الجزء الأول

في تاريخ القسطنطينية وأصل الأتراك

إن مدينة القسطنطينية كانت في ما غبر من الأعصار القرية الأولى بين قرى طراشيا — أي طراسة — التي هي الآن قسمٌ من بلاد الروملي في أوروبا، وكانت تُسمَّى ليغوس، وهي قاعدة بلاد الترك في أوروبا وكل المملكة العثمانية، أسسها بيزاس، وكانت تدعى قديمًا البيزنتيوم — أو بيزانس — باسم موسعها، وذلك سنة ٦٥٦ق.م، ويسميها الأتراك استنبول، والمتعارف في التاريخ — وهو الأشهر — أن أول من أسس هذه المدينة بيزنس رئيس الماغربين، فقيل لها بزنطية، وذلك قبل التاريخ المسيحي بألف ومائتي سنة، وكانت القسطنطينية مختصة بالملك داريوس هستاسيوس — أحد ملوك الفرس المعروف بداريوس الأول ابن الأمير هسناسب من سلالة تشمشيد من عائلة وجيهة في مدينة باسراكاد الكائنة في قارة آسيا القديمة — وهي كانت محل أعراش الملوك الأقدمين، وقد بنى باسراكاد الملك شيروس من ملوك الفرس فداريوس المشار إليه، تولى تخت الملك سنة ٥٢١، ومات سنة ٤٨٥، وذلك قبل المسيح، ثم استولى على القسطنطينية أهل يونيانس الذين هم أحد الأقسام الأربعة في شعب هالان، وهو جنس يوناني قديم من أحد عشر إلى خمسة عشر جيلًا قبل المسيح.

وبعد ذلك استولى على القسطنطينية الملك أكسرخوس الأول — وهو الخامس من ملوك الفُرس قبل المسيح — من أربعمائة وخمس وثمانين سنة إلى أربعمائة واثنتين وسبعين سنة، ثم خلفه في الملك على القسطنطينية أهالي مدينة سبارط، وهي مدينة من بلاد المورة، وقاعدة بلاد لاكونيا، وكان تأسيس هذه المدينة في سنة ١٨٨٠ق.م، والسلطان محمد الثاني استولى على سبارط المذكورة سنة ١٤٦٠ب.م، وخربت في الجيل الثالث والثلاثين من تأسيسها، بعد أن كانت مقرَّ حكومة بلاد المورة، وإلى الآن لم يزل لها آثار قديمة. ثم بعد استيلاء أهالي مدينة سبارط على القسطنطينية كما مرَّ، خلفهم في الاستيلاء على القسطنطينية أهالي مدينة أثينا، فهذه المدينة والتي ذكرناها — أي سبارط — قد وقع النزاع والقِرَاع سابقًا بينهما على تملك القسطنطينية، وبقي ذلك الحال زمانًا طويلًا. أما أثينا المذكورة، فهي قاعدة قديمة لبلاد أتيكا، وأتيكا هي بلاد اليونان قديمًا، وقيل إن أثينا تأسست سنة ١٦٤٣ق.م، وإن مؤسسها إنما هو شيكروب الذي ضمته إليها قبيلة مهاجرة من قبائل مصر، وأصل شيكروب من بلد «صا» في مصر.

وأما القسطنطينية فقد استقلت حينئذٍ وصارت معدودة ذات قوة بين القوات البحرية، وهي تُعدُّ من المدن سُمع لها وقعٌ كبير، وعرف لها شأن خطير في القِدَم، وتاريخها يستدعي النظر والاعتبار. ثم بعد هذا الاستقلال حصرها فيليب ملك مكدونيا، ولم يمكنه امتلاكها، وهو أبو إسكندر الكبير المدعو الملك فيليب الثاني الكبير ملك مكدونيا، الذي هو ابن أمنيتاس ثامن ملوك مكدونيا المدعو أيضًا أمنيتاس الثالث، ولد سنة ٣٨٣ق.م، ومات مذبوحًا من بوصانياس سنة ٣٣٦ق.م، وخلفه ابنه الأكبر الملقب بإسكندر الكبير، وكان حصار فيليب المشار إليه للقسطنطينية على غير طائل البتة، ثم اتحدت القسطنطينية مع الرومانيين، وساعدتهم في مدة حرب ميريادِتْس ملك البنطس الملقب بالكبير، وكان عدوًّا ألدَّ للرومانيين شديد الإحنة والحقد عليهم، فكان جزاؤها على اتحادها أن أُفيزت بالاستقلال التام، وذلك تحت ظل حكومتهم، وفي الجيل الأول عادت مثل طراشيا مرتبطة ومتعلقة في المملكة، وفي سنة ١٩٣ب.م اشتهرت القسطنطينية تحت إمرة الجنرال الروماني المدعو بسينيوس نيجار، وفي عهده حاصرها مدة ثلاث سنوات الملك سبتيم سافار، وهو أحد ملوك الرومانيين، أصله من مدينة لبتيس — من أعمال أفريقيا — فأمكن له أن يستولي عليها، فعاجلها بالدمار. ثم تجدد بناؤها بعناية الملك كاراكلا — أحد ملوك الرومانيين الذي ولد في مدينة ليون سنة ١٨٨ب.م، وهو ابن الملك سبتيم سافاروس المتقدم ذكره — وقد أُقيم ملكًا سنة ٢١١ب.م.

وفي سنة ١٩٦ب.م كانت القسطنطينية تحت تسلط الملك غاليان وخلفائه، الذي هو أحد ملوك الرومانيين ابن الملك فالاريان، ولقد تولى غاليان سنة ٢٥٣ب.م، وقتل تجاه مدينة ميلان من إيطاليا سنة ٢٦٨ب.م، وأبوه الملك فالاريان المذكور قد ولد سنة ١٩٠ب.م، ولم تحصل القسطنطينية على رونقها إلا في زمن الملك قسطنطين؛ الذي أكمل ترميمها في الجيل الرابع سنة ٣٣٠ب.م، أي بعد أن تبوأت اليونان أرضها، وهي كانت مبنية على سبع تلال، وسميت قسطنطينية نسبةً إلى الملك قسطنطين الكبير المشار إليه المدعو قسطنطين البالبولوغوس، وهو قسطنطين الأول الملقب بالكبير ابن الملك قسطنطين من زوجته الملكة هيلانة، الذي مات سنة ٣٠٦ب.م، بعد ما خلَّف قسطنطين الكبير المذكور سنة ٢٧٤ب.م، فمات قسطنطين الكبير هذا سنة ٣٣٧ب.م، وكان له ثلاثة أولاد: وهم قسطنطين، وقسطنسوس، وقسطان، ولقبها فروق؛ لأن فيها تفرقت القياصرة غربًا وشرقًا، فأقام هو في هذه المدينة، وتملَّك على الرومانيين في المشرق، وجعل هذه المدينة تخت قيصريته وقاعدة مملكة الرومانيين، فصارت كرسيًّا لملوك الشرق، وما لبثت أن فاقت على مدينة رومية التي كانت وقتئذٍ أم المدن بعظيم بنائها وكثرة شعبها وغناها واتساع تجارتها، حتى إنها بارتها وفاضلتها أيضًا بقدمية الآثار المشهورة.

وفي سنة ٤١٣ب.م حدث فيها زلزلة؛ فدكتها وصيرتها قاعًا صفصفًا، واستمرت حتى بناها الملك تاودوسيوس الثاني مرة أخرى، وفي سنة ٥٥٧ب.م حدثت فيها أيضًا زلزلة عظيمة؛ فخربت ثانيةً بمدة الملك جوستنيان، أحد ملوك الشرق الذي تولى فيها ومات سنة ٥٦٥ب.م، ثم جدَّد بناءها، وأعادها أحسن مما كانت سنة ٦٥٨ب.م، قبيلة من مدينة أركوس. وأركوس هي مدينة من بلاد اليونان القديمة، كانت أسكلة بحرية للمورة، ولما انتصر البرابرة وتسلطوا علي المملكة الغربية، فجُزِّئَتِ المملكة الرومانية سنة ٣٩٥ب.م، وكانت هذه المدينة قاعدة للمملكة الشرقية، أي أن ابتداء مملكة بزنتيا كان سنة ٣٩٥ب.م — كما ذكرنا — وانتهاؤها سنة ١٤٥٣ب.م، والبرابرة في الأعصر الخوالي كانوا قبائل غربية مختلفة في أوروبا، تُدعى الأمم ذات الخشونة، وهم الهونيون والغوطيون والونداليون والبورجيون؛ الذين كانوا يسكنون الأقاليم الواسعة في شمالي أوروبا، والنورمانديون والغاليون نسبةً إلى غالة فرنسا القديمة، واللومبارديون ومن شمالي جرمانيا ومن أقاليم مختلفة من ألمانيا ومن الشمال الغربي من ولايات آسيا وغيرها، فهؤلاء جميعًا كانوا أقل تمدنًا من اليونان والرومانيين، وكانوا يشنون الغارات على كل أقسام المملكة الرومانية، ويتقاطرون من أقاليم مختلفة؛ لينتقموا من الرومانيين جزاءً لهم على سوء عملهم مع الناس، ولم تدخل أصلًا في حوزة الرومانيين، بل كانت مشتتة في تلك الأقاليم الواسعة الواقعة في شمالي أوروبا وفي الشمال الغربي من ولايات آسيا، وهي الآن مأهولة بالدانيمرقية والأسوجية واللاهت والروسية والتتر الذين لم يُعرف لهم تاريخ قبل هذه الغزوة في المملكة الرومانية، ومنتهى ما نعرف بخصوصهم إنما هو ما روي عن الرومانيين، ومن حيث إن الرومانيين لم يتوغلوا داخل تلك البلاد العقيمة، التي لا ينتج فيها زرع، فلم يوردوا لنا عنها إلا تفاصيل ناقصة جدًّا، تتعلق بأحوال تلك الأمم القديمة التي كانت تقطنها، وكانت هذه الأمم سالكة طريق التوحش والبربرية، لا تعلم شيئًا من الفنون والكتب، ولم يكن لها زمن ولا رغبة في البحث على الوقائع الماضية، وربما كان لها إلمام بذلك في كونها تتذكر بعض وقائع حادثة، وأما الأزمنة الخالية فأغفلت عندهم نسيًا منسيًّا، وربما موَّهوا عنها بحكايات وخزعبلات باطلة، وزيفوا تواريخها بالبسابس والترَّهات، وكثر عدد هؤلاء الأمم الخشنة الذين تغلبوا بالتعاقب على المملكة الرومانية من ابتداء القرن الرابع إلى وقت سقوط مملكة الرومانيين، وكان اليونان والرومانيون بذلك الوقت يُحسبون في عداد الشعوب الأولى في العالم، وكانوا يدعون القبائل التي لا تعرف لغاتهم ولا شرايعهم وقوانينهم وآدابهم برابرة.

ولقد تواترت على مدينة القسطنطينية دهمات الملوك، فحلَّ بها الخراب مرارًا، وتتابعت عليها الحروب، فأغار عليها الدول من التتر والأعاجم وأهل البلغار والصليبية وغيرهم، ولقد كابدت شدة الحصار مرارًا، وقاست غزوات هائلة، فشملها النهب والسلب والخراب المرة بعد الأخرى، ثم لم تطل المدة حتى حُصِرت القسطنطينية ولم تؤخذ، فأول من حاصرها هم القبائل غير المتحدة، وهم من التتر وخلافهم، وذلك سنة ٥٩٣ب.م، ولم يمكنهم أخذها، ثم حاصرتها القبائل المتحدة مع الفرس سنة ٦٢٥ب.م، وهذه القبائل من متحالفة وغير متحالفة هنَّ قبيلتان، أصلهما من التتر، ظهرتا في غربي شاطئ نهر الدون من بلاد الروس سنة ٥٥٧ب.م، وكفى بما أسلفناه من القول في أصل جميع هذه القبائل. ثم حاصر العرب القسطنطينية من سنة ٦٧١ إلى سنة ٦٧٨ب.م، وهم الذين أغاروا على إسبانيا سنة ٧١٢ب.م. ثم حاصرها البلغار سنة ٧٥٥ب.م، والبلغار هم شعوب قديمة كانت على شطوط نهر فولكا في بلاد الروس، وفي الجيل الثامن ب.م فشا في القسطنطينية علة الوباء واشتدت، فكان عدد من ماتوا فيها ثلاثمائة ألف نفس، ثم حاصرها شعب يدعى فاريك سنة ٨٦٦ب.م — وهو شعب نورمانديٌّ أتى من بلاد ناروج — ثم عقبه الصليبيون، واستولوا على القسطنطينية سنة ١٢٠٣، وأقاموا عليها ملكًا؛ الملك ألكسيس الرابع ابن إسحاق الملاك الملقب بألكسيس الصغير، وكان عمهُ ألكسيس الملاك قد طرد أباه إسحاق الملاك وأودعه السجن سنة ١١٩٥ب.م، فأنجاه من السجن ولده ألكسيس الرابع المذكور، وجعل لأبيه إسحاق الملاك حظًّا في المُلك، فألكسيس الملاك ملك القسطنطينية تعاصى على أخيه إسحاق الملاك المرقوم، وانتزع من يده الملك سنة ١١٩٥ب.م، ودام له الملك حتى خلعه منه ابن أخيه ألكسيس الصغير — المار ذكره — سنة ١٢٠٣ب.م كما تقدم، فتولى ألكسيس المومأ إليه مدة ستة أشهر فقط، ثم قلبه عن تخت الملك وخلفه ديكاي مرتزفل المدعو ألكسيس الخامس.

ثم عاد الصليبيون ثانيةً، وأخذوا القسطنطينية في السنة الثانية تحت راية الملك ديكاي مرتزفل المذكور، وإذ ذاك استقر الصليبيون وأقروا القسطنطينية على حال واحدة، وأسسوا فيها المملكة اللاتينية، وكان جلوس ديكاي مرتزفل على كرسي الملك سنة ١٢٠٤ب.م؛ أي في السنة الثانية بعد خلع الملك ألكسيس الرابع الصغير، وكانت مدة حكم ديكاي المشار إليه أشهرًا قليلة؛ حيث قَلَبَهُ الصليبيون عن منصب الحكم، وولوا عوضه بودوان أمير مقاطعة قديمة في فرنسا تدعى فلاندر، وهذا الأمير كان قائد جيش الصليبيين، وفي سنة ١٢٦١ب.م حضر الملك ميخائيل بالولوغوس الثامن — ملك مدينة نيس «من أعمال إيطاليا» — واستولى على القسطنطينية بغتةً، وصعد عرش المملكة الشرقية واستوى، وهذا الملك هو من أوجه العائلات في الشرق، تولى أولًا مدينة نيسا «مدينة من بلاد الأناضول»، وهو سلطان مملكة البالولوغوس، والبالولوغ هي عائلة شريفة، خرج منها عدة ملوك وتولوا القسطنطينية، فمات الملك ميخائيل سنة ١٢٨٢ب.م؛ إذ كان يجهز عساكره على طراشيا التي يدعونها الآن روملي، فالصليبيون هم الذين اكتشفوا البوصلة — أي بيت الإبرة — التي صارت بها حالة الملَّاحين إلى الأمن والطمأنينة، وسهلت المعاملات بين الأمم البعيدة، فكأنها قرَّبت الناس بعضهم من بعض، وبعد ذلك كله هجم على القسطنطينية مرارًا عديدة السلطان أورخان سنة ١٣٣٧ب.م، والسلطان بايزيد، والسلطان مراد الأول. أما السلطان أورخان فقد أخذ عدة مدن عنوةً في جملتها مدينة نيسا، التي عقد فيها مجلسان آنفًا «وهي من بر الأناضول». أما استيلاؤه على هذه المدن، فإنه كان سنة ١٣٣٣ب.م، وقد سلب ما في ضواحي الأستانة سنة ١٣٣٧ب.م، وسنَّ شرائع المملكة ورتب القوانين. أما السلطان مراد الأول فقد أتم تحصيل المملكة سنة ١٣٦٢ب.م، وأحدث طريقة الانكشارية المعروفة بالوجاق «وسيأتي بيان وقت ولادتهم وجلوسهم على تخوت الملك، إلى غير ذلك في الجدول المدرج في هذا الكتاب.»

وأخيرًا أخذتها الدولة العلية من يد الدولة الرومانية، وكان ذلك الفتح المبين في التاسع والعشرين من شهر أيار سنة ١٤٥٣ب.م، الموافق للعشرين من جمادى الأول سنة ٨٥٧، تحت راية السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح، ويكنى بالأكبر، ولد في مدينة أدرنة سنة ١٤٣٠ب.م، وخلف أباه السلطان مراد الثاني، الذي توفي في مونيزيا سنة ١٤٥١ب.م، وقد حاصر أيضًا السلطان محمد بلغراد، واستولى على قونتة، وضرب أداء الجزية على بلاد مورة، وفتح مدينة طرابزون سنة ١٤٦٢ب.م، التي فيها كانت نهاية دولة الروم، وفتح غيرها من المدن، وأغار سنة ١٤٧٠ب.م على جزيرة اغربوزة التي يقال لها في بعض الكتب العربية نقر بنت، واستولى على قاعدة مدنها، وبعد ذلك بعشر سنوات أرسل أسطولًا من البوارج الكبيرة إلى جزيرة رودس، ففرقت من سطوته بلاد إيطاليا وبلاد أوروبا وآسيا، ولم ينقذها منه إلا موته؛ فإنه كان يضاهي إسكندر الكبير، وكانت وفاته سنة ١٤٨١ب.م، ومدة ملكه إحدى وثلاثين سنة، وعمره إحدى وخمسين سنة.

وهذا السلطان المشار إليه هو من خلفاء السلطان عثمان الغازي بن أرطغرل — أول سلطان في المملكة التركية — وإليه تنتهي سلاطين آل عثمان ودولتهم العثمانية المعظمة، الذي استولى على جانب عظيم من آسيا الصغرى سنة ١٣٠٥ب.م، وجعلها تخت السلطنة، ولقد أفصح المؤرخون بقولهم إنه من حين بنى القسطنطينية الملك قسطنطين الأكبر إلى ذلك الوقت؛ أي حين فتحها الأخير كما ذكر، قد حُصِرت تسعًا وعشرين مرة، وأُخِذت سبع مرات، وفي المرة الأخيرة أخذها حضرة السلطان المشار إليه وضمها إلى المملكة، وتقررت هذه المدينة حينئذٍ على وجه قطعي، وصارت قصبة المملكة، فالقسطنطينية لها وقع عظيم في التاريخ الكنايسي، وليست هي الآن من موضوع كلامنا. أما المراد بالانكشارية على ما مرَّ من ذكر هذه اللفظة قبلًا، فهو أن لفظ انكشارية تركي معناهُ العساكر الجديدة، وهو وجاق جعله السلطان مراد الأول سنة ١٣٦٢ب.م، زهو السلطان الثالث في الدولة العثمانية، وقد أكمل ترتيب هذا الوجاق السلطان بايزيد الأول سنة ١٣٨٩ب.م، فإنشاء هذا الوجاق أولًا على الوجه الآتي: فإن السلطان مراد الأول أراد أن يحدث وجاق من العساكر لخدمة نفسه؛ ليكون حرسًا لهُ وخفرًا، فأمر ضباطه بأن يأتوا إليه كل سنة بخمسة من الشبان الذين يُؤخذون أسرى في الحرب توصلًا تمام مراده؛ إذ إن ذلك آيل لمصلحة الدولة، فجرت العادة منذ ذاك الحين بأن تقدَّم له الأولاد الأسارى، فيربيهم ويدربهم على أصول دين الإسلام، حتى تعهدوا من صغرهم الطاعة والضبط والربط والتدرُّب على الطريقة العسكرية، وكان لهم جانب عظيم من الشجاعة، ثم جعل منهم طائفة سميت الانكشارية، سرَت فيها الغيرة الدينية والحميَّة الإسلامية، فخصصها السلطان بأسنى علامات الشرف التي ينعم بها الملوك على من شملوهم بالتفاتهم الخاص، فكان هذا سببًا في تقوية هذه الطائفة في أصول الجندية وإغرائها بحب الفخار والقتال؛ فعَلَا شأنها، وارتفع مقامها، وصارت في عاجل الحين أعظم العساكر العثمانية، وكان ذلك مدعاةً لنجاحهم وانتصارهم، فاشتهروا بالبسالة والامتياز عن جميع الوجاقات التي كانت معدة لخفارة ذات السلطان، وعادوا يبذلون جهدهم في خدمة السلاطين، حتى صار السلاطين يراعون وجاقهم ويعاملونهم أحسن معاملة، وكان وجاق الفابوكلي — يعني خفر باب السلطان — هو المهاب في الدولة الذي يخشى بأسه السلطان ووزراؤه، وحينما عبأ السلطان مراد الأول المشار إليه فرقة من هؤلاء العساكر، بعثها إلى الحاج بكتاش — وكان من الأولياء، واشتهر بالمكرمات والإنباء بالغيب — وأرسل إليه راجيًا منه أن يسمي هذا الجيش الجديد باسمٍ خاص، وينشر عليه لواءً، ويسأل الله تعالى نصرته في الغزوات، فلما مَثُلَتْ تلك العساكر بين يديه، وضع كمه على رأس أحد رؤسائهم، وقال: فليدعوا بالانكشارية، وأخذ في الدعاء لهم، فقال: اللهم اجعل لهم الشوكة دائمًا أبدًا، وكللهم بالظفر سرمدًا، واجعل نصالهم قاطعة، وسنانهم على هامات أعدائهم لامعة، واجعلهم في كل جهة مسرورين، ورُدَّهم آمنين فرحين، فكان عددهم في الأصل ستة آلاف عسكري، وهذا العسكر مؤلَّف من عسكر بيادة، وكان ينظم في سلكه أشدُّ الرجال، وأخيرًا زاد عددهم فبلغ في أيام السلطان اثني عشر ألفًا، وذلك سنة ٥٢١م، ثم أخذوا في الكثرة من ذلك الوقت، وكانوا يشتهرون بالبراعة العسكرية، وينتصرون في الحرب، حتى صاروا أقوياء، فتعاصوا على السلاطين، وكانوا قبل تعاصيهم مخوفين، يأتون أعمالًا منكرة، ففعلوا في القسطنطينية أفعال العساكر البريطوريانية في مدينة رومية، فانحط وجاقهم عن درجته؛ لمساوئهم وفعائلهم المستهجنة، فتحصنوا في القسطنطينية في شهر حزيران سنة ١٨٢٦ للميلاد.

وكان أول من أبطل وجاقهم السلطان محمد الثاني الملقَّب بالفاتح، بعد أن تأتَّى عليهم خَطْبٌ عظيم، وذُبحوا في القسطنطينية، حتى في نفس آت ميدان وما بقي منهم جُدَّ في آثارهم، فأُدركوا في الولايات وباقي حدود المملكة، ثم إن أول من سنَّ أحكام العسكرية في الدولة العثمانية المرحوم السلطان سليمان، الملقَّب بالسلطان الفاخر، ويُعرف عند الترك بالقانوني، وهو الذي رسم بجعل الخزائن على مثال منتظم؛ هذا ما قرره المؤرخون، وأن الدولة العثمانية العلية كان لها في زمن شرلكان ارتباط وعلاقة مع دول أوروبا، وأنها كانت تتداخل غالبًا تداخلًا جامعًا بين السطوة والبأس. أما منشأ الأتراك فهو من تركمانيا، التي هي قسم من بلاد التتر في نواحي بحر الخزر، وهنا محلٌّ لأن نبسط الكلام في أصل الأتراك وأصل الدولة العثمانية الطاهر وفقًا لأقوال المؤرخين؛ فقد قيل إن الأقاليم الجنوبية التي هي أخصب بلاد آسيا، لا بد أن يفتحها عدة مرات الأمم أهل القوة والشجاعة الذين كانوا يسكنون بلاد تتارستان الفسيحة، فمن هؤلاء الأمم طائفة تُسمَّى بالترك، ويُقال لها أيضًا أُمة التركمان، جاءت مع رؤسائها مرارًا عديدة، وفتحت البلاد بالتتابع من سواحل بحر الخزر إلى بوغاز الدردانيل «وهو بوغاز إسلامبول»، وفي أثناء القرن الخامس عشر فتح هؤلاء الشجعان ذوو السطوة والحماسة مدينة القسطنطينية، وتغلبوا على الروم، وهم اليونان، وعلى الأفلاق والبغدان وغيرهما من بلاد الروملي، وعلى مقدونيا، وعلى قسم من بلاد المجر، وبلاد البارستان إنما هي بلاد التتر، وكانت في القرن الثاني عشر أرحب الممالك وأعظمها شوكة؛ وذلك لأن الإمبراطور جنكيزخان جمع قبائل التتر وجعلها عصبةً واحدة، فقويت بذلك شوكته، وتغلب على بلاد الصين وبلاد العجم وجميع بلاد آسيا من بحر الأسود إلى بحر الهند، ثم تغلب خلفهُ على بلاد الموسقو وبلاد بولونيا وجزء من بلاد ألمانيا، ولو لم يدرك الفشل هذه القبايل، لاستدركت على بلاد أوروبا قاطبةً، ومن رواية بعض المؤرخين أن التركمان في الأصل تتر، جاءوا من بلاد التتر وشمالي بحر الخزر، وقال آخرون: إن التتر اسم لعدة قبايل مختلفة، كل قبيلة منها تسمى باسمٍ يخصها دون غيرها، إلا أنها متفقة بالأخلاق وبالعادات، ولهم مهارة في ركوب الخيل، ولما انقرضت الدولة الرومانية غادروا صحاريهم، وانتشروا كالجراد في الأقطار؛ فمنهم من تغلب على بلاد أوروبا، وهم الهونيون، ومنهم من استولى على بلاد العجم ثم على معظم أناطولي، وبعد ذلك تغلب على مدينة القسطنطينية التركمان كما ذُكر.

أما التتر منهم فهم قومٌ رُحَّل، وقيل إنهم نزلوا في خراسان، وتزوجوا من نساء تلك البلاد، فأُنتج من ذلك جنس يُسمى عند الفرس تركمان؛ أي شبيه بالأتراك، مع أن الحجري قال في تفسيره (عدد ٢ ص١٠ من سفر التكوين): إن من توغرما بن يافث بن نوح قد تناسل الأتراك الذين يسمون تركمانًا أيضًا، ولذلك يُسمِّي اليهود الآن ملك الأتراك توغار، ومما جاء أيضًا بالتاريخ عن التتر وأصلهم أنهم من مدينة شيتوبولي، مدينة في فلسطين، وقد سماها القوم الشيتيون باسمهم لما هاجموا فلسطين في عهد يوسيَّا بن آموص ملك يهوذا، والشيتيون: هم من التتر الذين سُمُّوا هكذا من بقعة نهر تتر على الأصح وسكانها، سُمُّوا سومنغلي؛ أي المغل المائيين، وكان اسم المغول علمًا عامًّا يتناول كل قبيلة كانت مؤلفة من طوائف شتى، كقول آتون براس ١٦ في التتر، واليونان قد دَعوا جميع القبائل التي كانت تسكن فوق جبل قوقاف داخل جبل إيما وخارجًا عنه، حتى إلى الأوقيانوس الشمالي شيتيين بلا فارق، وتُقسم شيتيا إلى ما داخل جبل إيما وإلى ما خارج عنه، وقد قام ملوك من هذه القبائل تولوا لا على هذين القسمين فقط؛ بل على الصين والهند والفرس وماديه وبين النهرين وسورية وأرمينيا والبنطوس والأناضول، وغيرها من الأماكن في آسيا وأوروبا أيضًا، وكان التتر قديمًا مذعنين لسلطة ملوك قطا؛ أي الصين الشمالية، التي يحدها غربًا تركستان، وجنوبًا الصين، وشرقًا أرض وبحر أيسون المعروف بدي ياسَّو، وشمالًا بلاد التتر الحقيقية، وهي قسم من ساريكا القديمة؛ أعني ما وراء الجبال الإيمودية، حيث تبتدئ تلك الأسوار الشهيرة، التي تفصل بين التتر وأهل الصين، وهم من نسل ماجوج بن يافث بن نوح، وأول من أسس مملكتهم في بلاد التتر الشرقية جنكيزخان سنة ١٢٠٣م، وكان يسمى تيمورشين؛ ومعناه في لغتهم حدَّاد، ولم يكن عندهم قبلًا أحرف للكتابة، فأخذوها عن الإيغوريين بأمر ملكهم جنكيزخان — المشار إليه — كقول ابن العبري في تاريخه السرياني وغيره من المؤرخين، والإيغوريون: طائفة من المغول، سُمُّوا كذلك من بلدهم يوغرا في شيتيا الشمالية التي انجلوا عنها، وحلُّوا في أصقاعٍ عديدةٍ منها أونغارية، أي المجر التي أخذت الاسم عنهم. وأما جنكيزخان، فمات سنة ١٢٣٨ب.م، وخَلَفه في المُلك أوختاي الذي يُسمُّونه قاآن، ومات سنة ١٢٤٦ب.م، وخلفه ابنه كويوك، وكان مسيحيًّا، ومات سنة ١٢٥١ب.م، وخلفه منغوخان بن توت بن جنكيز، وتنصَّر، ومات سنة ١٢٦٠ب.م، وخلفه قوبلاي، وتوفي سنة ١٣٠٢ب.م، فهؤلاء الذين تملكوا على بلاد التتر الشرقية.

وأما في بلاد التتر الغربية فوُلِّي هولاكو أخو منغو وقوبلاي المذكوران، وكان هذا مسيحيًّا، واستتبَّ له الملك فيها وفي العجم وبين النهرين وسورية سنة ١٢٥٦ب.م، ثم في بغداد سنة ١٢٥٨ب.م، ومات سنة ١٢٩٥ب.م، وعقبه ابنه أبغا، الذي توفي سنة ١٢٨٢ب.م، في مدينة همذان الكائنة في بلاد الجبل المسمى بالعراق العجمي أيضًا، وخلفه أخوه تاخودار، الذي مات سنة ١٢٨٤ب.م قتيلًا من أرغون بن أبغا أخيه، وأول من دخل في دين الإسلام من التتر تاخودار، فسُمي أحمد، وخلفه أرغون ابن أخيه أبغا، ومات سنة ١٢٩١ب.م، وقام عوضه أخوه كيغان، وتوفي سنة ١٢٩٥ب.م، وخلفه باياد بن ترغات بن هولاكو، وقتل سنة ١٢٩٥ب.م، وخلفه قازان بن أرغون، ومات من السم بقرب همذان سنة ١٣٠٣ب.م، وتملك بعده أخوه خربندا، ومنهم من يسميه خدابنده؛ أي عبد الله بالفارسية، وكان مسيحيًّا، اسمه نيقولاوس، ثم أسلم وسُمي محمدًا وغياث الدين، ومات سنة ١٣١٧ب.م، وملك بعده ابنه أبو سعيد، فأظهر السنَّة، ومات سنة ١٣٣٥ب.م، وخلفه ابنه حسن سنة ١٣٣٦، ومات سنة ١٣٥٦ب.م، وهو الذي أسس دولة التتر، التي يسميها العرب القانية، وبقيت بعده إلى سنة ١٤١٠ب.م، وكان من أملاكها العراق وماديا، ومركزها مدينة بغداد؛ لأن بعد موت أبي سعيد قد انقسمت بلاد التتر الغربية إلى دول عديدة، فأويس بن حسن تولَّى مملكة بغداد وأزربجان، من سنة ١٣٥٦ إلى سنة ١٣٧٤ب.م، وخلفه ابنه حسين، واستمر إلى سنة ١٣٨١، وتخلف أحمد لحسين أخيه، وسنة ١٣٩٢ب.م طرده من ملكه تيمورخان، المسمى تمرلنك؛ أي تيمور الأعرج، وهو ملك التتر — أي المغول — الذي اشتهرت وقائعه سنة ١٤٠٠ب.م في العجم والفرس والديلم والعراقين وطبرستان وأرمينيا والموصل والجزيرة وبر الشام، وغيرها في عهد الملك الناصر زين الدين فرج بن برقوق على الديار المصرية، وكان نائبه سودون في دمشق، فهرب أحمد إلى مصر وأقام فيها إلى سنة ١٤٠٤ب.م، وفيها توفي تمرلنك، وقال بعضهم سنة ١٤٠٥، فعاد أحمد إلى ملكه بغداد، وبقي فيه إلى سنة ١٤١٠ب.م، وفيها قتلهُ، وأولاده القرا يوسف ملك التركمان، وابتدأت منذ ذاك دولة التركمان بين النهرين والعراق وماديا والعجم، وتقسم إلى دولتين، إحداهما تسمى دولة السود من راية كانت لهم، وعليها تمثال آيلْ أسود، وكان أول هذه الدولة القرا يوسف المذكور ابن محمد سنة ١٤١٠ب.م، واستمرت إلى سنة ١٤٦٨ب.م، وفيها قُتِل حسن بك المسمى الأزُن قازان؛ أي حسن الطويل حسن علي بن إسكندر بن يوسف المار ذكره، والأخرى كانت تسمى دولة البيض من صورة آيل أبيض مرسومة على رايتها، وقد ابتدأت بحسن الطويل المذكور سنة ١٤٦٩ب.م.

وبقيت إلى سنة ١٥١٤ب.م، وفيها قتل مراد بك، أحد ملوكها من صوفي إسماعيل، مُجدِّد مملكة العجم الذي تولَّى خلفاؤه مملكة التركمان من سنة ١٥٢٣ب.م إلى سنة ١٦٣٨ب.م، التي فيها أخذ مراد الرابع سلطان الأتراك مملكتهم وضمها إلى المملكة التركية، التي هي أقدم من دولة التركمان المذكورة؛ لأن أولها السلطان عثمان بن أرطغرل، تملك سنة ١٢٩٨ب.م، كما قلنا آنفًا، وإليه تعزَّى سلاطين آل عثمان ودولتهم العثمانية المعظمة، ويُكنَّى بالغازي، وتوفي سنة ١٣٢٦ب.م؛ فخلفه ابنه أورخان، ونقل كرسيه إلى مدينة برسا، ومات سنة ١٣٥٧ب.م، وخلفه ابنه مراد الأول، ومات سنة ١٣٩٠ب.م، وخلفه ابنه بيازيد الأول، ومات سنة ١٤٠٣، وخلفه ابنه عيسى، وبعد سنة من ملكه تغلب على أخيه سليمان الأول بن بيازيد سنة ١٤٠٤ب.م، وقتل سنة ١٤١٢ب.م، وخلفه أخوه موسى، فتغلب عليه أخوه محمد الأول، وقتله سنة ١٤١٥ب.م، ونقل كرسيه إلى مدينة أدرنه، وهي أدريانو بولي التي هي طراسة، ومات سنة ١٤٢٢ب.م، وخلفه ابنه مراد الثاني، ومات سنة ١٤٥١ب.م، وخلفه ابنه محمد الثاني، وأخذ القسطنطينية من الملك قسطنطين البالبولوغوس سنة ١٤٥٣ب.م، ودرابزون سنة ١٤٦٢ب.م، التي فيها كان انقراض دولة الروم — كما ذُكر — ومات سنة ١٤٨١ب.م، وعقبه ابنه بايزيد الثاني، الذي حدث بمدته زلزلة في القسطنطينية سنة ١٥٠٩ب.م، في ١٤ أيلول لم يحدث مثلها من قديم الزمان، دكَّت ألفًا وسبعين بيتًا ومائة وتسعة جوامع وجانب عظيم من السرايا الملوكية وأسوار المدينة وعطلت مجاري المياه وغشي البحر البرَّ، وكانت أمواجه تدفق إلى فوق الأسوار، وبقيت هذه الزلزلة تتكرَّر مدة خمسة وأربعين يومًا، وأقام السلطان بايزيد المشار إليه أيامًا في خيمة ضُربت له داخل الجنينة، ثم توجه لأدرنه، وبعد أن انقطعت الزلازل، جمع خمسة عشر ألفًا من المعلمين والفعلة؛ لإعادة ما هُدم وإصلاحه.

وفي سنة ١٦١١ب.م مات من الوبا مئتا ألف نفس، ثم اعتزل المُلك ومات سنة ١٥١٢ب.م، فقام ابنه سليم الأول مكانه، ومات سنة ١٥٢٠ب.م، وخلفه ابنه سليمان الثاني، وتوفي سنة ١٥٦٦ب.م، وخلفه ابنه سليم الثاني، ومات سنة ١٥٧٤ب.م، وخلفه ابنه مراد الثالث، وتوفي سنة ١٥٩٥ب.م، وخلفه ابنه محمد الثالث، ومات سنة ١٦٠٣ب.م، وخلفه ابنه أحمد الأول، ومات سنة ١٦١٧ب.م، وخلفه أخوه مصطفى الأول، وبعد مُضي شهرين من ملكه خُلع ومُنع من الحرية المطلقة، وأقيم مكانه عثمان ابن أخيه، ثم خُلع من المُلك وأُرجع إليه مصطفى، فقتل عثمان ابن أخيه سنة ١٦٢٢ب.م، ثم خُلع مصطفى من الحكم وحُجِر عليه ثانيًا، وتنصَّب مكانه مراد الرابع أخو عثمان بن أحمد الثاني، ومات سنة ١٦٤٠ب.م، وخلفه أخوه إبراهيم، وقتل سنة ١٦٤٩ب.م، وخلفه ابنه محمد الرابع، وسنة ١٦٨٧ب.م نُزع من المُلك، وحُجز عليه، ومات سنة ١٦٩٣، بعد أن كان تنصب مكانه أخوه سليمان الثالث سنة ١٦٨٧ب.م، ومات سليمان الثالث سنة ١٦٩١ب.م، وخلفه أخوه أحمد الثاني، ومات سنة ١٦٩٥ب.م، وخلفه مصطفى الثاني ابن محمد الرابع، وخُلع من المُلك سنة ١٧٠٣ب.م، وفيها حُجِز عليه، ومات، وخلفه أخوه أحمد الثالث سنة ١٧٠٣ب.م، وخُلع وجُعل مكانه محمود الأول ابن مصطفى الثاني سنة ١٧٣١ب.م، ومات سنة ١٧٥٤ب.م، وخلفه عثمان الثالث أخوه، ومات سنة ١٧٥٧، وفيها عقبهُ مصطفى الثالث ابن أحمد الثالث، ومات سنة ١٧٧٤ب.م، وخلفه عبد الحميد أخوه، ومات سنة ١٧٨٨، وخلفه سليم الثالث ابن مصطفى الثالث، فقلبه الانكجارية عن كرسي الملك، وأجلسوا مكانه مصطفى الرابع ابن عبد الحميد سنة ١٨٠٧ب.م، ثم خلع، وتنصب عوضه محمود أخوه سنة ١٨٠٨ب.م، ومات سنة ١٨٣٨ب.م، وخلفه ابنه عبد المجيد خان، ثم توفي السلطان عبد المجيد سنة ١٨٦١ب.م، وخلفه بعد أيام قليلة أخوه السلطان عبد العزيز خان، وتوفي سنة ١٨٧٦، وخلفه السلطان مراد الخامس، وخلع بعد ثلاثة أشهر وثلاثة أيام، وخلفه حضرة السلطان المعظم والخاقان الأعظم أمير المؤمنين وخليفة المسلمين سيدنا ومولانا السلطان ابن السلطان عبد الحميد خان الثاني، ولد سنة ١٨٤٢، وجلس سنة ١٨٧٦، وهو المستوي الآن على عرش المُلك، أيَّد الله سرير سلطنته بالعز والإقبال ما تلت الأيام الليالي، ولقد قرر التاريخ معنى الأتراك والعثمانيين كما سيأتي موضحًا بالتفصيل، فقال: إن الأتراك هم عائلة عظيمة من أجناس تُدعى هند وجارماني، قد استوطنت زمانًا طويلًا في تركستان المستقلَّة، وفي الأماكن الواقعة على شمالي بلاد الصين، واختلطت بجنسٍ يدعى عند العامة تترًا.

والتتر: هم شعب أصله من بلاد تركستان المستقلة، والظاهر أنهم اختلطوا مع الأتراك، وكذا يُطلق لفظ التتر على أولئك الذين استوطنوا وسط بلاد آسيا، وكان ظهور التتر سنة ١٢١٨ب.م، ونكلهم في المسلمين، وتملكوا أكثر بلدانهم من العراق وما يليه إلى خراسان وبعض فارس، ومنذ القديم لم يكن التتر — كما ذكرنا آنفًا — قبيلة واحدة؛ بل عدة قبائل، قسمها آيتون في تاريخ التتر كتاب ١٦ إلى سبعٍ، لما تملك وانتصر عليهم جنكيزخان ملك المغول في الجيل الثامن عشر، وأدخلهم في عسكره، وقد يطلق اسم تتر على المغول أنفسهم، ثم إن للملك جنكيزخان — المار ذكره — غزوات شتى، لا حاجة إلى ذكرها هنا، ومعنى جنكيزخان: أي السلطان القادر، ولد سنة ١١٦٤ب.م، ومات سنة ١٢٢٧ب.م، ثم في سنة ١٢٩٩ب.م أمكن للتتر أن يستولوا على دمشق وغزة والقدس وبلاد الكرك وسائر الديار الشامية، وكان مَلكَهم حينئذٍ قازان بن أرغون بن أبغا بن هولاكو المسيحي صاحب المغول — كما ذكرنا قبلًا — ثم ترحَّلوا عنها إلى بلدانهم. ولنرجع الآن إلى ما نحن بصدده، فنقول بعد اختلاط العائلة التركية بالتتر، كما مرَّ، ذهبت في الجيل العاشر، وسكنت بلاد الفرس وآسيا الصغرى التي يدعونها برَّ الأناضول، ولقد لحق بهذه العائلة قبائل متحدة، وكانت تختلط غالبًا مع هذه القبائل التي كانت خاضعة لسطوتها. أما الأتراك فإنهم كانوا يجعلون في البلدان المغلوبة المضروبة عليها الذلة والاستكانة ولايات أو دولًا عديدة، أشهرها دولة تُدعى دولة الغزنوية، وهي دولة إسلامية تولت سنة ٢١٤ب.م على قسم عظيم من بلاد العجم وهندستان، ودولة الغزنوية المذكورة منسوبة لمدينة غزنا، قاعدة مملكة هذه الدولة «كذا في الأصل»، ويمكن القول إن مدينة غزنا داخلة في بلاد الفابول؛ أي الأفغانستان، وآخر ملوك هذه الدولة الذين لا محل لتعدادهم هنا هما خوسروشاه وخوسرو ملك. أما خوسرو ملك فانغلب ومات سنة ١١٨٩ب.م، وهو خاتمة هذه الدولة، وفي جملة من اشتهر في هذه الدول على ما مر دولة تُدعى السلجوقيين، ودولة تُدعى العثمانيين. أما السلجوقيون فهم دولة شرقية مشهورة، وأول من ملك عليها السلطان طوغرول بك، وهو أصغر أولاد السلجوق الذي قُدم من فيافي آسيا الواسعة من بلاد تركستان، وذلك في بدء الجيل الحادي عشر، وهو الذي أسس دولة السلجوقيين، وكانت له الرئاسة على هذه الدولة، والمراد بقولنا أصغر أولاد السلجوق الذي أتى من سهول تركستان، أن السلجوق أتى من تلك الصحاري، وهو أصغر أولاده؛ أي حفيده، فالسلجوق حينما أتى من هناك في أول الجيل الحادي عشر استولى على مدينة نيخابور مدينة في إيران يسمونها خراسان، وكان رئيس عشيرة وقبيلة من التركمان، وذلك في سنة ١٠٣٧ب.م، وفتح المملكة الغزنوية ومدينة بلخ من تركستان المستقلة ومدينة خوارزمي من تركستان الغربية ومدينة طابرستان، وهي أيالة في بلاد إيران. ثم تولَّى شعوب البويد من أصفهان العجم، والبويد هي دولة إسلامية، استولت على العجم والعراق في الجيل العاشر والحادي عشر، ثم تأتَّى له أن يكون سلطانًا على بغداد وأمير الأمراء ومصاهرًا للخليفة، ثم توفي طوغرول بك سنة ١٠٦٣ب.م، وكان له من العمر سبعين سنة، وخلفه سنة ١٠٦٤ب.م ابن أخيه السلطان المدعو قلب أرسلان؛ أي قلب الأسد الشجاع، الذي أخضع لحكومته بلاد كرجستان وبلاد أرمينيا وجزءًا من آسيا الصغرى وكل مملكة العجم، ثم خلفه ابنه ملك شاه المدعو جلال الدين، الذي رتب بما سَنَّه من الشرائع أكثر أقطار سورية وبعض أماكن في وسط آسيا، وذلك من سنة ١٠٧٢ إلى سنة ١٠٩٢ب.م، ولكن في سنة ١٠٧٤ب.م أنشأ ابن عمه السلطان سليمان بن قوطولميش دولة أو مملكة ثانية للسلجوقيين في مدينة قونية، وهذه المملكة هي التي صارت بلاد نيسا قاعدة لها مشتملة على آسيا الصغرى وسيليشيا وأرمينيا المسماة بلاد الروم، وعلى حلب والشام وأنطاكية والموصل.

ثم بعد وفاة الملك شاه المشار إليه ترتب للسلجوقيين ولايات أو مقاطعات، لكن دولتها أو سلطنتها هي أصغر وأحقر جدًّا من المملكتين المار ذكرهما. أما انقراض سلاجقة الفرس فإنه كان في سنة ١١٩٤، وآخرهم كان طوغرول الثاني، الذي هو آخر أمير من أمراء سلاجقة العجم، وهو الذي هزمه بعد ذلك سلاطين الخوارزمي، وفي رواية التاريخ أيضًا مزيد إيضاح عن ميخائيل بن السلجوق بأنه قد أتى بعشيرته من التتر إلى بلاد فارس وخراسان التي تأويلها بلغتهم بلاد الشمس، وأن طوغرول بك المذكور آنفًا هو أول أمرائهم، تسمى سلطانًا على بغداد سنة ١٥٠٦ب.م، وتملكها خلفاؤه، وامتد ملكهم من حدود الصين شرقًا إلى أناضولي غربًا، واتصل إلى سورية ومصر أيضًا، وفيها انقرضت الدولة الغزنوية، ثم انقسم ملكهم إلى مملكة إيران وقرامان، التي هي الآن قسم من مملكة إيران بين فارس غربًا، وبلوخستان وأفغانستان شرقًا، وسورية وقونية في آسيا الصغرى، وهي أعظمها.

وكانت مدينة قونية سابقًا محل إقامة سلاطين الدولة السلجوقية، وأنه قبل ميخائيل بن السلجوق كانت أنطاكية وسورية والقدس في حوزة الإسلام، إلى أن دهمها الإفرنج الصليبيون، واستولوا عليها، ودام استيلاؤهم عليها — أي على الديار الشامية — حتى سنة ١٠٩٨ب.م، وفيها تملكوا أنطاكية وما يليها، وكانت أنطاكية حينئذٍ خاضعة لسلطان بغداد برخياروق بن مالكشاه السلجوقي، وهو الثالث من ملوكهم في العجم سنة ١٠٧٣ب.م، وصاحب العراق وبلاد العجم الذي توفي سنة ١١٠٤ب.م، بعد أن عهد المُلك إلى ابنه جلال الدولة، ولما كان ابنه غير بالغ أشده، جعل وصيًّا عليه إياد المملوك في تدبير المملكة؛ فساء ذلك أخاه السلطان محمد، الذي كان قد اختبأ من وجه أخيه إلى بلاد أرمينيا، ورجع فقتل إياد المملوك، ودخل بغداد واستقام له المُلك، وخلع عليه المستظهر بالله الخلع السلطانية، وتلقب بغياث الدين، ومات سنة ١١٩٩ب.م في مدينة أصفهان من بلاد فارس الغربية وملك بعده ابنه أبو قاسم محمود، وهو منسوب إلى ميخائيل بن السلجوق كما مر، ومن قول المؤرخين بعد انقراض الدولة السلجوقية في خلال سنة ١٣٠٠ب.م، استظهر الأتراك العثمانيون حتى سادوا جميع آسيا الصغرى سنة ١٤٨٦ب.م، وأن الدولة الغزنوية منسوبة إلى غزنة إحدى مدن بلاد فارس الشرقية، وهي على ضفة نهر وحولها سور من حجر؛ لأن هذه البلاد كانت تابعة خلفاء بغداد إلى الجيل العاشر حينما عصى والي مدينة هراة الكائنة في الشمال الغربي منها، وانتقل إلى غزنة، وجعلها قصبة ولاية صغيرة، وبعد وفاته خلفه أحد مماليكه، وكان اسمه سبكتكن، وقويت شوكة مملكة غزنة في أيامه، وخلفه ابنه محمود سنة ٩٩٧ب.م، وهو أعظم ملوكها، وضم إلى ملكه خراسان الحاصلة على الحدود القديمة، التي كانت لبكتريا وما يليها، وتركستان هي التي كانت تحت ولاية الدولة الزمغانية — الآتي ذكرها — ثم انقرضت الدولة الغزنوية في سنة ١١٥٣ب.م، وعقبتها الدولة السلجوقية، وتملك غزنة محمد ملك خوارزم الكائنة في شمالي خراسان وشرقي بحر الخزر وغربي ما وراء النهر، ثم انقرضت دولة خوارزم حين أغارت عليها التتر تحت لواء جنكيزخان.

أما خوارزم فهي الآن من بلاد التتر المستقلة والنسبة إليها خوارزمي، ويحد بلاد التتر هذه المسماة تركستان أيضًا شمالًا سيبيريا، وشرقًا بعض سيبيرا والصين، وجنوبًا بعض الصين والأفغانستان وهراة وإيران، وغربًا بحر الخزر ونهر أورال، ويقسمونها إلى ثلاثة أقسام: الأول تركستان الجنوبية؛ أي الواقعة في جنوبي النهر المسمى عند العرب جيحون وهواكسوس المنبجس من جبال البلور ومصبهُ في بحيرة أرال، التي يصب فيها نهر آخر خارج من جبال البلور أيضًا، ويسمى نهر سير ونهر سيحون وهو يكسوت، وهذا القسم من تركستان يقسمه العرب إلى طغارستان وبزحشان الواقعة شرقي بلاد بلخ وبعض خوارزم، والثاني تركستان الوسطى، وهي الأراضي الواقعة في شمالي جيحون وفي وادي نهر سير المعروف ببلاد فرغانة، ويسميه العرب بلاد ما وراء النهر «أي نهر أكسوس» الواقعة شمالي بلاد بلخ، ومن مدنها بخارا، وكانت خاضعة لعدة دول منها: الصفارية والزمعانية والغزنوية والسلجوقية والخوارزمية، والثالث تركستان الشمالية المأهولة من قبائل رُحَّل من التتر والتركمان وخانات تركستان، المشهور منهم الآن ثلاثة، وهم: خان خيوى وخان بخارى وخان فرغانة، والجنس الساكن في هذه البلاد الآن يقال له يوزبك — كما سيأتي بسط الكلام عليه بالتفصيل إن شاء الله — ثم إن العائلة التركية قد تسلسل منها أجناس عظيمة وافرة متمائزة، وأكثرها بات قيد الانقراض، فلم يظهر له أثر البتة، وبقي منها بعض أجناس، وهي جنس يُدعى الغازار، وهو أمة أو شعب من الأتراك في أوروبا، أقامت على شطي نهر فولكا في روسيا في الجيل الخامس، وتقدموا لجهة الغرب عند ثورات الشعوب العظيمة، وقاتلوا القبائل ذات الخشونة وغلبوهم، ولهم تاريخ نقتصر عن إيراده هنا؛ حبًّا بالاختصار، وقد تنصروا في سنة ٨٥٨ب.م، ومعنى القبائل ذات الخشونة قد سبق بيانه قبلًا على وجه الإسهاب، وجنس آخر يُدعى «ويجور»، وهم شعب تتري من عائلة أوراليانية، كانت تسكن جبال أورال الفاصلة أوروبا عن آسيا، وهم أكثر شبهًا بالهنكاريين أو الهونوكور، قد ترحلوا من آسيا في أوروبا في الجيل الخامس من عصرنا ومن هذا الجنس ذاتِه؛ أي جنس الويجور خرج الهونكروا — وهم شعب في بلاد من النمسا — ثم جنس آخر تفرع من العائلة التركية يُدعى الهوبك، وبين الأجناس التركية الموجودة الآن تتميز الأجناس الآتي بيانها:
  • الأول: هم العثمانيون الأكثر تمدنًا من سواهم، وقد تولوا بلاد الترك في أوروبا وبلاد الترك في آسيا.
  • والثاني: التركمان في العجم والكابول، والكابول: هي مملكة في وسط آسيا واسعة، يحدها شمالًا مملكة هيرات أو خراسان الشرقية والتركستان، وشرقًا ساقس، وجنوبًا بلوخستان، وغربًا إيران.
  • والثالث: التتر من سيبيريا.
  • والرابع: بنو يزبك الذين تولوا وحلوا في تركستان، وهم فريق من عايلة تركية كان يقطن في آسيا شرقي البحر القزبيني منسوب إلى أحد ملوكه المشهورين، الذين استولوا على أكثر بلاد التركستان المستقلة وكثير من بني يزبك، انتفروا في غربي بحر قزبين والباقون منهم سكنوا بلاد الروس وطوبولسك مدينة في بلاد سيبيريا.
  • والخامس: الكرج المنقسمون إلى بوروتس وإلى القزق، والكرج: هم شعب من تركستان له استقلالية، خاضع لسلطة روسيا والبوروتس يتناول الكرج والقزق معًا.
  • والسادس: الياقوتيون والشوفاش، فالشوفاش هم قبيلة أو طائفة من بلاد روسيا من جنس الهون أو الفاتي، وأصلهم من بلاد روسيا، يُحسبون من الأمم الجافية في القديم، وسكناهم كانت على شطوط نهر فولكا في روسيا، ومن دينهم النصرانية في الجيل الثامن عشر، وكانوا يتعيشون من حرث الأرض والقنص، هذا ما جاء في التاريخ عن الأتراك. انتهى.
وأما العثمانيون، فهم فرع من قبيلة التركمان ينتمي إلى السلطان عثمان الأول مؤسس مملكة الترك، والتركمان: هم من أصل عظيم من عائلة تركية، انتشرت في بلاد الفرس ومملكة هيرات، وهيرات: مدينة في الأفغانستان، وهي قاعدة بلاد خراسان الشرقية موقعها في شمال غربي مدينة كابول البعيدة عنها على مسافة أربعة وستين ألف متر، وانتشرت أيضًا هذه العائلة في مدينة كابول المذكورة، وكابول: هي قاعدة بلاد الأفغانستان وفي بلاد تركستان المستقلة وفي جبل قوقاسيا الفاصل بين أوروبا وآسيا لجهة الجنوب الشرقي، ويمتد بين بحر قزبين والبحر الأسود وفي آسيا العثمانية على أنها لم تستولِ فقط على هذه البلدان؛ بل أدخلت في حوزتها أيضًا البلدان الثلاثة المذكورة، وهذا الفرع — أي آل عثمان — هو جنس ذو سلطة وشأن، ومن هذه العائلة خرج فروع ذات عدد عديد. أما السلطان عثمان الأول المشار إليه فإنه يُلقب بالغازي، ومولده كان في مدينة تدعى «صوقوط» من أعمال بلاد بيتانيا سنة ١٢٥٩ب.م، وبيتانيا: هي قسم واقع في جهة الشمال الغربي من بلاد الأناضول، والأناضول: هي بلاد من آسيا الصغرى، وآسيا الصغرى يسمونها أيضًا برَّ الأناضول، ويحد بيتانيا من الشمال بونطوس إيكسين؛ أي البحر الأسود، ومن الجنوب غلاطية، وغلاطية: بلاد قديمة من آسيا الصغرى، وفريجيا: وهي أيضًا بلاد قديمة من آسيا الصغرى، ومن الغرب البربونتيد؛ أي بحر مرمرا، ومن الشرق بافالاكونيا: وهي بلاد قديمة من آسيا الصغرى. ثم إن السلطان عثمان استوطن مدينة قونية في آسيا الصغرى وذلك سنة ١٢٩٩ب.م، وقد وسع المملكة بأن جعل فيها إيالات صغيرة متدانية بناها على آثار ورسوم المملكة القديمة، وبين تلك الإيالات والألوية السلجوقيون المارُّ ذكرهم الذين انقرضت دولتهم سنة ١٢٤٩ب.م، وعادت هذه البلاد بعد ذلك تُدعى قراحصار، وهي قرامانيا، وامتدت إلى البحر الأسود، وفي سنة ١٣٢٦ب.م توفي السلطان عثمان المشار إليه.

ثم من أخبار المؤرخين أيضًا ما مفاده يثبت صحة ما أوردناه هنا مما ذُكر بهذا الصدد من أن آسيا الصغرى وسائر ما وراء الفرات مع جميع هذه البلدان قد انقسمت إلى عدة ممالك صغيرة، استولى عليها ملوك من أهلها، ثم ضمها قوروش ملك مادي وفارس إلى مملكته، وما زال حتى تملك إسكندر بن فيلبس المكدوني، وبعد وفاته صارت جزءًا من مملكة سورية تحت سلطة الدولة السلقودية، ثم أُدخلت في ملك قياصرة رومية والقسطنطينية إلى الجيل الحادي عشر ب.م، حين استولت الدولة السلجوقية على الأجزاء الجنوبية الشرقية، وعند انقراض هذه الدولة عقب وفاة السلطان علاء الدين السلجوقي في أثناء سنة ١٣٠٠ب.م سطت الأتراك على جانب عظيم منها تحت راية السلطان عثمان الغازي الذي توفي سنة ١٣٢٦ب.م، كما مرَّ آنفًا، وكان مقرُّهُ قونية، وخلفه ابنه أورخان الذي توفي سنة ١٣٢٦ب.م، بعد أن افتتح برصة، وجعلها مقرَّ تخت السلاطين العثمانية في الأناضول، وقال المؤرخون: إنه في سنة ١٣٠٠ب.م كانت بداءة دولة آل عثمان وتأسيسها ببرِّ الأناضول، وفي سنة ١٤٨٦ب.م عاد كل ذلك خاضعًا لسلاطين آل عثمان.

وأما ملخص ترجمة إسكندر المكدوني ومكدونية — كما ذكرنا — فهو ما يلي من أن إسكندر المدعو بالكبير هو ملك مكدونية، وتولى ست سنوات باعتبار كونه ملكها، وست سنوات باعتبار كونه ملك اليونان الأعظم، وذلك بعد ظفره بداريوس كودمانوس، وتوفي قبل مجيء المسيح بثلاثمائة وأربع وعشرين سنة في عمر اثنتين وثلاثين سنة، وانقسمت مملكة إسكندر إلى أربعة أقسام، وهي: سورية وبابل ومملكة آسيا الصغرى ومملكة مصر ومملكة مكدونية. أما مكدونية، فهي إقليم مشهور في بلاد أوروبا، يحدها من جهة الجنوب إقليم تساليا وجزائر الأرخبيل، ومن جهة الشرق إقليم تراسة، ومن جهتي الشمال والغرب سلسلة جبال فاصلة بينها وبين إقليم البلغار، وهو جزء من بلاد الروملي، ويسمى عند الأتراك فيليب ولايتي أي ولاية فيليب؛ لأنه وطن فيلبس أبي إسكندر الرومي المشهور، وقد جاء في أقوال المؤرخين أنه يوجد أيضًا دولة تدعى دولة الأتراك الجركسية، كان ابتداؤها سنة ١٣٨١ب.م، وانقراضها سنة ١٥١٧ب.م، ونسبتها إلى بلاد الجركس التي هي في قارة آسيا على الجهة الشمالية من جبل قوه قاف — أو قوقاس — بين بحر الخزر والبحر الأسود، ومن رواياتهم أن ابتداء الدولة التركية كان في سنة ١٢٥٣ب.م بالمعز عز الدين أيبك التركماني الصالحي، وملوكها يُعرَفون بمماليك الدولة الكردية وبالمماليك البحرية، وانقراضها سنة ١٣٨١ب.م، وابتدأت حينئذٍ دولة الأتراك الجركسية كما ذكر، وأن ابتداء دولة الأتراك الجركسية كان بالظاهر برقوق بن عبد الله بن أنس بن برديك، واسمه الطنبغا، فسماه أستاذه يلبغا الكبير. أما آسيا الصغرى — كما مرَّ آنفًا — فيسميها العرب أرض روم والأتراك بر الأناضول.

وهي في الحقيقة اسم جزء منه، يحدها شمالًا بحر مرمرا أو البحر الأبيض والبحر الأسود، وغربًا بوغاز القسطنطينية وبحر مرمرا وبحر الروم والبوغاز الواصل بينهما، وجنوبًا بحر الروم، وشرقًا خط ممتد من رأس خليج إسكندرون إلى جهة الشمال الشرقي حتى ملتقى جبل اللكام وجبل كورين المعروف عند القدماء بجبل طوروس أو جبل الثور، ومن هنالك من قمم هذه الجبال حتى ثغر انوشروان بقرب نهر الفرات، ومن ثَم تتصل بالجبال التي تلي غربي الفرات حتى تخوم بلاد أرمينيا الغربية، وينتهي الحد الشرقي إلى البحر الأسود.

ثم إن أكثر المؤرخين قد اختلفوا في أصل آل عثمان؛ لتقادم عهدهم، ولأن نشأتهم في بلاد قاصية، فبعضهم ينسب هذه العائلة الخطيرة إلى سلالة عيس بن إسحاق الذي خرج منه أوغوزخان المتسلسل منه سليمان شاه أبو أرطغرل، وآخرون ينسبونهم إلى طائفة أتت من الحجاز بسبب القحط ونزلت في القرمان، وهو بنو قطورة، وكل فريق من المؤرخين يورد أدلة وبراهين في إثبات مذهبه، ومنتهى ما عرفوه أن سلالة آل عثمان متشعبة من بني قطورة ومن العيس بن إسحاق، وقصارى الكلام في هذا الشأن أن هذا الآل الشريف له المقام الأول بين العشائر الإسلامية، وجدُّ آل عثمان — الذي هو سليمان شاه — أتى بجماعته سنة ١٢٠٠ب.م، الموافقة لسنة ٦٢١ هجرية، ونزل في صحاري بلاد أرمينية الكبرى، ومكث هناك نحو سبع سنوات، وبعد وفاة جنكيزخان انتشبت الحرب بين الخوارزمي وعلاء الدين سلطان قونية أكبر السلاجقة؛ فتودد إلى علاء الدين وساق إليه عدة إمدادات حتى انتصر على أعدائه بواسطته، وبعد أن قضى هناك مدة من الزمان نحو سنة ٦٢٨ هجرية عزم على أن يجتاز بأهله نهر الفرات، ويدخل إلى عربستان، فغرق في ذلك النهر، ودفن في ذلك المكان، وهو إلى الآن يُعرف بمزار الأتراك، وكان له أربعة أولاد، وهم: سنقورتكين وكونطوغدي وأرطغرل ودوندر، فانقلب سنقورتكين وكونطوغدي إلى ناحية الشرق، وبقي أرطغرل ودوندر عند السلطان علاء الدين، وشهدا معه حروبًا كثيرة، ثم توفي أرطغرل تاركًا ولده عثمان الغازي، وبعد انقراض الدولة السلجوقية تولى على تخت السلطنة السلاطين العظام الآتي ذكرهم في الجدول كلٌّ في محله بفهرست مفصَّل أصل هذه السلالة الطاهرة من أولها حتى آخرها وعن أسمائهم وسني ولادتهم وجلوسهم وانتقالهم ومدة سلطنتهم مع بيان مدة أعمارهم.

ولقد أوجزنا هنا لضيق المقام، فلم نذكر ترجمة حياة هؤلاء السلاطين العظام التي هي من الأمور التي تستحق الذكر، والوقائع التي جرت في أيامهم والفتوحات المبيَّنة التي باشروها وما ذكره مؤرخو الإفرنج في هذا الصدد، وعلى هذا الخصوص ما ذكره المؤرخ جوابين الفرنساوي وغيره من المؤرخين، وإن كلًّا من هؤلاء الملوك فعل أفعالًا باهرة، وغزا غزوات قاهرة، خليقةً بأن تودع بطون الأسفار، ولا جرم أن أعمال هؤلاء الأبطال جديرة أن تُقدَّم على أعمال الأكاسرة والقياصرة وسائر الملوك والسلاطين الذين نُقِشَت أسماؤهم في صدور التواريخ، وفي مطالعة تواريخ هذه العائلة الشريفة ما يدل على عظمة أفعالهم وبطشهم وشجاعتهم مما قاوموا بها جميع الدول المحيطة بهم، فكانوا يفتحون المدن العظيمة والحصون المنيعة ويذللون الجبابرة العظام، ويتسلطون على الممالك برًّا وبحرًا إلى أبعد مكان، فكانت ترتعد من سطوتهم فرائص رجال الدول الإفرنجية قاطبةً، وتؤدي لهم الطاعة والخضوع، وكان يحدث في أكثر السنين أن جميع الشعوب المحدقة بهم تقوم عليهم بالحروب، فكانت الأعجام من جهة آسيا تحاربهم، والعرب والروس أيضًا، ومن جهة أوروبا دولة النمسا والمجر ومشيخة البندقية واليونان، مع مساعدة الدول الأخر لهم كالإنكليز وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا وغيرهم، ومع كل هذا كانوا يتغلبون على جميع هذه الدول ويقهارونها ويُكرهونها على أداء الطاعة ودفع الخراج والجزية، فكانت سطوتهم تزداد يومًا بعد آخر، وأعلامهم ترتفع فوق جميع الأعلام الملوكية، ولا ريب أن يد القادر — كما يقول المؤرخون — كانت ترافقهم دائمًا في كل هذه النصرات التي تقصر دونها طاقة البشر. انتهى.

ولنرجع الآن إلى كلامنا الأول في القسطنطينية فنقول: ومن بعد سنة ١٤٥٣ب.م كما مرَّ لم يبقَ من المملكة الرومانية إلا ما دخل في حوزة الغاليين. أما حدود القسطنطينية فيحدها شمالًا بحر الأسود الممتد طولًا سبعمائة وستين ميلًا، ومن الجنوب برُّ الأناضول وبحر مرمرا وطوله مائة وخمسون ميلًا وبوغاز الدردانيل، ومن الشرق أسكودار القائمة قبالة القسطنطينية وجزءٌ من بر الأناضول، ومن الغرب بلاد الترك في أوروبا، ومحيط هذه المدينة اثنا عشر ميلًا أو ستة عشر ألف متر، وقد قال مؤرخو الإنكليز المعوَّل على قولهم أيضًا أن إسلامبول القديمة كان محيطها أحد عشر ميلًا، وهي من باريس على بُعد ستمائة وستين ميلًا، وعن فينا على مسافة مائتين وخمسة وثمانون ميلًا، وتبعد عن بطرسبرغ نحو أربعمائة وخمسة وسبعين ميلًا. أما عدد أهاليها فهو مليون ونصف فأكثر، وثلثاهم من ملة الإسلام، وسائرهم نصارى على مذاهب مختلفة، ومنهم يهود. أما الإسلام المكاثرون غيرهم عددًا فهم ثلاثة أقسام:
  • الأول: رجال الدولة والمتوظفون، أي أصحاب المأموريات.
  • والثاني: أصحاب التجارة والأملاك.
  • والثالث: أصحاب الصنايع والحرَف ونحو ذلك.

أما النصارى، فالروم منهم أصحاب تجارة وبعضهم محترفون، وأما الأرمن فهم يتكلمون باللسان التركي ويكتبون به، ولكن بأحرف أرمنية، ولهم أماكن شهيرة يسكنونها، وأكثرها يدنو من أماكن الإسلام، وهم في النصارى أكثر سعة في المال والصنايع، فمنهم الصيارفة الموسرون والجوهريون وأصحاب معامل القطن والقطائف وعَمَلَة الساعات، ومنهم قومٌ داخلون في خدمة الدولة العلية حيث تضرب المسكوكات السلطانية، وهذه المدينة هي ثالث مدينة في وفرة ساكنيها في أوروبا. أما موقعها فإنه أجمل مكان في الدنيا، فهي كائنة على خليج البحر الأسود بين البحر المذكور وبحر مرمرا وواقعة بين أوروبا وآسيا أو على المضيق أو البوغاز الذي يصل بحر مرمرا بالبحر الأسود، وأرضها آخذت بالارتفاع شيئًا فشيئًا من الخليج المذكور إلى الداخل، وأما بحر مرمرا فإن بوغاز الدردانيل يصله ببحر جزائر الروم والبحر المتوسط، ولكن يفصلها عن آسيا مضيق من البحر عرضه نحو ميل أو ميل ونصف، وهو معروف بالبوغاز المذكور، وهي قائمة على سبعة تلال من أطراف أوروبا، كائنة على لسان في البحر، وهذا اللسان على شكل مثلث الزوايا، موقعه على الطرف أو الشاطئ الغربي من مدخل البوغاز الجنوبي المذكور الذي يقال له البوسفور، وكان يسمى قبلًا بوسفور طراشيا، والبوسفور: لفظة يونانية معناها مَمرُّ — أو طريق — الثور، كما كان يزعم قومٌ أنه كان ممر الثور، وهذا اللسان هو داخل بين البحر الأسود وبحر جزائر الروم، وفي الجانب الشمالي من المدينة جدولٌ أو فرعٌ من البوغاز يُدعى القرن الذهبي، وهو المعروف بالميناء الرائقة المنظر؛ لحسن كيانها، وهي تفصل البيرا أي بك أوغلي عن القسطنطينية، أو كما قال بعضهم أيضًا إنها واقعة على مدخل جنوبي الغربي من البوسفور على شبه جزيرة مثلثة الزوايا، جاعلة القرن الذهبي — أي ميناء القسطنطينية — على ممر من البحر وبحر مرمرا.

figure
هذه صورة القسطنطينية مع بوغاز البوسفور.

وفي آخر هذه المينا محل من الأماكن الشهيرة في المدينة تقصده الناس للتنزه، يُدعى كاغدخانه، وموقعه من جهة الترسخانة في بقعة خضراء طولها نصف ميل، تجري إليها مياهٌ عذبة في قناة مستوية، وعلى طول هذه القناة أشجار كثيرة من الحور والسرو والزيزفون والدلب … إلى غير ذلك، وفي هذه الروضة قصرٌ للانشراح، تحيط به جنينة بديعة مدبجة بأشكال الزهور، وقد بناها السلطان أحمد الثالث سنة ١٧٢٤ب.م، وفي هذه القناة يجري الماءُ، ويتوسطها حاجز تنفجر تلك المياه بالقرب منه، وتسقط على ثلاث مجارٍ مرصوفة بالصدف، حتى تنتهي إلى بركة عليها حوض من النحاس الأصفر، وعليه ثلاث حيَّات تخرج المياه من أفواهها، وعلى هذا الحاجز ثلاثة كشوك من الرخام الأبيض مغشَّاة بالنحاس المموَّه بالذهب، ومن هناك تبتدي القناة تضيق بالتتابع حتى تصير مجرى صغيرًا فتختلط مع ماءٍ آخر، وينحدران معًا، فهذا هو القرن الذهبي — حسبما ذُكر — الذي تسير فيه الزوارق حاملة رجالًا ونساءً وأولادًا؛ لقصد التنزه والانشراح في ذلك الوادي، ولا سيما يوم الجمعة؛ فإنهم يتقاطرون زُمَرًا وأفواجًا إلى شاطئ الجدول المذكور وعدة منتزهات أخرى غير هذه، منها في غربي المدينة، كموضع والي أفندي وباقركوي وآيا استفانوس وشوربجي، وغيرها مما واقع في الجهة الشرقية ومنها في أسكودار، وكلها مزينة بالأشجار والأزهار والأبنية الجميلة والمناظر الحسنة التي تسر الخواطر وتقر النواظر.

ثم إن مرسى هذه المينا على ما يرام من الأمن والطمأنينة والسَّعَة والموافقة، ويفصله مضيق من البحر طوله نحو ميلين وعرضه نحو نصف ميل، وهو المينا التي ترسي فيها السُّفُن، وهذا المرسى من أعظم وأحسن مراسي الدنيا موقعًا وأَمْنًا، ولسبب ما كان يحصل فيه من الأخطار على القوارب من جهة إلى أخرى في هذا البوغاز، قد مُدَّ هناك جسران من الخشب تعبر عليهما الناس والخيل والمركبات أو الكروسات، ولكل جسر باب يفتح عند دخول السفاين إلى المينا: أحدهما يفصل بين بواخر الدولة والبواخر التجارية، قد بناه السلطان محمود خان، والثاني أُنشئَ في أيام السلطان عبد المجيد، وبجانب المينا العظمى في الكرة المحلات الخارجة عن القسطنطينية، وهي المعروفة بالصوائح الخارجة الكبيرة، وهي البيرا وغلطة ومحلة الطوبخانة وقاسم باشا والفنار محلة الأروام.

أما البيرا المشهورة باسم بك أوغلي، وهي محلة الإفرنج الواقعة من جهة الشمال الشرقي من القسطنطينية؛ فإن محال التجارة الأصلية كائنة فيها، ولا يسكنها في الغالب إلا الوجوه من الغرباء؛ كسفراء الدول ونحوهم، وهي محلة كبيرة تتخللها الطرق الواسعة والمنازل الفاخرة والمخازن العظيمة والبارجات وسرايات السفراء المومأ إليهم ومساكن الإفرنج والأرمن الكاثوليك، وفيه كنائس الإفرنج والأرمن الكاثوليك أيضًا، وفيها أماكن للقهوة ذات جنائن ومطابع ومخازن ومستشفيات الإفرنج ومدارس وتياطرات ومواضع للبوسطة … إلخ، ولوكندات كثيرة يأوي إليها السواح والمسافرون، فيُؤدي النزيل فيها في كل يوم عن أجرة حُجرة مفروشة فقط نحو خمسة عشر غرشًا، ومع المأكول من الخمسين إلى الثمانين غرشًا، وفي ذلك يُراعى حسن الحُجرة وكثرة أشكال الطعام، وفي بعض جهات هذا القسم بنايات تشتمل على عدة حجر مفروشة للكراءِ، يدفع الإنسان في كل يوم من عشرة غروش إلى خمسة عشر غرشًا، ولهُ سرير للنوم، وقد جرت العادة عندهم بأن تُعلق ورقة على المكان يُذكَر فيها أن هناك مخادع وحجر مفروشة للأجرة، وفي وسط هذه المحلة غَلطَه سراي، وهي مدرسة الطب التي احترقت سنة ١٨٤٨ب.م، وأمامها محل تياطرو كبير، وهو مرسح تشخِّص فيه الإفرنج ألاعيب وروايات بحسب اصطلاح بلادهم.

وفي القسطنطينية عدة مدارس كبرى ومكاتب وقُشَل؛ أي معسكرات حسنة، فمن المدارس ما هي للعلوم والفنون، ومنها طبيَّة وأخرى حربية ومكاتب للملاحين، وما ينيف على خمسمائة وثلاثين مدرسة أو مكتبًا، وتحوي نيفًا وأربعين مكتبة فيها مؤلفات شتى نفيسة، منها مجلدات بخط اليد ثمينة بعضها يختص بالجوامع، وعدة مطابع وبعض كراخين؛ لعمل الطرابيش والجوخ وخلافها … إلى غير ذلك من المنافع الحاصلة حديثًا في عصر من بسمت أيامه المجيدة متشحة بحلل المعارف والفوائد حضرة مليكنا الأعظم السلطان عبد الحميد خان، أيَّد الله أريكة سلطنته، ويُطبع في هذه المدينة عدة جرنالات بلغات مختلفة، وفي القسطنطينية أماكن أخرى لتناول الطعام منتظمة … وهلمَّ جرًّا في ما لا حاجة إلى ذكره هنا. ثم إن موقع البيرا — أي بك أوغلي — جميل جدًّا، حتى إن الواقف بها يمكنه أن ينظر كل شواطئ آسيا وسراية الذات الشاهانية، وهناك جامع للدراويش.

أما الغلَطَة فبناها أهالي جينوا، ولم تزل إلى اليوم محاطة بالسور المنسوب إليهم، ومحيطه مقدار ٨٠٠٠ قدم، وموقعها في القسم المجاور للبحر، وهي محلَّة تجار الإفرنج لجهة جنوبي البيرا، فهي أمام السراية المشار إليها، وسكانها في الغالب أروام ويهود، وفيها عدة كنائس وأديرة مختصة بالروم، وفيها سوق للسمك على كثرة أجناسه وأنواعه، وفي الغَلَطَة أيضًا محل للجمرك ومخازن لشحن الفابورات وأماكن التجار واللوكندات والبورسات، وترى فيها من جميع طوائف الناس الشرقية والغربية، وفي الغلَطَة أيضًا الجوامع الكثيرة وترسخانة الطوبخانة، أي خزينة للأسلحة والأدوات الحربية سواءٌ كانت برية أو بحرية، ومعامل لصنع ما يلزم من المهمات للقتال، وفيها برج يدعى برج المسيح أو برج الحرس علوُّه مائة وأربعون قدمًا، بناه أهالي جينوا «مدينة من إيطاليا»، وكان بناؤه سنة ١٤٤٦ب.م، والغرض من بنائه أن ينبِّه ويعلم سكَّان القسطنطينية عند حدوث الحريق بما يتَّفقون عليه من العلامات إشارةً إلى أن الحريق في موضع كذا مثلًا أو في المحلة أو الصائح الفلاني.

وكانت الغلَطَة حسبما يذكر المؤرخون في وقت ما تختص بأهالي مدينة جينوا المذكورة، وقد يصنع بقرب محلة الطوبخانة الغلايين الإسلامبولية الظريفة. أما الترسخانة الكبيرة والترسخانة البحرية وَحَوش البحرية، فهذه جميعها كائنة في محلة قاسم باشا. ثم قبل الوصول إلى القسطنطينية بنحو خمس عشرة ساعة يمر على شفا قلعة المعروفة بالدردانيل، وهناك المضيق العظيم الذي تجتاز فيه السفن إلى بحر مرمرا، وعلى كل جانب من هذا المضيق قِلَعٌ عظيمة فيها كثير من المدافع. ثم يمر على كاليبولي، وهي في أول بحر مرمرا، وبعد قليل من الزمان تظهر مدينة القسطنطينية، وعند الدنو إليها من البحر يستقبلك منها منظرٌ بهج رائق، ويخيل للناظر ما يدهشه، فتطلع عليه رءوس المآذن المذهَّبة وقبب الجوامع المسنَّمة وشوامخ الأبنية الجميلة والأبراج المزخرفة والمنائر العالية، وفي معاليها أكاليل من ورق السرو الأثيث وما شاكل ذلك من الأشجار التي تظلل المدافن العظيمة المحتفرة في جوانب الأسوار، لكنها في الداخل ليست كذلك؛ فإن طرقها أكثرها حرجة ضيقة معوجة ذات تعاريج ومنحدرات، حتى يتعذر على الغريب فيها أن يعرف من أين دخل، وكيف يخرج، ولكن لسبب تحدُّر أرض المدينة كانت الطرقات جافة نظيفة من الأوحال والأوخام، على أن أسواقها غير مستوية وبعضها ضيق وأبنيتها أكثرها من الأخشاب والقرميد واللبن، ومما تهدَّم من أسوارها الباقي منها بعض أطلال ومواضع خالية.

أما النور والهواء فإنهما فيها كغيرها من المدن الشرقية بحصولها عليها من فجوات البيوت الداخلية، وقد قيل لم يكن في مدينة أو محل مثل ما في القسطنطينية من دنو مياه البحر الكثير إلى البيوت، حتى إنه لا يكاد يوجد شواطئ ذات زَلَط ولا حصى ولا شيء مما يكون في الساحل من وَطَاء رملي يمنع أو يصدُّ السفن عن الدخول، ولا أعماق أنهر طينية أو دلغانية أو مجاري مياه مبطئة ومُستثقلة، ولا سدود ولا حياض ولا تجمُّع مياه … إلخ، مما يحصل عنه فصل وتقسيم في وسط المكان عن المياه العميقة، فإذا أراد أحد في مجال بندر إسلامبول الراجح بالمعاملات على غيره أن يطوف حول طريق مستوية بين شجر السرو، فعليه أن يمرَّ البوسفور، وهو البوغاز الفاصل بين آسيا وأوروبا، ويصل البحر الأسود بالبحر الأبيض ممتدًّا على مسافة عشرين ميلًا بالطول، وبالعرض من ميل إلى ميل ونصف، ينحدر فيه الماء بشدة، وينصب في بحر مرمرا المتصل بالبحر الأبيض، وعلى ساحل البوغاز من كلتا الجهتين أماكن شهيرة كل محل منها يضاهي مدينة صغيرة فيها من السرايات الأنيقة والمنازل الفاخرة والأسواق الرحبة المقيم فيها التجار وأصحاب الصنائع ونحو ذلك، وفيها أماكن أخرى للتنزه أحيانًا وجنَّات بديعة يتفقدها الناس أفواجًا، وهذا البوغاز على جانب عظيم من الحسن والجمال.

ويوجد أيضًا على شاطئ هذا البوغاز سرايات ودور لأكثر رجال الدولة من الذوات؛ يقيمون فيها مدة الصيف، وفي فصل الشتاء يرجعون إلى المدينة حيث يباشرون الأشغال والأحكام، وأكثر هذه الأماكن محكمة البناء، تعلوها الروابي النضرة النابتة فوقها الأشجار المورقة دائمًا والحدائق الأنيقة، وفي الجهة الثانية من ناحية أسكودار ترى البر الثاني من قارة آسيا، وفيه عدة أماكن شهيرة، ومنظره الرائق مع منظر المياه المتحدة في ذلك البوغاز والبواخر والسفن والقوارب السائرة فيه كالنجوم، تجعل لها منظرًا مذهلًا لا يكاد يكون له نظير في المسكونة؛ ولذلك تقصده السواح من أقطار الأرض لكي تشاهد غريب موقعها وإقليمها المعتدل وجودة هوائها ورونق ما يحيط بها من الأراضي الجميلة، وليُرى ما عند أهاليها من حسن الأخلاق واللطف والرقة، وفي جهة من البوسفور قرًى كثيرة، وفي اليمنى منه أيضًا حوض ماء ضمن قبوة يسمونه حوض القديسة صوفيا تزورها ناس من المسلمين والنصارى، ويتبركون بها، وفي الجهة الشمالية قصرٌ مبني على الشاطئ، وحوله جنينة لاحقة بأملاك الدولة المصرية، والمراد ببنائه هناك إيواء المسافرين من المصريين، وفيه قصور أخرى من الحجر، وبعضها من الخشب لمصيف الأكابر من أهالي المدينة، ثم إذا أراد أحد أن يذهب من اللوكندة إلى الأسواق لا بدَّ له أن يمرَّ أولًا في طريق القرن الذهبي الزرقاء المنهوجة التي تصلح لمسير ألف ومائتي بارجة، وفيها ترسي البارجة العظيمة ذات المائة وعشرين مدفعًا، وتدعى المحمودية، وفي الغالب لا تخلو مينا القسطنطينية بين سفائن كبيرة وصغيرة عن أقل من ثمان وعشرين ألف سفينة، وهذه المراكب تأتي إليها من كل قبائل الدنيا.

ومن عوائد هذه المينا أنها تأتي الباب العالي بكنوز العالم، وترفع عمارتِهِ البحرية الحربية، حتى تدنو من أبواب حديقته الأنيقة. أما تجارة القسطنطينية فهي واسعة وهواءُها كثير الاختلاف؛ فإن فصل الشتاء فيها طويل غزير الأمطار، وفي أيام الخريف تكثر الرياح الجنوبية، فتمني من تصيبه بأمراض شتى، وأعدل الفصول فيها الربيع والصيف، وجوها عرضةً للتغيُّر والانقلاب، إلا أن فيه بعض موافقة للصحة، وكثيرًا ما كان يحدث فيها من العلل الوبائية، حتى عمَّتها مراحم وإحسانات الذات الشاهانية الخيرية، فزالت هذه بوجود المدارس الطبية والمستشفيات والأطباء الماهرين والتنظيفات والإصلاحات المتواصلة في كل يوم. ثم إن القسطنطينية محاطة بالأسوار الكبيرة المربعة، وبسور عالٍ جدًّا، وبأبراج كبيرة مربعة أيضًا يبلغ عددها نحو عشرين برجًا، وهذه الأبراج قد شيدها ملوك اليونان، وإن يكن كثير من هذه الأسوار المذكورة كان قد بني منذ الجيل الخامس عشر، لكنه لم يزل بعضها إلى اليوم متينًا.

أما قلعة أو سراية السبعة أبراج المتصلة بالأسوار، فإنها عادت الآن حبسًا عموميًّا للحكومة، مع أنها كانت قديمًا من جملة أبواب المدينة، وبعض هذه الأبراج تحوَّل طرقًا للبوابات وقد تهدَّم أكثرها، فالقسطنطينية في الأول كان لها ثلاث وأربعون بوابة، ثم صارت إلى اثنتين وعشرين والذي منها إلى الآن سبع بوابات فقط، وقرر أيضًا مؤرخو الإنكليز أنه كان لسور إسلامبول قديمًا سبع وثلاثون بوابة، ثم في القسطنطينية ثلاثمائة حمَّام من الحمامات المشهورة، وثلاثمائة وستة وأربعون جامعًا، وقرر مؤرخو الإنكليز أيضًا أن فيها نحو أربعمائة وخمسة وثمانين جامعًا، منها ثلاثة عشر جامعًا ملكية، وفيها مآذن كثيرة شاهقة في الجو، ما عدا الحمامات الصغيرة الكثيرة العمومية، وكلها مع الحمامات المذكورة تنيف على ألفي حمَّام.

وكل بيت في القسطنطينية مهما كان لا بدَّ له من حمام، وفي أكثر ضياع القسطنطينية يوجد حمَّامات جميلة، وقلما يوجد قرية ليس فيها حمَّام. ثم إن أكثر هذه الجوامع والمغتسلات المذكورة هي من الرخام مسقوفة بالرصاص، وأشهر هذه الجوامع جامع أجيا صوفيا، بناه الملك قسطنطين سنة ٣٢٥ب.م، وعاد فجدَّد بناءَه الملك جوستنيان الأول أحد ملوك الشرق سنة ٥٣١ب.م، وتم في سنة ٥٣٨ب.م، واشتغل فيه مدة سبع سنوات ونصف مائة مهندس مع مائة قلف — أي رئيس البنائين — وعشرة آلاف فاعل مع البنائين، طوله مئتان وتسع وستون قدمًا أو مئتان وسبعون قدمًا، وعرضه مئتان وثلاث وأربعون قدمًا، وقال آخرون إن عرضه مئتان وأربعون قدمًا، وهذا الجامع كان كنيسة عظيمة في أيام النصارى، تُعد من أحسن كنائس الدنيا بعد كنيسة رومية، وحصل الاستيلاء عليها حين فتح المدينة سنة ١٤٥٣ب.م — كما ذكرنا آنفًا — ويوجد سبعة جوامع ملكية غير هذا الجامع أيضًا، وكلها مزيَّنة من داخلها بالرخام ومن خارجها بالمناهل، ولأكثرها مستشفيات ومكاتب؛ لإغاثة الفقراء وسد احتياجاتهم وتعليمهم، وقيل إنه يوجد في الأستانة ما ينيف على مائتي مستشفى للمرضى، وتسع مارستانات، وخارج هذا الجامع ساحة مربعة فيها أربع مآذن، وفي وسط الجامع قبة عظيمة وسطها يعلو الأرض مائة وثمانين قدمًا، وقطرها مائة وخمسة عشر قدمًا، وأسفلها محاط برواقيْن محموليْن بين اثنين وستين عمودًا أو سبعة وستين عمودًا من حجر اليشب الجميل، قد أخربتها الزلزلة التي دكَّت المدينة، فجددوها ثانيةً غير أنها لم ترجع كما كانت في ارتفاعها وحسن استدارتها واستوائها، ولتمكينها وضعوا تحتها بين العضائد الكبيرة عدة من الأعمدة المصبوبة قبلًا في مصر الموجود منها في هذه الأطراف، وعقدوا عليها قناطر تعتمد عليها القبة.

وأبواب هذا الجامع أيضًا من النحاس الأصفر، منقوش عليها تماثيل قديمة من عهد بانيه، وسقفه لم يزل عليه آثار من الصوَر التي بينها صورة المسيح وصورة الملك قسطنطين، ومن داخله مائة وسبعون عمودًا جميلًا من الحجر السماقي والرخام، وعلى كلٍّ منها تاج قد زاغ عن أصله الهندسي لكثرة ما حصل فيه من التغيير الكثير، ويظن أن هيكلًا عظيمًا كان هناك فهُدم، وعلى دائره ممشى يُصعَد عليه بسلَّم حلزونية عجيبة، وفوق المنبر مرفوع سنجق السلطان محمد الفاتح، أما الآن فقد تبدلت هيئتها القديمة، ولم يبقَ منها إلا أثر بعد عين، وكانت جدران قباب هذا الجامع مع ما يليها مزدانةً بالنقوش المذهبة، ولما نظرها السلطان محمد الفاتح أَمرَ بأن تغَشَّى بالأجير حتى لا تُشاهد، ولكن في عهد حضرة السلطان عبد المجيد خان نُزِع عنها الكلس وترمم ما فقد من هذا الجامع حتى عاد إلى رونقه الأول، واليوم عاد داخله مزينًا حسبما ذكرنا.

ثم إن كثيرًا من المائة والسبعين عمودًا المذكورة قد جلب من هيكل الشمس في بعلبك، ومن هيكلي الشمس والقمر في هالي بولي «مدينة قديمة في مصر»، ومن هيكل مدينة ديانا المشهور في أفسس، ومن أثينا ومن جزائر بحر الروم. أما جامع السلطان سليمان العظيم الملقب بالسليمانية، فهو أجمل ما يكون في القسطنطينية، قد بني في أواسط الجيل السادس عشر، وتم بناؤه سنة ١٥٥٦ب.م، وهو أعظم من جامع أجيا صوفيا في بنيته. أما الجوامع المشيدة وتحسب في الطرز الثاني بالنظر إلى الكبر والعظم، فهي جامع السلطان أحمد ومحمد الثاني آخر من فتح مدينة القسطنطينية كما مرَّ آنفًا، وأحسن الحمامات المذكورة في القسطنطينية: حمام أجيا صوفيا، وحمَّام محمود باشا، وحمام بيازيد، وحمام تحت القلعة، ومن الساحات في هذه المدينة ساحة تدعى ساحة آت ميدان، وهي أكبر ساحة داخل المدينة مربعة مشهورة عند المتقدمين والمتأخرين في القسطنطينية معدة لسباق الخيل وترويضها ومباراة المركبات أو الكروسات، طولها تسعمائة قدم وعرضها أربعمائة وخمسون قدمًا، وضمن هذه الساحة الآن مَسَلَّة بناء أو عمود هرمي من حجر الصوان أو الحجر المصري، وهو مربع بقطعة واحدة، وأُتي بها قديمًا من مدينة ثيبس، وهي مدينة من أعظم وأشهر قصبات مصر القديمة قاعدة مملكة الفراعنة ملوك مصر أيام امتداد سطوتهم بقاياها تفوت كبرها وعظمها وصف الواصف، وهذه المسلة المذكورة قد بناها ثاودوسيوس الكبير أحد ملوك الرومانيين، والمراد بالمسلَّة هنا: عمود طويل ذو أربعة جوانب بيضي أو مخروط الشكل مقطوع من رأسه على هيئة هرم مسطح بقطعة واحدة عليه كتابات وأرقام وتأشيرات مقتضاها مآثر جليلة وذكر حسن طاهر. وهي من تحريرات كهنة مصر القدماء مقصود فيها وصف أشخاص أو أشباح، وهم الرجال العظام الذين اشتهروا في غزواتهم، وفي الساحة المذكورة العمود المتعطل لقسطنطين الملك ويُنسب إليه مُعرًّى ومنزوعًا عنه تمثاله النحاس المصبوب صب رمل من عمل الأتراك في أول ما اغتنموا وأخذوا المدينة، وبين المسلة وعمود قسطنطين — المار ذكرهما — عمود آخر من نحاس أصفر سباردي على شكل حبل ملفوف، ويسمى عمود الحية؛ لأن عليه ثلاث حيات عظيمة متشابكة بعضها مع بعض، وقيل قد قُطعت رءوسها لعارضٍ أصابها، وأن اليونانيين أقاموا هذا العمود رصدًا؛ لتنفير الأفاعي كما جرت العادة عندهم في بعض الخرافات، وكانت هذه الحيات الثلاث في أول الأمر حاملة الكرسي المصنوع من ذهب في هيكل مدينة «دلفي» على ثلاث قوائمِ، كان يجلس عليها في الأزمنة القديمة الكاهن وأحد العرَّافين أو المنجِّمين؛ ليتلقَّوا الوحي من الوثن أو الإله عندهم جوابًا على ما يسألونه من أمرٍ مهم، أو عن أنباء بالمستقبل، أو عن فوزهم في الحرب والقتال، أو انغلابهم على ما يقتضيه معتقد الوثنيين.

وكان يجلس على هذه الكرسي — كما كان في أعصر الوثنيين القديمة — عدد معلوم من النساء، وقال بعض المؤرخين إنهنَّ عشر نساء فقط، وقيل إنهنَّ كنَّ يخبرنَ بروح النبوة، وكنَّ يسكنَّ في عدة أقسام مختلفة من بلاد العجم واليونان وإيطاليا، وإنهنَّ كتبنَ بعض النبوات بالشعر المنظوم على ورق الأشجار. أما دلفي: فهي بلد من بلاد اليونان القديمة، وفي قسم آت ميدان أيضًا من الجهة الشرقيَّة الباب العالي، وهناك الديوان حيث يجلس الصدر الأعظم ورجال الدولة المأمورون بإدارة مهام المملكة، وفيه مكان مخصوص لجلوس الحضرة الملكية في بعض الأحيان، وبالقرب منه أيضًا السراية المعروفة بطوب قبو سراي، وهي السراية القديمة التي جددها السلطان محمد الفاتح المنفصلة عن المدينة بسورٍ متين، ولها ثمانية أبواب، بعضها في جهة المدينة وبعضها من جهة البحر، وهي كبلد صغيرة، ورسمها على شكلٍ له ثلاث زوايا، ومحيطها أو إطارها ثلاثة أميال، وطولها نحو ستة آلاف ذراع، وهي مبنية على مركز وقاعدة البزنتيوم؛ أي القسطنطينية القديمة، وفي الجملة إنها تعد من السرايات الشهيرة العظيمة، يحيطها جنينة فسيحة فيها الأشجار الباسقة في الجو على انتساق وانتظام، وبينها طائفة من الوحش، وفي جهة البحر قصر كلخانه الذي نهجت فيه التنظيمات الخيرية، وعلى أطرافها الباب العالي الذي يدعى باب همايون المنسوب إليه دار المُلك، وهذا الباب مدخل للسراية الخارجة المباح للجميع أن يدخلوا إليها، وهو رتاج أو باب عظيم عالٍ جدًّا، وقوسهُ على شكل نصف دائرة، تغشاها الكتابات العربية، وقائم عليه خمسون بوابًا خفراء، وعلى حد جوانب طريق الباب كان هرم يدعى هرم الجماجم، وربما نُقل الآن من هناك أو هدم، وكان عليه جماجم أو رءوس أولئك المجرمين في المملكة والمعترفين بمنكراتهم وجرائمهم الفظيعة جهارًا، وعلى كل جمجمة عنوان يدل على ماهية الذنب الذي بسببه حكم على صاحبها بالقتل، وعلى أطراف هذه السراية ساحة رحيبة فيها بناءٌ يشتمل على قبة قديمة بناها الملك قسطنطين الكبير، وهناك دار الأسلحة الملكية القديمة حيثما يوجد فيها أنواع الأسلحة القديمة والتحف النادرة الوجود هناك، وأنواعٌ أُخر من السلاح معلقة على الترتيب في البيوت من دروع وزرديات وسيوف ورماح وآلات إطلاق البارود وما شاكل ذلك من أدوات الحرب القديمة، وهناك أربعة أشخاص من الخشب غائصين بالملابس الحديدية التي كانوا يلبسونها قديمًا؛ أحدهم بزي الشراكسة، والثاني بزي أهل الفلاخ، والثالث بزي الانكشارية، والرابع بزي العسكر العثماني القديم. ثم أخرى فيها الديوان الكبير وأمامه سماط من شجر السرو على صفين ينتهي إلى قاعة الديوان المشيدة من الرخام المزدان بالنقوش الذهبية.

وفي ما يليها دار أخرى فيها محل كرسي الحضرة الشاهانية تحت قبة عالية من حجر الرخام، وعلى جانبها سراية الحرم المحترم، وهناك حمَّام السلطان سليم الثاني، فيه اثنان وثلاثون حجرة، ومن هناك تنظر الخزينة الملكية ومحل المسكوكات ودار الكتب الكبيرة الهمايونية وباب المالية والأوقاف. أما الجنات المختصة بالسراية المذكورة فهي أنيقة جدًّا، بحيث لا يمكن للإنسان أن يتخيل أجمل منها، وفيها أشجار متنوعة عليها من كل فاكهة زوجان، فكأنها جنة تجري من تحتها الأنهار، ومن مستطيل أغصانها ما يتدلى على جوانب المماشي البديعة، ناهيك بما يزيدها رونقًا من الينابيع المنبجسة من الرخام؛ وكل ذلك واقع موقعًا يشغل الناظر ويجلب لب العاقل على إحدى السبعة تلال المبنية عليها القسطنطينية. أما زخرفة السراية العثمانية، فلا يكاد يفضلها شيءٌ في الجمال والحسن، لا سيما ما يختص بالذات الشاهانية. أما حجرة أو مضجع عظمته، فإن فيه منتهى التأنق والتحسين، فهي مغشَّاة بالقماش الصيني الفاخر، وأرضها مفروشة بالطنافس الثمينة من حرير وذهب والتخت من فضة والكانوبا والوسادات والأفرشة السفلى وملاءات اللحاف كلها وثائر منسوجة من قماشٍ ذهبي.

أما الخدم والحشم المقامين لخدمة ذاته الملكية فإنهم جمع وفير جدًّا، منهم من يستمر ليلًا في السراية. أما المأمورون بسياسة الخيل في الأخورات، أي الإسطبلات وإصلاح الجنات؛ فإنهم من أهل الرتبة العالية ما عدا الخفراء والخدام وحشم حضرات حرمه الشريف المحترم، وهناك عمود أيضًا يقال له شنبرلي طاش أسطواني الشكل، وهو من الآثار القديمة، وبالقرب من آت ميدان نفق تحت الأرض باقٍ من الأبنية القديمة يقال له «بيك بِرديراك»، أعني ألف عامود وعمود، وهذا من الأشياء الخليقة بالمشاهدة لما فيه من الأعمدة العظيمة، وهذا المحل قيسارية قديمة يدعونها أيضًا قيسارية ألف عمود وعمود، وهي طبقتان مركبة على أعمدة غليظة من الحجر والآن ليس لها اعتبار هناك، وأكثر أعمدتها صارت مطمورة بالتراب وبالقرب من هذه القيسارية ما يحسب في جملة الأشياء والمناظر الأصلية المعتبرة القديمة الباقية من القرون الخالية في القسطنطينية، وهو العمود المحروق في سوق أدريانويل، وهي السوق الأصلية في المدينة، وسمي العمود المحروق؛ لكونه تسوَّدَ بسبب حرائق البيوت الكبيرة التي كانت تتواتر في القسطنطينية، وهو عمود غليظ طويل من الحجر الرملي عليه تماثيل أشخاص وكتابات قديمة، قيل إن قومًا من الإسرائيليين اشتروه قديمًا من أحد الملوك العثمانيين لظنهم أنهُ مصنوع، أو كما يقولون مطبوخ من معادن ذهبية توهمًا بكثرة لمعانه، ثم أحرقوه ليستخرجوا ما فيه من الذهب، فذهب تعبهم على غير طائل، وتخلخل حتى كاد يسقط فتداركته الأتراك بأطواقٍ حديدية، ولم يزل قائمًا حتى الآن؛ ولذلك يقال له العمود المحرَق، ولعل تسميتهُ الأولى حسبما ذُكر هي الأصح وعليها المعوَّل، وفي القسطنطينية أيضًا آثار أبنية قديمة باقية من المملكة القديمة؛ أي الشرقية، ومدافن عدا التي ذكرناها، وباني هذا العمود ومُنشئهُ كان الملك قسطنطين الكبير، وكان علوُّه أولًا مائةً وعشرين قدمًا، وكان فوقه صورة أو تمثال أبولُّو من نحاس سكب رمل، وهذا التمثال بمثابة رجل عظيم البنية مثل الجبار أو العفريت أو أحد العمالقة، وقيل إن صانعه فيدياس، ولما حدثت الزلزلة في القسطنطينية سنة ١١٥٠ب.م تعطل وسقط مع ثلاثة أجسام غيره ثقيلة عظيمة، وباقٍ من علوه الآن تسعون قدمًا فقط، ويستفاد من التاريخ حدوث زلزلة في القسطنطينية سنة ١٠٦٣ب.م بقيت أربعين يومًا. أما تأويل أبولو وفيدياس المذكورين، فهو أن أبولو كان إلهًا عند اليونانيين، وكان الرومانيون يعبدونه، ويدَّعون — أو يزعمون — أنه الشمس التي هي مصدر الحرارة والنور، وأن هذا الإله إنما هو الصدر المتولي صنعة الرمي بالقوس وأمر النبوة وصناعة الطب وفن الموسيقى، وهو رئيس وحامي أو حافظ الإلاهات التسع الأخوات اللَّاتِ منهنَّ — كما يزعمون — الرئيسات وهنَّ يتولين الفنون العقلية.

وأما فيدياس، فهو عند اليونان القدماء نقَّاش أو حفار يوناني، كان أعظم بشر عندهم في صنعة النقش والحفر ورسم التماثيل والصور، قد مات سنة ٤٣٢ق.م. ثم إن القسطنطينية كثيرة المياه الجارية إليها في قناتين، بناهما الملك هادريان والملك قسطنطين، طولهما تسعة أو عشرة أميال تأتي فيهما مياه المدينة، وبالتقريب إن في كل سوق وجامع وبيانسا مناهل رائقة تبعد عن المدينة بنحو خمس أو ست ساعات متجمعة من مياه المطر في وادٍ له حائط في أسفله تنحصر المياه يقال له بنودة، وعددها سبع ولها منفذ تخرج منه وتجري إلى المدينة بواسطة الأقنية المذكورة إلى موضع يُدعى التقسيم أو قاعة الحوض، بناه الملك جوستنيان، أو بُنِي في أيامه، طوله ثلاثمائة وست وثلاثون قدمًا، وعرضه مائة واثنان وثمانون قدمًا، وهذه البناية قائمة على ثلاثمائة وستة وثلاثين عمودًا من الرخام، ومن ثَم تتوزع هذه المياه بقنوات عديدة من الحجر على الجوامع والسرايات والمناهل والبيوت، ولها قناطر عظيمة جديرة بالمشاهدة باقية من أيام السلطان سليمان، وعلى قول المؤرخين ظنًّا أن قنوات الماء في القسطنطينية قد بناها فالانس، وهو أحد ملوك الرومانيين، وهي تأتي بماء عذب جديد، ومن إحدى هذه القنوات القناة المدعوة المعوَّج؛ لكونها على شكلٍ مستدير، أي لهُ تعريجات قصيرة من شأنها أن تعيق جريان الماء، ولها من القناطر ثلاثة صفوف محكَّمة البناء وهناك أيضًا مياه غزيرة غير هذه، إلا أنها سافلة عن المدينة لا يمكن جرها إلى القنوات، وليس بالقرب منها جبال يتأتَّى نفاذ المياه منها إليها. أما معنى «البياتسا» المذكورة هنا، فهو أسطوانة أو ساحة مربعة فسيحة محاطة بالقناطر والأعمدة، مغشاة بالصور والنقوش والذهب على أسلوبٍ رائقٍ بديع، ثم وفي جملة الإنشاءات أو الأبنية الأكثر اعتبارًا في القسطنطينية الخانات المشاعة الكافية لأن يسكن في كلٍّ منها من الخمسين إلى الألف نفس، قد بنتها الحكومة السنية؛ لغاية أن ينزل فيها المسافرون من التجار الذين يقيمون فيها مجانًا ما بقوا في المدينة، وكان لكلٍّ منهم مطلق الحرية في منزله، والمراد من هذا العمل الجليل جلب السلع والبضاعة من كل أقسام العالم، ولا فرق في المذاهب بهذا الخصوص وبناءُ الحُجَر على طبقات عديدة عالية وحولها ساحة فسيحة مدخلها من أبواب حديدية، وأما الفنادق الشهيرة الكبيرة التي فيها مخازن التجارة، فهي سنبلي خان ووالدة خان وبلطجي خان وبيوك بالدرخان وسلطان أوضه لروكوشك خان ووزير خان وتحت القلعة وغيرها. ثم إن كل الأبنية العمومية في القسطنطينية متوَّجة ومُزيَّنة بالقباب والأبراج. أما الأماكن المخصصة للعبادة فإن فوقها قبابًا ومآذن في أواخرها الهلال، أي علامة العَلَم العثماني مموَّهًا بالذهب.

أما الديار والمحلات الخارجة عن المدينة فهي جميلة جدًّا، وكان يسكن محل المسكوكات ومخزن الأسلحة — أي الترسخانة والحبس — مماليك الذات الشاهانية، فالمماليك كانت وجاق أو دولة من سلاطين مصر أصلهم من الجراكسة، والتتر الذين اغتصبوا كرسي الملك في مصر سنة ١٢٤٩ب.م ودامت دولتهم إلى سنة ١٥١٦ب.م يوم تغلَّب عليهم وفتح البلاد السلطان سليم الأول. أما أسواق القسطنطينية، فهي في حكم أسواق الشام ومصر، لكنها عظيمة وأكبر منها وغالبًا تراها غاصة بالخواتين والجواري، حتى يتعذر المرور بين موكب حافل أنيق جدًّا كأنه في الأوبيرا، والأوبيرا: هو محل للغناء والرقص مفروش بالمفارش الفاخرة، وأشهر هذه الأسواق سوق البازستان، وهو مبني بالحجارة، وله أبواب لا تفتح إلا في أوقات معلومة من النهار، وفيه أقدم تجار المسلمين وأغناهم، وفيه تباع الأسلحة الثمينة والملابس الفاخرة والتحف النفيسة، ويلاصق هذا السوق عدة أسواق شهيرة، وهي قلبقجي چارشوسي؛ أعني سوق القلبقجية، وهي في غاية ما يكون من الحسن والاتساق، تشتمل على نحو مائتي حانوت في الجانبين.

وفي الوسط مخزن متقَن جدًّا، قد أُعد فيه قبلًا كرسي عظيم لجلوس الحضرة الشاهانية في بعض الأيام، وأوزون جارشو: وهو سوق طويلة يباع فيها جميع البضائع والأقمشة الإفرنجية والشرقية. أما اللغات في القسطنطينية، فمختلفة من تركية ورومية وعبرانية وأرمنية وعربية وفارسية ومسكوبية وبوهمية وهنكارية وبولاندازية ونمساوية وبروسيانية وهولاندازية وفرنسوية وإنكليزية وإيطاليانية، وكلها تُسمع غالبًا في سوقٍ واحد. أما لبس نساء الأتراك حينما يخرجنَ من المدينة، فغطاؤهنَّ ضافٍ من الرأس إلى القدم، وفسطان أو إزار جوخ أخضر واسع محلول، وأحيانًا بخلاف لون، وفوق الفسطان خمار، وقد يتفاخرن جدًّا، ويرغبن في لبس الحُلي كالجواهر والدرر والفرو الثمين … إلى غير ذلك، على أن ملابس الخواتين أو السيدات في القسطنطينية من الأتراك أيضًا، هي غاية في الظرف والكياسة، وأعناقهنَّ تزدان بالعقود الدرِّ المنظومة من الدرِّ الكبير، وفي الجملة إن لبسهنَّ يظهر بكثرة المجوهرات — كما ذكرنا قبلًا. ثم إن أهل القسطنطينية يشربون القهوة في كل وقت من النهار، ويحسبونها دواءً لوعكات المزاج وعلاجًا للعوارض في الجسم، وأفضل المكيفات والتلهيات عندهم إنما هو التدخين، وأول من أدخله إلى القسطنطينية أهالي هولاندا سنة ١٦٠٥ب.م، وحاصل القول أن القسطنطينية من أحسن مدن العالم موقعًا كما قال الشاعر المجيد والناثر الفريد الحبر الفهامة المرحوم بطرس أفندي كرامة، مادحًا إياها:

مذ جئت إسلامبول شمت محاسنًا
دعت المحاسن كلهنَّ إلى ورا
فملوكها خير الملوك وربعها
خير الربوع وأهلها خير الورى

وأهل هذه المدينة هم في غاية اللطافة والأدب والدعة، يُؤانسون الغريب ويُكرمون مثوى الضيف، ولهم حذاقة في العلوم والصنائع، ولهم حسن محاضرة ومذاكرة، ناهيك بما هم عليه من صون اللسان عن السفاهة والمجون، وعندهم التأنق في الأطعمة، والملابس الفاخرة، والإكثار من اتخاذ المآدب الفاخرة، ونساؤهم في الغالب حسان ظريفات. ثم إن المدافن في القسطنطينية كثيرة، ولبديع رونقها تراها مزينة بشجر السرو المتدلي على مماشيها الفسيحة، فلذلك ترى أحراش شجر السرو حول القسطنطينية بعيدًا عنها على مسافة أربعة أميال. أما أغطية أكثر المدافن والحجر فإنك تراها متوجة بعمامة هيئتها، وشكلها يشير إلى صنعة أو صفات المتوفى نحو مدفن حضرة ساكن الجنان المبرور السلطان محمود، الكائن بقرب باب همايون، وهو حجرة كبيرة أرضها من الخشب المرصع بالعاج، وعليه نقش تاريخه، وفوقه طربوش عليه نيشان كبير من حجر الماس، وهو طربوشه الذي كان يلبسهُ وعلى جانبيه أجداث لبعض نسائه، وجماعة من الآل الملكي، وهناك شماعدين وقناديل من الفضة الخالصة، وأرض المكان مفروشة بالطنافس، والسقف منقوش بالدهانات الملونة، وخارج المدفن جنينة كبيرة أنيقة، وفي خارج ذلك المكان يبين للناظر كثير من القصور الخصوصية والأبراج التي تحل فيها الحضرة الشاهانية، ومنها القصر الجديد المبني على شاطئ البوسفور. ومما يستحق المشاهدة أيضًا مقبرة ساكن الجنان السلطان عبد الحميد، ومقبرة المرحوم السلطان بايزيد بالقرب من جامعه، ومقابر أُخر غير هذه للسلاطين في وسط المدينة، ومساجد لا حاجة لذكرها هنا.

أما محل الزوارق في القسطنطينية، فلا يخلو غالبًا عن أقل من ثمانين ألف زورق تسير في مياه القسطنطينية ومياه الأبنية والصوائح الخارجة عن المدينة، وفي هذه المدينة سراية طويلة بغجه الشهيرة، وهي من الأعمال العجيبة دام البناء فيها نحو ست عشرة سنة وصرف عليها نحو ثلاثمائة ألف كيس، ثم محلة بشكطاش، وهناك چراغان سراي، وهي السراية الهمايونية المرتبة أحسن ترتيب، ثم وطرابيا وبيوكدرا، وهذان المحلان يتردد إليهما رجال الدولة والسفراء والذوات من الإفرنج والنصارى، فيمكثون هناك مدة الصيف، وفيها المنازل الفاخرة، والمياه العذبة، وتعلوها أحراش من شجر الكستنا، وبالقرب منها أماكن للتنزه، ثم مقابل القسطنطينية محل أسكودار، وموقعه تجاه شط آسيا، ومساحته ميل مربع، وفيه مرسى عظيم أيضًا لتجارة الشرق وأشغال كبيرة في الحرائر والأقمشة والجلود وخلافها مما يوجد هناك، وفيه عدد وافر من الخانات والمخازن وبوسطة الحكومة السنية والسراية الملكية وقِشَل الحرس الملكي … إلخ، وهذا الموقع تعين محطة للمركبات في الطرق المؤدية إلى ولايات المملكة الشرقية، وهي في ذلك القسم الذي يمتد من بوغاز القسطنطينية والخليج الغربي إلى شرقي البحر الباسيفيكي، وينفصل عن القسطنطينية بالبوغاز. أما مكان أسكودار المذكور، فيحسب من الأبنية الخارجة عن القسطنطينية، وأن يكن عرض لسان البحر الداخل في وسطه نحو ميل، ثم إنهم يقسمون القسطنطينية باعتبار وضعها إلى أربعة أقسام؛ الأول: هو المدينة الكبيرة القديمة، وهو يشتمل على الأبنية والقصور العظيمة والقشل الفسيحة والأسواق الكبيرة المتقنة، وله سور عظيم كان من أعظم الأسوار، وفيه الجوامع العظيمة الشامخة ذات المنابر الشاهقة المموَّه أعلاها بالنحاس المذهب، والقسم الثاني: الغَلَطة، والثالث: البوغاز، والرابع: أسكودار، وقد تقدم الكلام قبلًا على كل هذه الأقسام في مواضعها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤