الذي طُلب إليه أن يُنشط بعض المشروعات العلمية، فأجاب أن مشروعك إن كان منه فائدة فهو ينجح من نفسه. وعذره واضح؛ إذ لا يعرف قدر الشيء إلا ذووه. فمهما أجاد الكُتاب في حكومةٍ هذا شأنها، ومهما أظهروا من الاستعداد لأن يكونوا من النوابغ؛ فلا يُصادفون إلا إعراضًا منها يحملهم على أحد أمور ثلاثة؛ إما كسر القلم، وإما تحديده ضدها، وإما إذلاله لها. الأول يختاره أكابرهم، والأخير يعمد إليه ضعافهم حتى ينحطَّ مقام الكتابة بهم. وأبلغ من ذلك في الإساءة تخريب ذِمم الكُتاب ومُشتراهم بالمال، لا مُشترى قلمهم ومواهبهم لنفع الأمة، بل مُشتراهم ليكتبوا غير ما يفتكرون، أو يصمتوا عما يعتقدون. والنتيجة من ذلك في كلا الأمرَين قتل الأفكار، وإفساد الأخلاق، وموت الكُتاب الذين يُفتخر بهم، وما وُجدت الحكومات لمثل هذا.

نعم إن غرض الحكومات من ذلك إنما هو كفُّ الأقلام عن توجيه المطاعن ضدها، ولو علِمت أن هذا السبيل إنما هو السبيل الوحيد الذي يفتح الباب واسعًا لهذه المطاعن، لأنه إذا «مات منهم طاعنٌ قام طاعن»؛ لعدَلت عنه إلى السبيل القويم الذي يُكسِب البلادَ إصلاحًا والحكومةَ اعتبارًا، وهو تنشيط الكُتاب الذين يدل استعدادهم على نزاهتهم وسمو مداركهم، والإصغاء إليهم حتى يقتدي بهم سواهم ممَّن يجد أن الاقتداء بهم أبلغ لنيل المجد والمنفعة، لا إفسادهم لإفساد غيرهم بهم. فلو سلكت الحكومة هذا المسلك لقلَّ الطاعنون عليها طعنًا يُقصد منه التهويل أكثر من الإصلاح بسبب سياستها التي ليس فيها شيء من الحكمة، ولنَبغ الكُتاب المشاهير الذين يرفعون شأن الأمة ويشيدون فخارها. فالفخر في إحياء هذه المواهب، لا بإطفاء نورها وهم يحسبون أنهم يتَّقون نارها.

١  نُشرت في البصير سنة ١٨٩٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤