ليس الانتحال مقصورًا على العرب١

قال الدكتور طه حسين تحت هذا العنوان ما مُلخصه:

«يجب أنْ يتعودَ الباحث درس الأمم القديمة التي قُدِّر لها أن تقوم بشيء من جلائل الأعمال، وما اعترض حياتها من الصعاب؛ ليفهم تاريخ الأمة العربية على وجهه، ويرد كل شيء إلى أصله.٢
والذين كتبوا في تاريخ هذه الأمة إنَّما نظروا إليها كأنَّها أمَّةٌ فذةٌ لم تعرف أحدًا ولم يعرفها أحدٌ، لم تشبه أحدًا ولم يشبهها أحدٌ، لم تؤثِّر في أحد ولم يؤثر فيها أحدٌ، قبل قيام الحضارة العربية وانبساط سلطانها على العالم القديم.٣

والحق أنَّهم لو درسوا تاريخ هذه الأمم القديمة وقارَنوا بينه وبين تاريخ العرب لتغيَّر رأيهم في الأمة العربية، ولتغيَّر بذلك تاريخ العرب أنفسهم.

لقد كان شأن الأمة العربية كشأن اليونان والرومان؛ تحضَّرت كما تحضروا بعد بداوةٍ، وتأثرت كما تأثروا بصروفٍ سياسيةٍ مختلفةٍ، وتجاوزت حدودَها الطبيعية كما تجاوزوا، وتركت كما تركوا تراثًا قيِّمًا خالدًا فيه أدبٌ وعلمٌ ودينٌ.٤

وفي الحق أنَّ التفكُّر الهادئ في حياة هذه الأمم الثلاث ينتهي بنا إلى نتائج متشابهة إن لم نقل متَّحِدَة، وقد أثرت فيه مؤثراتٌ واحدةٌ أو متقاربةٌ، فانتهت إلى نتائج واحدة أو متقاربة.

نريد من هذا أنْ نقول: إنَّ هذه الظاهرة الأدبية التي نريد أنْ ندرسها في هذا الكتاب، والتي يجزع لها أنصار القديم جَزَعًا شديدًا، وهي انتحال الشعر ليست مقصورةً على الأمة العربية، وإنَّما تتجاوزها إلى غيرها من الأمم القديمة، ولا سيما اليونانية والرومانية، وقد انخدع الناس بما حُمِلَ على قدمائها من الشعر حتى كان العصر الحديث واستطاع النقاد أنْ يردوا الأشياء إلى أصولها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا،٥ ومنشأ هذه الحركة النقدية إنَّما هو تأثُّر الباحثين بمذهب ديكارت الفلسفي، وانتشار العلم الغربيِّ في مصر سيقضي بأن يصبح عقلنا غربيًّا وأن ندرس آداب العرب وتاريخهم متأثِّرين بمنهج ديكارت.٦
ولقد أحب أن تُلِمَّ إلمامًا قليلًا بأي كتاب من الكتب الكثيرة التي تُنشر الآن في أوروبا في تاريخ الآداب اليونانية أو اللاتينية، وأن تُسائل نفسك بعد هذا الإلمام: ماذا بقي مما كان يعتقده القدماء في تاريخ الآداب عند اليونان والرومان؟ ولكنك لا تكاد تجد شيئًا من الفرق بين ما كان يتحدث به ابن إسحاق ويرويه الطبري٧ من تاريخ العرب وآدابهم، وما يكتبه المؤرخون والأدباء عن العرب في هذا العصر؛ ذلك لأنَّ الكثرة من هؤلاء المؤرخين والأدباء لم تتأثر بعد بهذا المنهج الحديث ولم تستطع بعدُ أن تُؤمن بشخصيتها، وأنْ تخلِّص هذه الشخصية من الأوهام والأساطير.
وإذا كان قد قُدِّر لهذا الكتاب ألا يُرضي الكثرة من هؤلاء الكُتَّاب والمؤرخين فنحن واثقون بأنَّ ذلك لن يقلِّل من تأثيره في هذا الجيل الناشئ؛ فالمستقبل لمنهج ديكارت لا لمناهج القدماء.»٨

رأينا في هذا الكلام

يقول الدكتور طه حسين: «إنَّ الذين كتبوا في تاريخ العرب إنَّما نظروا إليها كأنَّها أمة فَذَّةٌ لم تعرف أحدًا ولم يعرفها أحدٌ، والحقيقة هو أنَّ الأمة العربية كسائر الأمم القديمة تأثرت كما تأثروا بصروف سياسية مختلفة، وتجاوزت حدودها الطبيعية كما تجاوزوا …» إلخ.

وإنَّا لا ندري هل يقصد الدكتور — بهذا القول — الذين تكلموا في تاريخ العرب قبل الإسلام أو بعده. فأما تاريخها بعد الإسلام فكلُّ الذين كتبوا فيه لم ينظروا إليها كأمة فذة، لم تعرف أحدًا ولم يعرفها أحدٌ، بل أجمعوا بأنَّها تحضَّرت بعد بداوة، وتأثرت بالمؤثِّرات المختلفة، وأثَّرت في غيرها، وتجاوزت حدودها الطبيعية ففتحت سورية وشمال أفريقيا وفارسَ وما وراء النهر إلى حدود الصين، وفتحت من أوروبا إسبانيا والبرتغال وجزءًا من فرنسا إلى نهر اللُّوار، وأفاضوا فيما تأثرت به من العوامل السياسية والاجتماعية والعلمية، وفيما أحدثته من الآثار في الأمم ممَّا يملأ أسفارًا ضخمة.

وإنْ كان يقصد الدكتور الذين تكلَّموا في تاريخ العرب قبل الإسلام؛ فإنَّ مُؤرِّخي العرب أنفسهم ذكروا عن تحضُّرها ومدنيتها أمورًا تكاد تكون خيالية؛ حتى قالوا: إنَّ إرم ذات العماد كانت مبنيَّة بالذهب والفضة، ولمدينتها سُورٌ مرصعٌ بصفائح الذهب … إلخ إلخ.

وذكروا عن مملكة تدمر العربية أنَّ سُلطانها امتد في عهد ملكتها الزَّبَّاء إلى مصر والشام والعراق وما بين النهرين وآسيا الصغرى إلى أنقرة.

وذكروا أنَّ سعدًا أبا كرب ملك اليمن غزا آذربيجان وهزم الترك والروم والفرس، وجاز الصين وغنِم منها مغانم شتى، وضرب ابنُه يعفُرُ الجزية على القسطنطينية، ثم سار إلى روميَّة وحاصرها.

وقال ابن خلدون٩ عن جهينة وبَلِيٍّ — من بطون بني قُضاعة: إنَّ منازلهم كانت بين يَنْبُع وَيَثْرِب ومصر وعلى شواطئ البحر الأحمر، وإنَّهم فتحوا مصر وبلاد الحبشة والنوبة، ومكثوا في هذه البلاد أجيالًا … إلخ إلخ.

ولو أردنا أنْ نُسرد ما كتبه مؤرخو العرب في هذا الصدد لملأنا منه صُحُفًا، فالذين كتبوا في تاريخ الأمة العربية قديمًا وحديثًا عن الجاهلية والإسلام لم ينظروا إليها كأنَّها أمة فذةٌ لم تعرف أحدًا ولم يعرفها أحدٌ، بل نظروا إليها نظرَهم إلى كل أمة تحضَّرت بعد بداوة واختلطت بالأمم وأثَّرت فيهم وأثَّروا فيها.

يقول الدكتور طه حسين: «وانتشار العِلْم الغربي في مصر سيقضي بأنْ يصبح عقلنا غريبًا وأن ندرس تاريخَ العرب وآدابهم متأثرين بمنهج ديكارت.»

نقول: إنَّنا لا نظن أنَّه يُوجد عقلٌ شرقيُّ وعقل غربيٌّ، وإنَّما نعتقد أنَّه يوجد عِلْم وجهلٌ، وهذا العقل الغربي حينما كان الجهل مخيِّمًا على أوروبا لم يُغنِ عن أهلها شيئًا. فكانت الشعوب تُباع مع أراضيها، وكان كلُّ مجتمع منها منقسمًا إلى طبقات بعضُها يستغل البعض الآخر، ويسخِّره لشهواته، وكان كلُّ من يَتَجَارَى على البحث في شيء من العلم والفلسفة بل على طلب الفهم في الدِّين يُلقى في تنورٍ مسجورٍ. وكان العقل الشرقي إذ ذاك يكشف المساتير للباحثين، وينير الغياهب للسالكين، ويبني العلم والفلسفة والسياسة على أساسٍ متين، ويقيم أركان العدل والمساواة والحرية بين الناس أجمعين.

فالعقل لا شرقيٌّ ولا غربيٌّ، وإنَّما هو قوةٌ إنْ تولاها العلم أداها إلى عِلِّيّين، وإن قادها الجهل ساقها إلى أسفل سافلين.

١  شغل مضمون هذا العنوان في كتاب الدكتور طه حسين من ص٤٢ حتى ص٤٦.
٢  ينظر: في الشعر الجاهلي ص٤٢.
٣  السابق نفسه.
٤  السابق ص٤٣.
٥  السابق ص٤٤.
٦  السابق ص٤٥.
٧  محمد بن جرير بن يزيد [٢٢٤–٣١٠ﻫ]. الأعلام للزركلي ج٦ ص٦٩.
٨  ينظر: في الشعر الجاهلي ص٤٥، ٤٦.
٩  ينظر: تاريخ ابن خلدون ط قصور الثقافة، مصر، سلسلة الذخائر، مصورة عن بولاق ١٢٨٤ﻫ، عدد١٥٤، ج٢ ص٢٤٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤