الفصل الأول

الأوهام الاشتراكية

يجب أن يفرق بين الاشتراكية التي نماري في مذاهبها، وبين حركة التضامن الاجتماعي التي نرى انتشارها في كل مكان، فحركة التضامن الاجتماعي ليست وليدة نظريات الاشتراكية، بل إن انتصار هذه النظريات يعوق سيرها.

إذًا لا نكون بمناهضتنا نظريات الاشتراكية مقاومين لحركة التضامن الاجتماعي التي لا يدور في خلد أحد أن يحول دونها، فتقدم طبقات العمال مادة ومعنى من المسائل التي تهم جميع الناس، والدليل على ذلك ارتياح الكل لمشروعات التأمين ضد مصائب العمل وإنشاء بيوت للعمال ومنح العمال رواتب تقاعد وتعليم العمال والاعتناء بصحتهم وفتح اعتمادات مالية للمزارعين وتنظيم أمور التعويض … إلخ.

للاشتراكية مذاهب مختلفة لا يصل بينها سوى الحقد الشديد على النظام الحاضر، ويظهر أن الاشتراكية الحكومية ستحل محل تلك المذاهب، فهي ذات صوت مسموع في البرلمان وتملي عليه كثيرًا من مقرراته، على أن نجاحها لا يستمر طويلًا، فقد أخذ ينتشر بين العمال في ألمانيا وفرنسا وبلدان أخرى مذهب جديد اسمه المذهب النقابي، فهذا المذهب يحول قلوبهم عن الاشتراكية الحكومية.

نرى بين المذهبين فرقًا واضحًا، ولا يكتم أنصار المذهب النقابي هذا الفرق مع أن الاشتراكيين الحكوميين يخفونه لعلمهم مناقضته لنظرياتهم ولشعورهم بتحول روح الشعب عنهم، وعلى ما يبدونه من التذلل للنقابيين لا يفتأ هؤلاء يذكرون في الجرائد والمؤتمرات الفوارق التي يبتعدون بها عن أولئك، ففي مؤتمر (أميان) الذي اشترك فيه أربعمئة ممثل لألف نقابة «اقترح أن تكون النقابات على صلة بالحزب الاشتراكي، فرفض ذلك بما يقرب من الإجماع».

ويهتم النقابيون ببيان ما في الاشتراكية الحكومية من الأوهام والخيالات، ففي مؤتمر سنة ١٩٠٧ خاطب أحد أعضاء المذهب النقابي النافذين رئيسًا من رؤساء الاشتراكيين في فرنسا بما يأتي: «مبادئكم وهمية لأنها تعزو إلى قوة الحكومة القاهرة ما ليس فيها من قدرة على الخلق والتكوين، فأنتم لن تستطيعوا إحداث مجتمع جديد، ولن تقدروا على منح العمال أهلية يديرون بها أمور الإنتاج والمقايضة. نعم ستصبحون سادة حينًا من الزمن، وستقبضون على السلطة التي هي في أيدي أبناء الطبقة الوسطى وستكثرون من وضع المراسيم ولكنكم سوف لا تأتون بالمعجزات، فتجعلون العمال مستعدين للقيام مقام أرباب رؤوس الأموال، قولوا لنا كيف يوجب قبض بضعة رجال على أمور الدولة تغيير مزاج الجموع النفسي وتبديل المشاعر، وزيادة القابليات وإبداع قواعد جديدة للحياة؟»

ولم يقع انفصال النقابيين عن الاشتراكيين الحكوميين في فرنسا وحدها، بل وقع في ألمانيا أيضًا، ففي مؤتمر (مانهايم) الذي عقد سنة ١٩٠٦ رأى الاشتراكي (بيبل) وحزبه أنفسهم أمام رجال من أنصار المذهب النقابي، فاضطر (بيبل) — للمحافظة على نفوذه — إلى الإذعان للمطاليب النقابية على رغم تصريحاته السابقة.

والنقابيون يرفضون محالفة الاشتراكية، فقد كتب أحدهم «أن الاشتراكية تسعى في توسيع نطاق النظم الإدارية، فهي مبدأ ضجر وضعف يود أن يحمل الحكومة على القيام مقام الأفراد في العمل، وهي وليدة شعوب شائخة تنحط اقتصاديًّا».

لم تكن تلك الحقائق معروفة منذ بضع سنوات إلا عند قليل من علماء النفس، فأصبحت اليوم معروفة عند كثير من العمال، ثم إن بعض الاشتراكيين المتنورين اطلعوا على كلام الخطباء الفارغ في حكم الصعاليك المطلق وحلولهم محل أبناء الطبقة الوسطى، قال (برنستاين): «إن حكم الصعاليك المطلق هو بالحقيقة حكم خطباء الأندية وفرسان البيان.»

وما يوجهه النقابيون إلى الاشتراكيين من السهام يورث هؤلاء جنونًا فيجعلهم يقبلون على أشد المبادئ تطرفًا كالمبادئ غير الوطنية، فقد نشرت إحدى جرائدهم الرسمية في الصفحة الأولى صورة رمزية تمثل العمال وهم يمزقون أعلامًا محتوية على أسماء أعظم رجالنا في التاريخ، ولم يصن ذلك الإقبال الشائن الاشتراكية من الانحلال، فهي اليوم تفترق إلى فرق متشائمة تظن كل واحدة منها أنها على الحق المطلق.

تئن جرائد الاشتراكية من هذا الانشقاق، ولم يسعها غير بيانه ونشر أمره، فقد جاء في عدد جريدة «الحركة الاشتراكية» الصادر في ١٥ كانون الثاني سنة ١٩٠٨ ما يأتي: «تتورط الاشتراكية في أزمة مستعصية، ونرى سيرها المجيد الذي أفعم القلوب في القرن الماضي بأطيب الآمال يتدرج إلى الإفلاس المحزن، إذ يظهر بجانب الاشتراكية الثورية أنواع اشتراكية غريبة كالاشتراكية الحكومية، والاشتراكية البلدية، والاشتراكية الماسونية والاشتراكية الوطنية … إلخ، فمتى تظهر الاشتراكية الرأسمالية يا ترى؟»

إذًا يبدو الوهم المتسرب في الاشتراكية الحكومية لكثير من الناس، ولا يمنعها ذلك من أن تكون قوية في البرلمان فتؤدي إلى سن كثير من القوانين المضرة؛ فلذا نرى الإشارة إلى أخطارها لا تخلو من فائدة، وسوف نفصل في فصل آت المذهب النقابي الذي هو أكثر أهمية من الاشتراكية الحكومية لصدوره عن مقتضيات الاقتصاد الحاضرة لا عن الوهم والخيال.

•••

إن من مقاصد الاشتراكية القضاء على التفاوت الطبيعي بالتسوية بين الناس في المعايش. وترجو الاشتراكية أن تصل إلى ذلك بإلغاء الملكية وثروة الأفراد وبإدارة الصناعات من قبل الحكومة، فهذا المذهب من مظاهر النزاع الأزلي بين الغني والفقير وبين القوي والضعيف، وقد عرفه البشر منذ أوائل التاريخ، وما شذت أمة عن ورود سنته، فبه أضاع الإغريق استقلالهم وبه غاب النظام الجمهوري وقام مقامه النظام الإمبراطوري في روما.

وقد كانت الثورة الفرنسوية غير ملائمة للاشتراكيين، فهي — وإن قالت بالمساواة — أعلنت بعد أن جردت الأشراف والإكليروس من أموالهم أن حق التملك مقدس، وأنه دعامة النظام الاجتماعي ثم قضت على كل نزوع إلى الشيوعية بقصل رقاب أنصارها.

وكيف ظهرت الاشتراكية الحديثة، ثم انتشرت فأصبحت ديانة حقيقية؟ بما أننا أجبنا عن ذلك في كتابنا «روح الاشتراكية» لا نسهب في بيانه الآن.

للصيغ المبهمة الوجيزة فائدة كبيرة في عالم السياسة كما في عالم الدين، فكل يفسرها حسب هواه، وليس بينها ما هو مستغلق كصيغة الاشتراكية في الزمن الحالي، فهي في نظر من هم راضون بنصيبهم معبرة عن شوقهم إلى تحسين معايش طبقات الشعب الخطرة، وهي عند الساخطين عنوان سخطهم، وهي عند النظريين كناية عن نظام اجتماعي ملائم لأحلامهم جدير بأن يحل محل النظام الاجتماعي الحاضر.

والصفة الرئيسة للاشتراكية هي الحقد على جميع الأفضليات: أفضلية النبوغ وأفضلية الثروة وأفضلية الذكاء، والاشتراكية عند أتباعها حلت محل الآلهة القديمة، وأضحت قوة ذات أسرار قادرة على إزالة حيف الطالع، فهي في نظرهم ستقيم على أنقاض المجتمع الشائخ عالمًا جديدًا ينال كل الناس فيه سعادة أبدية.

وما في المذهب من مستحيل لا يعوق انتشاره، فالاستحالة تلائم أكثر غرائز الناس، ثم إن المذاهب تستحوذ على النفوس بما تحييه فيها من الآمال لا بما تدعو إليه من المعقول، وهي بعد أن توجب في النفوس تحولًا تنتصر على رغم مخالفتها للعقل والمنطق، وفي إيجاد هذه التحولات ينحصر شأن الرسل، وقد تيسر للمذهب الاشتراكي عدد غير قليل منهم.

ويذكرنا انتصار الاشتراكية بانتصار المسيحية في بدء أمرها، فلقد انتشرت المسيحية أيضًا مع ما في مبادئها من منطق ضعيف ومع ما أتى به الفلاسفة من انتقاد لها، وما لبثت — بفعل التلقين والعدوى النفسية — أن اعتنقها أصحاب النفوس النيرة وأولو العقول الراجحة.

وأهم سبب في نجاح الاشتراكية ظهورها في وقت يكفر الإنسان فيه بآلهته القديمة باحثًا عن آلهة أخرى، فالإنسان لا يقدر على العيش من غير دين، أي من غير أمل.

ولا فرق بين الطبقات الاجتماعية كلها من هذه الجهة، فإذا كفرت الطبقات بالآلهة فلتؤمن بالأصنام، وبهذا نفسر السبب في انتشار الاشتراكية بين الخواص كانتشارها بين العوام، وقد أصبح هذا المعتقد من القدرة على سحر الناس بحيث يجعل الطبقات المتعلمة تضيع كل يقين بعدل قضيتها، ولا تدافع أمام أوقح الخطباء، فكأنه ران على قلوبها الخوف وحب الإنسانية المبهم الذي هو بالحقيقة مظهر مبهم حقير للأثرة وعلامة انقراض كما لاحظ (رينان).

ولا تنتشر الاشتراكية لما في مثلها الأعلى المادي الذي نقترحه من قيمة بل على رغم هذا المثل الأعلى، أي إنها تنتشر لما تبذره في النفوس من أمل ديني في جنات دنيوية يتمتع فيها جميع الناس بسعادة سرمدية، وقد أتيح لي مرات كثيرة أن أثبت أن الناس اقتتلوا في غضون التاريخ في سبيل المبادئ أكثر مما في سبيل قضاء حاجاتهم المادية، فالأمل بالعمل تحت سيطرة حكومة اشتراكية لكسب العيش لا يستهوي أحدًا، وقد توصل الموسيو (دافنيل) في كتابه «اكتشافات الاقتصاد الاجتماعي» إلى مثل هذه النتيجة ولكن على طريقة أخرى، فانظر كيف يعبر عما في نفسه:

ليس لرغد العيش غير مكان ضئيل في تاريخ الأمم، فما رأوا أن يفكروا فيه إلا بعد دهر طويل، وقد جدوا زمنًا كبيرًا في نيل أطايب هي من نوع آخر، أي إن الحضارة في القرون القديمة والقرون الوسطى بحثت عن الجميل قبل أن تبحث عن المفيد، فبرعت في إقامة المعابد والتماثيل قبل أن تبرع في صنع المصابيح والمظال وتعلم الناس فيها الكتابة قبل أن يطلعوا على أصول التدفئة، واكتشفوا المنقاش قبل اكتشاف الشوكة.

عاش الناس للمبدأ والخيال أكثر مما للمادة، فقد مجدوا رجال الحرب الذين أتوا بضروب البطولة، وأحيوا ذكريات قادة الفكر وأرباب الفن الذين لم تكن لآثارهم فائدة عملية، وأما الذين أتوا بالمخترعات التي لا غنية للناس عنها فيظهر أن أسماءهم طمرت في عالم النسيان، فكأن الناس ما عاشوا وما ماتوا إلا لأجل المبادئ.

واليوم نرى الذين هم أكثر الناس تمسكًا بالأموال والملاذ يركضون وراء نعيم خيالي أكثر مما وراء قضاء حاجة جثمانية.

لم أبدأ بإدراك ما في أقوال علماء اللاهوت في القرون الوسطى من الهذيان إلا بعد أن قرأت هذر الاشتراكيين في تكوين المجتمع القادم، فما أشبه هؤلاء بأولئك في جهل طبيعة البشر ومقتضيات الاقتصاد، وفي الأوهام والخيالات، وفي الميل إلى القضاء على الحال لتحقيق ما تصوروه.

حقًّا لقد ترك علماء اللاهوت وارثين لمزاجهم الذهني، فالأوهام لم تفعل سوى تبديل اسمها، ولا فرق بين ما توجبه الآن من التعصب والتخريب وبينه في الماضي، والاشتراكية لأنها ديانة ذات رسل فيهم ما في علماء اللاهوت من عدم التسامح نراها ذات مبادئ ولهجة وعقائد وطرق في النشر والإذاعة مماثلة لما يقابلها في دين أولئك العلماء.

قال (ساجيره): «لم نطفئ نجومًا خيالية إلا لنضيء نجومًا خيالية أخرى، أي لا فرق بين المدنية المقبلة وبين أورشليم المقدسة، فكلتاهما لاهوتيتان.»

إن في نصرانية الأجيال الأولى التي نرى بينها وبين الاشتراكية شبهًا كبيرًا عامل نجاح لا يوجد في الثانية، فالنصرانية تقول بثواب في جنات الآخرة، وأما الاشتراكية فبما أنها تعد منذ ستين سنة بسعادة دنيوية لم تتحقق بعض تضعضع يقين الناس بها، وأخذ يحل محلها المذهب النقابي الجديد الذي لا يدانيها في الوهم والخيال.

تقوم الاشتراكية الحكومية على كثير من الأوهام التي أخذنا نبصر بطلانها، ويمكن إرجاعها إلى المقترحات الآتية وهي: أولًا إقامة مجتمع جديد بمراسيم تمليها الثورة، ثانيًا إلغاء رؤوس الأموال التي هي مصدر كل شر وشقاء لنشر ألوية السعادة العامة، ثالثًا استيلاء الحكومة على الأملاك والصناعات وإدارتها على يد جحفل من الموظفين وتوزيع المنتجات بواسطتهم على أعضاء المجتمع.

ويسهل تصوير مجتمعات وهمية على الورق قائمة على مثل تلك النظريات التي لا تبالي بالعواطف والمشاعر، ومقتضيات الاقتصاد وحقائق الأمور، فمجتمعات مثل هذه جنات أولي النفوس الساذجة.

لا تزال تلك الأوهام ذات قدرة في فرنسا على الأقل، فهي تورث النفوس اعتمادًا تامًّا على أصحاب القهوات وعلى صغار الباعة الذين يتألف منهم كثير من لجان الانتخابات وتصدر عنهم القوانين الشديدة الخطر، ولا أحد ينكر أن ابتياع بعض السكك الحديدية المهمة تم كضريبة الدخل بفعل المبادئ الاشتراكية، فأما ابتياع تلك السكك فالغاية منه احتكار الحكومة جميع الصناعات، وأما ضريبة الدخل فلا ترمي إلى غير الوقوف على أحوال أبناء البلاد المالية حتى يصبح أمر نزعها من يد أصحابها ممكنًا في المستقبل، ويعلم الاشتراكيون أن مثل هذه الضريبة لا يستقيم إلا بشيء من الجور والاضطهاد، أي بما يزيد النظام الجمهوري أعداءً والمجتمع تقويضًا.

ويحتمل أن أشد أوهام الاشتراكيين بطلانًا هو حكمهم بالقضاء على الطبقة الوسطى مع أن كفاءة هذه الطبقة وذكاءها ورؤوس أموالها أوجبت إيسار الصناعات التي يعيش العمال منها، فلنفرض أن رب عمل يستصنع في مصنعه ألف عامل ويربح كل سنة أربعمئة ألف فرنك وهب مصنعه لعماله، فإن أجرة هؤلاء العمال تزيد عشرة سنتيمات كل يوم من جراء توزيع ذلك الربح عليهم، غير أن هذه الزيادة لا تلبث أن تنقص كثيرًا لقلة من يقدر على إدارة الصناعات الكبيرة ولأن الأرباح تقل بنسبة ما في كفاءة رؤساء الصناعة من الضعف، هذه حقيقة ساطعة لا يودُّ الاشتراكيون أن يعترفوا بها وأن يعلموا أن أصحاب الأهلية في الصناعات الحاضرة عبارة عن آلات ثمينة لا تكافأ بما تستحق.

وفضلًا عن ذلك لنفرض أن النصر تم للاشتراكية وبوشرت التسوية بين الناس في الأجور، حينئذ نرى جميع أصحاب الذكاء — من علماء وأرباب فن ومخترعين وعمال ماهرين — يهاجرون إلى البلدان المجاورة حيث يستقبلون بحماسة، إذ النبوغ يجزل لصاحبه الأجرة في كل مكان، وهكذا لا تظل الاشتراكية سائدة إلا لمجتمع مؤلف من أشخاص كثيري الانحطاط.

ومما يسحن الإلماع إليه أنه ليس على الفاتح الذي يود أن يستولي على بلاد أصبحت اشتراكية إلا أن يرفع أصبعه لينال ما يتمنى، ويجيبنا الاشتراكيون عن ذلك بأنه لا فرق في نظرهم بين رب العمل الإفرنسي وبين رب العمل الألماني، فكلاهما عنوانان لشيء واحد، وإنا حرصًا على إزالة هذا الوهم نحيلهم على كتب التاريخ ليروا ماذا كان مصير الأمم التي أوقعها الشقاق تحت نير الأجنبي، ومن الأمثلة على ذلك ما وقع لبولونيا التي يجلد الألمان أبناءها وينزعون أملاكهم من أيديهم والتي يرمي الروس رجالها بالرصاص عندما يرفعون عقيرتهم حاظرين عليهم تعلم لغتهم القومية، فعندي أن ما صارت إليه بولونيا جدير بأن ينقش بحروف من ذهب على قاعات كل مؤتمر يعقده الاشتراكيون حيث يأتون بمقررات منافية لمصالح الوطن العامة.

على أن الاشتراكية قصيرة الأجل بعد أن يتم لها النصر، فسرعان ما يسلم الشعب مقاليد الأمور إلى مستبدين منقذين بحماسة كالتي سلم بها زمام الحكم إلى من عانت فرنسا حكمهم منذ الثورة الفرنسوية، وريثما تستقر الأحوال على هذا الوجه يصيب البلاد ما لا يتصوره العقل من سلب وتخريب، وإني أشاطر (لافيلي) رأيه القائل: «إن الاشتراكية المنتصرة تقضي على رؤوس أموالنا بالديناميت وزيت البترول، أي بهمجية لم ترَ باريس مثلها في عهد (الكومون) سنة ١٨٧١.»

وقد بحث (فاغيه) عن الكيفية التي تنتصر بها الاشتراكية فتوصل مثلي إلى أنها قد تنتصر بفضل ما يلحق الجيش من ضعف في قوته الأدبية، وما حدث أيام (الكومون) يثبت لنا إمكان سقوط الحكومة بغتة، وقد يتم هذا السقوط على وجه أبسط بفعل بعض التدابير الاشتراعية، فعند المؤلف المشار إليه «يكفي قرار اشتراعي كقرار سنة ١٧٩٠، أو إسقاط البرلمان من قبل الشعب لنزع أموال الطبقة الوسطى ومعاملتها بما عومل به الإكليروس والأشراف أيام الثورة الفرنسوية، والجمعيات اليسوعية في السنين الأخيرة».

ويظهر أن نفحة جنون أعمت بصائر أبناء الطبقة الوسطى في أيامنا، فإنك تراهم يكدحون في تقويض أركان المجتمع الذي يحميهم ولا سيما ركن المالية وركن الجيش، أي إنهم يضعضعون بالتدريج كل نظام ويستحسنون أسوأ التدابير المالية والعسكرية التي يقترحها الاشتراكيون غير عالمين أن انتصار الاشتراكية يؤدي إلى استبداد أشد من استبداد الملوك.

إذًا أبناء الطبقة الوسطى واهمون لاتباعهم التيار الذي يدفعهم، والذي يقدرون على تحويل وجهته إن لم يستطيعوا منعه، وهم قد فقدوا كل شعور بأفضليتهم وقدرتهم وقيمتهم، وصاروا لا يدركون أن المجتمع لا يعيش من غير نظام وتقاليد وسلسلة مراتب، وبما يجهلونه على الخصوص هو فن مخاطبة الجماعات وحقيقة روحها البسيطة، وأن خيال العامل هو أنه مستثمر من قبل رب العمل، وأن على الحكومة أن تزيد أجرته.

قال الموسيو (بوردو): «ليس للجماعات رأي خاص صريح، فهي تشاطر رأي الخطيب الذي يخطب أمامها، سواء أجمهوريًّا كان أم إكليروسيًّا أم وطنيًّا أم دستوريًّا أم نقابيًّا ثوريًّا.»

حقًّا تنظر الجماعات إلى الأمور بحسب ما يؤثر الخطباء فيها، وهي لا تنظر إلى ما يقيمونه من الأدلة والبراهين، بل تتحزب كالنساء للأشخاص دون أن تعي ما يجيء في خطبهم، وهي تسلم بجميع الحقائق إذا كان قائلها يروقها، والخطيب يروقها إذا كان متحمسًا نشيطًا، فقد شوهد في إحدى مديريات الشمال التي تعد حصن الاشتراكية المنيع مرشحًا محافظًا انتخب نائبًا عنها مكان رئيس كبير للاشتراكية، لا بما أدلى به من المعقولات، بل لأنه عرف كيف يحبب نفسه إلى الجماعات، ويجعلها ترى فيه السيد الذي تبحث عنه على الدوام.

والجماعات على رغم غرائزها الثورية الظاهرية لا ترى إلا أن تطيع، والتاريخ حافل بما يؤيد ذلك، فأشد العمال عنفًا يخضعون غير مجادلين لأوامر اللجان الثورية فيعتصبون دون أن يفكروا ولو قليلًا في نتائج الاعتصاب، وما كان لويس الرابع عشر أو بوناپارت ليجسر على إصدار أوامر جائرة كالتي تصدرها تلك اللجان الغامض أمرها.

•••

ذكاء كثير من الاشتراكيين يمنعهم من الاعتماد على مبادئهم عندما يصلون إلى دائرة السلطة، فهم لانتسابهم وقتئذ إلى الطبقة الوسطى يطلعون على ما فيها من المزايا والصفات، ومن ذلك قول الوزير الاشتراكي الموسيو (فيفياني): «يعيش حول الصعاليك أبناء من الطبقة الوسطى ذوو أعمال ومصالح وعزم ورغبات، ومن قلة الإنصاف تعريضهم لغضب العمال واستخفافهم، فهم الذين أثبتوا بمن ظهر منهم من المفكرين والفلاسفة أن ملكوت السماوات وهم.»

ولو لم يبدد أبناء الطبقة الوسطى كثيرًا من الأوهام ما استحقوا هذا الاعتراف، ولا أعلم عن ملكوت السماوات أوهم هو أم لا، كما أنني أعتقد أن الموسيو (فيفياني) لا يعلم ذلك أيضًا، ويقوم إنكار ملكوت السماوات على فرضية لا يسلم بها أكثر الفرنسويين، فعلى الرجل السياسي الحقيقي أن يعرف كيف يحترم جميع المعتقدات، وأن يحكم الأمة بمبادئها لا بمعتقداته الخاصة، وإذا كانت فرضية ملكوت السماوات لا تزال مشتبهًا فيها فلم تتم مبتكرات الحضارة إلا بفضل أبناء الطبقة الوسطى، فمن هؤلاء ظهر أرباب الفن والصناعات والفلاسفة والعلماء في كل زمن.

وقال الموسيو (كليمانسو) في إحدى خطبه: «ليست الديمقراطية حكومة الجموع، فكل تطور يقع في المجتمع يكون بجهود المفكرين الشخصية، ولا يكون الرقي إلا بملاءمة الجموع أفكارًا اختبر صحتها بعض أولي العبقرية.»

ولا تقل إن هذه الحقائق مبتذلة معروفة لدى الناس جميعهم، فرجال السياسة لا يفقهونها إلا عند تربعهم على دست الأحكام، وهي لا تؤثر في الاشتراكيين الثوريين الذين يعللون أنفسهم بنقض المجتمع الحاضر. نقول ذلك ونحن نعلم أن هؤلاء الرسل المشاغبين يدركون بقليل من إنعام النظر أنه لا ينالهم شيء من تبديل الحكومة التي يلعنونها، أي إن الذين يبقون منهم أحياء بعد المذابح التي تحدث لا يلبثون أن يروا طرز الحكم لم يتبدل إلا قليلًا، فيصبحوا من الرجعيين، وهذا ما شوهد في كل مرة جاء فيها القياصرة ليقضوا على الفوضى.

وعلى الثوريين المنتصرين أن يختاروا إحدى الطريقين، إما أن يبقوا ثوريين رافعين أعلام الفوضى وحينئذ تتفق جميع الآراء ضدهم فلا يدوم سلطانهم، وإما أن يحكموا البلاد بأسلوب مماثل لحكم الماضي، وهذا ما يفعله جميع المشاغبين المنتصرين، فكل من يدعو الناس قبل أن يقبض على زمام الحكم إلى التمرد والاعتصاب العام واستعمال العنف والقسوة لا يلبث أن يحارب هذه المنازع عندما يصير سيدًا لا لخيانة يخون بها مبادئه بل لاكتشافه أن حياة الأمة قائمة على محافظة بعض القواعد التقليدية.

والخطر الحقيقي في ضعف أولي الأمر منا، لا في صولة رجال الثورة، فمتى تصبح بلاد مشبعة من الفوضى ومصالح مهددة بالاعتداء عليها، ومتى أضحى لا يرى فيها غير خطب هذرية، ووعود كاذبة وقوانين عقيمة يبحث سكانها عن حاكم مطلق قادر على إعادة النظام وحماية العمل، على هذا الوجه غاب كثير من النظم الديمقراطية عن الوجود.

نعم إن الحكم المطلق يوطد النظام حينًا من الزمن، إلا أنه مؤدٍّ لمعركة كمعركة (واترلو) و(سيدان) ثم إلى افتتاح الأجنبي للبلاد، ولم يأسف الرومان على تسلم (أغسطس) مقاليد الأمور، غير أن حكم (أغسطس) جعل ظهور أمثال (تيبريوس) و(كاليغولا)، ثم الانحطاط التدريجي وانقراض روما على يد البرابرة أمورًا ممكنة.

لقد تطلبت إعادة العالم الذي قضى عليه البرابرة ألف سنة لم تهدأ في أثنائها الحروب والثورات، واليوم نرى البرابرة داخل أسوارنا تاركين إياهم يمعنون في تقويض بنيان اجتماعي لم يبلغ ما بلغ إليه إلا بمصاعب عظيمة، ففي بعض الأحيان يزول المجتمع سريعًا، ولكنه يجب مرور قرون كثيرة لإعادته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤