في منزل جديد

من «محب» إلى «تختخ»

أصبح لنا حديقة مثل حديقتكم وحديقة «عاطف» و«لوزة» فقد انتقلنا منذ خمسة أيام إلى الفيلا الجميلة التي بنيناها. فبعد سفركم مباشرة إلى الإسكندرية أنت و«عاطف» و«لوزة» اتخذ أبي قرار الانتقال إلى «الفيلا» برغم أن هناك أشياء لم تكتمل بعد، ولا تتصور فرحتي أنا و«نوسة» ونحن ننتقل من غرفة إلى أخرى … ومن شرفة إلى أخرى ونجري في الحديقة الواسعة … صحيح أنها ليست منسقة تمامًا … وليست كثيفة الأشجار مثل حديقة «عاطف» … ولكنها سوف تصبح عظيمة بعد سنوات قليلة؛ فقد زرعنا عددًا من أشجار «الفيكس» الدائمة الخضرة … وزرعنا ثلاثة أشجار ليمون وثلاثة أشجار برتقال وجوافة ورمان وخوخ، عدا أشجار الورد والياسمين التي كان أبي قد زرعها منذ اشترى الأرض، فهي موردة الآن …

لقد أصبحت قريبًا منكم جدًّا … وأصبحنا جميعًا أبناء حيٍّ واحد في ضاحيتنا الجميلة «المعادي» … ومنذ انتقالنا أنا و«نوسة» نتعرَّف على جيراننا الجدد … إن الشارع الذي نسكن فيه جديد كله كما تعرف … ولكن هناك شيئًا واحدًا قديمًا فيه … وهو هذا القصر الأصفر المشهور باسم «قصر الصبار» … إنه قصر قديم يعود تاريخه إلى بداية هذا القرن … ضخم ومتسع الأرجاء … مكون من ثلاثة أدوار، وبه ثلاثون غرفة … وحوله أكبر حديقة رأيتها في حياتي … وهي حافلة بمختلف أنواع الأشجار والفاكهة … ولكن أهم ما فيها ركن الصبار … وهو يضم مجموعة من أكبر وأندر أنواع الصبار … فقد اشتهر أفراد الأسرة الذين يملكون هذا القصر بأنهم جميعًا من هواة الصبار … وقد ظلوا يجمعون هذه المجموعة خلال السبعين سنة الماضية … والصبار كما تعرف نبات معمر … يتبع الفصيلة الزنبقية … موطنه الأصلي جنوب أفريقيا … وينتشر في الصحاري نظرًا لقدرته على اختزان الماء فترة طويلة … ويستخرج منه الصَّبِر (المر) الذي يُستخدم في بعض أنواع الأدوية.

آسف لأنني خرجت من حديثي الأصلي إلى هذا الدرس عن الصبار … ولكن قصر الصبار هذا قصر مُغرٍ بالحديث حقًّا … فحوله سور مرتفع من الحديد السميك … وتحرسه مجموعةٌ من كلاب «الولف» الشرسة لا تسمح لمخلوق بالاقتراب منه … أهم من هذا كله أن آخر أسرة «سيف» الذي يملك المنزل رجل أعمى … لم يبقَ من الأسرة سواه … وهو يعيش في القصر محاطًا بجيشٍ من الخدم … ولا أحد يعرف عنه شيئًا سوى أنه عاش فترة طويلة في الخارج محاولًا علاج عينَيْه … ولكنه عاد أعمى.

أما بقية السكان، فبجوارنا طبيب له ولد يُدعى «يسري» وبنت تُدعى «أمينة» … وقد تعرَّفت «نوسة» ﺑ «أمينة»، وأنا أكتب لك هذه السطور و«نوسة» في زيارتها … فقد وعدتها «أمينة» أن تهديَها بعض شتلات «الفل» وأنت تعرف حب «نوسة» لهذا الزهر الأبيض الجميل الزكي الرائحة.

أتمنى أن تقضوا أنت و«عاطف» و«لوزة» أوقاتًا سعيدة في الإسكندرية الحبيبة … وللأسف فإننا لن نذهب للمصيف هذا العام؛ فقد قال والدي إنه ليس هناك نقودٌ كافية للمصيف … ولست آسفًا ﻓ «الفيلا» توفِّر لنا جوًّا جميلًا …

تحياتنا لكم جميعًا … ولوالدك ووالدتك … ولا تنسَ أن تعطي «زنجر» قطعة لحم كبيرة هدية مني.

«محب»

من «تختخ» إلى «محب»

وصلَتْني رسالتك ومبروك الفيلا … وأنا أكتب لك من «كازينو البلافستا» في «أبو قير» فقد ذهبنا جميعًا للغداء هناك، ووالدي ووالد «عاطف» يلعبان الشطرنج ووالدتي ووالدته تتحدثان … بينما تلعب «لوزة» و«عاطف» وأنا أكتب لك …

إن «قصر الصبار» شيء مثير حقًّا … وقد سمعت عنه وتمنيت أن أزوره … وقد رَوى لي أبي أن «سيف» — صاحب القصر الأعمى — رجل غريب الأطوار … وعندما سافر إلى الخارج لعلاج عينَيْه انقطعت أخباره، وحاول عددٌ من الناس الاستيلاء على القصر بعد أن قدَّموا وثائق مزورة تُثبت ملكيتهم له … ولكن «سيف» عاد في الوقت المناسب، وسكن القصر الكبير … وحول هذا القصر تُوجَد أساطير كثيرة … منها أنه مقامٌ على مجموعةٍ من السراديب السرية التي لا يعلم حقيقتها سوى أصحاب القصر … الذين يملكون خريطةً قديمةً تركها المهندس الذي بناه تُبيِّن طريق السير في هذه السراديب، والأبواب التي يمكن الدخول منها، وهي أبوابٌ سرية موجودة في حوائط القصر، وتظهر وتختفي بواسطة أزرارٍ خفية … إن «قصر الصبار» شيء مثير حقًّا … ومن المؤكد أنني سأحاول دخوله عند عودتي … فهو شيءٌ نادرٌ في هذا العصر الذي لم تعد فيه مبانٍ من هذا النوع العجيب … خاصة أن هناك حكايةً قديمةً عن وجود مجموعةٍ ضخمةٍ من الآثار والتحف التي لا تُقدَّر بثمن موجودة في هذه السراديب، وأن محاولاتٍ كثيرةً جرَتْ لسرقتها، ولكن أحدًا لم ينجح في الوصول إليها. إنني أحسُّ أن هذه مغامرة العمر … لو استطعت الدخول إلى القصر، ومعرفة مكان هذه السراديب وما فيها … فهل تحاول جمع أكبر قدرٍ من المعلومات عن هذا القصر؟

إنني أرجو أن تفعل ذلك … حتى إذا عُدت بدأنا فورًا في محاولة مقابلة «سيف» والحديث معه … فقد يسمح لنا بجولةٍ في القصر.

أخيرًا … كنت أود أن تكون معنا … فالإسكندرية في غاية الجمال … ولا يعيبها سوى الزحمة الشديدة … لهذا نذهب أغلب الوقت إلى «أبو قير» لأنها أقل زحامًا … خاصة عند البحر الميت، حيث كانت مغامرة الجزيرة «المهجورة» كما تذكر.

إلى اللقاء يا «محب» وتحياتي إلى «نوسة» وتحيات «عاطف» و«لوزة» إليكما.

«تختخ»

من «محب» إلى «تختخ»

استمعت إلى نصيحتك … وحاولت أن أعرف أكبر قدر من المعلومات عن «قصر الصبار» … ولكن للأسف الشديد لم أستطع حتى الآن أن أدخل القصر.

وكانت محاولتي مع الذين يعملون في القصر … وقد راقبتهم جميعًا حتى أنتهز فرصة خروج أحدهم والحديث معه … وقد استطعتُ مقابلة مربي الكلاب … وهو رجلٌ ضخمٌ مفتول العضلات تسير خلفه الكلاب وكأنها عصافير رقيقة … برغم أنها من أضخم وأشرس الكلاب التي رأيتها في حياتي.

انتهزت فرصة خروجه ذات يومٍ من القصر … وأسرعتُ إليه وألقيتُ التحية، ولكنه رد عليَّ بفتورٍ شديدٍ كأنه لا يريد أن يتحدث معي … وبرغم خجلي فإنني قررت أن أبتلع هذه الإهانة وأستمر في الحديث معه … ولكن الرجل قال لي في كلماتٍ قليلة إنه لا يعرف شيئًا عن القصر … ولا عن السراديب التي به … وسخر من حديثي عن التحف والآثار … وقال إنني ولدٌ أحلم بأشياء غريبة، أو إنني متأثرٌ بقراءة الروايات ومشاهدة الأفلام. ثم تركني ومضى دون أن يقول لي كلمة واحدة مفيدة.

ولكنني لم أَيْئس … وظللت أراقب القصر من حديقتنا … وقد أدركت أن الحظ الحسن هو جزء من العمل الشاق … فبعد مراقبةٍ مضنيةٍ استمرَّت يومَيْن استطعتُ مقابلة «الجنايني» وهو رجلٌ عجوز … بل إن كلمة عجوز لا تكفي لوصفه … إنه أكثر من عجوز … وقد بدا لي يشبه صبارة عاشَت في الصحراء مائة سنة حتى جفَّت تمامًا … ولكنه في نفس الوقت من ألطف من قابلت … فهو رجل ظريف حقًّا … وطيب للغاية … واسمه كطبعه … اسمه «الطيب» …

وقد كانت حديقتنا هي الفرصة التي انتهزتها للحديث معه؛ فقد وافق أبي على أن نعهد إلى «الطيب» برعاية حديقتنا … وكان هذا سببًا معقولًا جدًّا للحديث معه …

واتفقت معه على الحضور في الصباح لمشاهدة الحديقة، واقتراح ما يراه لزراعته فيها فوافق … وعندما حضر أعددت له كوبًا من الشاي، وبعد أن دُرنا في الحديقة واختبر تربتها جلسنا نتحدَّث … وعلمت منه أنه ورث عن أبيه وجده خدمة هذه الأسرة … أسرة «سيف» … وقد حضر وهو شابٌّ بناء هذا القصر … ومعنى هذا أنه يتجاوز الثمانين.

وقد حدَّثني عن القصر طويلًا … وتأكدتُ منه أن هناك فعلًا سراديب خفية في القصر … ولكنه لم يشأ أن يتحدَّث عن الآثار والتحف التي بهذه السراديب … بل رفض حتى أن ينفي أو يؤكد وجودها … وعندما طلبت منه أن يُحدثني عن «سيف» سكت تمامًا … وبدا عليه نوعٌ من الحزن والأسى وصمت … ولعل ذلك يعود إلى حزنه على إصابة سيده بالعمى.

ولم أشأ أن ألحَّ عليه في الحديث حتى لا يتضح اهتمامي الشديد بالقصر وبساكنه الغريب … وقررت أن أؤجل هذا لأنني سأقابله مراتٍ بعد ذلك، وبعد أن يطمئنَّ لي يمكن أن نتحدث أكثر …

ولكن …

شيء في غاية الغرابة حدث في الصباح التالي … فإن «الطيب» لم يظهر مطلقًا، وظللت أنتظر ظهوره طول النهار عبثًا … ولكني شاهدت شخصًا آخر يدخل القصر … شخصًا لم أكن أتصوَّر أن يظهر في هذا المكان مطلقًا … هل تعرف من هو؟ إنه الشاويش «علي» أو الشاويش «فرقع» كما اعتدنا أن نسميه!

فهل هناك علاقة بين اختفاء «الطيب» وظهور الشاويش «علي»؟ هل حدث شيء يربط بين غياب «الطيب» وحضور الشاويش إلى القصر؟ هذا ما لم أعرفه بعد؛ فقد حاولت التحدُّث إلى الشاويش ولكنه رفض تمامًا …

وأنا أكتب لك هذه الرسالة في المساء … مساء اليوم الذي اختفى فيه «الطيب» … لكي تعرف سريعًا ما حدث … وإلى اللقاء في رسالةٍ قادمة.

«محب»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤