الفصل السادس

المداليون١

لما باعني سيدي في السوق كما ذكرت في الفصل الماضي، اشتراني رجل وامرأة لهما بنت عمرها اثنا عشر عامًا، وهي دائمًا متألمة ومتضجرة، كانت تعيش وحدها في الخلاء لأنها لا تجد أحبابًا في سنها، وأبوها لا يهتم بها كثيرًا، وأمها التي تحبها لم تكن تحس بألمها من أنها لا تجد لها حبيبًا من الناس ولا من الحيوان.

ونظرًا لأن الطبيب كان وصف لها شيئًا من اللهو والرياضة، فكرت في أن النزهة على ظهر حمار تكفي للهو والتسلية، وكان اسم سيدتي الصغيرة هذه «باولين»، وهي دائمًا كئيبة وغالبًا مريضة مع أنها هادئة وطيبة وجميلة.

كانت تركب عليَّ كل يوم، فأمشي بها في الطرق المزهرة وحول الحدائق الصغيرة التي أعرفها. وفي أول الأمر كان خادم أو مربية ترافقها معي، ولكنهم لما رأوا أنني طيب أحسن الصحبة وأجيد العناية بها تركوها لي وحدي، وكانت تسميني «كديشون» فبقي لي هذا الاسم.

وسمعت والدها يقول لها: اذهبي مع كديشون، فالذهاب مع حمار كهذا لا خطر فيه، فإن له من العقل ما يشبه عقل الإنسان، وإنه دائمًا يعرف كيف يعود بك إلى المنزل.

ولذلك كنا نخرج دائمًا معًا، أنا وهي، فإذا لاحظت أنها تعبت من المشي كنت أقف بجانب رصيف مرتفع أو أنزل في حفرة صغيرة لكي تستطيع بسهولة أن تصعد على ظهري، ووصلت بها مرة إلى شجرة بندق مثمرة، وتأخرت أنا لكي أترك لها الفرصة لتجمع منها ما تشتهي. وكانت هي تحبني كثيرًا وتعتني بي وتلاطفني.

وإذا كان الجو رديئًا لا يحسن فيه الخروج، فإنها تجيء عندي في الإصطبل وتقدم إليَّ خبزًا وحشيشًا أخضر وأوراق خضار وكرنبًا، ثم تبقى معي وتخاطبني وهي تظن أنني لا أفهم كلامها، وتحدثني بما تشكو منه، ثم تبكي أحيانًا وتقول: «آهٍ يا كديشون الصغير المسكين، إنك حمار، ولا تستطيع أن تفهم كلامي، وأنت مع ذلك حبيبي الوحيد لأنني أستطيع أن أقول لك وحدك كل ما أفكر فيه. إن أمي تحبني، ولكنها تغار لأنها تريد ألَّا أحب غيرها، وأنا لا أعرف أحدًا من سني ولذلك أتضجر.» ثم تبكي باولين وتلاطفني.

وكنت أنا أيضًا أحبها وأرثي لها، وإذا كانت قريبة مني فإنني أجتهد ألَّا أتحرك خيفة أن أخدشها برجلي.

وذات يوم رأيتها تجري نحوي وهي فرحة مسرورة، تقول: «كديشون، انظر، أمي أعطتني «مداليون» من شعرها، وأنا أريد أن أضم إليه شيئًا من شعرك لأنك أنت أيضًا حبيبي، فأنا أحبك وسأجمع شعر كل من يحبونني كثيرًا في هذه الدنيا.»

ثم قصت من ناصيتي خصلة من الشعر، وفتحت «المداليون» وضمتها إلى شعر أمها.

فكنت سعيدًا برؤية مقدار حب باولين إياي، وكنت فخورًا بأن أرى شعري محفوظًا في «مداليون»، ولكن يجب أن أعترف بالحق فأقول: إنه لم يكن يحدث تأثيرًا حسنًا، إذ كان يظهر رماديًّا غليظًا خشنًا بجانب شعر أمها الناعم اللامع. ولم تلتفت إلى ذلك باولين، فكانت تقلب «المداليون» وتستحسن ما فيه في اللحظة التي دخلت عليها والدتها وقالت لها: ماذا تنظرين هنا؟

فقالت وهي تخبئ ما في يدها قليلًا: هذا هو «المداليون».

الأم : لماذا أحضرتيه هنا في الإصطبل؟
باولين : لأجل أن يراه كديشون.
الأم : ما هذه الحماقة يا باولين؟! كأن عقلك ذهب مع حمارك كديشون، أو كأنه يفهم معنى وجود الشعر في المداليون.
باولين : أؤكد لك يا والدتي أنه يفهم ذلك، لأنه لحس يدي حين … حين … وخجلت باولين أن تكمل فسكتت.
الأم : حين ماذا؟ ولمَ لمْ تكملي كلامك؟ ولماذا كان كديشون يلحس يدك؟
باولين (وهي متضايقة) : أفضل يا ماما ألَّا أقول لكِ، فإنني أخشى أن تعنفيني.
الأم (وهي متأثرة) : قولي لأرى أي حماقة أخرى جئت بها؟
باولين : ليست حماقة يا ماما.
الأم : إذن فلماذا تخافين؟ أنا أظن أنك أعطيت كديشون مقدارًا من الشعير يجعله مريضًا
باولين : لا، أنا لم أعطه شيئًا.
الأم : اسمعي يا باولين، لقد نفد صبري، وأحب أن تقولي لي ماذا فعلتِ، ولماذا أنتِ تركتني منذ نحو ساعة وجئت إلى هنا.

وفي الواقع فإنها صرفت زمنًا طويلًا في تسوية ما قصته من شعري، واقتضى ذلك أن تنزع الورقة المصمغة وراء المداليون وتخلع الزجاجة، وتضع الشعر ثم تعيد لصقها.

وتوقفت باولين ثانيًا لحظة، وقالت بصوت خافت وهي مترددة: أنا قطعت خصلة من شعر كديشون لأجل …

الأم (وهي نافذة الصبر) : لأجل … أتمي كلامك، لأجل ماذا؟
باولين (بصوت خافت جدًّا) : لأجل وضعها في المداليون.
الأم (بغضب شديد) : في أي مداليون؟
باولين : في المداليون الذي أعطيتني إياه.
الأم (وهي غاضبة) : وماذا صنعت بشعري؟
باولين : هو في المداليون أيضًا، وها هو. (ثم قدمت المداليون.)
الأم : شعري تخلطينه بشعر الحمار؟! آهٍ، هذا شديد جدًّا لا أحتمله.

أنت لا تستحقين الهدية التي أهديتها إليك، أتجعلينني في منزلة واحدة مع الحمار، وتعطين الحمار نفس الانعطاف الذي لي عندك؟!

figure
الطفلة وأمها تنتزع منها المداليون وتلقيه على الأرض والحمار يطل على ذلك باكيًا.

ثم انتزعت المداليون من يد الطفلة المسكينة ورفعته بيدها فوق رأسها وألقته على الأرض، وباولين مبهوتة، ثم وقفت فوقه وكسرته قطعًا صغيرة، وبدون أن تنظر إلى بنتها خرجت من الإصطبل وأغلقت الباب بحدة وعنف.

وخافت باولين من هذا الغضب القاسي، ومكثت برهة لا تتحرك وأجهشت بالبكاء، وألقت نفسها على عنقي وقالت لي: كديشون، كديشون، أنت ترى كيف يعاملونني! هم لا يريدون أن أحبك، ولكنني أحبك على رغمهم، وأكثر منهم، لأنك أنت طيب، وأنت لم تعنفني أبدًا، ولم تسبب لي شيئًا من الكدر، وأنت تسعى في رضاي كلما خرجت للتنزه، وا أسفاه يا كديشون! وما أشد حزني لأنك لا تستطيع أن تفهم كلامي ولا أن تخاطبني! كم عندي من الكلام الذي أريد أن أقوله لك!

ثم سكتت وألقت نفسها على الأرض، واستمرت تبكي وتنتحب، فتأثرت وحزنت لبكائها، ولكنني لم أستطع أن أعزيها، ولا أن أعرفها أنني فاهم ما تقول.

ووجدت في نفسي غضبًا شديدًا على هذه الأم التي سببت هذا الحزن لبنتها بحماقة أو بفرط الشفقة، ولو استطعت لأفهمتها مقدار الشجن والأسى الذي جلبتْه إلى باولين، والضرر الذي أحدثته في صحتها الضعيفة، وفي هذا المزاج الرقيق، ولكنني لا أقدر على الكلام، ولذلك كنت أنظر بعطف شديد الدموعَ التي تذرفها هذه الطفلة.

مضى على ذهاب والدتها نحو ربع ساعة، ثم دخلت مربية باولين ونادتها: إن أمك تدعوك وهي لا تريد أن تبقي هنا في إصطبل كديشون، بل هي تريد ألَّا تدخليه أبدًا.

فصاحت قائلة: كديشون، عزيزي كديشون، هم لا يريدون أن أراك.

فأجابتها: هكذا قالت أمك، وأزيدك أنها تقول إنك بعد انتهاء الفسحة فإن مكانك يكون في الصالون وليس في الإصطبل.

فلم تعارض باولين لأنها تعلم أن أمها تريد أن تكون مطاعة الأمر، ثم عانقتني للمرة الأخيرة، وكنت أحس دموعها تجري على عنقي، ومضت ولم تعد إلى الإصطبل بعد هذه المرة.

ومنذ ذلك الوقت صارت الطفلة أكثر حزنًا وأشد تألمًا، وكنت أرى لونها يصفرُّ ويتغير، وجسمها ينحف ويهزل، ونضارتها تذبل.

وجاء فصل الشتاء، فكانت مدة رياضتها قليلة ونادرة.

وإذا قربوني من رصيف القصر تركب على ظهري دون أن تكلمني، ولكن إذا صرنا بعيدًا عن الأنظار فإنها تنزل عني وتداعبني، وتقص عليَّ كل ما كان يشغلها في تلك الأيام، وهي تحسب أنني أستطيع أن أفهم كلامها.

وهكذا فهمت أن أمها كانت دائمًا متغيرة عليها وناقمة منها حادثة المداليون، وأن باولين من جرَّاء ذلك كانت تزداد حزنًا عما كانت عليه، وأن مرضها الذي كانت تشكو منه صار أشد خطرًا عليها.

١  Médaillon.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤