الفصل الخامس

الوالدة وابنها

ليس مَن يجهل رقَّة عواطف الأم وحنوها وتفانيها في سبيل أولادها، فكيف بها إذا كانت كأم سليم على جانب عظيم من العلم والفضل ورِقَّة العواطف والانعطاف.

كانت على أحرِّ من الجمر لغياب ابنها عنها، وهي تسأل زوجها كل يوم عنه، وهو يحاول أنْ يجد الأعذار لتغيب سليم مخافةَ أنْ تعلم والدته بأمره فلا ترضى أن تتركه وحده حيث هو، ولم يكن يرغب في أنْ تذهب إلى «العمروسة»؛ خوفًا من ألَّا توافقها الإقامة أو لا تطيب لها عِشرة نسائها، ولم يكن يعلم شيئًا من أمر هيفاء وأمها؛ وإلا لما تأخر عن إنباء امرأته بما كان، والسماح لها بالذهاب إلى حيث تستطيع أنْ تمد يدها لمساعدة وحيدها الذي تفديه بالروح.

وحدث أنَّ سليمًا أرسل كتابًا لوالده مع أحد أهل العمروسة الذي ذهب إلى زحلة لقضاء بعض الحاجات، فلم يجد الرجل سمعان إلياس في محله، فقصده إلى منزله، فعلم منه أهل الدار بما كان، ولكن طمأنهم أنَّ الطبيب سيسمح لسليم بالعودة قريبًا، فقلقت والدة سليم وأرسلت، فاستدعت زوجها، وأعربت عن كدرها الشديد لعدم إخبارها بما كان، وقالت: كيف يصاب ابني الحبيب بمكروه ولا أكون إلى جانبه أضمد جراحه وأسليه في وحدته؟ آه! ما أقسى قلوب الرجال! كيف تكتم عني مثل هذا الخبر؟ والآن يجب أنْ أذهب حالًا إلى حيث يكون ابني وآتي به بأول فرصة ممكنة، فلا يقيم بين أولئك القساة القلوب.

قال: «بل هم أعطف من أهله عليه وأطيب الناس أخلاقًا، ومتى عرفت الحقيقة من سليم تجدين أنَّ الجماعة الذين أقام بينهم هم مثل أهله يعاملونه كما نعامله نحن لو كان بيننا.» فأصرت على الذهاب، وأخيرًا رضخ لإرادتها راجيًا أنْ تنتظر إلى صباح اليوم التالي ريثما يدبر أشغاله، ويرسل خبرًا لسليم وأصحاب الدار التي يقيم فيها، ويعد عربة توصلهما إلى أقرب نقطة تسير فيها العربة، ويوصي على جوادين يقابلونهما إلى هناك، واشترى سمعان هدايا فاخرة لصاحبه يوسف وأهل بيته، وأرسلها مع المكاري.

وفي صباح اليوم التالي ذهب مع امرأته إلى العمروسة، وكان سليم ينتظرهما على أحرِّ من الجمر، فلما وصلت والدته ووجدت دلائل الصحة والعافية بادية عليه سري عنها، وشكرت أهل البيت لعنايتهم به.

وأقبل أهل القرية للسلام على سمعان وامرأته، فكان الرجال يقصدون علية كبيرة فُرشت بالسجاد، ووضع على أرضها طنافس مختلفة وما يسمونه في تلك الجهة «طراريح» كثيرة حول الغرفة وقرب العامود الذي يتوسطها، وكانت النساء في مقصورة الحريم التي يفصلها فاصل خشبي عن محل إقامة الرجال، فلقي والد سليم ووالدته من الإكرام ما جعلهما يشكران أهل القرية، وشعرت والدة سليم بعطف خاصٍّ نحو أهل تلك القرية، وأحبت امرأة يوسف الهلالي وابنتها اللطيفة حبًّا جمًّا، ولما اجتمعت في المساء بزوجها وابنها على انفراد أعربت عن سرورها، وقالت: إنها لم تكن تظن أنها ستجد في تلك القرية النائية عن العمران مثل هذا النظام والتدبير في المنزل، وكانت قد شاهدت بستان صاحب الدار الكائن أمام منزله، وهو يروى من ماء نبع غزير يمر في وسطه، فأعجبها تنسيق الأشجار، ولحظت الفرق بين هذا البستان في ترتيب الأشجار وعدم الإكثار من الزرع وحسن الذوق في اختيار المتناسبات وبين بقية البساتين التي مرَّت بها في الطريق، وكانت قد سمعت عن الشيخ صالح وماله من التأثير على أهل قريته، فقالت: لا بد أنْ يكون لهذا الرجل الصالح نفوذ أدبي كبير على أهل قريته فهو بعلمه وفضله وسعة اطلاعه وما شهده في الخارج كان أكبر معوان لأهل القرية على إصلاح أمورهم وانصرافهم للأعمال المنتجة مستعينين بأفضل الطرق وأتمها نظامًا.

وأُعجبت أم سليم بامرأة مضيفها وابنتها، ولم تكن تعلم بأية علاقة بين الفتاة وابنها، فانفردت به يومًا، وقالت: لم أكن أظن يا بني أنك تقيم بين قوم متمدنين، بل كنت أحسب أهل هذه القرية فلاحين قذرين — كما يظن أكثر الناس — ولكنني وجدت أهل هذا البيت على خلاف ذلك، فهم لا يفرقون في شيء عن أهل زحلة من حيث النظافة وحسن الضيافة، وإن اختلفوا عنهم قليلًا في العادات، وامتدحت أمامه صاحبة الدار وابنتها التي قالت: إنها أحبتها كواحدة من أهلها، وشعرت من أول نظرة أنَّ هنالك جاذبًا قويًّا يربطها بها، وأخبرته أنَّ الفتاة تميل إلى دخول المدرسة، وأنها أقنعت والدتها بفائدة ذلك، ووعدتها أنها إذا قبلت تأخذها معها إلى بيروت، وتجعلها تحت عنايتها مدة إقامتها هنالك كما لو كانت ابنتها، فطربت الفتاة لذلك، وأمَّا أمها فبقيت صامتة، ولكنها شكرت أم سليم لاهتمامها بالأمر.

نزلت هذه الكلمات على قلب سليم نزول المطر على الأرض العطشانة، وأصبح أَمَلُهُ كبيرًا بأن تفوز هيفاء بأمانيها وتحقق رغائبها، وتسنح لها الفرصة التي ترتجيها للدخول إلى المدرسة، فتظهر عبقريتها وما فيها من ذكاء.

وفي اليوم التالي لهذا الحديث برح سمعان إلياس وزوجته وابنه العمروسة شاكرين أهلها — وخصوصًا آل الهلالي — لما لقوه في منزلهم من الكرم والإكرام، وتمنوا لو كان لهم حظٌّ أوفر بالبقاء أيامًا في تلك القرية الجميلة، ودعوهم أخيرًا للذهاب إلى زحلة؛ حيث يكونون أعز الأضياف عليهم وأقرب الناس إليهم.

المدرسة

في أوائل شهر أكتوبر قبل افتتاح المدارس ببضعة أيام، بينما كان سمعان إلياس وأهل بيته جالسين في صباح ذات يوم على شرفة منزلهم، يتناولون قهوة الصباح، وإذا بهم ينظرون رجلًا وامرأتين مسلمتين من بعيد، وهم يدنون نحو منزلهم، فنهض سليم لفتح البوابة، وكان قلبه دليله، وقامت والدته لإعداد ما يلزم، ولما تبيَّن أهل الدار القادمين خف سمعان إلياس نحو صديقه يوسف الهلالي، فحيَّاه ورحَّب به وبمن معه، ودعاهم للدخول إلى المنزل، ثم أقبلت أم سليم ترحب بالسيدتين، وأدخلتهما على الرحب والسعة، وأظهر جميع أهل البيت مزيد السرور بالضيوف الكرام.

وبعد أن استقر المقام بالضيوف، رجا يوسف الهلالي أن يُسْمَح له بمخاطبة ربة الدار، فجاءت من الغرفة المجاورة؛ حيث كانت مع هيفاء وأمها، فجلست مع الرجال، ثم خاطبها يوسف الهلالي قائلًا: «أتسمحين لي يا سيدتي أنْ أعهد إليك بابنتي الوحيدة التي أحبها كأخيها العزيز، ولقد جئت بها إليك على غير علم أهلي؛ لأنهم يرغبون في تزويجها بمن لا تريد ولا أريده أنا لها، وإن يكن ظاهر الرجل على ما يرغب الآباء. وابنتي الآن راغبة في الدخول إلى مدرسة تتلقى فيها مبادئ العلم، وتكون محافظة على أخلاقها، وأرجو منك أنْ توصي رئيسة المدرسة ألَّا تتعرض لدينها، وتعاملها بالرفق واللين؛ لأنها لم تدخل المدارس بعد، ولا ألِفت النظم التي تسير عليها، ولكنها إذا تعودت الحياة المدرسية أرجو أنْ تكون في مقدمة البنات طاعة لمعلماتها واجتهادًا في دروسها.» فوعدته السيدة خيرًا، وقالت: ثِقْ أنها تكون كابنتي، وسَأُبْقِيها عندي بضعة أيام لأعدها لدخول المدرسة التي سَتُفْتح قريبًا.

عاد يوسف الهلالي وزوجته في اليوم التالي من زحلة سعيدين بما لقيا من الإكرام، كئيبين لفراق ابنتهما التي كانت زينة منزلهما، وقرة أعينهما، وسلوة والدتها طول النهار.

وبعد ذهابهما فكَّرت أم سليم في وسيلة تسر بها الفتاة وتسري عنها، فقالت: هيا بنا يا بُنيَّتي نذهب إلى الكروم ولا موجب لوضع الحجاب، فتوجهين إليك الأنظار هنا في هذه البلدة المسيحية، فهاك «طرحة» ضعيها على رأسك، فإذا رآك أحد ظنك إحدى قريباتي أو من بنات الجيران، فمانعت أولًا ثم اقتنعت بعد أنْ أفهمتها أم سليم أنها سوف تفعل كذلك في المدرسة، فلا تكون منفردة في شكلها وزِيِّها.

ذهب سليم أمام والدته وضيفتها الحسناء الصغيرة إلى الكرْم، وهو يكاد لا يصدق أنَّ ما يراه حقيقة بل يكاد يعتقد أنَّ ما يراه حلم من الأحلام الجميلة التي تتلوها اليقظة المرة، فسار سابحًا في عالم الخيال والأوهام، وسبق والدته إلى الكرم، وقصد جهة ظليلة، فلما وصلت والدته وضيفتها إلى هنالك وجدتاه قد أعدَّ لهما حجرين كبيرين للجلوس وبعض العنب اللذيذ للأكل، وقَدَّم لهيفاء عنقودًا من العنب اللذيذ، تناولته منه بأيدٍ ترتجف، ثم قام الثلاثة يجولون في الكرم، ويقطفون ما لذ وطاب من العنب إلى أنْ تعبت أم سليم، فقالت: سأجلس قليلًا تحت ظل هذه الشجرة، فسيرا واجمعا لنا قليلًا من العنب اللذيذ للبيت، فتناول سليم السلة وسار وهيفاء تتبعه كظله، فلما خلا لهما الجو وأبعدا عن أم سليم نظر الواحد منهما إلى الآخر، وكأن السعادة والهناء تسطع في عيني كلٍّ منهما فتبسما، وقال سليم: إنني سعيد مثلك بسماح والديك لك بدخول المدرسة، وسأبذل الجهد في هذين اليومين — إذا شئت — لأساعدك على الاستعداد في الدروس التمهيدية؛ حتى تدخلي صفًّا أعلى إذا أمكن، ثم أخذا يجولان بين الدوالي ويتبادلان إهداء ما لذَّ وطاب من العنب، ثم أطلا على «الصفة» من أعالي شاهق، فنظرا الناس يذهبون بالمئات إلى تلك الجهة الجميلة وقد غصت القهوات بمن فيها، فقال: سنذهب غدًا إلى تلك الجهة فتشاهدين ما يسرك.

وفي اليوم التالي جاءت أم سليم وهيفاء إلى النهر صباحًا وتبعهما سليم، فلما لحق بهما كانتا قد وصلتا إلى آخر قهوة، فأحبت أم سليم أنْ تجلس هنالك للراحة عند صاحب القهوة وهو من معارفهم، فامتنعت هيفاء عن الجلوس، وقالت: إنها تفضل أنْ تسير بجانب الماء قليلًا فرافقها سليم وجلست أم سليم تستريح.

سار سليم وهيفاء بين الأشجار الباسقة وهما يسمعان خرير المياه، ويتأملان بالشلالات الصغيرة التي يحلو منظرها للعين، ثم ينظر الواحد إلى الآخر غير مصدق أنه يمشي وإياه على انفراد، وكم تكلمت العيون في تلك اللحظات، وطابت نفساهما بهذه النزهة القصيرة التي مرت كأنها طرفة عين، وبعد أنْ مشيا قليلًا جلسا على صخرة كبيرة، وأخذ سليم يشرح لهيفاء أحوال المدارس، وما قد تلاقي في بادئ الأمر من الصعوبات، ولكن كل ذلك يزول حينما تألف الحياة المدرسية، وعادا بعد قليل إلى حيث كانت والدة سليم، وقد امتلأ قلباهما بالحب، ولكن الحياء منعهما من مفاتحة بعضهما البعض بما كان يتضرم في الفؤاد من لواعج الغرام.

وبعد ذلك بثلاثة أيام نزلت أم سليم وابنها إلى بيروت ومعهما هيفاء، فدخلت مدرسة عالية، وعاد سليم إلى مدرسته، وصرفت أم سليم نحو الشهرين في المدينة عند شقيقها وهي لا تفتر تزور هيفاء كلما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، وتشجعها وتوصي بها، وكل مرة تسمع من مديح المعلمات وإعجابهن فيها ما زادها تعلقًا ولها حبًّا وبها ولعًا، وقبلما عادت إلى زحلة ذهبت لتودع هيفاء، فلما قابلتها هيفاء وعلمت بما تنوي بكت، وقالت: أنت لي كوالدة ثانية، ففراقك يعز علي كثيرًا. فأخذتها أم سليم بين ذراعيها، وضمتها إلى صدرها، وقبلتها كما تقبل الوالدة ابنتها، وعلمت من رئيسة المدرسة أنها كانت أكثر بنات المدرسة اجتهادًا وأوفرهن ذكاء، حتى إنها اجتازت صفين بمدة شهرين، وربما نقلت إلى الصف الثالث بعد امتحان نصف السنة.

وطلبت أم سليم الإذن لهيفاء لتأخذها معها للسوق لتشتري بعض ما يلزمها، ولكي تنزهها قليلًا؛ لأنها قالت إنها تكون متعبة من كثرة الدرس، فسُمح لها بذلك، وكان سليم أيضًا حرًّا طليقًا في ذلك اليوم، فنزل الثلاثة إلى السوق، ثم ركبوا عربة إلى «الحازمية»؛ حيث صرفوا ساعتين مضتا على سليم وهيفاء كدقيقتين، ثم عاد كلٌّ إلى مدرسته وهو لا يفكر إلا باجتماع آخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤