الشَّمْعَدانُ الْحَدِيدِيُّ

(١) فِي مَدِينَةِ «الْبَصْرَةِ»

الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» رَجُلٌ رَحَّالَةٌ، طافَ بِبِلادٍ كَثِيرَةٍ مُتَباعِدَةٍ. لا يَكادُ يَعُودُ يَوْمًا مِنْ سَفَرٍ، حَتَّى يُعِدَّ الْعُدَّةَ لِسَفَرٍ جَدِيدٍ. اسْتَفادَ مِنْ رِحْلاتِهِ الْمُتَوالِيَةِ خِبْرَةً واسِعَةً بِالْحَياةِ وَبِالنَّاسِ. اسْتَمَرَّ عَلَى ذلِكَ مُنْذُ شَبابِهِ حَتَّى بَلَغَ عُمْرُهُ السَّبْعِينَ.

فِي آخِرِ رِحْلَةٍ لَهُ ساقَتْهُ قَدَمُهُ إلَى مَدِينَةِ «الْبَصْرَةِ». كانَ قَدْ زارَها مُنْذُ زَمَنٍ بَعِيدٍ، واشْتاقَ أَنْ يَزُورَها مِنْ جَدِيدٍ. عَرَفَ فِيها، أَثْناءَ زِيارَتِهِ، بَعْضَ التُّجَّارِ، وَأَصْبَحَ لَهُ أَصْحابٌ.

لَمَّا بَلَغَ مَدِينَةَ «الْبَصْرَةِ» فاجَأَهُ هُناكَ مَرَضٌ أَلْزَمَهُ الْفِراشَ. وَجَدَ أَنَّهُ مُحْتاجٌ أَشَدَّ الِاحْتِياجِ، في مَرَضِهِ، إِلَى مَنْ يَخْدُمُهُ. قالَ: «إِنَّ مِنْ أَصْحابِي في مَدِينَةِ «الْبَصْرَةِ» مَنْ يُعِينُونِي.» جَعَلَ يَسْتَعْرِضُ أَسْماءَ أَصْحابِهِ، لِيَخْتارَ مِنْهُمْ مَنْ يَثِقُ بِهِ.

وَقَعَ اخْتِيارُهُ عَلَى صَدِيقٍ لَهُ، اسْمُهُ الشَّيْخُ «أَبُو الْيُسْرِ». لَقَدْ عَرَفَ في صَدِيقِهِ هذا كَرَمَ الصُّحْبَةِ، وَصِدْقَ الْمَوَدَّةِ. أَرْسَلَ إِلَيْهِ بِرِسالَةٍ، يُخْبِرُهُ بِحالِهِ، وَيَطْلُبُ مَجِيئَهُ إِلَيْهِ. الْمِرْسالُ أَخَذَ يَسْتَدِلُّ عَلَى الشَّيْخِ «أَبِي الْيُسْرِ»، فَعَرَفَ مَكانَهُ.

(٢) فِي بَيْتِ «أَبِي الْيُسْرِ»

الْمِرْسالُ بَحَثَ عَنْ بَيْتِ الشَّيْخِ «أَبِي الْيُسْرِ»، واهْتَدَى إِلَيْهِ. وَصَلَ إِلَى الْبَيْتِ، وَطَلَبَ مُقابَلَةَ صاحِبِهِ، لِكَيْ يُبَلِّغَهُ الرِّسالَةَ. لَمْ يَكُنْ في الْبَيْتِ إِلَّا «سَلْمَى» زَوْجَةُ الشَّيْخِ «أَبِي الْيُسْرِ».

الزَّوْجَةُ قالَتْ: «ماذا تُرِيدُ مِنْهُ أَيُّها الطَّارِقُ الْكَرِيمُ؟»

الْمِرْسالُ قالَ: «أُرِيدُ أَنْ أَدْعُوَهُ إِلَى أَنْ يَزُورَ صَدِيقًا لَهُ.»

الزَّوْجَةُ قالَتْ: «تَعِيشُ أَنْتَ! تُوُفِّيَ زَوْجِي مُنْذُ سَنَةٍ كامِلَةٍ.»

الْمِرْسالُ عَبَّرَ عَنْ أَسَفِهِ، وَقَدَّمَ تَعْزِيَتَهُ إِلَى «سَلْمَى»، وَقالَ لَها: «سَأَنْقُلُ هذا الْخَبَرَ الْمُحْزِنَ إِلَى صَدِيقِهِ، الَّذِي أَرْسَلَنِي إِلَيْهِ.»

«سَلْمَى» سَأَلَتْ: «مَنْ هذا الصَّدِيقُ الَّذِي أَرْسَلَكَ إِلَيْنا؟»

الْمِرْسالُ أَجابَ: «هُوَ الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» الرَّجُلُ الرَّحَّالَةُ.»

«سَلْمَى» قالَتْ: «أَنا أَذْكُرُهُ؛ كانَ يَزُورُنا كُلَّما مَرَّ ﺒ«الْبَصْرَةِ».»

الْمِرْسالُ أَوْضَحَ أَنَّهُ يُعانِي مَرَضًا شَدِيدًا، وَأَنَّه طَرِيحُ الْفِراشِ.

«سَلْمى» أَضافَتْ: «مِنْ حَقِّهِ عَلَيْنا أَنْ نَهْتَمَّ بِهِ. هذا واجِبُنا نَحْوَهُ. اتْرُكْ لِي عُنْوانَهُ، وَسَأُرْسِلُ إِلَيْهِ وَلَدِي «رِضْوانَ» حِينَ يَحْضُرُ. ارْجِعْ إِلَيْهِ، وَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَأَخْبِرْهُ بِما أَعْلَمْتُكَ بِهِ مِنَ الْأَمْرِ.»

(٣) رِعايَةُ الْمَرِيضِ

الْفَتَى «رِضْوانُ» لَمَّا حَضَرَ، أَخْبَرَتْهُ أُمُّهُ بِزِيارَةِ الْمِرْسالِ.

بَعَثَتْ بِهِ إِلَى الشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ»، لِيَعْرِفَ ما يَحْتاجُ إِلَيْهِ.

الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» اسْتَقْبَلَ الْفَتَى «رِضْوانَ»، وَرَحَّبَ بِهِ. عَزَّاهُ عَنْ أَبِيهِ الْفَقِيدِ، وَقالَ: «فِيكَ الْعِوَضُ عَنْهُ يا وَلَدِي. أَسْأَلُ اللهَ، سُبْحانَهُ، أَنْ يُطِيلَ عُمْرَكَ، وَعُمْرَ والِدَتِكَ الْحَنُونِ.»

الْفَتَى «رِضْوانُ» اسْتَفْسَرَ مِنَ الشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ» قائِلًا: «أَخْبِرْنِي: ماذا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُقَدِّمَهُ لَكَ مِنْ عَوْنٍ يا عَمِّي؟» الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» شَكَرَ لَهُ سُؤالَهُ، وَلَمْ يَطْلُبْ شَيْئًا مِنْهُ.

الْفَتَى «رِضْوانُ» أَنْهَى زِيارَتَهُ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أُمِّهِ، وَقالَ لَها: «الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» فَرِحَ بِزِيارَتِي لَهُ، وَدَعا لَكِ وَلِي.»

الأُمُّ «سَلْمَى» أَقْبَلَتْ عَلَى وَلَدِها «رِضْوانَ»، في حُنُوٍّ، وَقالَتْ: «أَنْتَ في مَكانِ أَبِيكَ، تَعْمَلُ عَمَلَهُ، فَعَلَيْكَ رِعايَةُ صَدِيقِهِ».

الْأُمُّ «سَلْمَى» كَلَّفَتْ وَلَدَها أَنْ يُتابِعَ زِيارَةَ الْمَرِيضِ. كانَتْ تَبْعَثُ إِلَيْهِ، مَعَ وَلَدِها، بِما يَصْلُحُ مِنْ طَعامٍ وَدَواءٍ.

الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» كانَ يَتَلَقَّى هذِهِ الرِّعايَةَ الْكَرِيمَةَ بِامْتِنانٍ.

(٤) مُكافَأَةُ الْمَعْرُوفِ

الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» عاجَلَهُ الشِّفاءُ مِنْ مَرَضِهِ، وَتَرَكَ فِراشَهُ. فَكَّرَ في الْمَعْرُوفِ الَّذِي تَلَقَّاهُ مِنَ الْأُمِّ «سَلْمَى» وَوَلَدِها. لِذلِكَ أَرادَ أَنْ يُكافِئَهُما عَلَى مَعْرُوفِهِما الَّذِي صَنَعاهُ مَعَهُ. خَطَرَ بِبالِهِ أَنْ يَنُوبَ عَنِ الْأُمِّ في تَرْبِيَةِ وَلَدِها «رِضْوانَ».

قالَ في نَفْسِهِ: «أَبُوهُ كانَتْ لَهُ مَنْزِلَةٌ كَرِيمَةٌ عِنْدِي. أُمُّهُ أَكْرَمَتْنِي، وَأَسْدَتْ إِلَيَّ جَمِيلًا في مَرَضِي، لا أَنْساهُ. أَنا بِمَنْزِلَةِ عَمِّ الْفَتَى «رِضْوانَ»؛ فَواجِبٌ عَلَيَّ أَنْ أُعْنَى بِهِ».

الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» ذَهَبَ قاصِدًا بَيْتَ الشَّيْخِ «أَبِي الْيُسْرِ». شَكَرَ الْأُمَّ عَلَى أَنَّها أَكْرَمَتْ صَداقَتَهُ لِزَوْجِها كُلَّ الْإِكْرامِ. عَرَضَ عَلَيْها فِكْرَتَهُ في شَأْنِ قِيامِهِ بِتَرْبِيَةِ وَلَدِها «رِضْوانَ».

قالَ لَها: «فَتاكِ الْعَزِيزُ سَيَكُونُ عِنْدِي بِمَنْزِلَةِ وَلَدِي. سَيُسافِرُ «رِضْوانُ» مَعِي في رِحْلاتِي، مُدَّةَ عامَيْنِ اثْنَيْنِ. سَأَتَوَلَّى تَرْبِيَتَهُ، وَتَعْرِيِفَهُ بِشُئُونِ الْحَياةَ، وَأَحْوالِ النَّاسِ. سَيَعُودُ وَقَدْ نَضِجَ عَقْلُهُ، وَاسْتَنارَ فِكْرُهُ، وَكَمُلَتْ تَرْبِيَتُهُ».

اقْتَنَعَتْ «سَلْمَى» بِما عَرَضَهُ عَلَيْها الرَّحَّالَةُ الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ».

(٥) «رِضْوانُ» عَلَى سَفَرٍ

الْأُمُّ «سَلْمَى» وَدَّعَتْ وَلَدَها «رِضْوانَ»، وَدَعَتْ لَهُ بِالْخَيْرِ. تَمَنَّتْ لَهُ، وَهِيَ تُوَدِّعُهُ، سَفَرًا سَعِيدًا، وَعَوْدًا حَمِيدًا، بِإِذْنِ اللهِ.

بَدَأَ الْفَتَى «رِضْوانُ» رِحْلَتَهُ، مَعَ الرَّحَّالَةِ الشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ». كانَ يَتَنَقَّلُ مَعَهُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ، في الدُّنْيا الْواسِعَةِ الْعَرِيضَةِ. لَمْ يُقَصِّرِ الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» في الْعِنايَةِ بِالْفَتَى «رِضْوانَ». بَذَلَ كُلَّ جُهْدِهِ مَعَهُ: في تَعْلِيمِهِ، وَتَهْذِيبِهِ، وَرِعايَةِ صِحَّتِهِ.

«رِضْوانُ» لَقِيَ الْكَثِيرَ مِنْ بِرِّ الشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ» وَعَطْفِهِ. بِفَضْلِ صُحْبَتِهِ لَهُ وَإِشْرافِهِ عَلَيْهِ اتَّسَعَتْ مَعَارِفُهُ وَمَعْلُوماتُهُ. امْتَلَأَ قَلْبُ الْفَتَى عِرْفانًا وَتَقْدِيرًا لِجَمِيلِ ذلِكَ الشَّيْخِ الْكَرِيمِ. لَمْ يَمَلَّ لِسانُهُ أَنْ يَنْطَلِقَ بِالثَّناءِ عَلَى مُرُوءَتِهِ وَنُبْلِهِ. الشَّيْخُ كانَ يُقاطِعُ «رِضْوانَ» إِذا اسْتَرْسَلَ فِي شُكْرِهِ. كانَ يَقُولُ لَهُ: «لَيْسَ هُناكَ مِنْ مُسَوِّغٍ لِلثَّناءِ عَلَيَّ الْآنَ. لَكَ هذا حِينَ أُنْجِزُ مِنَ الْعَمَلِ ما يَنْفَعُكَ في الْمُسْتَقْبَلِ، ذلِكَ إذا تَهَيَّأَتْ لَكَ وَلِأُمِّكَ حَياةٌ سَعِيدَةٌ هانِئَةٌ.»

الْفَتَى «رِضْوانُ» قالَ: «سَتَجِدُنِي شاكِرًا إِيَّاكَ عَلَى الدَّوامِ.»

(٦) عَهْدُ «أَبِي النَّضْرِ»

مَرَّتِ الْأَيَّامُ: يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَالشُّهُورُ: شَهْرًا بَعْدَ شَهْرٍ. انْتَهَى السَّفَرُ بِالشَّيْخِ وَالْفَتَى إِلَى صَحْراءَ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُمْرانِ. جَلَسَ الشَّيْخُ وَالْفَتَى يَسْتَرِيحانِ مِنْ عَناءِ السَّيْرِ بَعْضَ الْوَقْتِ. ما كادَ الْجُلُوسُ يَسْتَقِرُّ بِهِما، حَتَّى قالَ الشَّيْخُ لِلْفَتَى: «لَقَدْ طُفْتَ مَعِي بِمُخْتَلِفِ الْبِلادِ، وَعَرَفْتَ صُنُوفَ النَّاسِ. لَقَدْ أَصْبَحْتَ الْآنَ أَهْلًا لِأَنْ تَبْدَأَ خُطَّةَ عَمَلٍ جَدِيدَةً. آنَ لِي أَنا الْآخَرُ أَنْ أُحَقِّقَ ما أُرِيدُهُ لَكَ مِنَ الْخَيْرِ.

لِيَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ عَهْدٌ: أَنْ تَسْمَعَ نُصْحِي، وَتَفِيَ بِعَهْدِي!»

الْفَتَى أَجابَهُ: «سَتَجِدُنِي مُطِيعًا لِنُصْحِكَ، وَفِيًّا لِعَهْدِكَ.»

الشَّيْخُ قالَ: «لَوْ صَحَّ قَوْلُكَ تَهَيَّأَتْ لَكَ — يا بُنَىَّ — أَسْعَدُ حَياةٍ.»

الْفَتَى تَحَمَّسَ قائِلًا: «ثِقْ بِأَنِّي لا أَعْصِي لَكَ أَيَّ أَمْرٍ.»

الشَّيْخُ نَبَّهَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّكَ سَتَتَعَرَّضُ، يا بُنَيَّ، لِتَجْرِبَةٍ خَطِيرَةٍ.»

الْفَتَى أَجابَ: «إِنِّي مُسْتَعِدٌّ لِلْقِيامِ بِأَيَّةِ تَجْرِبَةٍ كانَتْ.»

الشَّيْخُ قالَ: «مُزاوَلَةُ هذِهِ التَّجْرِبَةِ لَيْسَتْ بِالْأَمْرِ الْيَسِيرِ!»

الْفَتَى قالَ: «أَنْتَ عَلَّمْتَنِي التَّغَلُّبَ عَلَى كُلِّ عَسِيرٍ!»

(٧) خُطَّةُ الْعَمَلِ

الشَّيْخُ أبانَ قائِلًا: «سَأَتْلُو دَعَواتِي فَتَنْشَقُّ أَمامَنا الْأَرْضُ. سَتَظْهَرُ في الْأَرْضِ ثَغْرَةٌ، تُؤَدِّي بِمَنْ يَدْخُلُ فِيها إِلَى كَنْزٍ. هَلْ تَأْنَسُ في نَفْسِكَ الشَّجاعَةَ وَالْجُرْأَةَ وَثَباتَ الْقَلْبِ؟»

الْفَتَى أَجابَ: «كَيْفَ يَجُوزُ لِي التَّرَدُّدُ في دُخُولِ الْكَنْزِ؟ إِنَّ الدُّخُولَ إِلَيْهِ، وَمَعْرِفَةَ ما يَحْتَوِي عَلَيْهِ، فُرْصَةُ الْعُمْرِ. ارْسمْ لِي، يا عَمِّي، خُطَّةَ الْعَمَلِ، حِينَ أَدْخُلُ إِلَى الْكَنْزِ.»

الشَّيْخُ قالَ: «إِنَّكَ سَتُقَدِّمُ لِي خِدْمَةً جَلِيلَةً، لا نَظِيرَ لَها. سَأُكافِئُكَ عَلَى تَقْدِيمِها، أَيُّها الْفَتَى الْمِقْدامُ، مُكافَأَةً لا تَحْلُمُ بِها. إِنْ يَسَّرْتَها أَنْتَ لِي عِشْتَ مَوْفُورَ الْغِنَى، طُولَ الْحَياةِ. تَنْفِيذُكَ لِما أُرِيدُ امْتِحانٌ لِصِدْقِ نِيَّتِكَ وَالْوَفاءِ بِعَهْدِكَ.»

الْفَتَى قالَ: «أَبِنْ لِي ما تَبْغِيهِ مِنِّي، وَسَأُنَفِّذُهُ كَما تُرِيدُ.»

الشَّيْخُ أَوْضَحَ: «عَلَيْكَ ﺒِ«الشَّمْعدانِ الْحَدِيدِيِّ»، وَإِحْضارِهِ لِي سَتَجِدُهُ أَمامَ عَيْنَيْكَ، في إِحْدَى حُجُراتِ الْكَنْزِ الْفَسِيحَةِ هُناكَ. إِيَّاكَ أَنْ تَطْمَعَ في شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ نَظَرُكَ مِنْ نَفائِسِ الْكَنْزِ! لا تَمُدَّ يَدَكَ لِشَيْءٍ غَيْرِ «الشَّمْعدانِ الْحَدِيدِيِّ» الْمَطْلُوبِ!»

(٨) دُخُولُ الْكَنْزِ

أَكَّدَ «رِضْوانُ» لِلشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ» أَنَّهُ لَنْ يُخالِفَ نُصْحَهُ. أَوْقَدَ الشَّيْخُ أَعْوادَ حَطَبٍ، وَأَلْقَى في النَّارِ بَعْضَ الْبَخُورِ. ظَلَّ فَمُهُ، بِصَوْتٍ خافِتٍ، يُغَمْغِمُ أَلْفاظًا، لا يَتَّضِحُ مَعْناها. انْشَقَّتْ أَمامَهُ الْأَرْضُ، وَظَهَرَتْ، في الْحالِ، ثَغْرَةٌ صَغِيرَةٌ.

الْفَتَى لَمْ يَتَرَدَّدْ في النُّزُولِ، وَهُوَ مُمْتَلِئٌ جُرْأَةً وَحَماسَةً. الْفَتَى وَجَدَ نَفْسَهُ في أُولَى حُجُراتِ الْكَنْزِ، تَحْتَ الْأَرْضِ. بَهَرَتْ عَيْنَيْهِ الْأَضْواءُ السَّاطِعَةُ، مِنْ لَآلِئِ الْكَنْزِ وَدُرَرِهِ. لَمْ يَرَ في حَياتِهِ يَوْمًا ما رَآهُ السَّاعَةَ، مِنْ هذِهِ الْكُنُوزِ!

نَسِيَ الْبَحْثَ عَنِ «الشَّمْعدانِ الْحَدِيدِيِّ». قالَ في نَفْسِهِ: «كَيْفَ أَرَى كُلَّ هذِهِ الْجَواهِرِ أَمامَ عَيْنَيَّ، وَأَتْرُكُها؟!» الْفَتَى «رِضْوانُ» مَلَأَ جُيُوبَهُ بِما جَمَعَهُ مِنْ نَفائِسِ الْكَنْزِ.

فَجْأَةً ظَهَرَتْ تُجاهَ ناظِرِهِ صُورَةُ حارِسِ الْكَنْزِ الْعِمْلاقِ! الْحارِسُ الْعِمْلاقُ بَرَقَتْ عَيْناهُ، مِثْلَ الشَّرَرِ، وَتَمْتَمَ بِقَوْلِهِ: «الْوَيْلُ أَشَدُّ الْوَيْلِ لِمَنْ أَخْلَفَ الْوَعْدَ، وَخَانَ الْعَهْدَ!»

انْطَبَقَتِ الثَّغْرَةُ الْمَفْتُوحَةُ، وَانْتَشَرَ في أَرْجاءِ الْمَكانِ ظَلامٌ.

(٩) سِرُّ «الشَّمْعدانِ»

الْفَتَى «رِضْوانُ» أَدْرَكَ، عَلَى الْفَوْرِ، خَطَأَهُ، وَعَرَفَ ذَنْبَهُ. امْتَلَأَ قَلْبُهُ إِحْساسًا بِالْأَلَمِ، وَاشْتَدَّ شُعُورُهُ بِغايَةِ النَّدَمِ. فَكَّرَ: ماذا يَصْنَعُ لِلْخَلاصِ مِنْ هذا الْمَأْزِقِ الْحَرِجِ؟ تَذَكَّرَ أَنَّ الشَّيْخَ طَلَبَ مِنْهُ إِحْضارَ «الشَّمْعدانِ الْحَدِيدِيِّ».

قالَ: «لَعَلِّي إِذا ظَفِرْتُ الْآنَ بِهذا الشَّمْعَدانِ نِلْتُ الْأَمانَ.»

الْفَتَى جَعَلَ يَتَحَسَّسُ طَرِيقَهُ، وَهُوَ يَخْطُو خُطُواتٍ بَطِيئَةً. صادَفَتْ أَصابِعُهُ عَصًا مُسْنَدَةً إِلَى أَحَدِ الْجُدْرانِ الْقَرِيبَةِ. أَمْسَكَ بِطَرَفِ الْعَصا، وَحَرَصَ عَلَى أَنْ يَتَلَمَّسَ بِها الطَّرَيقَ. الْعَصا مَسَّتِ «الشَّمْعدانَ»، عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ، فَانْبَعَثَ مِنْهُ رَنِينٌ!

الْفَتَى وَجَدَ الثَّغْرَةَ تَنْفَتِحُ ثَانِيَةً بَعْدَ انْطِباقِها، فَيَدْخُلُ الضَّوْءُ. رَأَى «الشَّمْعدانَ الْحَدِيدِيَّ»، تَحْتَ الضَّوْءِ، كَما وَصَفَهُ لَهُ الشَّيْخُ. اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ، حِينَ رَآهُ، بِأَنَّهُ حَقَّقَ لِلشَّيْخِ ما طَلَبَهُ مِنْهُ. هَمَّ بَأَنْ يَحْمِلَ «الشَّمْعدانَ»، وَيَتَسَلَّقَ الْأَحْجارَ إِلَى الثَّغْرَةِ. سَمِعَ عَلَى الْفَوْرِ صَوْتَ حارِسِ الْكَنْزِ الْعِمْلاقِ، يَقُولُ لَهُ: «لَوْلا الشَّمْعدانُ لَهَلَكَ الطَّامِعُ الْجَبانُ، في هذا الْمَكانِ!»

(١٠) عَوْدَةُ «رِضْوانَ»

خَرَجَ الْفَتَى «رِضْوانُ» إِلَى الطَّرِيقِ، وَهُوَ لا يُصَدِّقُ أَنَّهُ نَجا! كانَ أَوَّلَ شَيْءٍ يَهُمُّهُ حِينَ خَرَجَ أَنْ يَلْتَقِيَ بِالشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ». سَيُقَدِّمُ إِلَى الشَّيْخِ ذلِكَ «الشَّمْعدانَ الْحَدِيدِيَّ»، تَحْقِيقًا لِرَغْبَتِهِ. سَيَحْتَفِظَ لِنَفْسِهِ هُوَ بِاللَّآلِئِ وَالْجَواهِرِ الَّتِي حَصَلَ عَلَيْها.

طالَ بِهِ السَّيْرُ، وَلكِنَّهُ في طَرِيقِهِ لَمْ يَعْثُرْ لِلشَّيْخِ عَلَى أَثَرٍ. فَكَّرَ في أَنْ يَتْرُكَ «الشَّمْعدانَ» عَلَى جانِبِ الطَّرِيقِ، وَيَمْضِيَ؛ إِنَّهُ يَعُوقُهُ، وَهُوَ يَحْمِلُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، يَنْقُلُهُ مِنْ يَدٍ إِلَى يَدٍ. هَلْ يُفَرِّطُ في «الشَّمْعدانِ الحَدِيدِيِّ»، بَعْدَ أَنْ صارَ مَعَهُ؟!

خَشِيَ أَنْ يَلْقاهُ الشَّيْخُ، وَهُوَ ماضٍ في طَرِيقِهِ، فَيَسْأَلَهُ عَنْهُ. لا شَكَّ في أَنَّهُ سَيَلُومُهُ عَلَى أَنَّهُ أَضاعَهُ، بَعْدَ أَنْ ظَفِرَ بِهِ. اسْتَقَرَّ رَأْيُهُ أَخِيرًا عَلَى أَنْ يَسْتَبْقِيَهُ، لِيُعْطِيَهُ إِيَّاهُ، مَتَى رَآهُ.

بَيْنَما هُوَ يَسِيرُ وَجَدَ الْعَصا قَدْ مَسَّتِ «الشَّمْعدانَ الْحَدِيدِيَّ». الْفَتَى سَمِعَ رَنَّةَ «الشَّمْعَدانِ»، حِينَ مَسَّتْهُ الْعَصا دُونَ قَصْدٍ.

رَفَعَ بَصَرَهُ، فَأَلْفَى نَفْسَهُ عَلَى مَشارِفِ مَدِينَةِ «الْبَصْرَةِ». أَسْرَعَ الْخُطَا إِلَى الْمَدِينَةِ، مَسْرُورَ الْنَّفْسِ، حَتَّى وَصَلَ إِلَى بَيْتِهِ.

(١١) نَفائِسُ الْكَنْزِ

فَرِحَتْ «سَلْمَى» أَيَّما فَرَحٍ، بِلِقاءِ وَلَدِها الْغائِبِ عَنْها «رِضْوانَ». قَصَّ عَلَى أُمِّهِ كُلَّ ما جَرَى لَهُ، حِينَ نَزَلَ مِنَ الثَّغْرَةِ إِلَى الْكَنْزِ. سَأَلَتْهُ عَنْ أَنْباءِ الشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ»، فَأَنْبَأَها بِأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ لَهُ ظِلًّا.

أَراها نَفائِسَ الْكَنْزِ الَّتِي اسْتَطاعَ أَنْ يَحْمِلَها مَعَهُ في خُرُوجِهِ. الْأُمُّ «سَلْمَى» أُعْجِبَتْ بِالْجَواهِرِ وَاللَّآلِئِ، لكِنَّها قالَتْ لِوَلَدِها: «الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» طَلَبَ مِنْكَ إِحْضارَ «الشَّمْعدانِ الْحَدِيدِيِّ». لَمْ يَأْذَنْ لَكَ، كَما قُلْتَ لِي، أَنْ تَأْخُذَ مِنَ الْكَنْزِ شَيْئًا آخَرَ. لَوْلَا حُصُولُكَ عَلَى «الشَّمْعدانِ» لَما خَرَجْتَ مِنَ الْكَنْزِ سالِمًا مُعافًى! الشَّيْخُ أَرادَ أَنْ يَمْتَحِنَ شَجاعَتَكَ، وَيَخْتَبِرَ طاعَتَكَ وَأَمانَتَكَ.»

الْفَتَى أَخَدَ يُقَلِّبُ الْجَواهِرَ واللَّآلِئَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَقُولُ: «لَسْتُ أَدْرِي ما شَأْنُ الشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ» بِهذِهِ النَّفائِسِ؟! إِنَّها جَمِيعًا مِلْكٌ لِي وَحْدِي، لا يُنازِعُنِي فِيها شَرِيكٌ. هَيْهاتَ أَنْ يَظْفَرَ بِشَيْءٍ مِنْها أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ غَيْرِي!»

أَدْرَكَتْ «سَلْمَى» أَنَّ ابْنَها طامِعٌ فِيما حَصَلَ عَلَيْهِ، فَقالَتْ: «عَلَيْكَ أَنْ تَحْتَفِظَ لِلشَّيْخِ بِكُلِّ شَيْءٍ مَعَكَ، حَتَّى يَعُودَ إِلَيْكَ!»

(١٢) آخِرَةُ الطَّمَعِ

الْفَتَى «رِضْوانُ» جَمَعَ اللَّآلِئَ وَالْجَواهِرَ الَّتِي حَمَلَها، فِي صُرَّةٍ. وَضَعَ صُرَّةَ اللَّآلِئِ وَالْجَواهِرِ بِجِوارِ «الشَّمْعَدانِ الْحَدِيدِيَّ». عَزَمَ عَلَى أَنْ يَعْتَبِرَ نَفْسَهُ مالِكًا لِهذِهِ النَّفائِسِ، لَيْسَ لَهُ مُنَازِعٌ. اطْمَأَنَّتْ نَفْسُهُ بِأَنَّهُ أَصْبَحَ صَاحِبَ ثَرْوَةٍ عَظِيِمَةٍ، لا تَتَوافَرُ لِغَيْرِهِ.

قالَ في نَفْسِهِ: «سَأَحْتَفِظُ لِلشَّيْخِ بِهذا «الشَّمْعدانِ الْحَدِيدِيِّ». لَقَدْ أَحْضَرْتُهُ لَهُ مَعِي، كَما أَوْصانِي بِذلِكَ، قَبْلَ نُزُولِي إِلَى الْكَنْزِ. لا شَأْنَ لَهُ بِغَيْرِ «الشَّمْعَدانِ الْحَدِيدِيِّ» الَّذِي طَلَبَ مِنِّي إِحضارَهُ.»

ما بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وَانْتِباهَتِها حَدَثَ أَمْرٌ عَجَبٌ، لا يَخْطُرُ بِالْبالِ: اخْتَفَتِ الصُّرَّةُ بِما احْتَوَتْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَعُدْ لَها مِنْ أَثَرٍ! خُيِّلَ لِلْفَتَى — وَقْتَئِذٍ — أَنَّهُ كانَ في حُلْمٍ، وَأَفاقَ مِنْهُ! أَدْرَكَ أَنَّهُ أَرادَ الاسْتِيلاءَ عَلَى شَيْءٍ لَيْسَ مِنْ حَقِّهِ! عَرَفَ غَلْطَتَهُ الْجَسِيِمَةَ، حِينَ طَمِعَ في نَفائِسِ الْكَنْزِ.

قالَ في نَفْسِهِ: «لَمْ يَبْقَ إِلَّا «الشَّمْعدانُ الْحَدِيدِيُّ» وَعَصاهُ. سَأَحْتَفِظُ بِهِما لِلشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ» حَتَّى يَعُودَ، بَعْدَ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ. يَكْفِينِي عِبْرَةً أَنِّي عَرَفْتُ آخِرَةَ الطَّمَعِ فِيما لَيْسَ مِلْكًا لِي.»

(١٣) دَراوِيشُ «الشَّمْعدانِ»

الْفَتَى «رِضْوانُ» فَكَّرَ في اسْتِخْدامِ «الشَّمْعدانِ الْحَدِيدِيِّ». حَمَلَهُ مِنْ مَكانِهِ، وَوَضَعَهُ عَلَى مِنْضَدَةٍ وَسْطَ الْحُجْرَةِ فِي الْبَيْتِ. لَمَّا أَسْدَلَ اللَّيْلُ أَسْتارَهُ أَضاءَ إِحْدَى الشَّمعاتِ الَّتِي فِيهِ.

كانَ «الشَّمْعدانُ الْحَدِيدِيُّ» يَحْتَوِي عَلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ شَمْعَةً. لَمَّا أُضِيئَتْ مِنْها شَمْعَةٌ ظَهَرَ في ضَوْئِها مَنْظَرٌ مُثِيرٌ: شَبَحُ دَرْوِيشٍ مِنْ طَوائِفِ الدَّراوِيشِ الْمُتَفَرِّغِينَ لِلْعِبادَةِ. الدَّرْوِيشُ لاحَ شَخْصُهُ في ضَوْءِ الشَّمْعَةِ، وَأَسْقَطَ دِينارًا.

الْفَتَى دَهِشَ لَمَّا رَأَى الدِّينارَ يَسْقُطُ عَلَى الْأَرْضِ، أَمامَ عَيْنَيْهِ. خَطَرَ بِبالِهِ أَنْ يُضِيء شَمْعَةً ثانِيَةً مِنْ الشَّمعاتِ الِاثْنَتَيْ عَشْرَةَ. ظَهَرَ شَبَحُ دَرْوِيشٍ آخَرَ، شَبِيهٍ بِالْأَوَّلِ، وَأَسْقَطَ دِينارًا آخَرَ. الْفَتَى أَضاءَ تِلْكِ الشَّمعاتِ الْعَشْرَ الْبَاقِيَةَ، شَمْعَةً بَعْدَ شَمْعَةٍ.

الدَّنانِيرُ الَّتِي سَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ أَمامَهُ بَلَغَتِ اثْنَيْ عَشَرَ دِينارًا. الْفَتَى ابْتَهَجَ بِهذا الْمالِ الَّذِي حَصَلَ عَلَيْهِ دُونَ أَنْ يَتَوَقَّعَهُ!

الْفَتَى كانَ يُضِيءُ الشَّمَعاتِ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَتَسْقُطُ أَمامَهُ الدَّنانِيرُ! عَرَفَ أَنَّ أَشْباحَ الدَّراوِيشِ تَظْهَرُ مَرَّةً واحِدَةً كُلَّ لَيْلَةٍ.

(١٤) نَصِيحَةُ «سَلْمَى»

الْفَتَى «رِضْوانُ» اجْتَمَعَ لَدَيْهِ، عَلَى مَرِّ الْأَيَّامِ، جُمْلَةُ دَنانِيِرَ. في كُلِّ لَيْلَةٍ يُضِيءُ «الشَّمْعدانَ الْحَدِيدِيَّ»، فَتَزْدادُ ثَرْوَتُهُ.

قالَتْ أُمُّهُ «سَلْمَى»: «هذِهِ الدَّنانِيرُ تَزِيدُ عَنْ حاجَتِنا إِلَى الْإِنْفاقِ. أَتُرِيدُ أَنْ تَجْمَعَ في حَوْزَتِكَ كَنْزًا مِنَ النُّقُودِ يا «رِضْوانُ»؟! ما فائِدَةُ الْمالِ الْمَكْنُوزِ، في صَنادِيقَ مُقْفَلَةٍ، داخِلَ الْبَيْتِ؟! لا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَكَ عَمَلٌ بِهذا الْمالِ الَّذِي تَحْصُلُ عَلَيْهِ. اسْتَثْمِرْ هذا الْمالَ يا بُنَيَّ لِتَنْتَفِعَ بِهِ، وَتَنْفَعَ النَّاسَ.»

الْفَتَى قالَ: «لِماذا نَعْمَلُ، يا أُمِّي، وَ«الشَّمْعدانُ» مَعَنا؟ إِنَّهُ يُعْطِينا مِنَ الدَّنانِيرِ، كُلَّ لَيْلَةٍ، ما يَكْفِينا أُسْبُوعًا!»

أُمُّهُ قالَتْ: «حَقًّا لَمْ يَحْضُرِ الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» بَعْدُ. لكِنَّهُ سَيَحْضُرُ في يَوْمٍ مِنَ الْأَيَّامِ، بَعْدَ زَمَنٍ قَصِيرٍ أَوْ طَوِيلٍ. سَيَأْخُذُ «الشَّمْعدانَ الْحَدِيدِيَّ» الَّذِي طَلَبَهُ مِنْكَ، وَهُوَ حَقٌّ لَهُ! هَلْ نَعِيشُ بَقِيَّةَ حَياتِنا بِما ادَّخَرْتَ مِنَ الدَّنانِيرِ الْمَكْنُوزَةِ؟ إِنَّنا سَنَأْخُذُ مِنْها ما نَسُدُّ بِهِ حاجَتَنا، في مَعِيشَتِنا، طُولَ عُمْرِنا. الْمالُ الْمُدَّخَرُ، مَهْما كَثُرَ، يَنْقُصُ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، حَتَّى يَنْفَدَ.»

(١٥) «رِضْوانُ» التَّاجِرُ

الْفَتَى «رِضْوانُ» فَكَّرَ وَقْتًا فِيما قالَتْهُ لَهُ أُمُّهُ «سَلْمَى». رَأَى أَنَّها عَلَى صَوابٍ في كُلِّ ما أَشارَتْ إِلَيْهِ، وَنَصَحَتْ بِهِ.

قالَ في نَفْسِهِ: «الشَّمْعدانُ الْحَدِيدِيُّ لَيْسَ مِلْكِي حَقًّا. أَنا لا أَطْمَعُ فِيهِ، وَلا أُضْمِرُ الاسْتِيلاءَ عَلَيْهِ، بِأَيِّ حالٍ. مَتَى حَضَرَ عِنْدَنا الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» أَعْطَيْتُهُ لَهُ، بِلا نِزاعٍ. لَقَدْ آمَنْتُ بِأَنَّ الطَّمَعَ لا يُفِيدُ صاحِبَهُ شَيْئًا، في حَياتِهِ.»

الْفَتَى عَزَمَ عَلَى أَنْ يَشْتَغِلَ بِمُزاوَلَةِ التِّجارَةِ في الْأَسْواقِ. إِنَّ مَعَهُ كَثِيرًا مِنَ الْمالِ يُساعِدُهُ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي التِّجارَةِ.

عاهَدَ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ دائِمًا صَاحِبَ ذِمَّةٍ وَأَمانَةٍ: كَلِمَتُهُ واحِدَةٌ، وَبِضاعَتُهُ الْمَعْرُوضَةُ مَأْمُونَةٌ، لا غِشَّ فِيها ولا خِداعَ. لِذلِكَ أَصْبَحَ تاجِرًا كَبِيرًا، حَسَنَ السُّمْعَةِ، بَيْنَ التُّجَّارِ. كانَ لا يُتاجِرُ في شَيْءٍ إِلَّا رَبِحَتْ تِجارتُهُ أَعْظَمَ رِبْحٍ.

«رِضْوانُ» لَمْ يَكْتَفِ بِأَنْ يَكُونَ كَرِيمًا في مُعامَلَةِ النَّاسِ. كانَ يَسْخُو بِمالِهِ، لِكَيْ يُساعِدَ كُلَّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُسَاعَدَةَ. اشْتَرَكَ بِمِقْدارٍ كَبِيرٍ مِنْ مالِهِ في كَثِيرٍ مِنْ أَعْمالِ الْخَيْرِ.

(١٦) اخْتِفاءُ الدَّراوِيشِ

«رِضْوانُ» كانَ يَعُودُ مِنْ عَمَلِهِ إلَى بَيْتهِ عِنْدَ مُنْتَصَفِ اللَّيْلِ. مَتَى رَجَعَ إِلَى الْبَيْتِ تَناوَلَ عَشاءَهُ، وَقَصَدَ إِلَى فِراشِهِ لِيَنامَ. لَمْ يَكُنْ لَدَيْهِ وَقْتٌ يَسْتَمْتِعُ فِيهِ بِإِضاءَةِ «الشَّمْعدانِ». لَمْ يَكُنْ أَيْضًا، لِكَثْرَةِ أَرْباحِهِ، في حاجَةٍ إِلَى دَنانِيرِ الدَّراوِيشِ.

مَضَتْ شُهُورٌ، وَهُوَ مُنْهَمِكٌ في تِجارَتِهِ الْواسِعَةِ، لَيْلَ نَهارَ. ذاتَ لَيْلَةٍ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ، عَلَى غَيْرِ عادَتِهِ، بَعْدَ الْعَشاءِ بِقَلِيلٍ. مَرَّ عَلَى بالِهِ «الشَّمْعدانُ الْحَدِيدِيُّ» بِشَمعاتِهِ الاثْنَتَيْ عَشْرَةَ.

قالَ في نَفْسِهِ: «الْعَمَلُ الْمُتَواصِلُ أَنْسانِي الشَّمْعدانَ وَدَراوِيشَهُ!»

أَحْضَرَهُ، وَجَلَسَ أَمامَهُ يَتَأَمَّلُ فِيهِ، وَأَضاءَ إِحْدَى شَمعاتِهِ. أَدْهَشَهُ أَنْ الشَّمْعَةَ أُضِيئَتْ، لكِنَّ دَرْوِيشَها لَمْ يَظْهَرْ! أَضاءَ الشَّمْعَةَ الثَّانِيَةَ، فَكَانَتْ مِثْلَ الشَّمْعَةِ الْأُولَى، لَمْ تُضِئْ! أَضاءَ بَقِيَّةَ الشَّمعاتِ، فَلَمْ يَظْهَرْ مِنْها أَىُّ دَرْوِيشٍ أَمامَ عَيْنَيْهِ! ذَهَبَ إِلَى أُمِّهِ «سَلْمَى» يُخْبِرُها بِما فَعَلَ، وَيَشْكُو لَها ما حَيَّرَهُ.

«سَلْمَى» قالَتْ لابْنِها: «الدَّراوِيشُ، لا شَكَّ، لَيْسُوا راضِينَ عَنْكَ. أَنْتَ لَمْ تَرُدَّ «الشَّمْعدانَ الْحَدِيدِيَّ» يا بُنَيَّ إِلَى صاحِبِهِ!»

(١٧) الْبَحْثُ عَنْ «أَبِي النَّضْرِ»

التَّاجِرُ «رِضْوانُ» امْتَلَأَتْ نَفْسُهُ شُعُورًا بِالنَّدَمِ عَلَى تَقْصِيرِهِ. لَقَدْ أَلْهَتْهُ التِّجارَةُ عَنِ الْبَحْثِ عَنِ الشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ». ضَمِيرُهُ أَنَّبَهُ عَلَى أَنَّهُ أَهْمَلَ، في أَيَّامِهِ الْماضِيَةِ، هذا الْأَمْرَ. إِنَّ الشَّيْخَ «أَبا النَّضْرِ» هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ وَرَبَّاهُ، وَعَرَّفَهُ الْحَياةَ. إِنَّهُ هُوَ الَّذِي كَانَ سَبَبَ النِّعْمَةِ الَّتِي يَمْرَحُ فِيها، بِفَضْلِ الله.

لِماذا اخْتَفَى أُولئِكَ الدَّراوِيشُ مِنَ «الشَّمْعدانِ الْحَدِيدِيِّ»؟ لا بُدَّ أَنَّ الشَّيْخَ «أَبا النَّضْرِ» غَضْبانُ عَلَى «رِضْوانَ».

أَخَذَ «رِضْوانُ» عَهْدًا عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُواصِلَ الْبَحْثَ عَنِ الشَّيْخِ. كانَ يَذْكُرُ اسْمَ الشَّيْخِ وَصِفَتَهُ لِلتُجَّارِ الرُّحَّلِ، حِينَ يَمُرُّونَ بِهِ. يَطْلُبُ مِنْ كُلِّ واحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَدُلَّهُ عَلَى مَكانِهِ الْمُقِيمِ فِيهِ.

قَرَّرَ أَنْ يَهَبَ مُكافَأَةً عَظِيمَةً لِمَنْ يَدُلُّهُ عَلَيْهِ، حَيْثُ يَجِدُهُ. عَزَمَ عَلَى أَنْ يُسافِرَ إِلَيْهِ، في أَيِّ مَكانٍ، قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ.

«رِضْوانُ» ذَهَبَ، صَباحَ يَوْمِ، لِيَفْتَحَ مَحَلَّ تِجارَتِهِ، كَعادَتِهِ. وَجَدَ، بِبابِ الْمَحَلِّ، أَحَدَ التُّجَّارِ الرَّحَّالِينَ واقِفًا يَنْتَظِرُهُ. الرَّحَّالُ أَخْبَرَهُ بِأَنَّ «أَبا النَّضْرِ» مُقِيمٌ بِمَدِينَةِ «الزُّهُورِ».

(١٨) رَدُّ الْأَمانَةِ

«رِضْوانُ» رَجَعَ مِنْ فَوْرِهِ إِلَى الْبَيْتِ، وَاسْتَأْذَنَ أُمَّهُ فِي السَّفَرِ. حَمَلَ مَعَهُ «الشَّمْعدانَ الْحَدِيدِيَّ»، وَبَعْضَ الْهَدايا الْغالِيَةِ. لَمْ تَكُفَّ قَدَماهُ عَنِ السَّيْرِ، حَتَّى بَلَغَ مَدِينَةَ «الزُّهُورِ». لَمْ يَهْدَأْ لَهُ بالٌ حَتَّى دَخَلَ بَيْتَ الشَّيْخِ «أَبِي النَّضْرِ».

اسْتَقْبَلَهُ الشَّيْخُ في حَدِيقَتِهِ، وَهُوَ مُتَهَلِّلُ الْوَجْهِ، باسِمُ الثَّغْرِ. تَلَقَّى مِنْ «رِضْوانَ» «الشَّمْعدانَ الْحَدِيدِيَّ»، في فَرَحٍ وَابْتِهاجٍ. أَضاءَ الشَّمعاتِ الاثْنَتَيْ عَشْرَةَ، فَظَهَرَتْ أَشْباحُ الدَّراوِيشِ! سَمِعَ مِنْ «رِضْوانَ» كُلَّ ما حَدَثَ مِنْهُ، وَما جَرَى لَهُ.

الشَّيْخُ «أَبُو النَّضْرِ» قالَ: «سَامَحَكَ اللهُ يا ابْنَ أَخِي. الْآنَ عَرَفْتَ: كَيْفَ تَكُونُ عاقِبَةُ الطَّمَعِ فِيما لَيْسَ لَكَ بِحَقٍّ؟! كَما أَنَّكَ ذُقْتَ حَلاوَةَ أَداءِ الْأَمانَةِ، وَفَضْلَ الْوَفاءِ بالْعَهْدِ! لَقَدْ آمَنْتَ بِأَنَّ الْعَمَلَ وَالاجْتِهادَ وَالاسْتِقامَةَ كَنْزٌ لا يَفْنَى! شُكْرًا لِلْأُمِّ الْعَطُوفِ «سَلْمَى» عَلَى أَنَّها هَدَتْكَ وَأَرْشَدَتْكَ.»

«رِضْوانُ» عادَ إِلَى بَيْتِهِ بَعْدَ أَنْ وَدَّعَ الشَّيْخَ «أَبا النَّضْرِ»، لَقِيَتْهُ أُمُّهُ عَقِبَ عَوْدَتِهِ رَاضِيَةً عَنْهُ، دَاعِيَةً بِالْخَيْرِ لَهُ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤