الفصل الأول

الدولة العثمانية

من سنة ٩٢٣–١٢١٣ﻫ/ ١٥١٧–١٧٩٨م

(١) منشأ الدولة العثمانية

قبل التقدم إلى تاريخ مصر في سلطة الدولة العثمانية يحسن بنا أن نأتي على فذلكة في أصلها ومنشئِها.

يتصل نسب العثمانيين بالتتر الذين كانوا يقطنون ما يجاور جبال الناي عند حدود الصين الشمالية، ويغلب على الظن أنهم الإسكثيون المعروفون قديمًا بالشجاعة وشدة البأس. ويقال إن جماعة منهم ينتبسون إلى جَدٍّ يقال له «ترك»، نزحوا غربًا في الجيل الأول للميلاد وأقاموا فيما هو الآن بلاد تركستان، ويحدها شمالًا سيبريا، وجنوبًا بخارا، وشرقًا حدود الصين، وغربًا بحيرة أورال، وهي مشهورة بجودة الإقليم وخصب المرعى وجمال السكان وقوة أبدانهم.

وما استتب لهم المقام في تركستان حتى أخذوا يمدون سلطتهم وهم لا يزالون في حالة الجاهلية. ولم يعتنقوا الديانة الإسلامية إلا في أواسط القرن الرابع للهجرة، وأشهرهم طائفتان كبيرتان تُعرفان بالأغوزية والسلجوقية.

وكان الأتراك السلجوقيون يُقيمون في ما يجاور بخارا، ثم اشتدوا وأنشَئوا مملكة مستقلة شاسعة الأطراف يحدها بحر قزوين من جهة وبحر الروم من جهة أخرى، عواصمها فرسبوليس (إصطخر) وقرمان ودمشق وحلب ورومية في آسيا الصغرى. ثم افتتحوا جانبًا من بلاد فارس. ثم هددوا إمبراطور الروم، وتغلبوا عليه حتى اضْطُرَّ إلى تقبيل الأرض بين يدي ألب أرسلان ملك السلجوقيين.

وفي القرن الثالث عشر للميلاد كانت سلطة السلجوقيين منتشرة في آسيا الصغرى، وسلطانها علاء الدين ومقرُّه مدينة قونية.

وظهر في أثناء ذلك جنكزخان القائد المغولي، وغزا قبائل الأتراك المقيمين في تركستان، فأذعنوا له إلا قبيلة أوغوزية من قبائل خراسان، هاجرت تحت قيادة أمير يُدعى سليمان تطلب مقامًا لها ومرعى لمواشيها. وما زالوا يسيرون غربًا حتى حدث وهم يعبرون الفرات أن أميرهم سقط بجواده في النهر ومات فدفنوه هناك — وهو جد ساكن الجنان السلطان عثمان الغازي — فأصبحوا بعده جماعات متفرقة، فاتخذ ابنه أرطغرل قيادة جماعة منهم وسار بهم يخترق آسيا الصغرى. وهو في بعض السهول شاهد عن بُعد غبارًا متصاعدًا وحربًا قائمة فتقدَّم على نية الانتصار لأضعف الفئتين ففعل وهو لا يدري لمن ينتصر فقيض الله النصر له وتقهقرت الفئة الأخرى، ثم علم أنه انتصر للسجلوقيين وقهر المغوليين فشكر الله على ذلك.

فنال بذلك منزلةً رفيعة لدى علاء الدين، فأقطعه بقعة كبيرة يقيم فيها برجاله على حدود فريجيا ويثينيا، وكانت أرضًا جيدة ذات مرعى خصب. وفي تلك البقعة نشأ ابنه عثمان وشَبَّ وترعرع. وما زال أرطغرل تحت رعاية علاء الدين حتى توفي هو فخلفه عثمان. ثم توفي علاء الدين بغير ولد، فاقتسم أمراؤه مملكته فاستقل عثمان بما لديه سنة ١٣٠٠م، وهو أول أمراء دولة آل عثمان.

fig054
شكل ١-١: السلطان عثمان الغازي.

ومن التقاليد المأثورة بين العثمانيين أن عثمان هذا عشق وهو شاب فتاة تدعى «مال خاتون»، وكان والدها شيخًا تقيًّا ورعًا طاعنًا في السن اسمه أدبالي، فلما شعر بمحبة عثمان لابنته خاف العاقبة وصار يحاول إبعادهما الواحد من الآخر، وبالغ في حجاب ابنته؛ لأنه لم يكن يطمع بمصاهرة ابن حاكمه.

فجاء عثمان ذات ليلة ليبيت في منزل أدبالي وقضى معظم الليل هاجسًا بحبيبته حتى غلب عليه النعاس، فرأى في الحلم كأن القمر خارج من صدر أدبالي ثم رآه يتسع بسرعة حتى غطى كل ما كان واقعًا تحت نظره من الأرض. ثم أخذ في التقلص حتى عاد إلى حجمه الأول وارتد إلى صدر أدبالي كما كان. ثم رأى شجرة عظيمة خارجة من صلب أدبالي، وأخذ ظلها يمتد حتى غطى البر والبحر وتراءى له أن أنهر دجلة والفرات والدانوب والنيل خارجة من أصل تلك الشجرة. وجبال قوقاس وأطلس وطورس وهيموس يستظل بأغصانها، ورأى أوراقها تستطيل وتستدق حتى صارت كالسيوف، ورءوسها مصوبة إلى أشهر عواصم العالم وخصوصًا القسطنطينية الواقعة عند ملتقى القارتين ومجتمع البحرين. وخيل له أنها جوهرة بين زمردتين وياقوتتين مصطنعة في فص خاتم، وأنه هم أن يجعل ذلك الخاتم في إصبعه فاستيقظ مبغوتًا. فأخبر أدبالي في الصباح بما كان فاستبشر بما سيكون من مستقبل ذلك الشاب، وأنه سيملك القسطنطينية.

وما انفك خلفاء عثمان كلما اتسع سلطانهم يزدادون ثقة بمآل ذلك الحلم، وقد حاول بعضهم فتح القسطنينية فرجع ولم ينَل وطرًا، حتى ظهر محمد الفاتح السلطان السابع من سلاطين آل عثمان، وبينه وبين صاحب الحلم نحو ١٦٠ سنة؛ ففتحها بعد أن يئس المسلمون من فتحها.

fig055
شكل ١-٢: السلطان محمد الفاتح يوم دخوله القسطنطينية بعد فتحها سنة ١٤٥٣.

وحارب العثمانيون أعظم ملوك أوروبا وطاردوهم إلى بلاد المجر، وحاصروا فينَّا عاصمة النمسا، وأخذوا الجزية من الأرشيدوق فردينان، واكتسحوا البحر الأبيض إلى شواطئ إسبانيا، ووجهوا مطامعهم من الجهة الأخرى نحو الشرق، ففتحوا العراق والشام ومصر على يد سليم الفاتح كما تقدم، وبسلطنته يبدأ هذا الجزء من تاريخ مصر الحديث.

(٢) سلطنة سليم بن بيازيد (من سنة ٩٢٣–٩٢٦ﻫ/ ١٥١٧–١٥٢٠م)

أمر السلطان سليم بدفن طومان باي قرب قبر قنسو الغوري، وبعد دفنه بثلاثة أيام دخل السلطان سليم عاصمة الديار المصرية ظافرًا في غاية ربيع أول سنة ٩٢٣ﻫ. وبعد يسير نزل إلى الإسكندرية في فرقة من جيوشه لوضع الحماية عليها. ثم عاد إلى القاهرة ومكث فيها إلى ٢٠ شعبان من تلك السنة فبرحها قاصدًا الروملي. ويقال إنه نقل معه ألف جمل محملة ذهبًا وفضة فضلًا عن أسلاب أخرى وهدايا قُدِّمَتْ له. وقبل خروجه من مصر جعل فيها حكومة منظمة فأصبحت مصر أيالة عثمانية.

وكان فيها من الخلفاء العباسيين إذ ذاك محمد المتوكل على الله (الثالث) الخليفة الثامن عشر من الدولة العباسية بمصر. وكيفية وصول الخلافة إليه أن الإمام المستنجد بالله الخليفة الخامس عشر الذي تولى الخلافة في أيام ينال سنة ٨٥٩ﻫ، كما تقدم توفي في ٢٤ محرم سنة ٨٨٤ﻫ بعد أن تولَّاها ٢٥ سنة، وولي مكانه الخليفة عبد العزيز بن يعقوب حفيد الخليفة العاشر المتوكل على الله ولقب بلقب جده. ثم توفي يوم الجمعة في ٢ صفر سنة ٩٠٣ﻫ، فخلفه الخليفة أبو صابر يعقوب الملقب بالمستمسك بالله، ثم خلف هذا نحو الفتح العثماني الخليفة محمد المتوكل على الله المتقدم ذكره. فلما فتح العثمانيون مصر رأى السلطان سليم الفاتح أن نصره لا يؤيد إلا إذ قبض على الأَزِمَّة الدينية. فاستخرجها من أيدي الخلفاء العباسيين فصارت الخلافة الإسلامية إلى العثمانيين وأول خلفائهم السلطان سليم. وأما الخليفة العباسي فإنه نقل إلى الأستانة وخصص له راتب مُعيَّن لنفقاته، وقبل وفاة السلطان سليم بيسير عاد المتوكل إلى مصر وعاش فيها منفردًا إلى أن توفاه الله سنة ٩٤٥ﻫ، وهو آخر الخلفاء العباسيين.

(٢-١) الخلافة والعرب والترك

ويجدر بنا أن نقول كلمة في الخلافة ونسبتها إلى العرب أو غيرهم. أفضت أمور المسلمين إلى ملوك وسلاطين من الفرس والأتراك والأكراد والبربر والجركس وغيرهم، ومع ما بلغوا من سعة الملك وعز السلطان، ومع حاجتهم إلى السيادة الدينية لتستقيم دولهم وتجتمع الرعية على طاعتهم لم يخطُر لأحد منهم أن يطلب الخلافة لنفسه قبل انتقال الإسلام إلى طوره الثاني بعد تضعضه بفتوح المغول. ولا ادَّعَاها أحد من العرب غير قريش. وأول سلطان غير عربي بويع بالخلافة السلطان سليم العثماني، ولا تزال الخلافة في دولته إلى الآن.

على أن الذين قويت شوكتهم في عهد ذلك التمدن من الأمراء المسلمين أو القُواد غير العرب، كانوا إذا طمعوا بالسيادة الدينية أو الخلافة انتحلوا لأنفسهم نسبًا في قريش، كما فعل أبو مسلم الخراساني لمَّا رأى من نفسه القوة على إنشاء الدولة، وربما طمع بالخلافة فانتحل لنفسه نسَبًا في بني العباس، فقال إنه ابن سليط بن عبد الله بن العباس.

وأما الملوك أو السلاطين الأعاجم فلما ضخمت دولهم في أواخر العصر العباسي، ورأوا انحطاط الخلافة وتقهقُرها وتمنَّوْا الاستغناء عنها، ولكنهم لم يروا سبيلًا إلى ذلك إلا أن يستبدلوها بخلافة أخرى. على أن بعضهم طمع بالنفوذ الديني من طريق الانتساب إلى الخليفة بالمصاهرة. وأول من فعل ذلك عضد الدولة بن بويه المتوفَّى سنة ٣٧٢ﻫ، فإنه حمل الطائع لله الخليفة العباسي في أيامه أن يتزوج بابنته، وغرضه من ذلك أن تلد ابنته ولدًا فيجعله ولي عهده، فتكون الخلافة في ولد لهم فيه نسب ولم يُوفَّق إلى مراده.

ولما أفضت السلطة إلى السلاجقة تقدموا في هذا الطريق خطوة أخرى، فعمدوا إلى التقرُّب بالمصاهرة أيضًا ولكن على أن يتزوج السلطان طغرلبك السلجوقي ابنة الخليفة وهو يومئذٍ القائم بأمر الله، فخطبها إليه ووسَّط قاضي الري في ذلك فانزعج الخليفة لهذا الطلب أيما انزعاج؛ إذ لم يسبق أن يتزوج بنات الخلفاء إلا أكفاؤهم بالنسب، وكانت يد السلطان قوية والخليفة لا شيء في يده فأخذ في استعطافه ليعفيه من الإجابة على طلبه، فأبى السلطان إلا أن يُجاب. وحدثت أمور يطول شرحها خِيف منها على الدولة فاضطر الخليفة إلى القبول، فعقد له عليها سنة ٤٥٤ﻫ، وهذا ما لم يَجْرِ مثله قبله؛ لأن آل بويه لم يطمعوا بذلك ولا تجاسروا على طلبه مع مخالفتهم للخليفة في المذهب؛ إذ يكفي من الخليفة تنازلًا أن يتزوج بنات الملوك لا أن يزوجهم بناته، ولم ينل هذا الشرف أحد قبل طغرلبك. ومع ذلك فإنه لما دخل إلى عروسه في السنة التالية قبَّل الأرض بين يديها وهي جالسة على سرير ملبس بالذهب، فلم تكشف الخمار عن وجهها ولا قامت له. وظل أيامًا يحضر على هذه الصورة وينصرف. على أنه لم يوفق لإتمام ما أراده؛ لأنه توفي في تلك السنة. أما المبايعة بالخلافة لغير العرب فلم تَنَلْهَا دولة إسلامية قبل العثمانيين.

(٢-٢) نظام الحكومة المصرية أيام العثمانيين

وأخذ السلطان سليم في تأييد سلطته في مصر؛ ليأمن من تمرُّدها وتلاعب ذوي الأغراض فيها. فجعل عليها حاكمًا يُلَقَّبُ بالباشا إليه مرجع الحل والعقد. وكان من جملة الذين انحازوا إلى العثمانيين في واقعة مرج دابق أمير يقال له خير بك من كبار رجال قنسو. فلما فتح الله على العثمانيين ولاه السلطان سليم على مصر بلقب باشا. ثم خشي من تفرُّد هذا الحاكم بالأمر مع بُعد مصر عن الأستانة أن يكون داعيًا لعصيانه. فأعمل الفكرة فيما يكفيه مئونة هذا الخطر فاهتدى إلى طريقة تضمن له ذلك. وهي أن يجعل في مصر ثلاث إدارات كل منها تراقب أعمال الأخريين؛ فلا يخشى من اتحادها وتمردها.

  • فالقوة الأولى: «الباشا»، وأهم واجباته إبلاغ الأوامر السلطانية لرجال الحكومة وللشعب ومراقبة تنفيذها.
  • والقوة الثانية: «الوجاقات» فإنه أقام في القاهرة وفي المراكز الرئيسية من القطر ستة آلاف فارس وستة آلاف ماشٍ بالبنادق، جعلها ستة وجاقات «فرق» تحت قيادة وأوامر خير الدين أحد قواد العثمانيين العظماء، وأمره أن يقيم في القلعة ولا يخرج منها لأي سبب كان، وواجبات هذه الوجاقات حفظ النظام في القطر المصري والدفاع عنه وجِباية الخراج. وقد رتبها على الوجه الآتي:
    • (١) وجاق المتفرقة: وهو مؤلَّف من نخبة الحرس السلطاني.
    • (٢) وجاق الجاويشية: وهو مؤلَّف في الأصل من صف ضابطان جيش السلطان سليم فعهد إليهم جباية الخراج.
    • (٣) وجاق الهجانة.
    • (٤) وجاق التفقجية: وهم ناقلو البنادق.
    • (٥) وجاق الإنكشارية: وهم أخلاط من نخبة القبائل الخاضعة للدولة العثمانية، وكانوا يعرفون أيضًا بالمستحفظين لإناطة محافظة البلاد بهم.
    • (٦) وجاق العزب.

وكان كل من هذه الوجاقات مؤلَّفًا من أفراد يقال لهم «وجاقلية»، واحدهم «وجاقلي» على كل وجاق منها ضابط يلقب بالآغا يصحبه الكخيا والباش اختبار والدفتردار والخزندار والرزنامجي. ومن اجتماع هؤلاء الضباط من سائر الوجاقات يتألَّف مجلس شورى الباشا، فلا يقضي أمرًا إلا بمصادقتهم. أما هم فلهم أن يوقفوه عن الإجراء وأن يستأنفوا إلى ديوان الأستانة عند الاقتضاء. ولهم أيضًا أن يطلبوا عزله حالما يشتبهون بمقاصده.

(٢-٣) الإنكشارية

وأهم تلك الوجاقات «الإنكشارية»، وهم يشملون الجند العثماني في ذلك العهد. أُنْشِئَ هذا الجند في زمن السلطان أورخان ثاني سلاطين آل عثمان (سنة ٧٢١–٧٦١ﻫ) على يد قره خليل أحد كبار رجال الدولة، ونظر في تنظيمه إلى خُلُوِّهِ من عصبية تبعث على التمرد. وكان العثمانيون يومئذٍ يفتحون البلاد وأكثر أهلها مسيحيون فيدخل في حوزتهم جماعة من غلمان النصارى الذين قُتِلَ آباؤهم وأصبحوا لا نصير لهم ولا مرجع لآمالهم. فارتأى أن يربي أولئك الغلمان تربية إسلامية، ويدربهم على الفنون الحربية ويجعلهم جندًا دائمًا لا يخشى منه التمرد؛ لأنه لا يعرف عصبية غير الدولة ولا عملًا غير الجندية ولا دينًا غير الإسلام. فجنَّدهم وسار بهم إلى الحاج بكطاش شيخ طريقة البكطاشية بأماسية ليدعو لهم. فدعا لهم وسماهم «يكي چري» الجند الجديد.

وقسم هذا الجند إلى وجاقات واحدها وجاق، والوجاق يُقَسَّمُ إلى أورط إحداها أورطة، ولكل أورطة عدد تعرف به ولبعضها أسماء خاصة. ويختلف عدد الجند في كل أورطة حسب الأعصر من ١٠٠ إلى ٥٠٠، ويختلف عدد الأورط في الوجاق وعدد الوجاقات بمقتضى ذلك. وأكبر ضباط الوجاق أو قائدها الأكبر يسمى «آغا» تحته سكبان باشي تحته غيره فغيره على هذه الصورة:
  • الآغا: قائد الوجاق ويقابل اللواء في هذه الأيام.
  • سكبان باشي: ينوب عن الآغا في الأستانة ويقابل القائمقام اليوم.
  • قول كخيا أو كخيا بك: نائب الآغا أو السكبان باشي.
  • سمسونجي باشي: قائد أورطة نمرو ٧١.
  • زغرجي باشي: قائد الأورطة نمرو ٦٤.
  • محضر آغا: ينوب عن الإنكشارية عند الصدر الأعظم.
  • خصكي: ينوب عن الآغا في القيادة على الحدود.
  • باشجاويش: قائد الأورطة الخامسة.
  • كخيا كري: ينوب عن الوجاق لدى الآغا.
  • الأفندي: الكاتب.

ولكل أورطة ضباط يقتسمون قيادتها وإدارة شئونها مما يطول شرحه.

fig104
شكل ١-٣: آغا الإنكشارية ونائبه وخادمه.

كان للإنكشارية رواتب يسمونها العلوفة كانت تدفع يوميًّا باعتبار درهم واحد لكل إنكشاري، ثم ارتفعت إلى خمسة دراهم غير الهدايا التي كانوا ينالونها في الأعياد وعند تولية السلاطين، ويسمونها «بخشيش الجلوس» وغير ما يصرف لهم من الأطعمة كاللحم والخبز أو القمح.

(أ) ملابس الإنكشارية وطعامهم

المقصود من ألبسة الجند التفريق بين رتبهم، فكان لكل طبقة من الإنكشارية لباس خاص نقتصر على وصف بعضها بالتصوير (انظر شكل ١-٣).

فالصورة الوسطى التي تحتها نمرة ٢ هي صورة آغا الإنكشارية وعمامته كبيرة منفوخة وعليه القفطان والجبة، وحول وسطه الحزام وفيه الخنجر، وفي قدميه نعال مكشوفة. وإلى يمينه في الطرف نمرة ٤ نائبه المسمى «قول كخيا» وقاووقه يختلف عن ذاك اختلافًا عظيمًا، وفي قمته شبه المروحة من الريش وبجانبه نمرة ٣ خادم الآغا وعمامته كالعمائم المعروفة. وإلى يسار الآغا نمرة ١ الباشجاويش ويختلف لباسه عن أولئك من كل جهة وخصوصًا قاووقه وقفطائه وإزاره ونعاله.

وترى مثل هذا الاختلاف في صغار الإنكشارية أيضًا على تفاوُت في الرتب والأعمال، فترى في شكل ١-٤ أن نمرة ٣ صورة جندي إنكشاري واقف وعليه الجبة والقطفان بشكل خاص والقاووق مثني إلى الوراء، ونمرة ٤ إنكشاري واقف وقفة الاحترام، و١ ضرب آخر من الإنكشارية يعرف بسلاق، و٥ نوع آخر جيولك. وانتبه إلى ٢ فإنها صورة أحد الغلمان الأعاجم الذين يخرج الإنكشارية منهم ونمرة ٦ إنكشاري مدرع.
fig105
شكل ١-٤: أنقار الإنكشارية.
fig106
شكل ١-٥: توزيع الشورباء علي الإنكشارية.
ويمتاز الإنكشارية بعادات خاصة في طعامهم وأهم أصنافه الشورباء؛ فقد كانت تُصنع في حلل خاصة تُرسَل إلى الأجناد في قدور كبيرة يحملونها معلَّقة بأعواد مستعرضة كما ترى في شكل ١-٥.

يحمل الحلة اثنان من الجند يقال لهما «قراقول أقجي» يتقدمهما ضابط اسمه باش قراقول أقجي يحمل على كتفه ملعقة كبيرة من الحديد. فيمر بالأماكن التي فيها عساكر من أورطتهم وهم في انتظار وصولهم، فيحطون القدر على الأرض ويغرفون منها بالملعقة لمن يأتي بطبقة على قدر حاجته.

وللطعام شأن كبير عند الإنكشارية، وفي مطبخ كل أورطة قِدر كبيرة هي مثال لقدر يحترمونها؛ اعتمادًا على حديث يتناقلونه بينهم عن الحاج بكطاش صاحب الطريقة البكطاشية التي ينتسب إليها الإنكشارية أنه طبخ شورباء فيها، ويعتقدون أنهم إذا نقلوا هذه القدر من مكانها وصبوا هناك ماء زُلْزِلَتِ الأرض. وكانت هذه القدور ملجأ للمجرمين فمن أتى إليها وجب على الإنكشارية حمايته والدفاع عنه، كما كان يفعل العرب في حماية من يستجير بهم. وفي الحوادث الكبيرة التي تتفق لهم كقيامهم بثورة أو مفاوضتهم في أمر يهمهم يجتمعون حول هذه القدر للمفاوضة بجانبها تبرُّكًا بها.

(٢-٤) الأمراء المماليك

أما القوة الثالثة فالمماليك. وهم بقايا الدولتين السالفتين، والفائدة منهم حفظ الموازنة بين الباشا والوجاقات؛ لأنهم في الأصل أعداء لكلا الفريقين، ومن غرضهم الانتصار للفريق الأضعف ليمنعوا القوي من الاستبداد. وقد كان القطر المصري منقسمًا إلى ١٢ «سنجقلية» (مديرية) يحكم كلًّا منها حاكم يقال له: «سنجق» أو «بك» يعينه الديوان (وهو مجلس شورى الباشا) من أمراء المماليك. ولا غرو أن تقاطع المصالح على هذه الصورة واختلاطها مع تعداد الآمرين مما يقود إلى القلاقل والمتاعب. أما الدولة العثمانية فقد اجتنت راحة من هذا التعب؛ لأنها كانت على ثقة من استبقاء الديار المصرية في حوزتها.

وبقي خير بك باشا واليًا على مصر إلى أن أدركته الوفاة بمرض جلدي سنة ٩٢٨ﻫ، ودُفِنَ في جامعه المعروف باسمه في شارع درب الوزير تحت القلعة. وبعد وفاته لهجت الألسنة بذَمِّهِ لعظم استبداده فكانوا يقولون إنه كان ينهض من لحده ليلًا ويستغفر الله على ما أتاه من الشرور في حياته.

(٣) سلطنة سليمان القانوني (من سنة ٩٢٦–٩٧٤ﻫ/١٥٢٠–١٥٦٦م)

وقبل وفاة خير بك باشا بسنتين توفي السلطان سليم، وخلفه ابنه السلطان سليمان سنة ٩٢٦ﻫ، وسِنُّهُ ٢٦ سنة ويُعرف بالقانوني؛ لأنه سَنَّ قانونًا. فمكث على كرسي الخلافة نحوًا من نصف قرن، وقد أكثر من الاهتمام بمصر وتنظيمها. وكان أبوه قبل وفاته قد رسم الخطة التي يجب أن تسير عليها مصر في حكومتها وإدارتها لكنه تُوُفِّيَ قبل أن يُبرزها إلى حيز الفعل، فلما تولى السلطان سليمان جعل اهتمامه إتمام مشروع أبيه.

fig056
شكل ١-٦: السلطان سليمان القانوني.

(٣-١) نظام الحكومة المصرية أيضًا

وكان من رأي السلطان سليم أن يُنشئ ديوانًا تحت رئاسة الباشا حفظًا للموازنة، أما السلطان سليمان فأتم الموازنة بإنشاء ديوانين عُرِفَا بالديوان الكبير والديوان الصغير «أو الديوان فقط» وأناط رئاستهما بالباشا. وعليه أن يجلس عند انعقاد الجلسة وراء ستار المنبر. وعلى الكخيا والدفتردار استئذانه قبل المفاوضة، ومتى أقر الديوان على أمر أبلغاه ذلك القرار، وليس له إلا المصادقة والأمر بالتنفيذ. وجعل إقامة هذا الباشا بالقلعة تحت ملاحظة الآغا الذي هو قومندانها، ويجدد تعيين الباشا في كل سنة.

أما واجبات الديوان الكبير فهي المفاوضة والإقرار على ما يتعلق بالأشغال العمومية التي لا تتعلق إدارتها بالباب العالي نفسه. أما أعضاء هذا الديوان فهم آغاوات الوجاقات الستة ودفترداريوها وروزنامجيوها، ونواب من جميع فرق الجيوش وأمير الحج وقاضي القضاة وأعيان المشايخ والأشراف والمُفتُون الأربعة والأئمة الأربعة والعلماء. أما المخاطبات التي ترد إلى هذا الديوان فتُعَنْوَنُ باسم الديوان الكبير لكنها تُسَلَّمُ للباشا، وله وحده الحق أن يأمر بعقد جلساته ولم تكن كثيرة. أما جلسات الديوان الأصغر فكانت تنعقد يوميًّا في قصره، وأعضاء هذا الديوان هم كخيا الباشا ودفترداره وروزنامجيُّه ونائب من كل من الوجاقات والآغا وكبار ضباط وجاق المتفرقة. ومن واجبات هذا الديوان النظر في الحوادث اليومية، ومن اختصاصاته البحث في الإدارات الثانوية.

وأنشأ السلطان سليمان فضلًا عن الستة الوجاقات التي أنشأها أبوه وجاقًا سابعًا دعاه وجاق الشراكسة وهم بقية جند المماليك. ومن هذه الوجاقات السبعة تتألف حكومة مصر وحاميتها. أما نفقاتها فمن مخصَّصات يتولى ضبطها وتفريقها «أفنديٌّ» من كل وجاق. وجعل لكل وجاق مجلسًا مؤلَّفًا من ضباط ذلك الوجاق وبعض صف ضابطانه؛ لمحاسبة الأفندية والنظر في الدعاوي الخصوصية وعرض الترقيات للباشا للمصادقة عليها. ومقامهم في القاهرة، ولكل منهم لباس خاص برتبته وعليه علاماته. ومجموع رجال الوجاقات معًا عشرون ألفًا وقد يزيد أو ينقص حسب الاقتضاء. أما مَقَرُّهُم ففي القاهرة، على أنهم كثيرًا ما كانوا يخرجون منها للمهمات في المديريات. وكان لوجاق الإنكشارية امتيازات على سائر الوجاقات، وقائده (الآغا) مفضل على سائر القُوَّاد وله نفوذ عليهم.

وجعل السلطان سليمان للبكوات المماليك الذين أقامهم السلطان سليم امتيازات خصوصية وحقًّا بالارتقاء إلى رتبة الباشوية. وأضاف إليهم ١٢ بيكًا آخرين لمهمات فوق العادة. وهاك أسماء الموظفين الذين يُنتخبون من البكوات المماليك وهم: الكخيا أو نائب الباشا والقبابطين الثلاثة، وهم قومندانات ثغور السويس ودمياط والإسكندرية، ويسمى واحدهم قبطان بك، والدفتردار وأمير الحج وأمير الخزنة وحكمداريو أو مديريو المديريات الخمس الآتي ذكرها، وهي: جرجا والبحيرة والمنوفية والغربية والشرقية. ولم يكن لغير الكخيا والدفتردار وأمير الحج الحق في دخول الديوان؛ فالدفتردار كان عليه ضبط الحسابات وحفظ الدفاتر والسجلات، ولا ينفذ أمر بيع عقار إلا بعد توقيعه عليه إشارة إلى تسجيله في دفاتره. وأمير الحج يحمل الهدايا والصدقات التي كانت يُرسلها السلطان سنويًّا إلى مكة أو المدينة، وعليه حماية قافلة الحج ذهابًا وإيابًا. وأما أمير الخزنة فيحمل القسم المختص بالقسطنطينية من حاصلات مصر برًّا وعليه حمايته. وينتخب من البكوات المماليك أيضًا شيخ البلد. وسنعود إليه.

وكانت مديريات القليوبية والمنصورة والجيزة والفيوم في عهده كشاف لا فرق بينهم وبين البكوات في النفوذ. ولا يعمل بإقرار أحدهم إلا بعد مصادقة الشربجية وغيرهم من الوجاقليين الذين يتألف منهم ديوان خاص في كل مديرية.

ثم إن تعيين كخيا الباشا وقباطين السويس ودمياط والإسكندرية متعلق رأسًا بجلالة السلطان، فيرسلونهم من الأستانة، ويستدعونهم إليها في آخر كل سنة. أما البكوات الآخرون فيعينهم الديوان ويوليهم الباشا، ويثبتهم الباب العالي. ومراكزهم ثابتة إلا أن واجباتهم تتغير إلا الدفتردار. وقد ينتخب البكوات من وجاق المتفرقة، ومتى انتخبوا لا يعودون تابعين لذلك الوجاق. وكان من هم الباب العالي الانتباه إلى السويس ودمياط والإسكندرية على الخُصُوص؛ لأنها الأبواب التي يُدخل منها إلى مصر؛ فكان يرسل حاميتها رأسًا من الأستانة تحت قيادة القبابطين ويجددها كل سنة، وهؤلاء القبابطين لم يكونوا يُحسَبون من جند مصر إلا باعتبار إقامتهم فيها، وبما ينالونه من الإمدادات المالية لنفقاتهم. أما فيما خلا ذلك فكانوا يُحسَبون أجانب في اعتبار الباشا وديوان مصر، ولم يكونوا تحت أوامر حكومة البلاد في شيء؛ فأوامرهم كانت تَرِدُ إليهم من ديوان الأستانة رأسًا.

(٣-٢) حاصلات البلاد

هذا من قبيل الإدارة، أما من قبيل حاصلات البلاد، فإن السلطان سليمان صرح بأنه المالك الحر لأرض مصر؛ فكانت له ملكًا، وكان يفرقها إقطاعات على مزارعين كان يدعوهم «الملتزمين»، على أنه لم يكُن له أن يمنع إقطاعها أو يوقفه فلم يكُن بالحقيقة فرق بين هذه الإقطاعات والملك الحقيقي. والفلاحون الذين كانوا يحرثون الأرضين كانوا يتمتعون بنصيبهم منها ويورثونها لأعقابهم. ولكنهم كانوا مجبورين على العمل فيها بدون حق التصرُّف بها، وعليهم خراج لا مناص من دفعه للملتزمين، فإذا توفي فلاح بلا وريث تُعطى أرضه للملتزم، وهو يعهد بحراثتها إلى من يشاء، وإذا مات الملتزم بلا وريث تعود الأرض للسلطان. وكان على كل من الملتزمين والفلاحين خَرَاج يدفعونه إما نقدًا وإما عينًا، فإذا تأخر الفلاح عن الدفع يُمنع من نيل نصيبه وإذا تأخر الملتزم تؤخذ الأرض منه. ونظرًا لاتساع أرض مصر لم يمكن حصر أملاك كل من الملتزمين؛ فلم يكن ممكنًا تعيين مقدار خراجها، فأرسل السلطان سليمان مسَّاحين مسحوا الأرضين المصرية فقسموا المديريات إلى أقسام دعوها بالقراريط ومسحوا كلًّا منها على حَدِّهِ وحُدُودِهِ.

(٣-٣) باشوات مصر أو ولاتها أيام السلطان سليمان

كل هذه النظامات الإدارية والمالية أجراها السلطان سليمان بالتتابع بواسطة الباشوات الذين أقامهم على مصر مدة حكمه وعددهم ١٤. أوَّلهم مصطفى باشا تولى بعد وفاة خير بك باشا في ذي الحجة سنة ٩٢٦ﻫ، وبعد تسعة أشهر و٢٥ يومًا أُبدل بأحمد باشا وكان عدوًّا للصدر الأعظم إبراهيم باشا، فأَسَرَّ الصدر سنة ٩٣٠ﻫ إلى أمراء القاهرة أن يقتلوه، فعلم هو بالدسيسة فقبض على الكُتُب الواردة بذلك قبل أن تصل إلى أصحابها، ثم استدعاهم وأعلنهم أنها أوامر من جلالة السلطان بقتلهم، ولم يطلعهم عليها فأبوا الإذعان، إلا أن إباءهم لم يمنع قتلهم.

ولما تأكد أحمد باشا أنه صار في مأمن من المقاوِمِين صرَّح باستقلاله، وأمر أن يُخطب له وأن تضرب النقود باسمه، وهو أول من طمع بالاستقلال من ولاة مصر في عهد الدولة العثمانية. لكنه بالغ بالعسف فاختلس ممتلكات البعض وحبس البعض فثارت الأفكار عليه حتى أصبحت حياته في خطر. وبينما كان ذات يوم في الحمام فاجأه أميران من أمرائه كان قد أمر بسجنهما وهما جهم الحمزاوي ومحمود بك، فكسرا باب السجن وخرجا رافعين العلم الشاهاني يستنصران الناس حتى أتيا الحمام، فعلم الباشا بذلك ففر من السطح والتجأ إلى أحد مشايخ عربان الشرقية واسمه ابن بقر، فتعقبه أعداؤه حتى أدركوه وقطعوا رأسه وعلقوه على باب زويلة، ثم نُقِلَ إلى الأستانة سنة ٩٣١ﻫ.

فأرسل السلطان عوضًا عنه قاسم باشا، وفي نيته تقصير مدة هؤلاء الولاة؛ لئلا يثور في خواطرهم حُبُّ الاستقلال، فبعد تسعة أشهر و١٤ يومًا استبدله بإبراهيم باشا، وكان نشيطًا محبًّا للإصلاح والنظام إلا أن قصر مدته لم يُمكنه من إتمام ما كان شارعًا فيه، فعُزل وأُقِيمَ بدلًا منه سليمان باشا سنة ٩٣٣ﻫ، وكان السلطان راضيًا عن هذا الباشا واثقًا به فأبقاه في الحكم تسع سنوات و١١ شهرًا.

وفي سنة ٩٤١ﻫ استقدمه إلى الأستانة ليسلمه قيادة حملة أعدها لمحاربة الفرس والهند، وقد أقام في أثناء حكمه بنايات كثيرة من جملتها جامع سارية في القلعة. وناب عنه في غيابه خسرو باشا نحو سنة وعشرة أشهر فعاد سليمان باشا إلى مصر، وبقي عليها بعد ذلك نحو سنة وخمسة أشهر.

وفي سنة ٩٤٥ﻫ عهدت باشوية مصر إلى داود باشا، فبقي عليها ١١ سنة و٨ أشهر، وكان رجلًا مستقيمًا كريم الأخلاق محبًّا للعلماء آخذًا بناصرهم كلِفًا بالمطالعة، وعلى نوع خاص مطالعة المؤلفات العربية؛ فجمع منها عددًا وافرًا واستنسخ كل ما ظفر به من الكتب غير المطبوعة، فجمع مكتبة جميلة جدًّا. وكان الأهلون في مدة حكمه في بحبوحة السعادة والأمن، وتوفي في القاهرة سنة ٩٥٦ﻫ فتولى مكانه علي باشا، وهذا رمم وبنى عدة بنايات عمومية في القاهرة وفي فوة ورشيد واقتدى به غيره من بكوات مصر، فجعلوا يشيدون الجوامع منها الجامع الذي ابتناه عيسى بك في ديروط. وكان علي باشا محبوبًا مكرَّمًا عند المصريين بمنزلة الأب، لكنه مع ذلك لم يحكم إلا أربع سنوات وستة أشهر. ففي سنة ٩٦١ﻫ تولى باشوية مصر محمد باشا، وكان الناس يبغضونه فلم يحكم إلا ثلاث سنوات، ولما زاد التَّشَكِّي منه عُزِلَ واستُقْدِم إلى الأستانة للمحاكمة فحكم عليه بالقتل سنة ٩٦٣ﻫ.

وبعد محمد باشا تولى إسكندر باشا فحكم ٣ سنوات و٣ أشهر ونصف، وفي سنة ٩٦٨ﻫ تولى علي باشا الخادم. وبعد ١٧ شهرًا خلفه مصطفى باشا (الثاني) في سنة ٩٦٩ﻫ، ثم في سنة ٩٧١ﻫ تولاها علي باشا الصوفي سنتين و٣ أشهر. وكان علي الصوفي قبلًا حاكمًا في بغداد مشهورًا فيها باعوجاج الأحكام والخيانة، فلما تولى مصر كثرت فيها السَّرِقات والتعديات حتى غصت ضواحي القاهرة باللصوص، واخترقت فئة منهم المدينة حتى الجامع الأبيض. فاضْطُرَّتِ الحكومة أن تقيم سورًا من قنطرة الحاجب إلى هذا الجامع منعًا لمثل ذلك.

وفي شوال سنة ٩٧٣ﻫ أُبْدِلَ علي باشا الصوفي بمحمود باشا، وهو آخر من تولى مصر في أيام السلطان سليمان فجاء من الأستانة بموكب عظيم فأُهدِيَ إليه في أثناء مروره من الإسكندرية إلى القاهرة هدايا عظيمة. فلما وصل القاهرة لاقاه الأمير محمد بن عمر متولي الصعيد على قارب فيه جميع أنواع الهدايا وخمسون ألف دينار، فأخذ الباشا الهدايا منه وأمر بخنقه حال خروجه من مجلسه. وأمر أيضًا بخنق القاضي يوسف العبادي لأنه لم يأتِ لملاقاته ولم يُهْدِهِ شيئًا، واستمر على هذه المظالم حتى قتل معظم أعيان القاهرة، فكان لا يمر إلا ومعه الشوباصي (رئيس الجلادين)، فإذا مر بأحد وأراد قتله أشار بيده إلى الشوباصي فيعمد حالًا إلى ذلك السيئ الطالع فيُعدمه الحياة بأسرع من لمح البصر.

وفي ٣ رجب سنة ٩٧٤ﻫ توفي الأمير إبراهيم الدفتردار، وكان أميرًا للحج فاستولى محمود باشا على ما ترك من المال والمماليك والجواري، وجملة ذلك مائة ألف دينار ضَمَّهَا إلى المال الذي يُرسل إلى الأستانة سنويًّا، وبعث معها هدايا ثمينة للسلطان ووزرائه استجلابًا لخاطرهم. لكنه لم ينتفع من ذلك قبل أن قُتِلَ في يوم الأربعاء غاية جمادى الأولى سنة ٩٧٥ﻫ وهو مَارٌّ في موكبه الاعتيادي بين البساتين. ولم تَقِفْ الحكومة على القاتل فاتهمت اثنين من الفلاحين وقتلتهما ظلمًا؛ لأنهما وُجِدَا بقرب مكان القتل. وكان السلطان سليمان قد تُوُفِّيَ قبل ذلك بسنة (صفر سنة ٩٧٤ﻫ) وسِنُّهُ ٧٤ سنة، ومدة حكمه ٤٨ فتولى بعده ابنه سليم شاه «الثاني» في ٩ ربيع أول من تلك السنة.

fig108
شكل ١-٧: نقود سليمان القانوني.
وترى في شكل ١-٧ نقود السلطان سليمان ضُرِبَتْ في القسطنطينية سنة ٩٢٦ﻫ. ومما يحسن التنبيه إليه أن سلاطين آل عثمان لا يؤرخون نقودهم إلا بسَنَة جلوسهم على السلطنة وليس بسنة ضربها.

(٤) سلطنة سليم بن سليمان (من سنة ٩٧٤–٩٨٢ﻫ/١٥٦٦–١٥٧٤م)

فلما بلغ السلطان سليم شاه موت محمود باشا أمر بنقل سنان باشا من باشوية حلب إلى باشوية مصر. وبعد وصوله إليها بتسعة أشهر أنفذه لمحاربة اليمن، فسار سنان من مصر في ٤ شوال سنة ٩٧٦ﻫ، ومعه حمزة بك وماماي بك وغيرهما من أمراء مصر، واستخلف على مصر إسكندر باشا الشركسي. ومكث سنان باشا في تلك الحملة سنتين و٤ أشهر ففتح اليمن وعاد ظافرًا إلى مصر، فرأى الأحوال هادئة والنظام مستتبًّا بدراية إسكندر باشا المذكور؛ لأنه كان حكيمًا محبًّا للرعية، فرفع الضرائب عن الفقراء والعاجزين والقسم الأعظم من طلبة العلم، وكان شديد التعلق بالعلم وذويه، فلما عاد سنان باشا إلى مصر (أول صفر سنة ٩٧٩ﻫ) عادت أحكامها إلى يده، فاهتم بتأييد النظام وحفظ رونق البلاد، فأعاد حفر ترعة الإسكندرية، ورمَّم وبنى فيها جامعًا وشارعًا وعدة حمامات، وبنى في بولاق بمصر شارعًا ووكالات وجامعًا لا يزال معروفًا باسمه. وما زال على مصر إلى ذي الحجة سنة ٩٨٠ﻫ، فخلفه حسين باشا وكان على جانب من اللطف والدعة وحب العلم والأدب، ولا يُعاب إلا لكثرة حلمه؛ الأمر الذي آل إلى تكاثر اللصوص في ولايته، ولم يحكم إلا سنة وتسعة أشهر. وفي أيامه توفي السلطان سليم شاه (سليم الثاني) في ٢٨ شعبان سنة ٩٨٢ﻫ بعد أن حكم ثماني سنين وخمسة أشهر و١٩ يومًا.

fig109
شكل ١-٨: نقود السلطان سليم الثاني.
وترى في شكل ١-٨ صورة نقود السلطان سليم الثاني مضروبة في حلب بتاريخ سنة ٩٧٤ﻫ.

(٥) سلطنة مراد بن سليم (من سنة ٩٨٢–١٠٠٣/١٥٧٤–١٥٩٤م)

وفي ١٠ رمضان بويع ابنه مراد خان (مراد الثالث)، وحال جلوسه على كرسي السلطنة ولى على مصر بدلًا من حسين باشا مسيح باشا وكان خزندارًا عند السلطان سليم الثاني، فحكم في مصر خمس سنوات وخمسة أشهر ونصف، ووجه اهتمامه خصوصًا إلى إبطال السرقات والتعديات، فكان يقبض على اللصوص ويقتلهم بدون شفقة حتى بلغ عدد من قتل من اللصوص عشرة آلاف فارتاحت البلاد من شرورهم. ثم عكف على إصلاح شئون الرعية، وكان نزيهًا لا يقبل الرشوة ولا الهدية. ومن آثاره مسجد عظيم في ضواحي القرافة لا يزال يُعرف باسمه. وقد بناه على اسم الشيخ نور الدين القرافي، وجعله له ولنسله ملكًا حرًّا وخصص دخلًا معينًا للنفقة عليه. وأمر مسيح باشا أن تستهل الأوامر والكتابات الرسمية والأحكام بهذه العبارة: «الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا وآله وصحبه، إن المؤمنين إخوة فاحفظوا السلام بين إخوتكم واتقوا الله.»

وفي سنة ٩٨٨ﻫ ولي مصر حسن باشا الخادم خزندار السلطان مراد الثالث، فلم يكن همه إلا جمع الأموال بأية وسيلة كانت وإعادة ما كان حظره سابقه من الرشوة والهدايا. فبقي على ولاية مصر سنتين وعشرة أشهر. ولما عُزِلَ عنها سار من القاهرة خفية وطلع من باب المقابر لئلا ينتقم منه أهلها. وفي سنة ٩٩١ﻫ خلفه إبراهيم باشا فأخذ يستطلع ويتحرى ما أتاه سابقه من الاختلاس، فجعل في جامع السلطان فرج بن برقوق موظفًا خصوصيًّا لاستماع تَشَكِّيَاتِ المتظلمين على الوالي السابق من ١٠ رجب من تلك السنة إلى غاية رمضان، فاطَّلع على مظالم لا تُحصى من جملتها ١٠٠٤٤٢ أردب قمح من الشون العمومية باعها حسن باشا واستولى على قيمتها، فرفع إبراهيم باشا تقريرًا مدققًا بشأن ذلك إلى السلطان فأمر بقتله خنقًا. ثم طاف إبراهيم باشا بنفسه يتفقد أحوال المديريات ويتحقق حالتها، وزار أيضًا آبار أمرود في الصحراء ورمَّم بعضها. وفي عودته إلى القاهرة استقال من منصبه سنة ٩٩٢ﻫ، وتولى مكانه سنان باشا الثاني وكان دفتردارًا. وبعد ستة أشهر وعشرين يومًا برح مصر هاربًا وسبب ذلك أنه أساء التصرف فاشتكاه الناس إلى الأستانة، فجاء أويس باشا إلى مصر ليتحرَّى تلك التشكيات فحالما علِم سنان بمجيئه فر هاربًا.

فتولى أويس حكومة مصر سنة ٩٩٤ﻫ وكان صارمًا في الأحكام. وكان في أول أمره قاضيًا ثم صار دفتردارًا في الروملي ثم نُقِلَ إلى باشوية مصر كما تقدم. وبقي عليها خمس سنوات وخمسة أشهر وعشرة أيام، وأراد أن يُدَرِّبَ الجنود فعَصَوْه وهجموا عليه في الديوان في ٢٨ شوال سنة ٩٩٧ﻫ وأهانوه ونهبوا بيته. وفي جملة ما نهبوا منه ساعة كبيرة تُعرف منها الأيام. ثم ذبحوا الأمير عثمان قائد وجاق الجاويشية، وأخربوا بيت قاضي العسكر وقتلوا قاضيين من قضاة مصر، ثم عمدوا إلى الحوانيت فنهبوها. كل ذلك والأمراء لا يستطيعون منعهم والاضطراب يزداد والثائرون يتمردون، وقد حاول الدفتردار إيقافهم عند حَدِّهِمْ فذهب سعيه باطلًا. ثم ظن أويس باشا أنه إذا جاءهم بالحسنى ربما يلينون فبعث إلى القضاة أن لا يخالفوا لهم أمرًا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادًا وفجورًا حتى قبضوا على أولاد الباشا رهنًا لما يريدون، فاضْطُرَّ الباشا إلى الإذعان لما أرادوه وأعطاهم ما طلبوه، واستقال من تلك الولاية بعد أن مَلَّ من خيبة مساعيه الحميدة فيها. فتولى مكانه حافظ أحمد باشا سنة ٩٩٩ﻫ، وكان حاكمًا في قبرص وعلى جانب عظيم من حب العلم وطالبيه، حاذقًا مدرَّبًا في أمور الأحكام. وكان رفيقًا بالأهلين ففرق الحسنات على الحجاج الفقراء، وابتنى في بولاق وكالتين وعدة قيصريات وعدة بيوت وخصص ربع دخلها لعمل الخير وبقي حاكمًا في مصر ٤ سنوات.

fig110
شكل ١-٩: نقود السلطان مراد بن سليم.
fig111
شكل ١-١٠: نقود السلطان مراد بن سليم.
وترى في الشكلين ١-٩ و١-١٠ صورة نقود السلطان مراد بن سليم مضروبة في القاهرة بتاريخ سنة ٩٨٢ﻫ.

(٦) سلطنة محمد بن مراد (من سنة ١٠٠٣–١٠١٢ﻫ /١٥٠٤–١٦٩٣م)

وفي ١٧ رمضان سنة ١٠٠٣ﻫ تولى الخلافة في الأستانة السلطان محمد بن مراد (محمد الثالث) عوضًا عن أبيه مراد الثالث.

فولى على مصر قورط باشا فلم يَبْقَ فيها إلا سنة وثمانية أيام، وكان الناس يحبونه للُطفه ودعته وتنشيطه لطالبي الأدب ومساعدته للفقراء ولكل من يلتجئ إليه. وفي شوال سنة ١٠٠٤ﻫ خلَفه السيد محمد باشا، وبقي على الحكومة سنتين اتبع في أثنائهما خطة أسلافه في تنشيط العلم والأدب؛ فأعاد بناء الجامع الأزهر، وجعل فيه وظائف يومية من العدس المطبوخ تُفَرَّقُ في الطلبة الفقراء، ورمم المشهد الحسيني. ومع كل ما كان يتوخاه من السعي في حفظ النظام بين الأهلين لم يمكنه إنقاذهم من ثورة عسكرية انتشبت في غرة رجب سنة ١٠٠٦ﻫ في سائر أنحاء القطر المصري. ثم اجتمع العصاة إلى القاهرة، وكان السيد محمد باشا إذ ذاك في منزله في بَرِّيَّة الجيزة فعاد إلى القاهرة تحفُّ به السناجق وزمرة من الخفراء فلم يُبَالِ العصاة بذلك، بل أطلقوا عليه النار ولم يتخلص من أيديهم إلا بعد شق الأنفس. فسار إلى أحد منازله فتبعوه وحاصروه هناك ليلًا ونهارًا، وأَلَحُّوا عليه أن يسلمهم بعضًا من ضباطه وفي جملتهم دالي محمد أحد كبار الأمراء والأمير جلاد الشوباصي والأمير خضر كاشف المنصورة، فطلب إليهم أن يمهلوه ثلاثة أيام، فلما جاءهم رسوله قالوا له: «سيحكم الله بيننا وبين مولاك.» وتفرقوا في المدينة فظفروا بقاضي العسكر عبد الرءوف فأجبروه على القيام بمطاليبهم. أما الباشا فاغتنم اشتغالهم بذلك الشأن وفَرَّ من منزله ودخل القلعة وأقفل أبوابها وراءه والتجأ إلى حسين باشا السكراني قائد عموم الجيش وبيري بك أمير الحج فحاولا تسكين الثورة فذهب سعيهما عبثًا. ثم علما أن العصاة قتلوا الأمير محمد بك والدالي محمد وعلقوا رأسيهما على باب زويلة، ونهبوا بيتيهما وأثخنوا في الناس قتلًا ونهبًا.

fig057
شكل ١-١١: والي مصر في موكبه بالقرن العاشر للهجرة.

وفي ١٧ ذي الحجة سنة ١٠٠٦ﻫ أبدل السيد محمد باشا بخضر باشا فحكم ثلاث سنوات و١٢ يومًا، وقد أغضب الأهلين منذ وصوله القاهرة؛ لأنه أمر بقطع الأعطيات والجرايات التي كانت تُوَزَّعُ على العلماء والفقراء من الحنطة، ولم يقتصر على الإيقاع بهؤلاء الضعفاء، بل تجاوزهم إلى الضابطة فأحرمهم زادهم فتجمهروا في ٢٠ رمضان سنة ١٠٠٩ﻫ وساروا إلى قاضي العسكر. ثم اتحدوا والقاضي في مقدمتهم وتوجهوا إلى الديوان يريدون الانتقام، فقتلوا كخيا الباشا وأمراء آخرين فخاف الباشا فسلَّم لهم بما كانوا يطلبونه وأعاد لهم الأعطيات كما شاءوا، وخمدت الثورة وعادت المياه إلى مجاريها. إلا أن الباشا لم يلبث هنيهة حتى جاءه الأمر بالإقالة فاستقال ووُلي مكانه الوزير علي باشا السلحدار وكان محبًّا للحرب؛ ولذلك كان يُكرم الجند على الخصوص، لكنه كان سفاكًا للدماء، فتظلم الناس من قسوته ولم يكن يخرج في موكبه إلى المدينة أو ضواحيها إلا ويميت على الأقل عشرة أشخاص تحت حوافر جواده. فكان الناس يرتعدون خوفًا من ذكر اسمه. ورافق كل ذلك جوع عظيم فكثرت الوَفَيات وعم الخراب. فازداد الرعب حتى أمر الباشا أن تُدفن الموتى سرًّا، أما هو فترك القاهرة فرارًا من تلك الغائلة واستخلف عليها بيري بك. وبعد يسير تُوُفِّيَ هذا فانتخب السناجق الأمير عثمان بك ليقوم مقامه وبقي هذا حتى عين الباب العالي من يخلف علي باشا، وكان ذلك التغيير بسبب وفاة السلطان محمد الثالث في ١٦ رجب سنة ١٠١٢ﻫ.

وترى في الشكلين ١-١٢ و١-١٣ صورتين من نقود السلطان محمد بن مراد، الأولى مضروبة في القاهرة والثانية في دمشق.
fig113
شكل ١-١٢: نقود السلطان محمد بن مراد ضُرِبَتْ في القاهرة.
fig114
شكل ١-١٣: نقود السلطان محمد بن مراد مضروبة في دمشق.

(٧) سلطنة أحمد بن محمد (من سنة ١٠١٢–١٠٢٦ﻫ/١٦٠٣–١٦١٧م)

فنصب ابنه أحمد بن محمد (أحمد الأول) فولى على مصر إبراهيم باشا. فحكم فيها مدة قصيرة انتهت بخَطْب جسيم، وذلك أنه منذ وصوله إليها عزم على إبطال طلبات الجند، ولما أراد إنفاذ ما نواه زادت الجنود تمردًا. وفي ٣٩ ربيع آخر سنة ١٠١٣ﻫ علموا أن الباشا خرج من القاهرة في زمرة من رجاله، وركب النيل إلى بولاق قاصدًا شبرا قرب جسر أبي المنجا. فاجتمعوا في ضواحي القرافة وتعاقدوا بالأيمان المُغلَّظة على قتله، وفي الصباح التالي جاءوا وعسكروا في بولاق ينتظرون عوده. ثم قاموا من هناك يريدون مهاجمته في قلعة الدولاب وكانوا قد علموا بالتجائه إليها. فلما علم هو ومن معه من السناجق بقدوم تلك العصابة تشاوروا فيما بينهم، فنصح له السناجق أن يسافر بحرًا قبل أن يصل إليهم ضيم، فلم يُصْغِ لهم وتشدد بمن معه من الجاويشية والمتفرقة.

ثم جاءت الجنود الثائرة وأحاطوا بالقلعة وبعثوا من بينهم ١٥ رجلًا ليأتوا برأس الباشا، فدخل هؤلاء القلعة والسيوف مُشرعة في أيديهم حتى جاءوا مجلسه فانتهرهم قائلًا: «ماذا تريدون؟ ألم تستولوا على مرتباتكم والإنعام الذي يُعطى اعتياديًّا عند تولية الحكام عليكم فماذا تطلبون؟» فأجابوه: «لا نطلب منك شيئًا إلا رأسك.» قالوا هذا وصفعه أحدهم على وجهه وأدركه الباقون بالطعن مرارًا. ثم عمد أحدهم إلى رأسه فقطعه. فانتهرهم الأمير محمد بن خسرو ووبَّخهم على ما جاءوا به من القحة فلم يجيبوه إلا بما أجابوا ذاك، وأخذوا رأسي الاثنين وعادوا بهما إلى رفاقهم حول القلعة.

ثم حملوها وداروا بهما شوارع المدينة إلى أن علقوهما على باب زويلة، وكان قد تعود مثل هذه الأكاليل.

fig058
شكل ١-١٤: جامع السلطان أحمد بالأستانة.

وفي ذلك اليوم أقاموا عليهم عثمان بك فلم يقبل فولَّوا قاضي العسكر مصطفى أفندي، فلما علم ديوان الأستانة بقتل إبراهيم باشا أرسل عوضًا عنه الوزير محمد باشا الكورجي الملقَّب بالخادم. وحال وصوله القلعة وردت الأوامر الصارمة من الباب العالي إلى جميع السناجق أن يستطلعوا أصل الثورة وأسبابها ويقبضوا على زعمائها. فاجتمع السناجق والقِسم الأعظم من الجيش في قراميدان، وكان الباشا في القلعة، فبعث يستقدم السناجق إليه ليبلغهم هذه الأوامر رسميًّا فرفضوا المثول بين يديه، فتوسط الأمراء ووعدوا السناجق أنهم إذا سلموا القاتِلِين نَجَوْا ونالوا العفو العام، فقبلوا وسلَّموا القاتلين إلى الباشا فأمر بقطع أعناقهم بين يديه حالًا وأطلق السناجق. فخاف الثائرون وضعف عزمُهم، ولا سيما لما رأوا من محمد باشا التيقظ لحفظ النظام ومعاقبة المعتدين، وقد قتل منهم نحوًا من مائتي رجل في مدة حكمه القصيرة التي لم تدُم أكثر من سبعة أشهر وتسعة أيام.

فتولى بعده الوزير حسن باشا وهو أقل صرامة من سلفه، فكان يعامل الجند بالحسنى، وكان ابنه فيهم برتبة بكلربكي، وكانت الأحوال هادئة جدًّا في أثناء حكمه، ثم تولى بعده الوزير محمد باشا في ٧ صفر سنة ١٠١٦ﻫ، وبقي على حكومة مصر أربع سنوات وأربعة أشهر و١٢ يومًا، وكان حكيمًا حازمًا أخذ منذ وصوله القاهرة في المحافظة على السلام، فنجَّى الأهلين ممَّا كان يكدر راحتهم فاكتسب ثقتهم ومحبتهم إلا أنه لم ينجُ من الحساد وذوي الأغراض.

وفي أواخر شوال من السنة التالية ثارت عليه الجيوش، واجتمعوا في برج سيد أحمد البدوي، وتحالفوا أن لا يوافقوه على إلغاء الضرائب غير العادلة التي كانت مضروبة على القطر إلى ذلك العهد. ثم اختاروا من بينهم رئيسًا ولَّوْه عليهم سلطانًا، وتقاسموا مصر إلى أقسام تولَّى كل واحد منهم إثارة الشغب والنهب في قسم منها، فانتشرت تعدياتهم في جميع الدلتا. فلما علم محمد باشا بذلك جمع السناجق والجاويشية والمتفرقة وسار بهم تحت قيادته لردع العصاة في ٩ ذي الحجة سنة ١٠١٧ﻫ، وأخذ معه ستة مدافع، وانضم إليه كثير من مشايخ قبائل العرب، وفي الليلة التالية عسكر الجميع في بركة الحج.

وفي الصباح هاجموا العصاة في الخانقاه فضيَّقوا عليهم بالنيران، فاضْطُرَّ أولئك إلى التسليم فأخذ عليهم الباشا عهودًا؛ أولها: أن يسلموا إليه سلطانهم وكبار رؤسائهم ووعدهم بالتأمين على حياتهم، فقبلوا وسلموا الرؤساء وعددهم نحو ٧٧ فأمر بقتلهم حالًا، ثم جرد الباقين من سلاحهم فتفرَّقوا فتعقَّبهم رجال الباشا، وقتلوا من ظفِروا به منهم. فلما رأى قاضي العسكر محمد أفندي الملقب بختي زاده ما كان يحصل من أمثال هذه المذابح يوميًّا، نصح للباشا أن ينفي كل من يقبض عليه منهم إلى اليمن ففعل، وكانت النتيجة حسنة وبطلت التعديات.

ولما ارتاح محمد باشا من تلك الثورات أخذ في إصلاح الإدارة المالية، فتفحَّص بنفسه النفقات التي كانت تُدفع من الخزينة، واقتصد منها كل ما لم يكن ضروريًّا. ثم نظر إلى الضرائب فأبطل طريقة المماليك الشراكسة فيها، واتبع القوانين التي صدرت سنة ٩٣٢ﻫ في زمن السلطان سليمان القانوني، ثم نظم المكوس وعدَّلها، ولم يكن يكلف نفسًا إلا وُسعَها، فإذا رأى أرضًا لا تقوى على القيام بما فُرِضَ عليها من المكوس تنازل لها عنه وساعدها في إحياء مواتها. ولما برح مصر نال من المكافآت والإنعامات ما لم ينله أحد من أسلافه في مصر. وتولى بعده محمد باشا الملقب بالصوفي، وكان يحب العلماء ورجال الفضيلة، وكان ورعًا حليمًا عفيفًا لم يقبل رشوة ولم يأتِ ظلمًا، إلا أنه كان ملومًا لزيادة ضعفه بما يتعلَّق بمحبوبه يوسف الذي كثيرًا ما تعدى حدوده.

وفي سنة ١٠٢٢ﻫ أرسل الصدر الأعظم عشرة آلاف جندي إلى اليمن لإخماد ما كان ثائرًا من الشغب هناك، وأُرسلت الفرقة المذكورة عن طريق مصر ومعها أمر سامٍ إلى الباشا بدفع النقود اللازمة لها وتشييع الحملة إلى اليمن، فلما وصلت الجيوش إلى مصر وعلموا بما ورد من الأوامر بشأنهم ادَّعَوْا أنهم جاءوا ليقيموا في مصر ولم يذعنوا لأوامر الباشا بالسَّفر، فاتخذوا لهم منازل في مخازن باب النصر وطردوا بعض أصحابها منها، فاجتهد الباشا أن يحملهم على التسليم بالأوامر الواردة إليه بشأنهم، فذهب سعيه باطلًا، وأقاموا المتاريس في أبواب الحارة، وأقفلوا باب النصر ونصبوا المدافع في برجيه؛ فاضْطُرَّ الباشا إلى محاصرتهم بكل ما لديه من الوجاقات والمدافع، فتمكن الأمير عابدين بك من الدخول إلى حصنهم من باب في المدرسة المدعوة بالجانبلاطية، فخاف العصاة وسلَّموا، ففرق فيهم الباشا نحو ثمانين كيسًا وسافروا.

وبعد يسير أُقِيلَ محمد باشا الصوفي فاعتزل في قبة العدلية، ولم يبرحها إلا بعد أن علم بوصول خلفه أحمد باشا دفتردار مصر سابقًا إلى الإسكندرية، ثم جاء القاهرة ودخلها بموكب حافل. وبينما هو بموكبه في المدينة رماه بعض الناس بحجر من سطح بعض البيوت فكسر الهلال الذي كان فوق عمامته ولم يؤذِه، فأمسك الفاعل فاعترف بذنبه فقُتِلَ في ذلك المكان.

fig059
شكل ١-١٥: سبيل السلطان أحمد بالأستانة.

وفي محرم سنة ١٠٢٥ﻫ ورد إلى الباشا المذكور أمر من الأستانة أن يرسل ألفًا من جنود مصر لتنضم إلى الجيش العثماني الذاهب لمحاربة الفرس، فأرسلهم تحت قيادة صالح بك أمير الحج فساروا على أتم نظام، ومَرُّوا بالمديريات، ولم يشعر الأهالي بمرورهم لما كان لهذا الباشا من النفوذ، وما أقامه في مصر من النظام، مع إعطائه الجيوش حقهم من المرتبات. ولم يكن يتيسر قبل ذلك مرور مائة رجل بمقاطعة واحدة ما لم ينهبوها. فالتقت هذه الفرقة بالجيش العثماني في الخانقاه وانضمَّت إليه، ولما ودع الباشا عساكره فرق فيهم المال فأصاب الواحد منهم ٢٠ دينارًا على الأقل.

وكانت مدة حكم أحمد باشا سنتين وعشرة أشهر واثني عشر يومًا، ولم يُقتل في أثنائها أكثر من عشرة أشخاص ارتكبوا أمورًا استوجبوا من أجلها القتل، ولم يكن يحكم على أحد إلا بعد البحث الدقيق واستماع تقارير الدعوى من الطرفين.

(٨) سلطنة مصطفى بن محمد ثم عثمان بن أحمد ثم مصطفى بن محمد ثانية (من سنة ١٠٢٦–١٠٣٢ﻫ/١٦١٧–١٦٢٣م)

وفي يوم الأربعاء ٢٣ ذي القعدة سنة ١٠٢٦ﻫ توفي السلطان أحمد الأول، وبويع أخوه السلطان مصطفى الأول، ويوم مبايعته استبدل أحمد باشا بمصطفى باشا لفغلي. لكن السلطان مصطفى لم يمكُث على عرش السلطنة إلا ثلاثة أشهر وثمانية أيام. وفي يوم الأربعاء ٣ ربيع أول سنة ١٠٢٧ﻫ خلفه ابن أخيه أبو النصر عثمان. أما الوزير مصطفى باشا فلم يبقَ على مصر بعد خلع السلطان الذي ولَّاه إلا بضعة أشهر؛ لأنه سهل النفوذ لذويه في الأحكام فنشأت ثورة عسكرية في ٧ شوال سنة ١٠٢٧ﻫ، فقتَل الثائرون عددًا كبيرًا من الأمراء والآغوات وغيرهم من الكبراء، واضْطُرَّ الباقون إلى الفرار، ولم يسكن الاضطراب إلا بعزل مصطفى باشا بأمر السلطان عثمان. فتولى مكانه الوزير جعفر باشا، وهذا لم تطُل حكومته أكثر من خمسة أشهر ونصف. وكان محبًّا للعلم والعلماء يجمع إليه رجال الأدب، ويُكرم مثواهم، ولم يهتمَّ كل تلك المدة إلا بما فيه منفعة البلاد وراحة العباد.

وظهر في أيامه وباء انتشر في مصر، وفتك بأهلها فتكًا ذريعًا من غاية ربيع أول سنة ١٠٢٨ﻫ إلى غاية جمادى الثانية من السنة المذكورة، وقد لوحظ أن معظم الذين ماتوا بهذا الوباء شبان بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين أعمارهم، وبلغ عدد من تُوفي بسببه ٣٦٥٠٠٠ نفس.

وتولى بعد جعفر باشا مصطفى باشا، فقبض على مصطفى بك الملقب بالبكلجي زعيم الثورة التي نشأت في أيام مصطفى باشا لفغلي وحكم عليه بالإعدام. فسُرَ الناس بذلك؛ لأن مصطفى بك المذكور كان أصل متاعبهم. على أن سرورهم لم يلبث أن ظهر حتى أُبدِل بالكدر؛ لأن مصطفى باشا حاكمهم الجديد اضطهد تُجَّارَهُم وضيق عليهم مسالك رزقهم. فرفعوا تظلماتهم إلى السلطان فنظر في دعواهم وأنصفهم، فعزل ذلك الباشا وولَّى حسين باشا، فبادر هذا إلى إبطال جميع الضرائب غير العادلة التي كان قد ضربها سلفه. وفي أيامه ارتفع النيل ارتفاعًا فوق العادة فطاف على الأرض، وأغرقها حتى يئِس الناس من البقاء لنهاية ذلك الطوفان، وأصابهم ضيق عظيم عقبه طاعون شديد. ثم عُزِلَ حسين باشا واستُقدِم إلى الأستانة، وقبل وصوله إليها خُلِعَ السلطان عثمان الثاني يوم الخميس في ٨ رجب سنة ١٠٣١ﻫ، وأُعِيدَ مصطفى الأول الذي كان قبله.

أما الباشا المعزول فوصل إلى الأستانة في أسعد الأوقات له؛ لأن إعراض السلطان السابق عنه كان داعيًا لرغبة السلطان الجديد في تقريبه منه، فاتفقت الأحزاب هناك على توليته الصدارة العظمى. وكان عثمان الثاني قبل وفاته قد بعث إلى مصر محمد باشا بدلًا من حسين باشا، لكنه لم يصِل مصر إلا بعد أن أنبأ أهلها بما كان يأتيه في الروملي يوم كان واليًا عليها، فنفروا منه وخافوا من تصرفه. ولحسن حظهم لم يبقَ بينهم إلا شهران ونصف شهر، فلما تولى حسين باشا الصدارة العظمى عزله بأمر السلطان مصطفى الأول وولَّى إبراهيم باشا. وبقي هذا على مصر سنة وقد تمكن بحُسن سياسته وتدبيره من اكتساب رِضَى الأهلين وثقتهم، إلا أنه حصل في أيامه ضيق عيش وغلت أسعار المأكولات جدًّا.

ولما عُزِلَ إبراهيم باشا سافر إلى الإسكندرية بحرًا خلافًا للعادة الجارية فيمن سبقوه على حكومة مصر؛ فإنهم كانوا إذا عُزِلُوا من مناصبهم سافروا برًّا. وتولى مكانه مصطفى باشا، واستلم زمام الأحكام في ٢٢ رمضان سنة ١٠٣٢ﻫ، فأتاه كتبة الديوان يشتكون تصرُّف سلفه وقالوا إنه مدين للخزينة بمبلغ وافر، فأرسل في أثره بعض الجاويشية فالتقَوْا به فهددهم بالقتل إذا لم يعودوا عنه فخافوا وعادوا إلى القاهرة. فأرسل الأمير صالح بك فأدركه وقد نزل البحر في الإسكندرية، فأوعز إليه أن يقف فأجاب أنه متوجِّه إلى الأستانة، فإذا كان عليه شيء يدفعه هناك إلى السلطان نفسه. قال ذلك ونشر الشراع فمخرت به السفينة فأطلقوا عليه من طابية منارة الإسكندرية بعض الطلقات المدفعية فلم يُبَالِ بها.

(٩) سلطنة مراد بن أحمد (من سنة ١٠٣٢–١٠٤٩ﻫ/١٦٢٣–١٦٤٠م)

فبلغ الأستانة والسلطان مصطفى الأول قد خُلِعَ، وتولى مكانه السلطان مراد الرابع ابن أحمد فلم يتعرض له أحد. وبعد تولية مصطفى باشا بثلاثة أشهر — أي في ١٥ ذي الحجة — ورد إلى القاهرة الأمر بعزله وتولية علي باشا مكانه. فاجتمعت الأجناد وساروا إلى القائمَّقام عيسى بك يطلبون الإعطاءات التي تُفرَّق عند تولية كل والٍ جديد، فانتهرهم عيسى بك قائلًا: «أفي كل ثلاثة أشهر يجددون هذه الطلبات؟!» فأجابوه: «وما المانع؟ ألم يغير مولانا السلطان كل ثلاثة أشهر واليًا علينا؟ ألا يضر ذلك بمصلحة البلاد؟ وإذا أراد أن يولي كل يوم واليًا، فنحن أيضًا كل يوم نطلب الإعطاءات التي لنا.» فحاول القائمَّقام إقناعهم فلم ينجح ولم يزدهم ذلك إلا عنادًا وتهديدًا، وصرخوا جميعهم بصوت واحد: «نحن لا نرضى حاكمًا آخر غير مصطفى باشا وليرجع هذا إلى حيث أتى.» ثم قرءُوا الفاتحة وأقسموا أن يحافظوا على ما قالوه، وأن لا يحنت أحد منهم بذلك؛ وبناءً عليه أعيد مصطفى باشا إلى منصبه.

فلما رأى الحزب العسكري معه كتب إلى السلطان يطلب تثبيته، وأرفق الكتاب برسائل عديدة ممضاة من علماء القاهرة ومشايخها وقضاتها وجميعهم يطلبون تثبيته. ثم بلغهم وصول علي باشا إلى الإسكندرية، فبعثوا إليه وفدًا يبلغونه أن الجند والأهلين متفقون على رفضه، فجمع الوفد إليه ودفع إليهم كتبًا كلها مدح وإطناب للأمراء والجيوش، فعاد الوفد وقرأ تلك الكتب على الجند فلم يكن جوابهم إلا إعادة الوفد ليعيدوا مطالبهم الأولى. فلما رأى إصرارهم استشاط غضبًا، وأمَر فقبض على ذلك الوفد وقيدوا إلى قلعة الإسكندرية مغلولين وزجوا في سجنها، فتآمروا مع جند الإسكندرية — وكانوا من حزبهم — فحلوا وثاقهم وهجموا جميعًا على علي باشا، وقوضوا خيمته وأجبروه على الخروج من الإسكندرية حالًا، فأنزلوه في قارب مخصوص وأخرجوه من الميناء، وكانت الريح ضده، فأعادته ثانية فأطلق عليه الأمير مصطفى من قلعة المنارة عدة طلقات ثقبت سفينته ثقوبًا لم تُغرقها لكنها أخرجتها من الميناء ولقب الأمير مصطفى من ذلك الحين بالطبجي.

وفي ٢٠ ربيع آخر سنة ١٠٣٣ﻫ جاء القاهرة كتاب يحمله حمام الزاجل — وهو بريد تلك الأيام — فحواه قرب وصول مندوب عثماني ومعه الأوامر السلطانية. وبعد أيام وصل ذلك المندوب ودخل القاهرة وجمع السناجق والأمراء وكبار الموظفين في الديوان، وألبس مصطفى باشا الخلعة المرسلة إليه من السلطان. ثم تلا عليهم الفرمان بتثبيته على مصر. وفي السنة التالية زاد النيل زيادة فوق العادة فبلغ ٢٤ ذراعًا، فخاف الناس أن لا ينحسر الماء عن أراضيهم في زمن يمكنهم فيه زراعتها. لكنه أخذ في الهبوط بسرعة فانكشفت الأرض وزاد خصبها.

(٩-١) الوباء وبيرام باشا

ولم تكد مصر تنجو من الجوع حتى داهمها ما هو أصعب مراسًا منه، نعني الوباء؛ فإنه ظهر فيها بأوائل ربيع أول سنة ١٠٣٥ﻫ، وأخذ ينتشر في جميع أنحائها بسرعة.

وفي شعبان من تلك السنة أخذ بالتناقص ولم ينقضِ إلا في أوائل رمضان. قال بعضهم: إن الذين ماتوا بسبب هذا الوباء ثلاثمائة ألف نفس. فتذرَّع الباشا بهذه الضربات لاختلاس أموال الناس فجعل نفسه وريثًا لكل من مات بالوباء من الأغنياء، فاستولى على تركاتهم؛ فتظلم الورثاء إلى الأستانة. ولا يخفى أن هذا الباشا لم يتولَّ مصر إلا رغم إرادة الباب العالي، فاغتنم هذه الفرصة فعزله وولى بيرام باشا، فجاء وحاكَمَ مصطفى باشا وحكم عليه بدفع الأموال التي اختلسها فباع كل ما له من المتاع والمقتنيات ودفع ما عليه، ولما عاد إلى الأستانة (سنة ١٠٣٧ﻫ) حُكِمَ عليه بالإعدام.

ولا يخفى أن محاولة الجيوش والأمراء عزل وتولية باشوات مصر تجرد إرادتهم مخالف للنظام، ومغاير لما وضعه السلطان سليم الفاتح لكل فئة من فئات مصر الحاكمة من الحدود. فكانت موافقة الباب العالي على مطاليب الأمراء خرقًا للحدود السابقة. وعلى ما تقدم حصل بعض التعديل في القواعد الاساسية التي سنَّها السلطان سليم الأول منذ قرن. وكان بيرام باشا محبًّا للعلم والعلماء، لكنه كان أكثر حبًّا لجمع المال وإقامة المشاريع المفيدة، وتنشيط التجارة على أنواعها؛ فأكثر من الضرائب حتى على الصابون، وكان حازمًا لم يترك للجند فرصة للتمرد فهدأت مصر في أيامه.

(٩-٢) محمد باشا وموسى باشا

ثم استدعي إلى الأستانة وعُيِّنَ وزيرًا في ديوانها، وهذه هي المرة الثالثة لتعيينه في ذلك المنصب. فتولى بعده الوزير محمد باشا فساس الأمور بحكمة ودراية، وكان محبًّا للعزلة؛ فلم يخرج بموكبه في أثناء حكمه التي هي نحو سنتين إلا ست مرات. واتصل به ما أصاب اليمن من الشغب الناتج عن سوء السياسية مع القبائل البدوية، فعرض على السلطان إخضاعها وتعهد بإرسال فرقة من رجاله بقيادة قنسو بك أمير الحج لهذه الغاية. فأجابه السلطان إلى ما طلب، وولى قنسو بك على اليمن مع رتبة باشا وجعله بكلربكي (أمير الأمراء) على الجيش. فأنشأ قنسو جيشًا من ثلاثين ألف مقاتل وقبض مبلغًا كبيرًا ليدفع منه نفقات الحملة، وبعد أن قبضه توقف عن السفر، وترك جيشه بمصر يسلبون وينهبون ويقتلون الأهلين ويتعرضون للمسافرين. ولحسن الحظ كان بين تلك الجيوش ألف رجل من الروملي جاءوا للاشتراك في تلك الحملة تحت قيادة الأمير جعفر آغا، فأخمدوا تلك الثورة وألزموا قنسو بك أن يسير بهم إلى اليمن في محرم سنة ١٠٣٩ﻫ فسار وحارب وفاز. وبعد سبعة أشهر من سفر تلك الحملة (في ١٩ شعبان) طاف على مكة سيل من الماء أغرق القسم الأعظم من أرضها حتى الكعبة، فهدم مُعظم بنائها ولم يبقَ من جدرانها إلا الأيمن. فاتصل ذلك بوالي مصر فأوصله للسلطان مراد الرابع، فأنفذ السلطان إلى محمد باشا يعهد إليه ترميمها ففعل. فبلغت جميع النفقات نحو مائة ألف قرش (القرش يساوي أربعة فرنكات تقريبًا).

وفي سنة ١٠٤٠ﻫ كان ارتفاع النيل قليلًا فجاء شهر توت ولم يبلغ ١٦ ذراعًا، ومع ذلك فتح الخليج وسِيقت المياه قليلة إلى الأرضين، ولكن البلاد أمنت من الجوع بتدبير محمد باشا. وفي هذه السنة استُدعِيَ محمد باشا إلى الأستانة، وقلده السلطان منصب الوزارة في الديوان الشاهاني مكافأةً لحسن سياسته ودرايته. وتولَّى مكانه في مصر موسى باشا. وكان للأهلين في بادئ الرأي ثقة فيه، وكانوا يحبونه ويُجِلُّونَ قدره فخرجوا لملاقاته في شبرا، لكنه لم يكَد يمكن قدمه حتى استسلم لهواه، فأخذ في الاختلاس والاستبداد بأنفُس العباد، فأمر بقتل أكبر رجال مصر بغير وجه حق، وجعل يراقب سير أغنيائها ويترصد خطواتهم لعله يجد سبيلًا للاستيلاء على ثرواتهم.

وفي شعبان من تلك السنة بعث السلطان يطلب إليه أن يُعِدَّ حملة من جنده لمحاربة الفرس، فجمعها تحت قيادة قيطاس بك وضرب على البلاد ضرائب فاحشة باسم إعانة حربية. ولما وصلت تلك المبالغ إليه زعم أن مصر لا يمكنها تجريد مثل هذه الحملة؛ لأن ماليتها لا تسمح لها بدفع النفقات اللازمة. فنصح له قيطاس أن يتبع الاستقامة وهي أفضل له؛ فذهبت أقواله عبثًا. ثم أوجس موسى باشا خيفة من قيطاس بك؛ لأنه اطَّلع على فظائعه فاستدعاه إلى القلعة في عيد الأضحى يوم الأربعاء في ٩ ذي الحجة، وأمر أربعين من رجاله أن يقتلوه ففعلوا.

فلما رأى الأميران كنعان بك وعلي بك ذلك وقع الخوف في قلبيهما وأسرعا إلى الجيوش، فأعلماهم بما كان من أمر قيطاس بك مع موسى باشا، فاجتمعت العساكر حالًا في الرميلة. وأما السناجق والأمراء والقضاء وكبار الموظفين فاجتمعوا في جامع السلطان حسن، وتفاوضوا في الأمر فأقروا على عزل موسى باشا وتولية من يقوم مقامه مؤقتًا ريثما يأتي أمر الباب العالي بشأنه، فخلعوه وأقاموا حسن بك مكانه. فكتب موسى باشا إلى السلطان يُعلِمه بخبر تلك الثورة. وكان رؤساؤها قد رفعوا إلى ديوان الأستانة كتابين الواحد بالتركية وقع عليه السناجق والآغوات وكبار ضباط العسكرية، والآخر بالعربية من القضاة والمشايخ والعلماء يطلبون بصوت واحد خلع موسى باشا. فأجابهم السلطان إلى طلبهم فولى عليهم خليل باشا.

(٩-٣) خليل باشا

وفي ربيع أول سنة ١٠٤١ﻫ وصل خليل باشا إلى مصر واستلم أَزِمَّتَها. وبلغه أن جماعة من اللصوص ثاروا تحت رئاسة أحد الشرفاء المدعو نامي، ونهبوا مكة، فجمع جند القاهرة وأرسلهم بقيادة الأمير قاسم بك لإخماد تلك الثورة. فساروا وحاربوا اللصوص وقتلوا زعماءهم. وفي صفر سنة ١٠٤٢ﻫ عاد قاسم بك بجيشه إلى القاهرة ظافرًا، وأقبلت غلة مصر تلك السنة وزاد خصبها وتضاعف ريعها، ونزلت أسعار الحنطة من ثمانية غروش الأردب إلى غرشين.

وفي سنة ١٠٤٢ﻫ استقال خليل باشا من ولاية مصر، فخرج منها والناس يثنون عليه ثناءً جميلًا؛ لأنه كان عادلًا حليمًا. فلم يكُن يُصدِر حكمه إلا بعد التروي بما يقوله المتخاصمان. ومما يُحكَى عنه أنه جِيء إليه يومًا بثلاثة لصوص قبض عليهم وهم متلبسون بالجناية، فأمر أن يُحاكَموا فقال أحد رجال ديوانه: إن هذه الحادثة لا تحتاج إلى محاكمة لثبوت الجناية فعلًا، فيجب إصدار الحكم رأسًا بالإعدام. فلم يكن جواب الباشا إلا الأمر بهدم بيت ذلك الناصح. فاستغرب الرجل ذلك وسأل عن السبب الموجِب له، فأجابه الباشا قائلًا: «كيف يحق لك الاعتراض عليَّ إذا أمرت بهدم بيتك المبني من حطام الدنيا، ولا يحق لذلك الباني العظيم معارضتنا إذا هدمنا بنايته بغير وجه شرعي.» ثم أبطل الأمر بالهدم وأطلق اللصوص. قال ابن أبي السرور ناقل هذه الحكاية: إن اللصوص قَلُّوا بعد تلك الحادثة احترامًا للباشا.

وبعد استقالة خليل باشا من مصر عُيِّنَ على الروملي، وتولى مصر الوزير أحمد باشا الملقب بالكورجي وكان قبلًا أمير ياخور. وفي صفر سنة ١٠٤٣ﻫ وردت له الأوامر الشاهانية أن يبعث ألفين من عساكر مصر إلى سوريا مددًا للحملة العثمانية على دروز لبنان مع خمسة آلاف قنطار من البقسماط وأربعة آلاف قنطار من البارود. ثم جاءت أوامر أخرى بطلب ألفي رجل آخرين وثلاثة آلاف قنطار من البارود لمحاربة الفرس. فرأى أحمد باشا أن مصر لا تقوم بهذه الطلبات فاعتذر إلى السلطان فبعث إليه ١٢ ألف قنطار من النحاس؛ ليسبكها نقودًا على أن يبعث عوضًا عنها إلى الأستانة ثلاثمائة ألف زر محبوب.

(٩-٤) النقود بمصر

وللنقود في مصر تاريخ لا بأس من الإشارة إليه. كانت المعاملة بمصر عند الفتح الإسلامي بالدرهم، وهو وزن درهم من الفضة والدينار وهو مثقال من الذهب، وكان الدينار يُبدل بعشرة دراهم. ثم تكاثرت الفضة فصار الدينار يساوي ١٢ درهمًا في أيام بني أمية و١٥ درهمًا في أوائل بني العباس ثم زادت قيمته إلى ٢٠ درهمًا أو ٢٥ أو ٣٠ باختلاف الأحوال. فلما كانت الحروب الصليبية واختلط الإفرنج بالمسلمين دخل البلاد الإسلامية كثير من النقود الإفرنجية، وحدثت نقود ذهبية جديدة كالبندقي والمجر والبينتور وزر محبوب (وهو الدينار)، والجنيه العثماني والإفرنجي والمصري وغيرها وكلها من الذهب. أما النقود الفضية فأبدلت دراهمها بالأنصاف وهي البارات، وكانت المبيعات الصغرى تُقدَّر بالأنصاف والكُبرى بالبندقي أو الزر محبوب أو غيرهما من النقود الذهبية.

فأخذ أحمد باشا في سكب النحاس وأَعَدَّ لذلك عمالًا ومعامل. ثم رأى بعد حين أن جميع هذه الإجراءات ذاهبة عبثًا؛ لأن الفَعَلَة مَلُّوا العمل ومات أكثرهم من الحر والجهد، فجمع إليه ذوي شوراه من الأمراء وقضاة الأقسام والقرى واستشارهم. وكان من رأيه أن يدفع مطاليب السلطان من ماله الخاص، ثم يجعل النحاس سبائك صغيرة لتُباع في بلاد السودان بين تكرور وبلاد الزنج. فارتأى أحد القضاة رأيًا آخر وهو أن يُجبر أهالي القاهرة على استلام هذا النحاس ودفع المبالغ المطلوبة. وأن يفرق النحاس عليهم مقادير متناسبة لما يدفعونه، فوافق الجميع على ذلك، وأخذوا في تنفيذه في ١٦ ذي الحجة سنة ١٠٤٣ﻫ، وتمموه في آخر شعبان من السنة التالية.

وكان ذلك ثقلًا عظيلمًا على كاهل المصريين؛ لأنه لم ينجُ من هذه الضريبة غني ولا فقير، فقلت النقود وغلت الحبوب وسائر المأكولات غلاءً فاحشًا، وزاد في الطنبور نغمة أن النيل في السنة التالية لم يكن وفاؤه حسنًا، لكن الناس استغلوا الأرض غلة متوسطة.

(٩-٥) مظالم وتعديات

وبعد يسير دُعِيَ أحمد باشا إلى الأستانة فسار ولم يدفع الأموال التي جُمِعَتْ للخزينة، فرفع المصريون شكواهم بشأن ذلك، فلما وصل الأستانة حُكِمَ عليه بالإعدام. وتولى مكانه الوزير حسين باشا فجاء مصر في عصابة من الدروز التقطهم من كل نادٍ، وكانوا من قاطعي السبل فساموا المصريين أنواع العذاب نهبًا وقتلًا، فاضطربت الأحوال وأُقفلت الحوانيت ووقفت حركة الأعمال. وهذا أصل استهجان المصريين لكلمة «درزي» على ما يظن.

وأبطل حسين باشا حقوق الوراثة، فإذا مات أحد الناس استولى هو على تركته وأحرم منها ورثته الأيتام أو الأرامل أو الثكالى، وإذا أراد أحد الانتقام من عدو له بكفيه أن يشي به إلى حسين باشا بأنه غني أو ابن غني، فيزجه الباشا في السجن ولا يخرج منه إلا بالبذل الكثير. ولم يكن يمر يوم لا يطوف فيه حسين باشا المدينة في موكبه، ولا تغيب الشمس قبل أن يقتل رجلًا أو رجلين أو أكثر. ويخطر له أحيانًا أن يقتل كل من لاقاه في طريقه إنسانًا كان أو حيوانًا. وقد حسب عدد الذين ذهبوا فريسة عتو هذا الغاشم في مدة حكمه وهي سنة و١١ شهرًا فبلغوا نحوًا من ألف ومائتي نفس غير الذين كان يقتلهم بيده. وكان له هيبة في قلوب رجاله فأراد يومًا أن لا يشاركوه بالقتل والنهب، فحظر عليهم ذلك فلم يعودوا يجسرون على المخالفة، ولم يسمع بشيء من تعدياتهم من ذلك الحين.

ثم أُقِيلَ وخلفه الوزير محمد باشا بن أحمد باشا وابن ابنة السلطان سليم الثاني. وفي شوال من سنة ١٠٤٧ﻫ وردت إليه الأوامر أن يُرسِل ألفًا وخمسمائة مقاتل نجدة للحملة العثمانية إلى بغداد، فأرسل تلك الفرقة بقيادة أمير الحج قنسو بك في محرم سنة ١٠٤٨ﻫ، فسارت ولم ترجع إلى مصر إلا بعد الاستيلاء على تلك المدينة في صفر سنة ١٠٤٩ﻫ.

واتبع هذا الباشا خطوات سلفه بالاختلاس والنهب، فجمع ثروة عظيمة من تركات الأمراء والعلماء، فقام عليه الورثة وبعد الجهد تمكنوا من تحصيل نصف الأموال. وازداد ظلمًا وعتوًّا حتى منع الصدقات التي كانت تُدفَع إلى الأرامل والأيتام وأخذها لنفسه، فكثرت التظلمات وتعددت العائلات المعسرة. وفي يوم الخميس ١٦ شوال سنة ١٠٤٩ﻫ توفي السلطان مراد الرابع.

وترى في شكل ١-١٦ صورة النقود الذهبية للسلطان مراد الرابع ضربت في القاهرة سنة ١٠٣٢ﻫ وهي سنة توليته.
fig117
شكل ١-١٦: نقود السلطان مراد الرابع بن أحمد.

(١٠) سلطنة إبراهيم بن أحمد (من سنة ١٠٤٩–١٠٥٨ﻫ/١٦٤٠–١٦٤٨م)

فظن المصريون أن في تغيير السلطان منجاةً لهم مما كانوا يكابدونه. فبويع أخوه السلطان إبراهيم بن أحمد وأمر حالًا باستبدال محمد باشا وأحرمه من العطية التي كانت تعطى لحاكم مصر عندما يستقيل من منصبه. لكنه أمر بعد ذلك بإبقائه فعاد إلى أعماله وازداد ظلمًا وعسفًا ففتك بالناس فتكًا ذريعًا لم يُبقِ ولم يَذَرْ.

ثم استبدل محمد باشا بمصطفى باشا الملقب بالبستانجي١ وكان أبي النفس على نوع ما، إلا أن كاتبه أحمد أفندي كان عاتيًا غشومًا، وكانت أَزِمَّةُ الأحكام بيده فاستبدَّ بها فَكَرِهَ المصريون الحياة من أجله، واتفق في أيامه تقصير النيل فازدادت الأثقال بغلاء الحبوب. ولم يكُن الباشا يتعرض للأحكام مطلقًا فكثرت السرقات حتى لم يَنْجُ حي من أحياء القاهرة من النهب، واضْطُرَّ الناس إلى مهاجرة بيوتهم. وكان رئيس الضابطة إذا جيء إليه ببعض اللصوص لا تغيب عليهم الشمس في السجن. ومثل ذلك كان يفعل الكُشاف «حكام الأقاليم» فتواترت التشكيات إلى الباشا فاضْطُرَّ إلى عزل رئيس الضابطة وتولية كنعان بك مكانه، فاهتم هذا بالقبض على اللصوص فسجن عددًا كبيرًا منهم.

وفي شوال سنة ١٠٥١ﻫ ثارت الجهادية وتمرد الجاويشيون على رئيسهم الأمير علي؛ لأنه لا يفرق الأعطيات إلا على كتبته، فلم يَرَ الباشا بدًّا من عزله وتولية عابدين بك في مكانه. فلما رأى سائر الجيش ما كان من فوز الفئة الثائرة ثاروا جميعًا وادَّعَوْا أن مخازن الحبوب فارغة، وطلبوا معاشاتهم المتأخرة منذ سنة. فعين محمد أفندي قاضي العسكر لتحري دعواهم فتفقد مخازن الحبوب فرآها حقيقة فارغة، وعلم أن ما كان فيها باعه الكاتب وأخفى ثمنه. فاضْطُرَّ الباشا مراعاةً لطلب الجمهور أن يتخلى عن كاتبه مع شدة حبه له، فاستنجد الجاويشية فأنجدوه وأعادوه إلى مركزه، فازداد تمردًا وبالغ في الانتقام. ثم استقال مصطفى باشا وتولى الوزير مقصود باشا وكان واليًا على ديار بكر قديمًا، فلما استلم مقاليد الأحكام بمصر بحث عن تصرفات سلفه فاطَّلع على أعماله، فقبض على كاتبه والكخيا وجلَدَهما، وأجبرهما على إرجاع مائتي كيس من النقود إلى الخزينة. أما مصطفى باشا فأُرسِل إلى الأستانة، وهناك أُخِذَ منه مائتا كيس سُلِّمَتْ للخزينة الشاهانية، وأصبح في جملة الوزراء السبعة العظام.

(١٠-١) الوباء

وفي أيام مقصود باشا قاست مصر أَمَرَّ العذاب من وباء وفد عليها كان أصعب مراسًا من الوباء الذي وفد في أيام علي باشا وجعفر باشا؛ لأنه كان عامًّا لم ينجُ من إصابته الشيوخ ولا الشبان، وقد أصاب من الشيوخ واحدًا في الثمانية. ظهر هذا الوباء أولًا في بولاق بأوائل شعبان سنة ١٠٥٢ﻫ، وبعد ذلك بشهرين ظهر في القاهرة. وما زال على معظمه من أول ذي القعدة من تلك السنة إلى غاية صفر من سنة ١٠٥٣ﻫ، ثم أخذ بالتناقُص شيئًا فشيئًا ولم ينقضِ حتى انقضى الشهر الثاني. ولم يكن يُسمع إلا بالوفيات المتتابعة في كل ساعة. وكانت الجُثَثُ تُنقَل بالعشرات دفعة واحدة فيمر في الشارع الواحد أحيانًا ثلاثون أو أربعون جنازة. وقد روى ابن أبي السرور وهو من المؤرخين المعاصرين أن جملة من صُلِّيَ عليهم من المتوفَّيْن في الجوامع الخمسة الرئيسية في القاهرة في أثناء ثلاثة أشهر ألفان وتسعمائة وستون. وصاروا في آخر الأمر يدفنون موتاهم بلا صلاةٍ، وعدد هؤلاء لا يقل عن عدد الذين صُلِّي عليهم، أما خارج القاهرة فلم يكن الوباء أقل فتكًا، ويقال إن ٢٣٠ قرية أصبحت خرابًا لإصابة سكانها جميعًا بذلك الداء.

(١٠-٢) مقصود باشا

فلما رأى مقصود باشا ما أَلَمَّ بمصر من الدمار سعى في إصلاح الأحوال جهده، فاستعمل الرفق وألغى الضرائب التي وضعها أسلافه بغير الحق. وجعل الوراثة إلى الأقرباء الشرعيين مع دفع شيء من التركات إلى الحكومة، وتحرَّى التعديات تحريًا شديدًا، وشدَّد في القبض على اللصوص فقبض على كثيرين منهم، فقتل بعضًا وسجن بعضًا وقاصَّ آخرين حسب ذنوبهم مع الصرامة، فاستكنَّت الناس وطابت قلوبهم. وبينما كان هذا الباشا ساعيًا في ما تقدم ظهرت في الإسكندرية في ٢٠ ذي القعدة من تلك السنة ثورة كدرت أعماله. وذلك أن نحوًا من ستمائة من المسيحيين كانوا تحت طائلة القِصاص مغلولين في سجون الإسكندرية، ففي اليوم المذكور فتقوا السجون والمسلمون في الجوامع يصلون وطفقوا ينهبون الحوانيت والمخازن والبيوت ولم يُبقوا ولم يَذَرُوا، ولما ملَئوا جعبة مطامعهم نزلوا إلى مركب كان بانتظارهم في البحر وأقلعوا يطلبون الفرار.

ولم يَكُنْ ذلك كل ما هدَّد مقصود باشا وحال دون مشاريعه، بل هناك ما هو أدهى وأَمَرُّ. وذلك أن جماعة السناجق تآمروا على عزله في يوم الجمعة ١٢ رمضان سنة ١٠٥٤ﻫ باجتماعٍ عقدوه في بيت الأمير رضوان بك الملقب بأبي الشوارب. وسبب ذلك أن مقصود باشا كان قد طلب إليهم حبًّا بإيفاء رواتب الجيش عن شهر رمضان أن يدفعوا الثلث الأول من المال الذي يُطلب منهم للخزينة عن الإقطاعات العسكرية التي في أيديهم. فرفضوا بالإجماع وطلبوا عزل بعض الموظفين الذين يَعُدُّونَهُم من أنصار الباشا. فسلم لهم الباشا بما أرادوا فلم يقنعوا بذلك فكتبوا إلى الأستانة يشكون من سوء تصرُّفه ووافقهم كثيرون من الأعيان، فكتب إليه الباب العالي رأسًا ما مفاده: «إن الحضرة الشاهانية لم تعلم أسباب الثورة الجهادية التي انتشبت في مصر، وتتعجب كيف أن الباشا لم يبلغ الباب العالي خبرها.» فأجاب الباشا أنه لم يحصل لديه ما يُدعى ثورة، وإنما هناك بعض الاختلافات التي يرجو إصلاحها بالتي هي أحسن؛ ولذلك لم يكن ثَمَّ حاجة لإبلاغها. فطلب إليه الباب العالي أن يتحرى ويعاقب المعتدين ويصرف الأمر بما يتراءى له. ومع كل ذلك اضْطَرَّ إلى الإذعان، لكنه أراد الفتك بالأمير علي بك والأمير ماماي بك والدفتردار شعبان بك؛ لعلمه أنهم زعماء تلك الثورة فأَعَدَّ لهم كمينًا ليقتلوهم في الديوان، وعين لذلك يوم الإثنين في ٢٣ ذي الحجة سنة ١٠٥٤ﻫ، لكن الدفتردار نزل إلى الديوان وحده في ذلك اليوم فشاور الباشا عقله بين أن يفتك به وحده أو يُخفي ما في ضميره ريثما يفتك بالثلاثة معًا، فأقر أخيرًا على إرجاء ذلك العمل إلى يوم آخر.

(١٠-٣) أيوب باشا وغيره

وفي اليوم التالي جاء الفرمان بعزله وتولية الدفتردار شعبان بك قائمَّقامًا يتعاطى الأحكام وقتيًّا، فشق ذلك على الباشا لكنه أذعن وسلَّم مقاليد الأحكام لشعبان بك، فكتب السناجق إلى الباب العالي يُطلعونه على حقيقة ما حصل في أيام الباشا السابق، ويطلبون إليه الإسراع في إرسال من يخلفه؛ فأنفذ إليهم أيوب باشا. وكان قبل ذلك الحين من رجال القصر الشاهاني. فلما عهدت إليه هذه الولاية تردد في قبولها لما رأى من الأخطار المحدقة بها، لكنه لم ير بُدًّا من قبولها. وقد كان رجلًا حازمًا مستقيمًا استعان برجاله على إدارة الأعمال فلم تمضِ سنتان على حكمه حتى استتبَّ النظام وسادت الراحة. ثم استقال من ذلك المنصب بعد أن صار وزيرًا، وعكف على العبادة واعتزل السياسة وزهد زهد الدراويش، فتنازل عن أملاكه في الأستانة للدائرة الخاصة الهمايونية، وانفرد في أحد المعابد في الروملي، فوُلِّيَ مكانه الوزير محمد باشا حيدر سنتين ونصف ولم يُحسن الإدارة فارتبكت الأحوال.

وفي ١٠ رجب سنة ١٠٥٧ﻫ ثارت فرقة من الإنكشارية في مصر القديمة، فهددهم والي الشرطة فازدادوا تمرُّدًا، فساروا إلى الباشا وطلبوا قتل ذلك الوالي، ولم يكن ذنبه إلا أنه قام بما عليه، فوافقهم الباشا على ما أرادوا. أما الوالي فكان من وجاق الجاويشية. فلما علم هؤلاء بعزم الباشا قاموا يشكون من سوء تصرفه بصوت واحد، فخاف أن تبلغ هذه التَّشَكِّيَات مسامع الباب العالي فتعود العاقبة وبالًا عليه، فاجتمع بقنسو بك واستشاره بما يفعل، وكان هذا لا يشير إلا بما يعود عليه بالمنفعة الشخصية، فأشار على الباشا أن يرفع إلى الأستانة تقريرًا سريًّا يشرح فيه ما حصل من القلاقل، وينسبها جميعها إلى الأميرين رضوان بك وعلي بك، وينسب إليهما أيضًا اختلاس الخزينة المصرية وأنهما سلباه منصب أمير الحج وحكومة جرجا؛ كل ذلك لكي يرجع قنسوبك وماماي بك إلى منصبيهما.

(١٠-٤) رضوان بك وعلي بك

فباشر الباشا كتابة ذلك التقرير وطلب إلى بعض الأعيان أن يوقعوا عليه، فبلغ ذلك مسامع رضوان بك فأسرع إلى كتابة تقرير مناقض لتقرير الباشا، وبعث به إلى الأستانة فوصل قبل تقرير الباشا، وفيه ما فيه من التَّشَكِّيَات ضد قنسو بك وماماي بك، فورد الجواب من الأستانة مفوضًا إلى رضوان بك وعلي بك أمر النظر في تلك القضية، وفي ٢١ جمادى الأولى سنة ١٠٥٧ﻫ ورد الفرمان بذلك إلى الباشا، وفي ٢٧ منه استدعاهما الباشا إلى القلعة فاستدعيا قنسو بك وماماي بك، وأمرا بقتلهما وقتل أمراء آخرين كانوا على دعوتهما. ولم تكد تتخلص مصر من دسائس هؤلاء حتى ظهرت دسائس مصطفى كخيا الملقب بالششنير؛ لأنه لم يُسَمَّ سنجقًا عوضًا من قنسو بك. وفي ٨ رمضان من تلك السنة وردت الأوامر إلى علي بك أن يترك القاهرة، ويتوجه حالًا إلى حكومته في جرجا. وبعد ثلاثة أيام استدعى الباشا رضوان بك إلى وليمة في القلعة، فخاف من دسيسته فأبى الحضور، فغضب عليه الباشا وجرده من إمارة الحج، فخرج رضوان بك من القاهرة في مائتين من رجاله، وفيهم عدة من الأمراء والكشاف، واتحد مع علي بك؛ فبعث الباشا على أثرهما ألفين من جنوده ونحو خمسمائة من الإنكشارية، فاجتمع الجند في الرميلة وأقروا على إغفال أوامر الباشا. ثم وردت الأوامر من الأستانة بتثبيت رضوان بك وعلي بك في منصبيهما. فاضْطُرَّ الباشا إلى استقدام الأميرين فقَدِمَا إلى القاهرة في ١٩ رمضان بما لهما من الرواتب والحقوق، فسعى إلى مصالحتهما مع مصطفى كخيا.

وفي ٦ ذي الحجة من تلك السنة شاع في القاهرة أن الوزير مصطفى باشا سُمِّيَ على مصر عوضًا من محمد باشا بن حيدر. وفي ٢٦ منه وردت الأوامر قاضية بإعادة محمد باشا إلى منصبه. وفي ١٧ رجب سنة ١٠٤٨ﻫ توفي السلطان إبراهيم وتولى مكانه السلطان محمد الرابع.

وترى في شكل ١-١٧ صورة النقود الفضية للسلطان إبراهيم بن أحمد ضُرِبَتْ في القاهرة سنة ١٠٤٩ﻫ.
fig118
شكل ١-١٧: نقود السلطان إبراهيم بن محمد.

(١١) سلطنة محمد بن إبراهيم (من سنة ١٠٥٨–١٠٩٩ﻫ/١٦٤٨–١٦٨٧م)

وبلغ خبر ذلك التغيير إلى مصر في أوائل رمضان مع عزل محمد باشا وتولية الوزير أحمد باشا، فاستلم هذا زمام الأحكام مدة سنتين كلهما اضْطِرَاب وقلاقل.

وأول تلك القلاقل كانت سنة ١٠٦٠ﻫ بسبب تقصير النيل؛ فإنه لم يرتفع تلك السنة أكثر من ١٦ ذراعًا فلم يَرْتَوِ من أرض الصعيد إلا الثلث، أما الوجه البحري فلم يَرْتَوِ منه شيء تقريبًا. فغَلَت الأسعار حتى خِيفَ من المجاعة.

أما الباشا فلم يَكُنْ يُهِمُّهُ غير تكثير الضرائب، مع أنه لم يكُن يُرسِل منها إلى الأستانة إلا الثلثين، وكان لسوء نيته يرسل تلك المبالغ في عهدة رضوان بك؛ ليحمل الباب العالي على الشك بأمانته، فيتغير خاطر السلطان عليه. وكان إتمامًا لمكيدته يكتب إلى الباب العالي على التتابع يشكو من تصرف رضوان بك، ويطلب خلعه عن إمارة الحج وتقليدها لعلي بك. وكان هذا على ما علمت من الصداقة مع رضوان لكنه لم يكُن يعلم بدسائس الباشا. أما الباشا فكان في نيته أن يُوقِع الضغائن بين الأميرين فيحل عُرَى اتحادهما، لكنه لم يُتِمَّ مقصده حتى أتى الأمر العالي بعزله يوم السبت ٦ صفر سنة ١٠٦١ﻫ، ورضوان بك لم يرجع إلى القاهرة بَعْدُ. ولم تكُن نتيجة مساعي أحمد باشا إلا زيادة تألف قلبَيْ ذينك الأميرين، وكان من كرم أخلاقهما أن كلًّا منهما كان يتنازل للآخر عن إمارة الحج، فأعجبت هذه الأريحية المصريين فأحبوهما وبالغوا في احترامهما حتى أقاموا لهما دعاء عموميًّا في الرميلة. والباشا إذ ذاك محبوس في القلعة ولم يُفرَج عنه حتى دفع للخزينة مبالغ وافرة. فتولى مكانه الوزير عبد الرحمن باشا وما زال إلى أول شوال سنة ١٠٦٢ﻫ، وقد قاسى ما قاساه سلفه من السجن والإهانة؛ لأنه سار على خُطُوَاتِهِ. فاختار الباب العالي الوزير محمد باشا ليقوم مقامه في ٥ شوال من تلك السنة، ولكنه لم يدخل القاهرة إلا يوم الثلاثاء في ٨ محرم سنة ١٠٦٣ﻫ.

وما زالت الولاة تتوالى على مصر ولا شيء من أعمالهم وأحوالهم يستحق الذكر. وفي آخر الأمر تحوَّلَ النفوذ كله من أيديهم إلى أيدي البكوات المماليك وهم يعدون مصر وطنهم ويغارون عليها. أما الباشوات إذا أتوا مصرَ لا يكون ديدنهم إلا اكتساب الثروة بأية طريقة كانت لعلم كل منهم أنه لا يلبث أن يأتيه الأمر بالعزل، وقَلَّمَا عزل أحدهم ولم يكن السجن مأواه.

(١٢) السلاطين سليمان بن إبراهيم وأحمد بن إبراهيم ومصطفى بن محمد (من سنة ١٠٩٩–١١١٥ﻫ/١٦٨٧–١٧٠٣م)

فالسلطان محمد الرابع أُقِيلَ من السلطنة في ٣ محرم سنة ١٠٩٩ﻫ، وأُودِع السجن حتى مات (سنة ١١٠٥) وبويع السلطان سليمان الثاني، وبعد ٣ سنوات توفي (في ٢٠ رمضان سنة ١١٠٢ﻫ) فبويع السلطان أحمد خان ويُدعى أحمد الثاني، وبعد ٣ سنوات ونصف تُوُفِّيَ (سنة ١١٠٦)، فبويع ابن أخيه السلطان مصطفى خان وهو مصطفى الثاني بن السلطان محمد الرابع. وبعد ٩ سنوات تقريبًا (في جمادى الأولى سنة ١١١٥ﻫ) أُقِيلَ وتوفي في السجن (في محرم سنة ١١١٩ﻫ).

(١٣) سلطنة أحمد بن محمد (من سنة ١١١٥–١١٤٣ﻫ/١٧٠٣–١٧٣٠م)

وبويع أخوه أحمد خان وهو أحمد الثالث، وكانت مدة حكمه على المملكة العثمانية نحوًا من ٣٠ سنة. وفي أيامه حصلت ثورات عديدة انتهت بتحوُّل سلطة الباشوات ونفوذهم إلى البكوات المماليك. وكانت قلعة الجبل سجنًا للباشوات الذين كانوا يتولون الأحكام ولا يهمهم منها إلا الكسب الشخصي.

وقد توالى على مصر من سنة ١٠٦٣ﻫ إلى ١١١٩ﻫ اثنان وعشرون واليًا أغضَيْنَا عن ذكرهم لعدم أهميتهم. وفي سنة ١١١٩ﻫ في أيام السلطان أحمد خان تولى مصر حسن باشا، وكان على القاهرة قاسم عيواظ بك بوظيفة شيخ بلد.

ومشيخة البلد منصب كان يتولَّاه أحد البكوات المماليك كما يتولون إدارة المديريات، ويقابل محافظة القاهرة اليوم. ولم يكن المنصب بنفسه مهمًّا ولكن تراخي الباشوات واستفحال أمر المماليك جعل لهذا المنصب أهمية كبرى، حتى أفضى النفوذ بتوالي الأيام إلى صاحبه، وصار إليه الأمر والنهي كما ستراه في ما يلي.

(١٣-١) قاسم بك وذو الفقار بك

وكانت المماليك في مصر على حزبين كبيرين يُعرَفَان بالمماليك القاسمية نسبة إلى قاسم بك، والفقارية نسبة إلى ذي الفقار بك. وكان هذان الحزبان لا ينفكان عن المنافسة يحاول كل منهما اكتساب النفوذ له وإذلال الآخر. أما أصل هذين الحزبين ففيه أقوال، منها أنهما ينسبان إلى أخوين هما قاسم بك وذو الفقار ولدي سودون أحد أمراء المماليك في عهد السلطان سليم الفاتح، وأن السلطان سليمًا هو الذي نشطهما ونشط أحزابهما. وقد ذكر الجبرتي لذلك قصة طويلة لا حاجة بنا إلى ذكرها. وبعضهم يقول: إن هذين الحزبين يُنسبان إلى قاسم عيواظ بك الدفتردار وذي الفقار بك الكبير سنة ١٠٥٠ﻫ، وكان قاسم عيواظ بك رئيس الطائفة القاسمية وذو الفقار بك رئيس الفقارية، وكان لكل من هاتين الطائفتين مناقب مختصة بها. فالفقارية كانت تُوصَف بالكثرة والسخاء، والقاسمية بالثروة والبخل. وشارة الفقارية علم أبيض مزاريقه برمانة والقاسمية علم أحمر.

وكانت هاتان الفئتان قبل تولي حسن باشا في وفاق تام فلما جاء خشي من اتحادهما، فعمد إلى الدسائس فألقى بينهما الشقاق فحصلت بين الطائفتين وقائع دامت ثمانين يومًا، فكانوا يخرجون من القاهرة إلى مكان يعرف بقُبَّة العرب يوميًّا، ويأخذون بالكفاح من شروق الشمس إلى غروبها، ثم يعودون إلى القاهرة فيقضون الليل بسلام في بيوتهم بين نسائهم وأولادهم، ثم يعودون في الصباح التالي إلى المحاربة. ومن الغريب أن هذه المحاربات لم تؤثِّر في الراحة العمومية مطلقًا، فظلت الأشغال جارية في مجراها والحوانيت والمخازن تُفتَح وتُقفَل كالعادة.

(١٣-٢) مشيخة إسماعيل بك

وانتهت تلك الوقائع بوفاة قاسم عيواظ بك فأسف عليه الناس وبَكَوْهُ بكاءهم على حاكم عادل أو أبٍ حنون بارٍّ. ولم يبقَ صديق ولا عدو حتى بكاه؛ لأنه كان فضلًا عن حكمته وعدله ودعته شجاعًا باسلًا أَبِيَّ النفس. فأقاموا ابنه إسماعيل بك مكانه شيخ بلد وصادق الباشا على ذلك لظنه أن إسماعيل لصغر سنه يكون آلة بيده يديرها كيف شاء، فزاد كدر ذي الفقار بك واشتد حنقه لأنه كان ينتظر أن يئول ذلك المنصب إليه.

وكان إسماعيل عاقلًا حكيمًا كوالده عارفًا وجه الربح والحق، فسعى في الوفاق مع طائفة الفقارية فاتحدت الطائفتان على الباشا. وكان إسماعيل بك من الجهة الأخرى يُظهِر الطاعة والرضوخ لأحكام الباشا لأنه رئيسه، لكنه لم ينفك ساعيًا سرًّا في خلعه فكتب عنه إلى الأستانة، ففاز بعزله، فجاء غيره ثم أبدل بآخر فآخر وإسماعيل بك في منصبه والرعية يحبونه إلى ما يشبه العبادة.

ومما يُحكَى عنه أن أحد تجار القاهرة في أيامه واسمه عثمان باع لأحد القبقجية (لقب يُعطى للحرس السلطاني) ثلاثمائة قفة بُنٍّ إلى أجل مسمى، وكتب عليه بذلك صكًّا. فقبل الاستحقاق جاء من الأستانة إعلان بخيانة القبقجي والحكم عليه بالإعدام حالًا، فجيء به إلى الباشا فقتله ووضع يده على تركته وفيها البُنُّ كما هو. فعلم عثمان التاجر بذلك فعرض لإسماعيل بك ما كان من أمر البن، فأجبر الباشا أن يُرجِع البن لصاحبه قبل كل شيء ففعل، فأصبح عثمان في حال من الامتنان لا يعرف كيف يبينها. فلاح له أن يهديه علبة مرصعة وبضعة قناطير من السكر النقي، فرفض إسماعيل بك تلك الهدية وخاطب عثمان التاجر قائلًا: «إذا كان المال الذي حصلت عليه بواسطتي حقًّا لك فأكون قد فعلت الواجب عليَّ والله يكافئني، فإذا قبلت هديتك أظلم نفسي. أما إذا كان هذا المال ليس لك وإنما حصلت عليه بالحيلة، فقبولي هديتك يعد مشاركة لك بالخيانة، لكنني مع ذلك أقبل السكر الذي حملته إليَّ على أن تقبض ثمنه من وكيلي؛ لأني سآمره أن يدفعه إليك.»

ويُحكى عنه أيضًا أنه كان يأدب في ليالي رمضان مأدبات يجتمع إليها العلماء والفقهاء والمشايخ وقُرَّاءِ القرآن، ولم يكُن يؤذَن لغير هؤلاء في الحضور فيها. فرأى ذات ليلة رجلًا بين الحضور عليه ملامح الكآبة واليأس، فأوصى بعض الخدم متى ارْفَضَّ الاجتماع أن يأتوا به إليه، ففعلوا فلما حضر بين يديه أعطاه مصحفًا وأمره أن يتلو عليه سورة. فتوقف الرجل وجِلًا ثم ترامى على قدمي البك متضرعًا وقال: «يعش سيدي البك، إني رجل نجار لا أعرف القراءة، وإنما أتيت إلى هذه المأدبة متنكرًا بثوب الفقهاء لأملأ جوفي من الطعام؛ فإني في حالة من الفاقة شديدة.» فأنصفه، ولم يكتف بالإغضاء عن ذنبه، لكنه جعله في عداد خدمته وجعل لعائلته راتبًا معينًا. وصار هذا النجار بعد ذلك من أصدق الخدمة وأكثرهم غَيرة وهِمَّة.

وما زال إسماعيل بك شيخًا للبلد ١٦ سنة تَقَلَّبَ في أثنائها على مصر عدة باشوات كانوا اسمًا بلا مسمى. وكان لحسن سياسته قد أوقف الفقاريين عن كل حركة؛ لتظاهره أنه على وفاق معهم فلم يجعل لهم فرصة يتَّحدون بها عليه. على أنه ارتكب خطأً واحدًا آل إلى قتله. وذلك أن أحد المماليك الفقارية واسمه ذو الفقار أيضًا كان له عقار يقوم بنفقات عائلته فاختلسه منه أحد المماليك القاسمية (من مماليك إسماعيل بك)، فرفع ذو الفقار دعواه إلى شيخ البلد إسماعيل بك فلم يُصْغِ لطلبه وقضى بالعقار لمملوكه.

فشق ذلك على ذي الفقار فرفع دعواه إلى زعيم الفقارية ويقال له شركس بك. وكان خَصمًا لإسماعيل بك بالفطرة فسار إلى الباشا وخاطبه بشأن تصرف إسماعيل بك. وكان في قلب الباشا حزازات من الحسد عليه فوافقه على الإيقاع به ثم قال له: «ليس لك وسيلة أفضل من أن تبعث أحد مماليكك وتأمره بقتله، وأنا أجعل له جميع ما يتركه من المال والنساء مكافأة لأتعابه.»

فوافقه على رأيه وعين لتلك الفعلة أول يوم يجتمع فيه الديوان، وأمر مملوكه ذا الفقار أن يستعد لإجرائها فقبِل اعتمادًا على وعد الباشا. ففي اليوم المعين جاء ذو الفقار إلى الديوان وفيه إسماعيل بك، فتقدم إليه وقبَّل يده قائلًا: «أرجو أن تأمر بإرجاع عقاري إليَّ.» فأجابه إسماعيل بك: «سننظر في طلبك هذا.» فألح عليه فانتهره فاستل خنجرًا ماضيًا بقر به بطنه فتدفقت أمعاؤه ومات لساعته في وسط الديوان، فهجم رجال الباشا وقتلوا كل من كان هناك من رجال إسماعيل ولم ينجُ منهم إلا سريع العدو، هكذا كانت نهاية حكم إسماعيل بك سنة ١١٣٦ﻫ، فنُقِلَتْ جثته إلى بيته ثم دُفِنَتْ بجانب جثة أبيه بجوار باب اللوق.

فتولى مشيخة البلد شركس بك، واستولى ذو الفقار على جميع ممتلكات إسماعيل بك ونسائه حسب وعد الباشا، فأصبح رجلًا عظيمًا يُشار إليه بالبنان، وفي حوزته مئات من المماليك، فخافه شركس بك وأخذ يسعى في إذاقته ما أذاقه لإسماعيل بك. فعلم ذو الفقار بتلك الدسائس فجمع إليه رجاله وفيهم عدة من الرجال العثمانيين، وهجم على شركس بك فجرت واقعة لم يستطع رجال شركس الثبات فيها أكثر من ربع ساعة فقُتِلَ معظمهم وفر الباقون وزعيمهم معهم يطلبون الصعيد، وهو الملجأ الوحيد للبكوات المغضوب عليهم.

(١٣-٣) ذو الفقار بك

فتولى ذو الفقار مكانه مع لقب بك بعد أن أقر الباشا على ذلك، وأصبح ذو الفقار عدوًّا لأترابه البكوات وعلى الخصوص لأبي دفية (سُمِّيَ بذلك؛ لأنه كان يتشح برداء كبير يقال له: دفية)، ثم أنبئ ذو الفقار بك أن أبا دفية ساعٍ في إهلاكه، وحاول ذلك مرارًا ولم ينجح. أما شركس بك فجمع دعاته في الصعيد وسار بهم نحو القاهرة، فأرسل ذو الفقار بك عثمان كاشف أحد كبار قواده في فرقة من المماليك لمحاربته، فتقهقر شركس ورجاله مرارًا حتى لحق ببلاد البربر.

فسكِر ذو الفقار من خمرة النصر، وأخذ في الانتقام من البكوات الذين في القاهرة وقتل منهم من يظُنُّ فيه الانتماء إلى شركس بك، وهم كثيرون، فاتحد من بقي حيًّا منهم مع رئيس الشرطة والآغا رئيس الإنكشارية، وبعثوا إلى شركس بك بما كان من فعلة ذي الفقار، وتعاهدوا جميعًا على محاربته، وانضم إليهم مصطفى القرد — وكان من أعداء ذي الفقار — ومعه جماعة من الرجال الأشداء. فقدم شركس بك إلى القطر المصري، فعلم ذو الفقار بذلك فجمع إليه العلماء والمشايخ وشاورهم في الأمر، فأجمعوا على عدم مناسبة الهجوم في تلك الحال إلا إذا تأكد الفوز، فلم يُصْغِ لمشورتهم فأرسل عثمان بك أحد قواده لمحاربة شركس بك، فحصلت بينهما واقعة قُتِلَ فيها مصطفى القرد وغرق شركس بك في النيل وهو يحاول الفرار. فبعث عثمان بك برأسيهما إلى ذي الفقار. أما هذا فلم يهنأ بذلك النصر؛ لأنه قُتِلَ بعد قتل عدوه شركس بيومين بمكيدة أعدها له البكوات في القاهرة. وذلك أنهم ألبسوا واحدًا منهم دفية، وجاءوا به إلى بين يدي ذي الفقار وقالوا له: «هذا أبو دفية قد جعله الله في أيدينا.» وكانوا قد جعلوا تحت دفيته عيارين ناريين. فلما وقف بين يديه أطلقهما عليه دفعة واحدة فسقط ذو الفقار مضرجًا بدمائه في وسط ديوانه سنة ١١٤٢ﻫ، فعلم عثمان بك بما أصاب رئيسه، فهرع للأخذ بثأره فدخل القاهرة وجعل يفتك بمن يصادفه في طريقه فخافه الجميع.

ثم إن محمد بك أحد البكوات الذين كان يترقبهم عثمان بك رأى منصب مشيخة البلد خاليًا فطمع فيه، فعاهد صديقه صالح كاشف على أن يقتلوا من بقي من زملائه البكوات بمكيدة ينصبها لهم. فأدب محمد بك مأدبة فاخرة دعاهم إليها فلبوا دعوته، ثم علموا بمكيدته فقاوموه مقاومة شديدة وتمكنوا من قتله. فيئس صالح كاشف من مرامه ففر إلى القسطنطينية بعد أن شاهد رءوس البكوات ملقاة على الطريق أمام جامع الحسين. ثم عقب هذه القلاقل ضربة أشد وطأة؛ نعني الوباء الذي أصاب مصر في تلك السنة ويُدعى طاعون الكي، فإنه انتشر في البلاد انتشارًا سريعًا وفتك بالعباد فتكًا ذريعًا. ورافق كل هذه الضربات خلع السلطان أحمد الثالث في جمادى الأولى سنة ١١٤٣ﻫ.

وترى في شكل ١-١٨ صورة النقود الذهبية للسلطان أحمد بن محمد مضروبة في القاهرة بتاريخ سنة ١١١٥ﻫ.
fig119
شكل ١-١٨: نقود السلطان أحمد بن محمد.

(١٤) سلطنة محمود بن مصطفى (من سنة ١١٤٣–١١٦٨ﻫ/١٧٣٠–١٧٥٤م)

وبعد عزل السلطان أحمد بويع ابن أخيه محمود بن مصطفى خان وهو السلطان الرابع والعشرون من بني عثمان، ويدعونه محمودًا الأول، وبقي هذا على كرسي السلطنة خمسًا وعشرين سنة. أما الباشوات الذين تولَّوْا مصر في أيامه فلم يكونوا أكثر أهلية من أسلافهم، وكانت الأحكام قائمة بمشايخ البلد، ولهم الحل والعقد لا يستطيع الباشوات معارضتهم في شيء.

(١٤-١) مشيخة عثمان بك

فبعد قتل ذي الفقار بك تولى مكانه عثمان بك المتقدم ذكره، فرقى كثيرين من مماليكه إلى رتبة البكوية؛ ليقوموا مقام الذين هلكوا بالحوادث الأخيرة. وكان عثمان بك عادلًا حازمًا ولكنه كان صارمًا لا يراعي في تنفيذ العدل جانبًا، فعلم مرة أن أحد بكواته سعى في إقليمه ظلمًا فاستدعاه إليه فتحقق ارتكابه فقطع رأسه. ويُحكى عن عثمان بك حوادث كثيرة تشير إلى حزمه واستقامته وقسطه، لا بأس من ذكر بعضها على سبيل المثال.

يُحكى أن حَمَّارًا من حماري القاهرة أراد ترميم مذود حماره. وهو يفعل ذلك عثر في أحد جدران البيت على وعاء مملوء ذهبًا ففرح جدًّا وأخذ الوعاء وسلمه إلى امرأته، وأوصاها أن تكتم الأمر لئلا ينكشف للحكومة فتأخذ المال منه؛ لأن لها وحدها الحق بالاستيلاء على مخزونات الأرض. فطلبت المرأة من زوجها أن يبتاع لها حليًّا وثيابًا فاخرة لتتمتع بتلك الهبة، فأبى زوجها إجابة طلبها لئلا يقود ذلك إلى كشف الحقيقة، فاغتاظت وأسرعت لساعتها ووشت به إلى عثمان بك، فاستدعى الحَمَّار وبعد أن سمع حقيقة الحال صرفه قائلًا: «احفظ ما وهبك الله وطلق امرأتك وعش بسلام.»

ولما جاء الوباء إلى مصر كان عثمان بك في أول حكمه، فلما رأى الجوع الذي عقب الوباء فتح مخازنه وخزائنه وفرَّق الأقوات والأموال في الناس. ومع ذلك لم يستطع النجاة من مكايد ذوي المطامع وفي مقدمتهم إبراهيم وإسماعيل رضوان الأول كخيا٢ الإنكشارية، والآخر كخيا العزب، وكان كلاهما من المماليك، الواحد من طائفة القزدغلية والآخر من طائفة الجلفية.

وأصل الطائفة الأولى مملوك يقال له القزدغلي كان سروجيًّا، وأصل الطائفة الثانية أحمد الجلفي كان في أول أمره شيالًا وأغناه الله بطريقة في غاية الغرابة لا بأس من ذكرها وهي: جاء بعض المماليك إلى إحدى معاصر الزيت ليبتاع مئونة بيته من الزيت مدة السنة، وكان أحمد الجلفي شيالًا في تلك المعصرة، فابتاع المملوك الزيت واستأجر أحمد فحمله وسار معه حتى بلغا بيته، فأنزل الحمل ووقف ينتظر أجرته. فجاء المملوك وطلب إليه أن يساعده في إخفاء مبلغ من النقود في أحد جدران البيت، وألح عليه أن يكتم الأمر سرًّا وأعطاه بضعة دراهم مكافأة لذلك. فساعده وأخذ الدراهم وسار في سبيله حامدًا شاكرًا. وبعد ثلاثين يومًا اتفق له المرور بالقرب من ذلك البيت فشاهد جماهير مجتمعة. ثم علم أن ذلك المملوك تُوُفِّيَ وقد عُرِضَتْ تركته للمبيع. فتقدم أحمد وابتاع البيت الذي فيه المخبأة، وبعد ارفضاض الجمع استخرج النقود، وسار بها إلى قريته (جلف) في مصر العليا، وامتلك ممتلكات كثيرة، ثم اتسعت ثروته وما زال حتى أصبح زعيمًا لعصابة كبيرة نُسِبَتْ إليه.

وكان إبراهيم وإسماعيل رضوان في بادئ الرأي على تبايُن كلي بالأدبيات والماديات: كان إبراهيم في ضيق من المعاش مع إقدام وبسالة ومطامع كبيرة. وكان إسماعيل غنيًّا بليدًا لا يهمه إلا التمتع بالملذات والشهوات. فكان إبراهيم في احتياج إلى إسماعيل ولذلك كان يتقرب منه، ثم تزوج إبراهيم ابنة محمد البارودي أحد التجار الأغنياء وأخذ معها مالًا كثيرًا؛ فتمكن بذلك من التقرب إلى بيت شيخ البلد وإلقاء المفاسد فيه بواسطة بعض المماليك والأتراك وغيرهم من ذوي الرتب كان يستعملهم آلة لتنفيذ مآربه. ثم تأتَّى له الارتقاء إلى رتبة البكوية مع صديقه إسماعيل رضوان فصار اسمه رضوان بك، واتحد الاثنان على السراء والضراء، ووحدا ممتلكاتهما واجتزآ بالسواء من محصولاتها.

فأوجس عثمان بك خفية من سرعة نمو ثروتهما، وملافاة لما كان يخشى حدوثه من طموح أنظارهما، ضم إليه ثلاثة أحزاب: أحدها حزب إبراهيم بك القطامش وفيه ثلاثة بكوات، والثاني حزب علي بك الدمياطي وفيه بيكان، والثالث حزب علي كخيا الطويل. وشاورهم في الأمر فأقروا على قتل إبراهيم بك وكان إذ ذاك كخيا الإنكشارية ورضوان بك، فوافقوه على ما أراد. وكان وكيله أحمد السكري من مماليك إبراهيم بك فلم يمكنه كتمان ذلك عنه، فجاء إليه وأخبره بجميع ما كان من التواطئ على قتله وقتل رفيقه. فسار للحال إلى رضوان بك وأخبره، وتشاورا بشأن ذلك، فقررا نصب أحيولة يقتلان بها عثمان بك، فبعثا إليه رجالًا يترصدونه في طريقه إلى القلعة، فمر فوثبوا عليه ففر بجواده حتى دخل القلعة ولم يظفروا به. فلاقاه وكيله وقد أضمر له الشر فسأله عما أَلَمَّ به فأخبره بما كان فكلمه بلسان الثعلب ناصحًا له أن يبرح المدينة حالًا؛ لأن الناس قد قاموا يطلبون قتله، وما زال حتى أقنعه ففر إلى سوريا وسار هو معه. حتى إذا دنوا من غزة تنحى أحمد عن الطريق واختبأ في قرية يقال لها الأشرفية بحجة استطلاع الأحوال لحماية عثمان بك، فتربص هناك مدة، ثم عاد إلى القاهرة بمن معه من المماليك وسار إلى إبراهيم بك وأعلمه بما فعله، فكافأه على تلك الخيانة برتبة البكوية. وهَمَّ الأهلون ببيت عثمان فأحرقوه واقتسموا تركته.

أما هو فوصل سوريا وحده وسار منها إلى الأستانة، فولي بروصة ولبث فيها حتى توفاه الله، وجميع هذه الحوادث توالت على مصر في أثناء سنة ١١٥٦ﻫ.

(١٤-٢) إبراهيم كخيا ورضوان بك

فلما خرج عثمان بك من مصر صفا الجو لإبراهيم كخيا ورضوان بك، فعملا على إبادة الأحزاب التي تآمرت عليهما، فأخذ رضوان بك على نفسه قتل علي كخيا الطويل، فأمر أحد مماليكه أن يقتله بالرصاص في وليمة حافلة فلبَّى المملوك الأمر، لكنه أخطأ الرمي وعوضًا من أن يصيب عليًّا أصاب مملوكه الذي كان بجانبه فقُبِضَ عليه وقُتِلَ للحال. أما إبراهيم كخيا فتكفل بإهلاك من بقي من الأحزاب. وكان على ولاية مصر إذ ذاك كيور أحمد باشا، فطلب إليه إبراهيم أن يوافقه على إبادة البكوات فوافقه، وربما فعل ذلك خوفًا منه، أو لأنه يعود عليه بالنفع الشخصي، واستعانوا بالنقود فبذلوها فسهلت مشروعهم حتى قتلوا علي بك الدمياطي بيد وكيله سليمان في وسط الديوان، وقد وعدهم هذا بتسليم رءوس البكوات الآخرين من أحزابه. فأمر إبراهيم كخيا ورضوان بك أن تُقفَل جميع منافذ القلعة على من فيها من البكوات المنوي قتلهم، وجعلا على بابي الإنكشارية والعزب جندًا. وحافظ سليمان على وعده فبوشرت المذبحة وأول من قُتِلَ فيها خليل بك من دعاة الدمياطي ومحمد بك من دعاة قطامش وكثيرون غيرهم. وحاول علي بك وعمر بك البلاط الفرار فتبعهما الباشا بنفسه، ثم لاقاهما إبراهيم ورضوان وقتلاهما عند باب القلعة، ولم يدفن من القتلى إلا محمد بك وخليل بك.

ولم يبقَ من مناظري إبراهيم كخيا ورضوان بك إلا إبراهيم قطامش وعلي كخيا الطويل. فالأول مات من الحزن بعد مدة قصيرة، والثاني هاجر من تلقاء نفسه تاركًا الدار ومن بناها. فصفا الجو لإبراهيم كخيا فتولى مشيخة البلد وسمى رضوان بك أميرًا للحج. ثم جعلا يتبادلان هذين المنصبين كل سنة وعاد كل منهما إلى ميله الطبيعي: إبراهيم إلى مطامعه ورضوان إلى ملاهيه. فأخذ إبراهيم كخيا يفسد الأحكام ويستخدمها لاسترجاع ما بذله للحصول عليها، فلم يغادر وسيلة إلا استخدمها في سبيل مطامعه من قَتْلٍ وفَتْكٍ، فابتدأ بسليمان قاتل علي بك الدمياطي فحجر عليه في القلعة، ولم يفرج عنه حتى استرجع منه ما كان أعطاه من النقود. ثم باغت من بقي من الأغنياء في القاهرة ووضع يده على ممتلكاتهم بعد أن قتل بعضًا منهم وبقي البعض الآخر. فاستولى في يوم واحد على أموال ثمانين بيتًا من بيوت القاهرة، ووضع يده على محصولات البلاد والكمارك والقُرَى والمخازن حتى الحوانيت الصغيرة فلم يُبْقِ ولم يَذَرْ.

وكان كيور أحمد باشا قد استُدعِيَ إلى الأستانة وولي حكومة قبرص، فأقيم مقامه باشا آخر سنة ١١٥٦ﻫ، فعامله إبراهيم كخيا بالاحتقار فحقد عليه. ثم اتفق غياب إبراهيم في قافلة الحج إلى مكة فاغتنم الباشا غيابه وتواطأ مع حسين بك الخشاب على مكيدة يُعِدَّانِهَا لإبراهيم، فاتفقا على أن يقوم الخشاب بقتل إبراهيم ورفيقه رضوان وأن يكافئه الباشا على ذلك بمشيخة البلد. فلما رجع إبراهيم سعى الخشاب في إنجاز وعده، ففاز بالقبض على الاثنين فسجنهما في القلعة فولاه الباشا مشيخة البلد. لكنه لم يهنأ بها؛ لأن دعاة إبراهيم كخيا اتحدوا وهجموا على حسين بك والباشا، وأخرجوا المسجونين، ففر الخشاب إلى مصر العليا واختبأ في إبريم من بلاد النوبة. أما الباشا فاستُدعِيَ إلى الأستانة فعاقبه السلطان عقابًا انتهى بالموت.

(١٤-٣) نشأة علي بك الكبير

وكان في حوزة إبراهيم كخيا أكثر من ألفي مملوك، في جملتهم علي الذي سيلقب بعلي بك الكبير ويكون له شأن عظيم بهذا التاريخ، وسترى في سيرته أنه من أفراد الدهر حزمًا وبطشًا وحكمة. وكان علي سلحدارًا بين مماليك إبراهيم كخيا. وكان إبراهيم يحبه كثيرًا ويجل مواهبه حتى جعله ناقل سيفه. ومما زاده تعلُّقًا به أنه اصطحبه إلى الحرمين في قافلة وكان قد صار كاشفًا. فسار قائدًا لتلك القافلة فلاقاهم في الطريق عصابة من اللصوص، فدفعهم علي بقلب لا يهاب الموت فلقبوه بالجني. ولما رجع إبراهيم كخيا إلى القاهرة عزم على مكافأة علي برتبة بك لكن صغر سنه ودسيسة الخشاب حَالَا دون ذلك.

ثم عقب ذلك شاغل أكثر أهمية زاد الأمر تأخيرًا؛ وذلك أنه جاء القاهرة خبر وصول باشا جديد إلى الإسكندرية بدلًا من الباشا الذي أُخرِجَ منها. وكان من عادة رجال الحكومة في مصر إذا علِموا بمجيء باشا جديد أن يبعثوا وفدًا يلاقونه في الإسكندرية، وفيهم العيون والجواسيس فيحيطون به يستطلعون مقاصده ونواياه، ويطَّلعون على ما في يده من الأوامر السلطانية، فإذا رأوا تلك الأوامر سلمية ومقاصده حسنة رحَّبوا به وفتحوا له الطريق حتى يصل بولاق فيحتفل الأمراء بلقائه. أما إذا تبيَّنوا من أحواله غير ذلك أبلغوا الأمراء بالقاهرة، فيجتمعون ويقررون إعلانه أن يقِف حيث هو، ويكتبون إلى ديوان الأستانة بعدم مناسبة ذلك الباشا الجديد وأن بقاءه في مصر مُخِلٌّ بالنظام العمومي، أو ربما حمل الرعية على الثورة. ثم يطلبون استبداله بآخر أكثر موافقة للبلاد منه.

فلما اتصل بهم خبر قدوم هذا الباشا واسمه راغب محمد باشا، سار شيخ البلد بنفسه لاستقباله ومعه البكوات، فخلع على كل واحد منهم خلعة كالمعتاد. ثم اجتمعوا جميعًا بجلسة رسمية وأقسموا على الطاعة والإخلاص لأمير المؤمنين. وأحب الأمراء راغب باشا محبَّة عظيمة؛ لأنه عرف كيف يعامل شيخ البلد، فأحبته الرعية ومالوا بكليتهم إليه، فقضى بين ظهرانيهم سنتين كلهما سلام وطمأنينة، حتى أجمع البكوات على استبقائه بينهم زمنًا طويلًا.

fig060
شكل ١-١٩: أكبر رجال الدولة بملابسهم الرسمية: الصدر الأعظم والقائمَّقام والرئيس أفندي وعضو المجلس.
وهم في ذلك ورد إلى الباشا خط شريف٣ أن يسعى جهده في قطع دابر البكوات وفي جملتهم شيخ البلد ومن يلوذ به. فاستنتج الباشا من نص ذلك الخط أن ديوان الأستانة مشتبه بتصرُّفه في مصر، وأنه وُشِيَ إلى جلالة السلطان بأن اتفاقه مع بكوات مصر ليس إلا لعزمه على استخدامهم في مآربه بالاستقلال بحكومة مصر، وإخراجها من طاعة الدولة العلية. فوقع في حيرة وتردَّد بين أن ينفذ الأوامر الشاهانية مع ما فيها من الخطر، أو أن يعطيها أو يؤخرها، فيعرض حياته للخطر ويؤيد التَّشَكِّيَات التي تقدمت بحقه. وبعد أن نظر في المسألة من سائر وجوهها فضل الفتك بأصدقائه البكوات. فتواطأ مع عصابة من رجاله أنه متى اجتمع البكوات في مجلسه، فليكونوا على استعداد للهجوم عليهم معًا عند أول إشارة. ففعلوا ما أمرهم به لكنهم لم يفوزوا كل الفوز؛ لأن ثلاثة من البكوات تمكنوا من النجاة وفي مقدمتهم شيخ البلد بعد أن جاهدوا الجهاد الحسن، وأوسعوا الباشا تعنيفًا على فَعلته هذه التي لم يكونوا ينتظرونها منه بعد ما أظهروه نحوه من اللطف والإخلاص. فبرأ ساحته بإطلاعهم على الفرمان السري الوارد له بهذا الصدد فكفوا عن الانتقام منه، لكنهم عزلوه وكتبوا إلى الأستانة يطلبون بدله. وعينوا ثلاثة بكوات في مكان الثلاثة الذين قُتِلُوا بتلك المكيدة.

واغتنم إبراهيم كخيا هذه الفرصة لترقية علي كاشف فرقاه إلى رتبة بك، فشق ذلك على أحد البكوات المدعو إبراهيم بك، شركسي المولد يعرف بإبراهيم بك الشركسي، وكان من دعاة إبراهيم كخيا لكنه تظاهر عند ذلك بعداوته، ونمت بينهما الضغائن ولم تنتهِ إلا بقتل إبراهيم كخيا بعد ذلك بخمس سنوات بيد إبراهيم بك الشركسي المذكور سنة ١١٦٨ﻫ. وفي تلك السنة توفي السلطان محمود بن مصطفى.

وترى في شكل ١-٢٠ صور نقود السلطان محمود بن مصطفى مضروبة في القاهرة بتاريخ سنة ١١٤٣ﻫ؛ فالأولى منها ذهبية وهي صورة القطعة المعروفة باسم زر محبوب أو سكوين. والثانية ذهبية أيضًا وهي نصف سكوين أو نصفية. والثالثة صورة القطعة النحاسية المعروفة بالجديد.
fig121
شكل ١-٢٠: نقود السلطان محمود بن مصطفى.

(١٥) سلطنة عثمان بن مصطفى (من سنة ١١٦٨–١١٧١ﻫ/١٧٥٤–١٧٥٧م)

فبويع أخوه السلطان عثمان بن مصطفى، ويدعونه أيضًا عثمان الثالث، وبقي على كرسي الخلافة ثلاث سنوات فقط. فشفى إبراهيم بك الشركسي غليله بقتل إبراهيم كخيا، لكنه لم يَرْوِ مطامعه؛ لأن مشيخة البلد انتقلت إلى رضوان بك صديق إبراهيم كخيا، ثم ظهر لرضوان منافس آخر من زعماء حزب إبراهيم يقال له حسين بك، أصبح بعد قتل الكخيا أكبر رجال ذلك الحرب، فادَّعَى لنفسه الأولوية بمشيخة البلد فلم تُقبَل دعواه، فجمع إليه بعض دعاته المماليك، وصعد إلى قلعة القاهرة واستولى على بطارية من المدافع تشرف على بِركة الفيل حيث يقيم رضوان بك، فأطلق بعض القنابل على المنازل فخرقت جدرانها، فتداعت أركانها ورضوان بك مشغول بحلاقة لحيته. فلما أحس بالأمر طلب جواده ولم يعل ظهره حتى أصيب برصاصة كسرت فخذه. وتمكن من الفرار ومعه بعض المماليك إلى قرية الشيخ عثمان، وهناك توقف عن المسير لزيادة الألم ومعه رئيس الضابطة وكان مجروحًا، ثم توفي الاثنان ودُفِنَا معًا.

فسمي حسين بك من ذلك الحين شيخ البلد، وأخذ يتقرَّب من أترابه البكوات وهم لا يزيدون منه إلا نفورًا. ولم تمضِ بضعة أشهر من توليته حتى كمنوا له في مكان مصاطب النشاب في السهل الواقع بين القاهرة وأرض إبراهيم بك. وكان مشتغلًا بعرض جنوده المماليك فهَمُّوا به وذبحوه ثم قطعوه إرْبًا إرْبًا. وصار يُعرَف من ذلك الحين بحسين بك المقتول. فتولى مكانه خليل بك واشتهر بحب القتل، وكان متظاهرًا بالعداوة والحسد لعلي بك على الخصوص؛ لاعتقاده أنه أشد أعدائه وطأة وأقواهم عزيمة.

(١٦) سلطنة مصطفى بن أحمد (من سنة ١١٧١–١١٧٨ﻫ/١٧٥٧–١٧٧٤م)

وفي سنة ١١٧١ﻫ تولى الخلافة العثمانية مصطفى بن أحمد وهو مصطفى الثالث. وبالحقيقة أن علي بك كان كثير الإخلاص لإبراهيم كخيا لا ينفك ساعيًا في الانتقام له، ولكنه كان يرى السبيل الأقرب والأسهل لبلوغ مرامه إنما هو القوة. فأخفى ما في ضميره ٨ سنوات اشتغل في أثنائها بجمع القوة. فابتاع عددًا وافرًا من المماليك، ووطد علائقه مع البكوات الآخرين، واكتسب ثقتهم بما كان يُظهره من الغيرة عليهم والإخلاص لهم، وما كان يكرمهم به من الهدايا. وما زال يخطو خطوة بعد أخرى حتى اقترب من النقطة المطلوبة، فأوجس خليل بك خيفة منه، وجعل يتجسس حركاته بالأرصاد والعيون، ويعد المكائد في شوارع القاهرة. ففي ذات يوم هجم عليه حسين كشكش بأمر خليل بك، وبعد موقعة هائلة اضْطُرَّ علي بك أن يفر إلى الصعيد في طائفة من أصدقائه البكوات يستعد للانتقام مضاعفًا.

فصرح خليل بك أن علي بك وأتباعه البكوات مجرَّدون من رتبهم وحقوقهم، وولى مكانهم بكوات من ذويه، وقتل من ظفر به في القاهرة من أصدقاء علي بك أو المنتمين إليه. أما علي بك فالتقى في الصعيد بواحد من مماليك مصطفى القرد يدعى صالح بك، كان منفيًّا هناك، وفي قلبه من خليل بك حزازات، فاتحد الاثنان ورجالهما وزحفا على القاهرة. فخرج خليل بك وحسين بك كشكش، فدارت رحى الحرب فكان الفوز لعلي ورفيقه، فطاردا خليل بك ورجاله حتى قطعوا مديرية القليوبية، وأوصلوهم إلى المسجد الأخضر على ضفاف النيل. واشتد الكفاح هناك فالتجأ خليل بك ورجاله إلى طنطا، فبعث علي بك كاشفه محمد الملقب بأبي الذهب ليهاجمهم، فهاجمهم واستلم طنطا بعد أن قتل حسين كشكش. أما خليل بك فاختبأ بالمسجد وبقي فيه وقد غلبه الجوع، ثم قُبِضَ عليه ونُفِيَ إلى الإسكندرية وخُنِقَ هناك. ونقلوا رءوس القتلى إلى القاهرة وطافوا بها في أسواقها.

(١٧) علي بك الكبير (من سنة ١١٧٧–١١٨٧ﻫ/١٧٦٣–١٧٧٤م)

فتمكن علي بك بهذا الانتصار من استلام مشيخة البلد في القاهرة سنة ١١٧٧ﻫ، وأول أمر باشره قتل إبراهيم الشركسي الذي قتل سيده، فثارت عليه أحزابه يطلبون الانتقام، وهم عديدون فخاف علي بك على حياته، ففر إلى سوريا فالتجأ إلى متسلم (حاكم) بيت المقدس، وكانت بينهما صداقة قديمة، إلا أن هذا الملجأ لم يحمِه إلا شهرين؛ لأن أعداءه البكوات لما علموا بمقره شَكَوْهُ للسلطان مصطفى وأخبروه بمقره، فأنفذ إلى متسلم القدس فرمانًا يأمره به أن يرسل علي بك مخفورًا إلى الباب العالي. فعلم علي بك بذلك ففر إلى عكا وهناك اكتسب صداقة الشيخ ضاهر العمر أمير تلك المدينة الحصينة، فأكرم وفادته، وسعى في تبرئته أمام الباب العالي. وبمساعدة نصرائه من أصدقاء إبراهيم كخيا اكتسب له العفو من الحضرة الشاهانية، فأُلغِيَت الأوامر بالقبض عليه، وأُعِيدَ إلى القاهرة في منصبه الأول.

وفي سنة ١١٧٩ﻫ — أي بعد ذلك بسنتين — هُدِّدَ علي بك بالإقالة من ذلك المنصب؛ وذلك أن محمد راغب باشا — الذي كان على مصر وعُزِلَ منها على ما مر بك — كان يتذكر كرم أخلاق علي بك مذ كان كاشفًا. فبعد استقالته من مصر ولي بر الأناضول، وبعد تسع سنوات صار صدرًا أعظم، وما انفك متذكرًا صداقة علي بك لا يفتر عن معاضدته وتسهيل مطالبه سرًّا وجهرًا. ففي سنة ١١٧٩ﻫ تُوُفِّيَ الوزير محمد راغب باشا، فأصبح علي بك في حاجة لمن يعضده. فاغتنم أعداؤه هذه الفرصة ووشوا به إلى الأستانة، فاضطر أن يفر إلى اليمن، ولم تأتِ سنة ١١٨٠ﻫ حتى عاد إلى القاهرة واسترجع منصبه بمساعدة أحزابه وموت أربعة من دعاة إبراهيم الشركسي. ثم تراءى له أن صديقه صالح بك تُحدِّثه نفسه بخرق حرمة الصداقة، واتباع داعي المطامع الشخصية، فوكل أمر قتله إلى إبراهيم كاشف أحد أتباعه، فقتله طعنًا، وسترى أن إبراهيم هذا سيرتقي حتى يتولى مشيخة البلد.

fig061
شكل ١-٢١: صورة ختم سليمان كخيا.
ورأى علي بك أن قبائل العربان في مصر السفلى قد شقَّت عصا الطاعة، فأنفذ إليها أحد مماليكه المدعو أحمد في فرقة من الرجال فحارب أولئك العربان، وأمعن في قتلهم حتى لقَّبوه بالجزار، وهو الذي تولى عكا بعدئذٍ واشتهر بأحمد باشا الجزار. أما من بقي من عداء علي بك فخافوا ولزموا السكوت، وتحقق تخلُّصه من القلاقل والمفاسد والمقاومات، ورأى من باب الاحتياط والحرص أن يُرَقِّي ثمانية عشر مملوكًا من أتباعه إلى رتبة البكوية؛ لينصروه وقت الحاجة، وهذه أسماؤهم:
  • (١)

    رضوان ابن أخيه من جورجيا.

  • (٢)

    علي الطنطاوي من جورجيا.

  • (٣)

    إسماعيل من جورجيا.

  • (٤)

    خليل من جورجيا.

  • (٥)

    عبد الرحمن من جورجيا.

  • (٦)

    حسن من جورجيا.

  • (٧)

    يوسف من جورجيا.

  • (٨)

    ذو الفقار من جورجيا.

  • (٩)

    عجيب من جورجيا.

  • (١٠)

    مصطفى من جورجيا.

  • (١١)

    أحمد الجزار من أماسيا.

  • (١٢)

    سليم آغا إنكشاري.

  • (١٣)

    سليمان كخيا إنكشاري.

  • (١٤)

    لطيف شركسي.

  • (١٥)

    عثمان شركسي.

  • (١٦)

    إبراهيم شركسي.

  • (١٧)

    مراد شركسي.

    ولهذين الآخرين شأن في هذا التاريخ لأنهما سيتنازعان السلطة في مصر.

  • (١٨)

    محمد.

وكان يعز محمدًا هذا أكثر من الجميع، وستراه رجلًا عقوقًا منكِرًا للجميل. ولما تقلَّد البكوية لُقِّبَ بأبي الذهب، فأحب أن يجعل هذا اللقب اسمًا على مسمًّى، فتظاهر بالكرم المُفرِط، وبدلًا من أن يفرق العطايا بالبارات فرقها بالأرباع.

أما علي بك فكان ساهرًا على مصلحة البلاد سهرًا تامًّا، وكان مخلصًا في أعماله، فطهَّر البلاد من اللصوص وسعى جهده في إصلاح شئونها، فساد الأمن فيها بعد أن كانت معرضًا للقلاقل والمفاسد. ولم تقِف مطامع علي بك عند هذا الحد؛ فإنه رأى من تحامل الواشين بينه وبين ديوان الأستانة، وإيقاع ذوي الأغراض به وبسلطته؛ ما حمله على السعي في الاستقلال بمصر، وتجريدها من رعاية الدولة العثمانية، لكنه كتم مقاصده وجعل يسعى في تنفيذها تحت طي الخفاء.

(١٧-١) مساعيه في سبيل الاستقلال

وأول خطوة خطاها نحو هذه الغاية أنه انتحل أسبابًا بَنَى عليها عزل مستخدمي الملكية والجهادية ورؤساء الوجاقات، واستبدلهم برجال على دعوته، إلا وجاق الإنكشارية فإنه لم يمسه بعد أن تمكن من استبقائه تحت حمايته، وسد جميع السبل التي يمكنه بها التطرق إلى مقاومته، وأخَّر دفع مرتبات الوجاقات الأخرى عمدًا وصار يدفع رواتبهم أقساطًا عملة ورق بول كانت تخسر المائة منها تسعين، فكان يربح أرباحًا عظيمة باسترجاع الورق بالأثمان البخسة وصرفه ثانية بثمنه الأصلي. فلما رأت رجال الوجاقات أنهم لا يستولون من ماهياتهم إلا على العُشر كرهوا الاستخدام بالعسكرية، وجعلوا يستقيلون منها شيئًا فشيئًا، ويتعاطَوْن أشغالًا أخرى أكثر فائدة لهم.

ثم سعى في تقليل العساكر العثمانية واستخدام المماليك من دعاته. حتى صاروا نحوًا من ستة آلاف، وحظر على سائر البكوات والكشاف الذين يخشى تغيرهم عليه أن يقتني أحدهم أكثر من مملوك أو مملوكين. وكان على ولاية مصر إذ ذاك محمد باشا فأزعجته إجراءات علي بك وخشي عاقبتها، فنصح له أن يقف عند حده فلم يكترث بقوله. فأقر على مقاومته؛ لأن هذه الإجراءات مضادة لمصلحة الباب العالي، ولكنه لم يكن يستطيع المجاهرة بمقاصده هذه فأخذ يدسها سرًّا، واتحد مع من بقي من دعاة إبراهيم الشركسي، وأجمعوا على الانتقام من علي بك، ثم جعلوا يسعَوْن فسادًا بين أحزابه، واستجلبوا بعضًا منهم إلى جانبهم بالمواعيد المبنية على الحسد والطمع. وفي جملة هؤلاء محمد بك أبو الذهب الذي طمره علي بك بفضله حتى أزوجه ابنته، وكان يناديه كما ينادي أولاده. ولم يكونوا يستطيعون تنفيذ مآربهم جهارًا، فأغرَوْا صهره محمد بك المذكور بالمال، ووعدوه أنه إذا قُتِلَ علي بك يتولَّى المشيخة مكانه، فقبل لكنه علم بعدئذٍ أنه يقصر عن مناوأة علي بك، واستعظم الجناية فعدل عنها إلى جناية تقرب منها. وذلك أنه شكى إلى علي بك معاملة الباشا له، فأسرع علي بك إلى إنقاذه منه، وما انفك عن الباشا حتى أخرجه من مصر فعاد إلى الأستانة. ولم يزدد علي بك إلا ثقة في محمد بك أبي الذهب، وإخلاصًا له رغم ما كان يُنقل إليه عنه من السعي ضده.

وفي سنة ١١٨٢ﻫ انتشبت الحرب بين روسيا والدولة العلية، فبعثت هذه إلى مصر أن تمدها باثني عشر ألفًا، فوصلت الأوامر لعلي بك بذلك ومشروعه لم ينضج بعدُ فلم يسعه إلا مباشرة ما أُمِرَ به، فابتدأ بجمع الجنود. أما أعداؤه فاغتنموا تلك الفرصة للوشاية فضموا إليهم الباشا الجديد الذي كان قد أُرْسِلَ من القسطنطينية بدلًا من الباشا الذي أخرجه علي بك، واتفقوا جميعًا على كتابة تقرير أمضاه الباشا وسائر البكوات أعداء علي يشون به إلى الديوان الشاهاني؛ بدعوى أنه إنما أراد بما يجمعه من الجيوش معاضدة روسيا للاستقلال بمصر، فأنفذ الديوان الشاهاني إلى الباشا أمرًا مشدَّدًا أن يُقتَل علي بك ويُرسَل رأسه إلى الأستانة.

فاتصل ذلك بعلي بواسطة أصدقائه بالأستانة، فبعث علي بك الطنطاوي أحد دعاته في عشرة من أتباعه المماليك متنكرين بلباس البدو يكمنون على مسافة قصيرة من القاهرة، حيث لا بد للقابجي باشي حامل ذلك الفرمان من المرور به، فمكثوا هناك ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع بان لهم القابجي، ومعه أربعة رجال فوثبوا بهم وقتلوهم وطمروهم في الرمل، وأخذوا ملابسهم والفرمان وساروا إلى علي فقرأه ثم جمع إليه ديوان البكوات العمومي، وأطلعهم عليه وأقنعهم أن ذلك الأمر ليس لقتله وحده، بل لقتلهم جميعًا، ثم خاطبهم قائلًا: «دافعوا إذن عن حياتكم وحقوقكم، واعلموا أن مصر ما برحت منذ القدم يحكمها دول من المماليك كانوا سلاطين أشداء، تفاخر بهم الأرض السماء. فأعيدوها إليهم، وهذه فرصة لا تضيعوها فإنكم لن تعثروا عمركم على فرصة مثلها، هلم إذن نسعى في الاستقلال فإن فيه حياتنا وحريتنا.»

(١٧-٢) استقلال علي بك بمصر

فتأثر البكوات من فصاحة علي وبلاغته، وكانوا ثمانية عشر قد أجمعوا على دعوته، فعاهدوه على الدفاع عنه ما استطاعوا إلى الدفاع سبيلًا. أما سائر الأمراء المماليك من أعدائه فخافوا العاقبة ولزِموا السكوت. فكتب ديوان علي بك أمرًا إلى الباشا أن يبرح الديار المصرية في ثمانٍ وأربعين ساعة، وإذا لم يفعل يُقتل، وأن مصر قد أصبحت مستقلة. وبعث علي إلى الشيخ ضاهر العمر أمير عكا يعلنه رسميًّا باستقلال مصر، ويدعوه للمساعدة في ذلك، فأجابه الشيخ ضاهر مسرورًا، وجمع إليه رجاله ورجال بنيه السبعة وصهره، وانضم الجميع إلى جنود علي، وكان قد أضاف إلى الستة الآلاف التي عنده من المماليك الاثني عشر ألفًا التي جُمِعَتْ مددًا للعثمانيين، وأضاف إلى هذه أيضًا رجال أصدقائه البكوات حتى رجال أعدائه؛ لأنهم لم يعُد يسعهم إلا طاعته.

فاتصل ذلك بالأستانة فأرسل الباب العالي أمرًا إلى والي دمشق أن يسير في ٢٥ ألفًا لمنع جنود عكا من معاضدة علي، فسار الوالي في ذلك العدد من الرجال فلاقاه الشيخ ضاهر في ٦ آلاف بين لبنان وبحيرة طبرية، وردَّه على أعقابه سنة ١١٨٣ﻫ. وكانت هذه الواقعة آخر الوقائع؛ لأن الباب العالي أمسك بعدها عن إرسال الجند كأنه نسي علاقته مع سوريا ومصر بالكلية.

أما علي فاغتنم اشتغال الدولة العلية بالمحاربة مع روسيا، وصرف عنايته في تنظيم مملكته الجديدة، وإصلاح ما داخلها من الخلل، فخفض الضرائب، وجعل على المالية مدير الكمرك القديم المعلم ميخائيل فرحات القبطي بدلًا من يوسف بن لاوي الإسرائيلي، وكان قد قُتِلَ جزاء خيانته. ونظم التجارة الخارجية والمواصلات، وأبعد العربان إلى الصحراء فاستولى الأمن، وانتشر الإصلاح في القُطر، فزادوا على ألقاب علي لقب بلوط قبان (مبيد اللصوص).

(١٧-٣) قبيلة الهوارة

وكان في جملة القبائل الثائرة على مصر قبيلة الهوارة، وهي أشدهن بأسًا وأطول باعًا جاءت في الأصل من ضواحي تونس الغرب، واستقرت بين جرجا وفرشوط في بقعة من الأرض لم تكن تصلح للزراعة، فاعتنوا فيها حتى أنشَئوا عدة قرى وما زالوا ينشرون سطوتهم حتى احتلوا جميع البقاع بين هوارة وكفر الشيخ سليم. ثم اغتنم الشيخ هامان (شيخ الهوارة) اشتغال مصر بما تقدم، ووضع يده على البلاد من أسيوط إلى أسوان وجمع إليه محصولاتها. وكان قد حارب هذه القبيلة كثيرون ممن تولوا مصر قبل علي، وفرضوا عليها ضريبة مقدارها ٢٥٠ ألف إردب من الحنطة توردها سنويًّا إلى مصر.

ففي سنة ١١٨٣ﻫ أرسل علي بك صديقه محمد بك أبا الذهب لمحاربة الشيخ هامان وقبيلته، فحاربهم وتغلب عليهم في أواخر تلك السنة. فاضطر أبناء الشيخ أن يبتاعوا حياتهم بما لديهم من ثروة أبيهم. فربح أبو الذهب من ذلك مالًا كثيرًا ثم أسرع إلى القاهرة لما علمه من الدسائس التي كان ساعيًا بها رفيقه أحمد بك الجزار على علي بك، وكأنه لم يكن يريد أن يشاركه أحد بالدسائس على سيده. وكان أحمد الجزار ينظر إلى أبي الذهب نظره إلى عدو يناظره في ارتكاب الدنايا فسعى في قتله فلم ينجح. وكان لأحمد الجزار سيف مشهور بطيب فولاذه وإتقان صنعه. فاتفق يومًا أنه اجتمع بمحمد أبي الذهب، فقال له محمد: «أرني حسامك لأجربنَّ فرنده.» فأجابه أحمد: «لا يستل حسامي سواي ولا أغمده حتى يستباح قتيل.» ثم نهض للحال وغادر القاهرة قاصدًا القسطنطينية فوصلها. ثم عهدت إليه ولاية عكا بعد ذلك، وما زال فيها حتى توفاه الله.

(١٧-٤) فتوح علي بك ومعاهداته

fig062
شكل ١-٢٢: كاترينا الثانية.

أما علي بك فبعد أن تغلب على الصعيد ثار في خاطره حب الافتتاح، فجرد إلى اليمن جيشًا تحت قيادة محمد أبي الذهب، فسار في عشرين ألف مقاتل فقطع برزخ السويس ومضيق العَقَبة، ولم يُبقِ على أحد من القبائل التي حاولت الوقوف في طريقه، ومازال حتى أتى اليمن وافتتحها. وأمر عليٌّ فسار إسماعيل بك في ثمانية آلاف لافتتاح السواحل الشرقية للبحر الأحمر وحسن بك لافتتاح جدة، ولقب بالجداوي إشارة إلى انتصاره على تلك المدينة، وما زال يُعرف بهذا اللقب من ذلك الحين. ولم تمضِ ستة أشهر حتى افتُتِحَت شبه جزيرة العرب وفي جملتها مكة المشرَّفة، ولحق بها نهب شديد، وأُنزِل شريفها وأُقِيم مقامه ابن عمه الأمير عبد الله، فوافق عليًّا في سلطنته وسماه بسلطان مصر وخاقان البحرين، فعل ذلك بصفته الدينية تملُّقًا لعلي. فلما حصل علي بك على ذلك من شريف مكة أخذ يتمتع بحقوق السلطنة، فأمر أن يُخطَب باسمه في الصلوات العمومية أيام الجمعة. وضرب النقود سنة ١١٨٥ﻫ في القاهرة باسمه كما سترى.

وسعى علي بك في هذه السنة إلى أمر سِيقَ به إلى حتفه؛ وذلك أنه عهد إلى محمد بك أبي الذهب أن يسير في ثلاثين ألفًا لإخضاع بلاد الشام؛ لأنه كان يعتبر هذه الولاية بعد خروجه من طاعة الدولة العلية عدوًّا قريبًا يُخشى منه على نفسه وعلى صديقه ومحالفه الشيخ ضاهر. وكان ينظر إلى سوريا كأنها جزء طبيعي من مملكة مصر. وكانت بالواقع قسمًا منها في سائر الأزمنة التي كانت فيها مصر مستقلة في الدولة الطولونية والفاطمية والأيوبية والمماليك وغيرها.

وسعى علي بك في التحالف مع الدول التي بينها وبين الأستانة عداوة طبيعية، فاستخدم تاجرًا إيطاليًّا اسمه روستي عقد له معاهدة سلمية مع البندقيين على أن يكونوا حلفاء له. ثم عهد إلى رجل أرمني اسمه يعقوب أن يستطلع من الكونت ألكسيس أورلوف قومندان القوات الروسية في البحرين (المتوسط والأسود) عن عقد معاهدة دفاعية وهجومية مع قيصرة روسيا كاترينا الثانية. فأجاب الكونت بالإيجاب وفتحت المخابرات بشأن ذلك وطال أمرها كثيرًا لبُعد المسافة بين الطرفين. أما جنود علي بك في سوريا فصاحَبَها الظَّفَر، واتحدت بجنود الشيخ ضاهر فاستولَوْا على غزة والرملة ونابلس والقدس ويافا وصيدا، وأخيرًا حاصروا دمشق ولم تلبث يسيرًا حتى سلمت.

(١٧-٥) خيانة محمد بك أبي الذهب

فلما رأى محمد أبو الذهب تمام هذه الفتوحات العظيمة على يده حدَّثته نفسه أن يجعلها لنفسه. ثم قادته مطامعه إلى محاربة علي واستخراج مصر من يده. ويظن أنه لم يُقدِم على ذلك من تلقاء نفسه، وإنما حُمِلَ عليه بأوامر جاءته من الأستانة؛ لأن المخابرات السرية كانت متواصلة بينه وبينها بواسطة الباشا الذي أخرجه علي من مصر. فأمسك محمد عن المسير في البلاد العثمانية، وحوَّل شكيمة مقاصده نحو الديار المصرية، فجمع ما كان لديه من الجيوش وضم إليها الحاميات التي كان قد أقامها في المدن المفتتحة وسار قاصدًا مصر. لكنه لم يجسر على المسير إلى القاهرة رأسًا خوفًا من الإنكشارية والوجاقات الأخرى؛ لعلمه بما في قلوبهم من الضغينة عليه. فعرج نحو الصحراء حتى أتى الصعيد فحط رحاله هناك، واستولى على أسيوط في آخر يوم من سنة ١١٨٥ﻫ. ثم استقدم قبائل العربان وطلب محالفتهم ومحالفة بكوات الصعيد، وجاهر بعزمه على خلع علي بك وسار قاصدًا القاهرة فوصلها في أوائل سنة ١١٨٦ﻫ، فنزل بجيشه تجاه البساتين فوق مصر القديمة.

فلما علم علي بك بذلك ندِم على ما وضعه من الثقة في رجل كان له أن يعتبر من سيرته الماضية أنه على غير الإخلاص والاستقامة. فجند ٣ آلاف رجل بقيادة إسماعيل بك وأمرهم أن يمنعوا محمدًا من عبور النيل. فسار إسماعيل لكنه خاف سطوة عدوه، ووردت عليه كتب مفعمة بالمواعيد يمازجها بعض التهديد، فأخذ جانبه وضمَّ جيشه إلى جيشه، فقطع محمد بك النيل فاستقبله رجال إسماعيل بالترحاب. فاتصل ذلك بعلي فيئس من الفوز فانقطع إلى القلعة بأهله وأصدقائه ورجال دعوته، وقد عزم على المدافعة إلى آخر نسمة من حياته.

(١٧-٦) علي بك في عكا

وبعد ثلاثة أيام ورد إليه كتاب من الشيخ أحمد أحد أبناء صديقه الشيخ ضاهر أن يبرح القاهرة حالًا ويأتي إلى أبيه في عكا. فخرج علي من القلعة بمن معه وسار من جهة الجبل الأحمر طالبًا سوريا عن طريق الصحراء. وكان خروجه قبل دخول محمد بك القاهرة بيوم واحد؛ أي مساء ٩ محرم سنة ١١٨٦ﻫ، وهذه هي المرة الثالثة لخروجه منها إلى سوريا، وفي معيته عدد يسير من الجند لا يبلغ ستة آلاف معظمهم من الخَدَمة الذين لا يستطيعون الدفاع. ولم يحمل معه من المال إلا ثمانمائة ألف زر محبوب يحملها ٢٥ جملًا. ونقل معه من المصوغات والحلي ما يساوي أربعة أضعاف ذلك. وما زالوا في المسير ليلًا ونهارًا فوصلوا إلى خان يونس في حدود سوريا بعد ثلاثة أيام، فرأوا أن خمسة من الجمال الحاملة للنقود قد ذهبت فريسة بيد القبائل البدوية، وأن عددًا من جنوده فروا ومعهم يوسف الخزندار. وفي اليوم التالي دخل علي بك غزة ثم واصل السير حتى أتى عكا بعد ثمانية أيام فرحَّب به أميرها، وكانت بينهما مودة شديدة فاطمأن علي هناك. غير أن ما تكبَّده من المشاق في الأسفار مع ما أثر في نفسه من الغيظ الشديد غيَّر صحته، فلم يصل عكا إلا وهو في حالة الخطر من شدة المرض.

وفي أثناء ذلك وصل مينا عكا أسطول روسي، فلما علمت حاميته بما حل بعلي عقدوا معه معاهدة ثانية، وقدموا له كل ما يحتاج إليه من المؤن والذخائر، وكان في خدمة ذلك الأسطول فرقة من الألبانيين «الأرناءوط» مؤلَّفة من ثلاثة آلاف رجل فأمدوه بهم. فلما رأى علي بك ما كان من نجدة الروسيين مع ما يمكنه الحصول عليه من جنود الشيخ ضاهر عزَم على مناوأة أبي الذهب، لكنه لم يكن يستطيع مباشرة ذلك بنفسه لانحراف صحته. فعهد إلى علي بك الطنطاوي بعد ثلاثة أشهر أن يسير أولًا لاسترجاع المدن السورية التي دخلت في حوزة محمد أبي الذهب، فسار واستولى على صور وصيدا وقرى أخرى من سواحل سوريا كانت قد احتلتها جنود عثمانية بعد انسحاب جنود محمد أبي الذهب. ثم سار علي بنفسه مع من بقي من الجند إلى يافا وافتتحها بعد محاصرة خمسة أشهر استولى في أثنائها على غزة عنوة وعلى الرملة واللد تسليمًا. فأعاد يافا إلى حكومة الشيخ ضاهر، وجعل على اللد حسن بك الجداوي وعلى الرملة سليم بك.

(١٧-٧) محمد أبو الذهب بمصر

وفي ٩ ذي القعدة ١١٨٦ﻫ كان علي بك في يافا، فجاءته رسل من القاهرة بمهمة سرية من وجاق الإنكشارية والوجاقات الأخرى وسائر أعيان القاهرة، يعلمونه أن محمدًا أبا الذهب دخل القاهرة حالما خرج منها هو وسمي نفسه شيخ البلد، وجعل يعيث في البلاد عيثًا لم يسبقه إلى مثله أحد ممَّن تولَّى مصر قبله. فجعل بعض الضرائب ضعفين وبعضها ثلاثة أضعاف. ثم اختلق قانونًا غريبًا دعاه قانون رفع المظالم والمقصود منه بحسب الظاهر إنقاذ ملتزمي الأموال الأميرية من الإجراءات الاستبدادية التي كان يسومهم إياها الكشاف إلى ذلك العهد، واستبدالها بما يعود بالمنفعة. والحقيقة أن الضرائب ما انفكت أشد وطأة من ذي قبلُ، والإجراءات لم تزدد إلا استبدادًا، فضلًا عمَّا رافَقَ كل ذلك من الفتك بالعباد قتلًا ونهبًا.

ثم قالوا إن مصر بجملتها لما رأت ما وصلت إليه من الانحطاط، وما لحق بأهلها من المظالم التي ما أنزل الله بها من سلطان قد أنابتهم أن يبلغوا علي بك أنها بصوت واحد تلتمس رجوعه ليحكم فيها؛ لأنه هو منقذها الوحيد، وأن مدينة القاهرة مستعدة أن تفتح أبوابها لاستقبال أميرها القديم، وأن تدافع عنه الدفاع الممكن إذا حاول محمد بك أبو الذهب ما يخالف الصوت العمومي.

(١٧-٨) خروج علي بك لمحاربة أبو الذهب

فلما علم علي بكل ذلك شعر أن آماله عادت إليه، وبرح يافا للحال قاصدًا القاهرة، ولم يكن معه من الجنود إلا ألفان وخمسمائة، فاستنجد حاميات اللد والرملة، وانضم إليهم جنود الشيخ ضاهر وجنود ابنه الشيخ شلبي وصهره الشيخ كريم وحسن شيخ صور، وكان قد استأجر ثلاثة آلاف وخمسمائة من المغاربة. فكان عدد جنوده جملة ثمانية آلاف محارب.

ففي ١١ محرم سنة ١١٨٧ﻫ وصل علي بك إلى خان يونس، وفي ١٦ منه اقترب من الصالحية. وفي ١٨ منه التقى بمقدمة جيوش محمد بك أبي الذهب وعدَّتهم اثنا عشر ألف مقاتل، وبعد محاربة بضع ساعات ظهر علي بك عليهم وقد قتل عددًا غفيرًا من رجالهم. فانفتحت له أبواب الصالحية فدخلها وقد أصيب بجروح بليغة. ثم علم أن اعتماده على أحزابه في القاهرة لا يُورِثه ألا خيبة الأمل؛ لأن أبا الذهب كان قد جمع إليه كبراء البلاد ورجال حكومتها لما علم بمظاهرتهم لعلي وأقنعهم أن علي بك قد غدر الأمة وخان الوطن وأباح دماء المسلمين بمعاهداته مع الروسيين وغيرهم من الأمم النصرانية. واستخدم أبو الذهب في سبيل إقناعهم الدرهم الوضَّاح فانحازت إليه القوات العسكرية، إلا وجاق الإنكشارية فإنه ظل محافظًا على ولاء علي بك. فلما تحقَّق محمد بك أبو الذهب اجتماع الأحزاب على دعوته أمن من الاضطراب الداخلي فسار بنفسه لمحاربة علي.

أما علي فانزعج لتلك الأحوال انزعاجًا كثيرًا فضلًا عمَّا كابده من مشاقِّ الأسفار في قطع الصحراء الحارة، وزِدْ على ذلك الجروح التي أصابته في واقعة الصالحية، فأصيب بحُمى شديدة عجز معها عن ركوب جواده وقيادة جنوده. وفي ٢ محرم سنة ١١٨٧ﻫ علم بمجيء أبي الذهب، وهو على ما تقدم من المرض فلم يتردد في وجوب الدفاع. فأمر قواده فانتظمت رجاله على قلتها وتهيَّأت للدفاع، وكان على أحد جناحي الجيش علي بك الطنطاوي ومن معه من البكوات، وعلى الجناح الآخر ابن الشيخ ضاهر وصهره، فاستظهرت جنود علي في بادئ الرأي حتى قاربت الفوز التام. ثم أرسل أبو الذهب بعض جواسيسه إلى المغاربة في جيش علي يغريهم على خيانة رئيسهم، فوافقوه ووافقه غيرهم كثيرون من بكوات علي وفي جملتهم إبراهيم بك ومراد بك. وهذا الأخير اشترط أن يأخذ مقابلًا لخيانته هذه ما يخلفه عليٌّ من المتاع والنساء، وخصوصًا امرأته نفيسة، وكان علي يحبها ويحترمها؛ لما كانت عليه من الفطنة والجمال.

فلما انتشبت الحرب في الصباح التالي انحاز جميع المغاربة والبكوات الذين خانوا إلى معسكر أبي الذهب. وكانت جنود علي بك قريبة من الفوز، فلما رأت تلك الخيانة تضعضعت وفَرَّ الجند يطلبون النجاة بأنفسهم بعد أن قُتِلَ علي بك الطنطاوي والشيخ شلبي، ونجا الشيخ كريم والشيخ حسن ورضوان بك من المعركة، وساروا إلى فسطاط علي وأعلموه بما حصل وطلبوا إليه أن يمتطي فرسه ويسير برفقتهم إلى غزة حيث يلاقيهم الشيخ ضاهر بمن معه من الجند.

(١٧-٩) مقتل علي بك

أما علي بك فأبت نفسه الإصغاء لما أرادوا، فجلس بباب خيمته وقال لهم: «إني ملازم هذا الموضع لا أبرحه حتى تبرحني نفسي؛ لأن الموت هنا أفضل عندي من الفرار. أما أنتم إذا شئتم النجاة بأنفسكم فبادروا إلى الفرار قبل أن يغشاكم ما ربما لا تقوون على دفعه.» فاضطر ابن أخيه ورجاله الباقون أن يُذعِنوا لما أمر. فودعوه وحوَّلوا الأعِنَّة في طريق خان يونس قاصدين غزة، فلقوا الشيخ ضاهرًا هناك فأعلموه بما كان وبوفاة ابنه فأسف عليه كثيرًا. ومكث علي بك بعد ذهاب أصدقائه بضع ساعات ينتظر مَنِيَّتَه وبجانبه عشرة من مماليكه، وإذا بخمسين رجلًا تحت قيادة الكخيا نائب محمد أبي الذهب قد وصلوا إلى الخيمة، ودخلوها وقتلوا من كان فيها من المماليك ثم وثبوا على علي، وكان المرض مشتدًّا عليه وفيه جروح لكنه نهض بسيفه فقتل أول قادم إليه، وجرح اثنين آخرين فخَشِيَ الباقون الاقتراب منه، فأطلقوا عليه البنادق فجرحوه جروحًا بليغة في ذراعه اليمنى وفخذه. فجعل يدافع بيسراه دفاعًا شديدًا إلى أن وثب عليه الكخيا بنفسه، فدافعه علي حتى أصيب في ذراعه اليسرى وفي أماكن أخرى فسقط على الأرض وهو لا ينفك عن الدفاع، فتكاثرت عليه الرجال حتى أمسكوه حيًّا، وساروا به إلى محمد أبي الذهب وطرحوه عند قدميه فأمر بحمله إلى القاهرة فحملوه إليها، وأنزلوه في داره بدرب عبد الحق في شارع البكري وراء صندوق الدين، فلبث فيها سبعة أيام ثم توفاه الله. وقد قال بعضهم إن أبا الذهب أدخل السم في جروحه فقتله، والله أعلم.

ودفنوه بتربة أستاذه إبراهيم كخيا بجوار الإمام الشافعي. وكان لموت هذا الرجل تأثير عظيم في قلب كل من عرفه؛ حتى إن أبا الذهب نفسه لم يسعه إلا الندم داخليًّا لما فَرَطَ منه، وما أتاه من نكران الجميل وارتكاب مثل هذه الخيانة.

(١٧-١٠) مناقبه

ومن مناقب علي بك أنه كان عظيم الهيبة حتى اتفق لاناس أنهم ماتوا خوفًا من هيبته. وكانت تأخذ الرِّعدةُ بعضهم بمجرد المثول بين يديه فيأخذ هو بتلطيف رعبه فيقول له: «هون عليك.» وكان صحيح الفراسة شديد الحذق يفهم ملخص الدعوى الطويلة بين المتخاصمَيْن، ولا يحتاج في التفهيم إلى ترجمان أو من يقرأ له الصكوك والوثائق، بل يقرأها هو بنفسه، ولا يختم ورقة حتى يقرأها ويفهم فحواها. ومن مآثره البناية العظيمة بطنطا، وهي المسجد والجامع والقبة على مقام السيد البدوي والمكاتب والميضاة الكبيرة والحنفيات والمنارتان العظيمتان والسبيل المواجه للقبة والقيسارية العظيمة. وجدد أيضًا قبة الإمام الشافعي وبنايات ووكالات في بولاق مصر، ولا يزال هذا الرجل مميَّزًا عند المؤرخين بلقب الكبير، فيدعونه «علي بك الكبير».

وترى في الشكلين ١-٢٣ و١-٢٤ صورتي النقود التي ضُرِبَتْ على عهد علي بك في القاهرة. الأولى فضية وعليها الطغراء الشاهانية للسلطان مصطفى بن أحمد وتاريخ تولِّيه السلطنة سنة ١١٧١ﻫ وبشاهد عليها أيضًا من الأعلى اسم علي وتاريخ ٨٥ وهي مختصر من سنة ١١٨٥ﻫ، وتدعى هذه القطعة من المعاملة قرشًا. والثانية فضية أيضًا ويشاهد عليها الطغراء العثمانية. أما تاريخ تولية السلطان فاستُبدِل بسنة ١١٨٣ﻫ وهي السنة التي صرح بها علي بك باستقلاله ويُشاهَد عليها اسمه. وتُدعَى هذه القطعة عشرينية أي نصف قرش.
fig124
شكل ١-٢٣: نقود السلطان مصطفى بن أحمد وعلي بك.
fig125
شكل ١-٢٤: نقود السلطان مصطفى بن أحمد وعلي بك.

(١٨) سلطنة عبد الحميد الأول (من سنة ١١٧٧–١٢٠٣ﻫ/١٧٧٤–١٧٨٩م)

وفي تلك السنة تولى الخلافة العثمانية السلطان عبد الحميد الأول عوضًا من السلطان مصطفى الثالث.

وترى في الشكلين ١-٢٦ و١-٢٧ صورتي نقود ضُرِبَتْ في القاهرة في عهد السلطان مصطفى بن أحمد قبل استقلال علي بك بتاريخ ١١٧١ﻫ الأولى فضية والثانية نحاسية.
fig063
شكل ١-٢٥: عبد الحميد الأول.
fig127
شكل ١-٢٦: نقود السلطان مصطفى بن أحمد.
fig128
شكل ١-٢٧: نقود السلطان مصطفى.

وبوفاة علي بك عاد وادي النيل إلى ما كان عليه قبله تابعًا لأملاك الدولة العلية، وعادت أحكامه إلى مشايخ البلد والكشاف الذين جعلوا تلك المناصب وسيلة لاختلاس أموال الناس وحقوق الدولة. وكان علي بك قد جعل لكل هذه المظالم حدًّا وأصلح الشئون حتى عُلِّقَتِ الآمال باعتزاز مصر ورفع شأنها فلم تُبقِ المنية عليه.

نعم، إن مصر بعد وفاته عادت إلى كنف الدولة العلية لكنها بالحقيقة لم تُفِدْهَا شيئًا؛ لأنها كانت في الحالة الأولى طُعمة لرجل محب للإصلاح مخلص بمقاصده وإن كانت بمعزل عن سيادة الدولة، وأصبحت في الثانية طعمة لثلاثين رجلًا كل منهم يسعى في ابتلاعها لا يتفقون إلا على كُرْهِ الدولة التي هم تحت حمايتها. أما السلطان عبد الحميد فلم يكن يرسل إليها من الولاة إلا من كان اسمًا بلا مُسَمًّى كما كان شأنهم قبل ظهور علي. فكان الباشا من هؤلاء آلة يُدِيرُهَا البكوات كيف شاءوا، ولم يكن لديه من الأعمال إلا مخابرة القسطنطينية سرًّا بما كان يقع بين هؤلاء البكوات من الخلاف، وما كانوا يتداعون إليه من الخصام. وواجباته المهمة أن يستلم الجزية من الحكومة المصرية، ويرسلها إلى الأستانة إذا تمكن من قبضها.

(١٨-١) أبو طبق وعزل الباشوات

فكانت ولاية مصر منصبًا يستحيي العقلاء من قبوله؛ لأنهم كانوا يعتبرونها منفى استحقه الباشا أو الوزير الذي يُرسَل إليها، وكان يعلم قبل خروجه من الأستانة أنه إذا لم يكن راضيًا بما يرضاه شيخ البلد لا يلبث أن يصله منه رسالة ينقلها ناقل يقال له الأوطه باشي وفيها الأمر بعزله أمرًا لا مَرَدَّ له ولا مجال للمدافعة بعده. وكيفية ذلك أن شيخ البلد ورجاله إذا رأوا في تصرف الباشا ما يوجب الشك اجتمعوا اجتماعًا عموميًّا في الديوان، وقرروا عزله وكتبوا بذلك أمرًا يسلمونه إلى الأوطه باشي ليوصله إلى الباشا فيحمله ويسير على حمار؛ (لأن القانون لا يسمح له بركوب الخيل أو البغال) وبين يديه فرمان العزل، فإذا مر في الأسواق على هذه الصورة علم الناس أنه ساعٍ في أمر هامٍّ فيه عزل فيهرولون وراءه. ولا يزال سائرًا في عرض الطرق قائدًا لتلك الجماهير نحو القلعة. ومن واجبات أي جندي لقيه في تلك الحال أن يرافقه اتقاء ما يُخشى حدوثه عند وصوله إلى القلعة.

فإذا وصل القلعة يدخل على الباشا ثم يجثو أمامه باحترام ووقار، وعندما ينهض يطوي السجادة التي كان جاثيًا عليها، وينادي بأعلى صوته: «انزل يا باشا.» وعند طي السجادة والتلفُّظ بهذه العبارة تسقط كل حقوق ذلك الباشا، ولا يعود له أقل سلطة على الجنود التي كانت قبل بضع دقائق تنتظر إشارته. وتصير تحت أوامر الأوطه باشي، وكانوا يسمون الأوطه باشي أبا طبق؛ لأنه كان يلبس على رأسه قبعة مثل الطبق والباشا يقف ممتثلًا يسمع تلاوة الفرمان، سواء كان منطوقه بعزله أو بقتله فلا يسعه إلا الطاعة التامة. على مثل ذلك كانت معاملة باشوات مصر؛ فإنهم كانوا عرضة لأوامر العزل التي إذا لم تكُن من الأستانة كانت من مصر.

fig064
شكل ١-٢٨: أبو طبق في موكبه.

فلما مات علي بك اختلف أعداؤه في القاهرة على الاجتزاء من انتصاراتهم، فكان كل منهم يظن لنفسه الحق بالتمتع بأثمار الانتصار كغيره أو أكثر؛ فاختلفت الأحزاب من بينهم. أما من بقي من رجال علي فلم يجدوا مكانًا فيه راحة لهم، وكانوا في عكا عند الشيخ ضاهر على ما تقدم، فتقهقر أبو الذهب لأنه كان يحب الانتقام حبًّا يفوق التصديق، وقد آلى على نفسه ألا يُبقي على أحد من رجال علي.

أما الشيخ ضاهر أمير عكا فلم يعد يطيب له السكون بعد أن خسر ابنه في سبيل نصرة علي بك، فثارت في خاطره بواعث الانتقام. ولكن أبا الذهب لم يعد يستطيع صبرًا على ذلك، فاسترحم من الباب العالي أن يؤذَن له بالمسير لإخضاع سوريا ولاسيما عكا، واتهم أميرها الشيخ ضاهرًا بالعصيان وأنه ساعٍ ضد الدولة. فأجاب الباب العالي بفرمان يثبته في مشيخة البلد مع لقب باشا ورتبة والي القاهرة مكافأة لما أتاه من كسر شوكة علي وأحزابه، وأذن له أن يتتبع ذلك الشيخ العاصي. فلما وصل الفرمان إلى أبي الذهب كاد يطير من شدة الفرح، وأعد جيشًا تحت قيادته، واستخلف في مصر إسماعيل بك وعهد حكومة مدينة القاهرة إلى إبراهيم بك. وسار في جيشه إلى سوريا، ولم تنتهِ سنة ١١٨٩ﻫ حتى دخل فلسطين. وكان لشدة عجبه بما أوتيه من الألقاب والرتب وما وعده به الباب العالي من المساعدات لا يزيد إلا كِبرًا حتى جعل خيمته التي يستريح فيها من أثمن ما يُمكن وزيَّنها أبدع زينة. فمر بخان يونس فالرملة ولم يُلاقِ مقاومة. أما يافا فكان عليها الشيخ كريم صهر الشيخ ضاهر، فدافعت قليلًا ثم فُتِحَتْ عنوة فدخلها رجال أبي الذهب عنوة، وقتلوا القسم الأعظم من سكانها رجالًا ونساءً شيوخًا وأطفالًا.

فبلغت تلك الفواحش مسامع الشيخ ضاهر وهو في عكا فخاف أن يصيبه ما أصابها، ففر بعائلته وبمن هاجر إليه من المصريين ولم يترك في المدينة إلا ابنه عليًّا، ولما علم هذا باقتراب جيوش أبي الذهب أخلى القلعة وانسحب منها لاعتقاده أنه إذا حاول الدفاع إنما يحاول عبثًا. فوصلها أبو الذهب وأبوابها مفتوحة فدخلها ولم يُبْقِ عليها. وفي هذه المدينة انتهت فظائع هذا الرجل؛ لأنه بينما كان عازمًا على العود إلى مصر أصبح القوم فوجدوه ميتًا في خيمته، ولم يعرفوا القاتل رغم ما اتخذوه من الاحتياطات، وما كان لديهم من القرائن الكثيرة. فقال بعضهم إنه أصيب بنقطة وهي داء السكتة، وقال آخرون إنه مات مقتولًا بيد عدو فاتك، والله أعلم.

وبعد موت أبي الذهب عادت الجيوش المصرية تحت قيادة مراد بك إلى مصر ومعهم جثة رئيسهم، فدفنوها بالقرب من مدفن علي بك. ومات أبو الذهب بعد موت علي بك بسنتين ولقب «بالخائن».

(١٨-٢) مشيخة إسماعيل بك

وتولى مشيخة البلد بعده إسماعيل بك ولم يبقَ غيره من رجال إبراهيم كخيا. وهو من الذين نالوا البكوية بواسطة علي بك، وكان لا يزال على دعوته وإنما انضم إلى أبي الذهب خوفًا. وقلبه لم يفتُر لاهجًا بالمدافعة عن رئيسه؛ لأنه لم يأتِ نحوه إلا ما يستدعي نصرته، فضلًا عن أنهما من طائفة واحدة.

فلما استلم زمام الأحكام نسج على منوال علي بك فبعث إلى رجال حزبه الذين كانوا لا يزالون في سوريا، فاستقدمهم إليه وأقرَّهم في أماكنهم وطيَّب خاطرهم استعدادًا لمقاومة مراد وإبراهيم مناظريه على مشيخة البلد. وكانا قد اتحدا على خلع إسماعيل بك مطلبًا أولًا وطرد حسن بك الجداوي صديق إسماعيل بك، فلم يفوزا، لكنهما تمكَّنَا من احتلال القلعة، فاتحد إسماعيل بك وحسن بك وأخرجاهما منها ففرا إلى الصعيد. ثم جمعا حزبًا كبيرًا واستعدَّا لقتال إسماعيل فبعث جيوشًا لتخمد أنفاسهما فعادت على أعقابها وفاز الأميران. فاضطر إسماعيل بك إلى مغادرة القطر المصري فيمم الأستانة. أما حسن بك فقُبِضَ عليه ونُفِيَ إلى جدة بحرًا فاحتال في أثناء الطريق فأرضى رئيس المركب الذي نقله فأنزله في القصير على سواحل القلزم، ومن هناك قطع الصحراء غربًا حتى أتى الصعيد فاستكن في أعلاه.

(١٨-٣) مراد بك وإبراهيم بك

فلما خلا الجو لمراد بك وإبراهيم بك اقتسما الأحكام، فتعين الأول أميرًا للحج والثاني شيخًا للبلد، ورقَّيَا كثيرين من مماليكهما إلى رتبة البكوية وقلداهم مصالح البلاد، وكانت الأحكام في عهدهما كما كانت في أيام أسلافهما من المظالم والاستبداد. وبلغهما بعد مدة أن إسماعيل بك عاد من الأستانة وجاء حلوان فبعثا إليه فرقة من المماليك فتكت بكل من كان معه من عائلته ورجاله. أما هو فتمكن من النجاة باختبائه في بعض الكهوف ثلاثة أيام. ثم خرج طالبًا الشلال، واجتمع هناك بصديقه حسن بك الجداوي، وسارا معًا وأويا إلى الجنادل في السودان.

فاختلف مراد بك وإبراهيم بك على إرسال حملة للقبض على الهاربين، فارتأى أحدهما وجوب التجنيد وخالفه الآخر؛ حتى آل الأمر إلى الخصام وخروج إبراهيم بك مغتاظًا من القاهرة إلى المنيا في الصعيد. فأرسل إليه مراد بك بعض الاختيارية يُسَكِّنُونَ من غضبه فأرضوه وأعادوه إلى مركزه في القاهرة. إلا أن العلاقات الودية ظلت متكدِّرة بين الاثنين، ولم تمضِ مدة حتى خرج مراد بك إلى المنيا غيظًا من زميله لأنه اتحد مع خمسة من بيت عدوهما القديم، وهم البكوات عثمان الشرقاوي وأيوب الصغير وسليمان وإبراهيم الصغير ومصطفى الصغير.

ولبث مراد بك بعيدًا عن القاهرة خمسة أشهر وإبراهيم يظن أنه لا يلبث أن يسكن غضبه ويعود إليه، فلما استبطأه أرسل إليه الاختيارية كما فعل ذاك معه. فأبى مراد بك ورد الاختيارية خائبين. ثم جنَّد جندًا من أتباعه المماليك وسار على الضفة الغربية للنيل حتى أتى الجيزة مقابل مصر القديمة وعسكر هناك. وهَمَّ بقطع النيل، فعلم إبراهيم بك بذلك، فجند في الجهة المقابلة على البر الشرقي ليمنعه من المرور، ولبث الجانبان على تلك الحال ثمانية عشر يومًا لا يتحاربان إلا على سبيل المناوشة بإطلاق مدفع ومدفعين ولم يقتل إلا رجل أو فرس. فمَلَّ مراد بك من تلك الحال فعاد إلى المينا.

fig130
شكل ١-٢٩: مراد بك.

أما إبراهيم بك فكان كثير الرغبة في مصالحة زميله، فأنفذ إليه بعد خمسة أشهر من خروجه وفدًا ثانيًا من كبار البلاد ومشايخها يطلبون إليه الرجوع إلى القاهرة، فوافقهم لكنه اشترط عليهم أن يُسلموه الخمسة البكوات المتقدم ذكرهم حال وصوله إلى القاهرة. فقبلوا بذلك الشرط فنزل معهم فعلم أولئك البكوات سرًّا من إبراهيم بك بما اشترطه مراد بك، فخرجوا من القاهرة نحو القليوبية على نية الشخوص إلى الصعيد عن طريق الأهرام. فاتصل ذلك بمراد بك فجعل عند الجسر الأسود قرب الأهرام عصابة من العربان تترصد مرورهم، ولم يستطع صبرًا على ذلك فقطع النيل ببعض رجاله فالتقى بالمنهزمين عند رأس الخليج فتلاحموا، فجُرِحَ مراد بك ونجا أولئك فلاقاهم العربان عند الجسر الأسود فأسروهم وجاءوا بهم إلى مراد بك، فنفاهم إلى المنصورة وفرسكور ودمياط تفريقًا لكلمتهم، وبعد مدة يسيرة عادوا واجتمعوا في آخر سنة ١١٩٧، واتفقوا أن يفروا إلى الصعيد ويجمعوا إليهم عصابة يقاومون بها عدوهم، ولم يباشروا ذلك حتى توسط شيخ جامع الأزهر في أمرهم وحصل لهم العفو من مراد بك، فصفح عنهم وأعادهم إلى القاهرة بكل إكرام وأعاد إليهم رتبهم وامتيازاتهم.

(١٨-٤) حملة عثمانية لحرب المماليك

مضى بعد ذلك ثلاث سنوات على إبراهيم بك ومراد بك وهما على وفاق وسكينة يقتسمان إيراد البلاد بينهما بالسواء، لا يُقدِّمون عنه حسابًا أو إذا قدموه كان حبرًا على ورق. فوشى بهما محمد باشا والي مصر إذ ذاك إلى السلطان وبما كانا فيه من الاستئثار بمالية البلاد. فأمر السلطان عبد الحميد سنة ١١٩٩ﻫ أن يرسل إلى مصر جيش لإيقافهما عند حدهما. فسار الجيش في عمارة بقيادة حسن قبطان باشا فوصلت الإسكندرية في ٢٥ شعبان سنة ١٢٠٠ﻫ، فخاف البكوات خوفًا شديدًا واجتمعوا اجتماعًا عامًّا في الديوان وتباحثوا في ما يجب إجراؤه. فكثر اللغط واختلفت المقاصد والآراء فلم يقروا على شيء، وأخيرًا ارتأوا طلب توسط محمد باشا، ولما عرضوا عليه رأيهم رفض. فطلبوا من الشيخ أحمد العريشي شيخ الجامع الأزهر والشيخ محمد المهدي — الذي تعيَّن في زمن الفرنساوية كاتم سر الديوان الخصوصي كما سيجيء — وغيرهما أن يسيروا إلى رشيد، ويستعطفوا القبطان باشا.

وترى في شكل ١-٣٠ صورة ختم الشيخ المهدي وتوقيعه الرسمي وفيه لقبه كما يكتبه بيده.
fig131
شكل ١-٣٠: ختم محمد المهدي وإمضاؤه.

فركبوا من بولاق في زورق فاخر وما زالوا حتى بلغوا رشيدًا، فلاقاهم القبطان باشا بما يليق من الاحترام. أما هم فلعلمهم أن الأميرين إبراهيم ومرادًا لا يثبتان على رأي خافوا إذا طلبوا لهما العفو وحصلوا عليه أن ينكث ذانك فتكون الملامة عليهم. فقال الشيخ العروسي: «يا مولانا أن رعية مصر ضعفاء وبيوت الأمراء مختلطة ببيوت الناس.»

فقال الباشا: «لا تخشوا بأسًا فإن أول ما أوصاني به مولانا السلطان هو قوله: «إن الرعية وديعة الله عندي وأنا أستودعك ما أودعنيه الله تعالى».»

فدعوا له بطول العمر ثم قال لهم: «كيف ترضون أن يملككم مملوكان كافران يسومونكم سوء العذاب لماذا لا تخرجونهما من بلادكم؟»

فأجابه أحدهم بقوله: «يا سلطانم، هؤلاء عصبة شديدو البأس لا نقوى على دفعهم.» فطيب خاطرهم ووعدهم بالحماية. وبالحقيقة إن هذا الوقد تصرف بالحكمة؛ لأنهم لم يكادوا يخرجون من حضرة القبطان حتى سمعوا بقدوم مراد بك ومعه عشرة من البكوات وبعض الكشاف والمماليك. ثم شاع أنهم نزلوا في الرحمانية عند منشأ الترعة المحمودية الإسكندرانية. وسبب ذلك أن مراد بك بعدما أرسل الوفد خطر له الدفاع بالسيف، فجمع إليه ذوي شوراه وفاوضهم فأقروا على الدفاع، وأن يسير مراد لذلك ويبقى إبراهيم للمحافظة على القاهرة.

فسار مراد بمن معه ونزلوا في الرحمانية كما قدَّمنا، فلاقتهم الجنود العثمانية وجرت بينهما واقعة لم تطل إلا يسيرًا، فانذعرت جنود المماليك من قنابل العثمانيين التي كانت تتدافع بين حوافر خيلهم فتشتت شملهم وفاز العثمانيون. ففر مراد بك ومن معه حتى أَتَوُا القاهرة فاجتمعوا بإبراهيم بك وخرجوا جميعًا إلى الصعيد ومكثوا ينتظرون هجمات العثمانيين. فلما رأى محمد باشا الوالي خُلُوَّ القاهرة من المماليك جمع إليه الوجاقات، ونزل بهم من القلعة لاستقبال الجنود العثمانية.

ففي ٥ شوال سنة ١٢٠٠ﻫ دخل حسن باشا القاهرة بعد أن أخربت جيوشه كل ما أمروا به من المدن والقرى ونهبوها، ولولاه لم يبقوا على شيء أصلًا. لكنه كان يمنعهم من ذلك بالقوة وقتل منهم كثيرين عبرة للباقين، فكفت الأيدي فسكنت الناس، فلما وصل القاهرة نزل في بيت إبراهيم بك عند قصر العيني على النيل. ثم عرض أمتعة البكوات المنهزمين للمزاد العمومي وفي جملتها حريمهم وأولادهم ومماليكهم، فاسترحم المشايخ أن يخرج الأولاد والنساء الحوامل من معرض البيع؛ لأن ذلك فضلًا عن مخالفته للعواطف الإنسانية فهو مُغضِب لله.

fig065
شكل ١-٣١: الشيخ أبو الأنوار السادات.

فانتهرهم القبطان باشا قائلًا: «سأكتب إلى الأستانة بأنكم تعارضون في بيع أمتعة أعداء جلالة السلطان.» فأجابه الشيخ السادات قائلًا: «قد أُرسِلت إلينا لمعاقبة شخصين مجرمين، وليس لهتك شرائعنا والطعن في عاداتنا فاكتب إلى الأستانة ما شئت.»

فعند ذلك أمر الباشا باستثناء المحظيات الحوامل من البيع. وبعد أن بيعت سائر الأمتعة عكف حسن باشا على إصلاح الإدارة، فأصلحها على ما يوافق الإرادة الشاهانية، وكان قد استقدم إسماعيل بك وحسن بك الجداوي من الصعيد، فأرسلهما في جيش بقيادة عابدين باشا ودرويش باشا قائدي الحملة العثمانية التي جاءت مصر عن طريق البر (فضلًا عن العمارة البحرية المتقدم ذكرها)، وسار في تلك الحملة أيضًا نحو ألف مقاتل من رجال الشام تحت قيادة أمير كبير من أمراء شين أغلي، فاجتمعت هذه الحملة وسارت نحو الصعيد لمحاربة مراد بك ورجاله.

فحصلت هناك واقعة عظيمة شفت عن عدة قتلى من الجانبين، وانهزم مراد بك ورجاله إلى الشلالات ورجعت الجنود العثمانية ظافرة إلى القاهرة. ثم جاءت الأوامر الشاهانية بعزل محمد باشا وتولية عابدين باشا مكانه.

وهنا تنتهي مهمة حسن قبطان باشا فاستُدعِي إلى الأستانة بسبب الحرب مع روسيا. ولكن مصر لم تنجُ من البكوات، وكانوا لا يزالون في مصر العليا كما رأيت. والمسيحيون يشكون من معاملة حسن باشا بأنه أخذ متاعهم، وباعه على مشهد من الناس فضلًا عن الإهانة التي سامهم إياها، وعلى الخصوص المعلم إبراهيم الجوهري أمين احتساب مصر؛ فإنهم قبضوا على امرأته وأجبروها أن تخبرهم بمخابئ زوجها من النقود فأخبرتهم فاستخرجوها وأخذوها. ولما برح حسن باشا القاهرة أقام عليها إسماعيل بك شيخ البلد فعهد هذا إلى صديقه القديم حسن بك الجداوي إمارة الحج، واتفقا معًا على اقتسام الإيراد.

وفي سنة ١٢٠٣ﻫ توفي السلطان عبد الحميد الأول.

fig133
شكل ١-٣٢: نقود السلطان عبد الحميد الأول.
fig134
شكل ١-٣٣: نقود السلطان عبد الحميد الأول.
وترى في الشكلين ١-٣٢ و١-٣٣ صورتي النقود الذهبية التي ضُرِبَت على عهد السلطان عبد الحميد الأول بن أحمد في القاهرة بتاريخ ١١٨٧ﻫ الأولى تدعى نصف زر محبوب والثانية فندقلي.

(١٩) سلطنة سليم الثالث (من سنة ١٢٠٣–١٢١٣ﻫ/١٧٨١–١٧٩٨م)

فبويع السلطان سليم الثالث بن مصطفى، فأقر إسماعيل بك في مركزه فتعاطى الأحكام بدراية وحكمة إلى سنة ١٢٠٥ﻫ، وفي هذه السنة طرأ على الديار المصرية، ولا سيما القاهرة وباء شديد الوطأة لم تقاس مثله قبله؛ حتى بلغ عدد الموتى به نحو الألف في اليوم بالقاهرة وحدها، وتقلب على حكومتها في يوم واحد ثلاثة حكام؛ وسبب ذلك أن إسماعيل بك أصيب بالوباء فأقيم آخر مكانه فآخر حتى فني كل من كان من بيت إسماعيل بك إلا واحدًا يدعى عثمان بك الطبل. ولا يزال هذا الوباء مشهورًا بفتكه ويعرف بطاعون إسماعيل. فتولى عثمان بك الطبل المذكور مشيخة البلد ولم يكن قادرًا على إدارة الأعمال التي عهدت إليه، فاستدعى إبراهيم بك ومراد بك فدخلا القاهرة في ٢١ ذي القعدة من تلك السنة، ففر حسن بك الجداوي إلى مصر العليا قانطًا.

fig066
شكل ١-٣٤: السلطان سليم الثالث.

فاستلم إبراهيم ومراد أَزِمَّةَ الأحكام وجعلا يعيشان فيها، وكانا يتناوبان مشيخة البلد وإمارة الحج سنويًّا بعد أن أفنيا كل من كان على غير دعوتهما فصفا الجو لهما. أما قلباهما فكانا لا يخلوان من الضغائن المتبادَلة لما طبع عليه كل منهما من حب الأثرة، وقد اختلفا في الطباع والمناقب: كان مراد بك شديد البطش مقدامًا لا يهاب الموت، وكان إبراهيم بك أكبر سنًّا وأكثر اختبارًا، رَبعًا ضخم القامة حسن الطلعة حاد البصر، وكان يتربص لمراد محاذرًا بطشه؛ لئلا يطلبه للنزال، ولولا ذلك لم يرض معه بالاجتزاء من الدخل اجتزاء سويًّا. وكان لا يعارضه في ما يأتيه من الاستبداد ووضع الضرائب وسلب أموال الناس؛ لأنه شريكه في الأرباح الناتجة من ذلك. وكان في إبراهيم رياء يُظهر غير ما يضمر إذا استصرخ وعد مع العزم على الأخلاف. وكان جبانًا فإذا أراد أمرًا لا يتظاهر به وإنما يسعى إليه بالدسائس والمكائد.

أما مراد بك فلم يكن يعرف المكر وإنما كان يسعى في أغراضه بالقوة والحزم، وكان طويل القامة عضلي البنية شديد البأس، يقطع عنق الثور بضربة من سيفه، وعلى وجهه ملامح الأسود، فإذا غضب يهابه ويخاف منه كل من يراه حتى أَحَبُّ أصدقائه (انظر شكل ١-٢٩). وكان كريم النفس لا يبيت على غيظ، حر الضمير لا ينكر الحق ولو كان عليه، مخلصًا لأصحابه مقيمًا على قوله. وكان طمعه بمقدار سخائه وحبه لذاته بمقدار حرية مباديه. وكان سريع الغضب شديده لا يراعي في حال غضبه أمرًا من الأمور، وربما فتك بمصلحة نفسه أو أضر بشخصه.
fig136
شكل ١-٣٥: ختم مراد بك وختم إبراهيم بك.
وترى في شكل ١-٣٥ صورة كل من ختمي مراد بك وإبراهيم بك محفورة على شكل جميل.
وأَلَمَّ بالبلاد بعد عود هذين الأميرين إلى مصر جوع هائل ويقال إنه حصل من كثرة ما ضبطاه من الحبوب في مصر العليا طمعًا بالكسب. ثم ألغيا النظامات التي وضعها حسن باشا قبطان وأبدلاها بما يوافق مطامعهما الشخصية. فكثرت تعديات مماليكهما وعلى الخصوص تعديات أحدهم محمد الألفي٤ فثار الأهلون ثورة عامة لم يسعهما معها إلا توقيف تلك الأجراءات وقتيًّا، فخمدت الثورة فعادا إلى ما كانا عليه فعاد الناس إلى الاضطراب، وكسدت سوق التجارة لقلة الأمنية.

(١٩-١) نسخة قديمة من القرآن

يُحكى أن مراد بك أظهر يومًا أنه عازم على تجديد الملابس والأمتعة العسكرية، وطلب ما يقوم بنفقاتها ففرض على الإسرائيليين مبلغًا كبيرًا أعانة لهذا المشروع فاجتمع رؤساؤهم وتخابروا في ماذا يصنعون لينجوا من هذه الضريبة، فأقروا على أن يُنفذوا إليه اثنين من كبرائهم يسعيان في ما ينجيهم من هذه الضريبة، فسارا ولما مثلا بين يدي مراد بك قالا له: «أيها الأمير إننا فقراء ولو بعنا ممتلكاتنا ونساءنا وأولادنا وأنفسنا لا نجمع عشر ما تطلبه مِنَّا. فإذا أعفيتنا من هذه الضريبة التي يستحيل علينا دفعها نطلعك على مخبأة تكفيك مؤنة هذه المطالب، وهذه المخبأة لا يعلم بها أحد سوانا، وقد تنوقل هذا السر في عائلتنا حتى وصل إلينا ونحن نوصله لأولادنا عندما تحضرنا الوفاة.»

فلما سمع كلمة «مخبأة» فتح أذنيه وقاطعهما قائلًا: «هَلُمَّ بنا لنرى تلك المخبأة؛ فإني إذا رأيتكم صادقين أعفيكم وطائفتكم من كل ضريبة. هلم بنا إلى المخبأة أين هي؟» فأجابا: «إن هذه المخبأة أيها الأمير في جامع عمرو بن العاص في مصر القديمة جعلها ذلك الفاتح هناك في صندوق من حديد في دهليز لا يعرف مقره إلا نحن.»

فتأكد مراد بك أنهما يتكلمان الصدق فصرفهما. ثم سار في اليوم التالي مظهرًا للصيد في البرية فمر بجامع عمرو، فدخله كأنه يريد الصلاة ثم نظر إلى الجامع، فإذا به قد تداعت أركانه فالتفت إلى شيخه قائلًا: «بما أن الله قد أدخلني هذا المسجد المبارك وجب عليَّ أن أسعى في إصلاحه؛ لكي يذكر اسمي في الصلاة مع اسم مؤسسه الفاتح عمرو بن العاص، وغدًا — إن شاء الله — أرسل إليكم الفعلة يباشرون العمل.»

وفي اليوم التالي أرسل الفَعَلة بمراقبة أحد ثقاته، وبدلًا من أن يبدأوا بهدم القسم المتساقط من الجامع بدأوا بالقسم القائم، وبعد بضع ساعات جاء مراد بك بنفسه فرآهم قد وصلوا إلى دهليز فيه صندوق من الحديد، فتحقق ما قاله له الإسرائيليان وكانا بين الجماهير، فأمر فأخرج الصندوق ثم أمر بفتحه فإذا هو ملآن رقوقًا عليها آيات بالقلم الكوفين ثم علموا بذلك أنه القرآن الشريف.

fig137
شكل ١-٣٦: كلمات من فاتحة القرآن الشريف.
وترى في شكل ١-٣٦ رسم كلمات من فاتحة القرآن مثالًا لنوع كتابته الكوفية. وكان يظن أنه كتب في أيام عمرو بن العاص.

فلما رأى الإسرائيليان ذلك فرا من بين الجماهير. أما مراد فاستشاط غيظًا ولما عاد إلى القاهرة ضاعف الضريبة على الإسرائيليين، وأصر إلا أن يدفعوها حالًا، واستعمل الكرباج لحثهم على ذلك. أما تلك الرقوق الثمينة فأُلقيت في الدهليز بغير اعتناء وتركت هناك عرضة للشمس والماء، ففسد بعضها ولما كانت الحملة الفرنساوية التقط ما بقي منها المسيو مارسل مدير مطبوعات تلك الحملة، وحفظها عنده في متحفه الخصوصي. وفي المكتبة الخديوية نسخة من القرآن يقال إنها وُجِدَتْ في جامع عمرو فلا يبعد أن تكون هي التي التقطها مارسل. وهي من أقدم نسخ القرآن الموجودة في العالم اليوم، والغالب أنها كُتِبَتْ في أوائل القرن الثاني للهجرة.

وعاد مراد بك ورفيقه إلى ما كانا عليه من اختلاس أموال الأهلين وأموال الأجانب بالضرائب الفاحشة. وضربا على التجار الأجانب في الإسكندرية والقاهرة ورشيد ضرائب ما أنزل الله بها من سلطان، فرفعوا شكواهم إلى قناصلهم فلم تكن النتيجة إلا زيادة الاضطهاد. أما توسط الباشا في مثل هذه الأمور فكان عديم الفائدة على الإطلاق، فرفع المتظلمون شكواهم إلى الأستانة فكان جوابهم الصمت، ولم يزدد مراد بك إلا عتوًّا وعسفًا، ولم يكن يبالي بما يقوله القائلون أو يتظلم منه المتظلمون من سائر ساكني القطر. كل ذلك جرى على عهد السلطان سليم بن مصطفى وهو من أكثر السلاطين رغبة في الإصلاح ولكنه غُلِبَ على أمره.

وترى في الشكلين ١-٣٧ و١-٣٨ صور نقود السلطان سليم مضروبة بتاريخ سنة ١٢٠٣ﻫ.
fig138
شكل ١-٣٧: نقود السلطان سليم بن مصطفى.
fig139
شكل ١-٣٨: نقود السلطان سليم بن مصطفى.
١  هو لقب فرقة من الجنود العثمانية يومئذٍ، رئيسها يعرف بالبستانجي باشي وهو من أعظم وزراء الدولة.
٢  ويكتب أيضًا كتخدا، وكان لكل وجاق كخيا وفي عهدته ملاحظة شرطة ذلك الوجاق وقضاياه.
٣  يقصدون بالخط الشريف الأوامر الصادرة من جلالة السلطان رأسًا.
٤  سمي بهذا الاسم لأنه بيع بألف دينار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤