الفصل الثالث والستون

التفتيش عن الرسم والدبوس

وفيما هما يتحدثان كانت فدوى في غرفتها وحدها تفتش عن صورة شفيق، فلم تترك مكانًا إلا فتشت فيه، فلم تقف للصورة على أثر، فلاح لها أن والدها قد خبَّأها في غير الحجرة، وحدثتها نفسها أنه خبَّأها في جيبه، فعزمت على التفتيش عنها عندما ينزع ثيابه للرقاد، فعادت إلى فراشها خائرة القوى تنتظر عود بخيت، والاطلاع على أمر الدبوس.

فلما كان المساء عاد بخيت والدبوس بيده، فلما رأته فدوى خفق قلبها، وأسرعت إليه وخطفته من يده، وجعلت تقبله وتتأمله وتبكي قائلة: أخبرني هل عرفت حكايته، قال: كلا، يا سيدتي، إن الرجل لم يقل الحقيقة، فإني ذهبت إليه زاعمًا بأنك تحبين مشاهدة الدبوس؛ لأنه أعجبك صنعه، وحاولت معرفة طريقة وصوله إليه فلم أستطع؛ فإنه قال إنه جاءه هدية من أحد السياح الذين ينزلون فندقه من بلاد الإنكليز.

فقالت: لم يقل الحق؛ لأني شاهدته مع شفيق قبل سفره إلى السودان، وكيف يصل إلى بلاد الإنكليز؟ فبالله ألا أعدت بالحب عقلي! فإني قد اشتممت منه رائحة حبيبي، ومُنى فؤادي؛ فلعلنا نقف منه على خبر، وهل عرفت ماذا جرى برسم شفيق؟

قال: لا. فقصت عليه إلى أن قالت: ولا ريب عندي أن والدي قد أخفاه عني لعلي بذلك أسلو صاحبه، ولكن آه! كيف أسلوه وقد جرى حبه مجرى دمي في مفاصلي؟!

فقال بخيت: طيبي نفسًا؛ فإني لا أنفكُّ حتى أجدَ الرسم وأبحث عن أصل هذا الدبوس، وأقلب الأرض طولًا وعرضًا؛ حتى تعلمي أني خادم أمين لك؛ فقد كفاني ما عيَّرتني به من الإهمال.

قالت: إن فعلت ذلك أسر منك كثيرًا، وليس لي في العالم من أثق به سواك، فلا تضع أملي بك. والآن خذ الدبوس وارجع به إلى صاحبه، وألحَّ عليه بالسؤال، ومتى علمت شيئًا جيدًا أخبرني.

فخرج يفكر في وسيلة توصله إلى ذلك، ولما خرج من الحجرة لاقاه سيده فسأله عن فدوى، فقال: هي في خير. فدخل وأغلق الباب وراءه، ولما كلمها رآها أحسن حالًا من ذي قبل، فأراد مسايرتها فقال: لقد أطلتُ عليك الغيبة اليوم.

قالت: نعم، إنك لقد أطلتها يا أبتاه، وأنت تعلم أني لم آتِ هذه البلاد لأُسجن في هذه الحجرة.

قال: أعلم ذلك، وقد كنت في تدبير أمر للخروج إلى مكان للنزهة.

قالت: وإلى أين؟ قال: قد دعانا الدكتور «ن» الشهير للمسير إليه في الغد إلى منزله في طرف المدينة؛ حيث نقضي بضع ساعات في النزهة.

قالت: ومن أين عرفته حتى دعانا إلى ذلك؟

قال: إني بعثت إليه لأستشيره في أمرك، فطيَّب قلبي كثيرًا عليك. وقد آنستُ به كثيرًا وأحببته للطفه وكرم أخلاقه.

قالت: وكيف يدعوك إلى بيته وهذه أول مرة التقيت به مع أن عوائد الإفرنج لا تسمح بذلك؟

قال: نعم، إن هذا الدكتور إفرنجي، ولكنه قضى في هذه البلاد نحو الخمسين سنة، فتخلق بأخلاق أهلها، وألف عوائدهم، وأتقن درس لغتهم، وحفظ كل أمثالهم وأساليب كلامهم، فقد رأيته يورد لكل معنى مثلًا من الأمثال الدارجة التي تتعذر معرفتها إلا على أبناء اللغة، وقد رأيت أن الشيخوخة لم تغير شيئًا من شدة عزمه، وطول أناته، ولطف حديثه، الذي يتخلله نوع من المزاح في غاية الأدب والظرف، وأؤكد لك أنك لو جالسته ساعة لذهب عنك كل كدر، ولكن عوائدنا لا تسمح لنا بذلك، فإذا ذهبنا إلى منزله في الغد تعرفين امرأته، فلا بد أن تكون قد اكتسبت شيئًا من أخلاقه الرضية.

قالت: نذهب إليه غدًا حسب أمرك.

وقضيا تلك الليلة بأحاديث متنوعة متفرقة حتى كان وقت الرقاد، فذهب كلٌّ إلى فراشه، ونامت فدوى نومًا هنيئًا تلك الليلة على غير المعتاد، فسُرَّت وسُرَّ والدها أيضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤