هل هو لغز؟

من «محب» إلى «تختخ»

أكتب لك دون أن أنتظر ردك على خطابي السابق. فقد أسرعت الحوادث هنا بحيث لا أستطيع الانتظار.

هل تتصوَّر أن «الطيب» اختفى؟! أقصد الجنايني العجوز. اختفى ولم يترك أثرًا … كأنه «فص ملح وذاب» … أو كأنه دخانٌ تلاشى في الهواء … أين ذهب؟ لماذا اختفى؟ متى غاب؟ أسئلة لا أملك الإجابة عنها … المهم أنه اختفى وكأنه لم يكن.

لعلك تقول الآن … دَعْك من هذا التطويل أو هذه الفلسفة وادخل في الموضوع … طبعًا لأنك متلهفٌ أنت و«لوزة» لمعرفة ماذا حدث في أمر اختفاء «الطيب»!

وكما قلت لك … اختفى «الطيب» في صباح اليوم التالي لمقابلتي له … ورأيت الشاويش «فرقع» يدخل «قصر الصبار» لأول مرة في حياته كما أتصوَّر … وحاولت الحديث معه، ولكنه رفض تمامًا وكان لا بد لي من أن أربط بين اختفاء «الطيب» وظهور الشاويش … خاصة وقد مر النهار كله دون أن يظهر «الطيب» … ورويت ما حدث ﻟ «نوسة» التي كانت مشغولةً مع والدتي بترتيب الأثاث وتعليق الستائر … رويت لها ما حدث فاتفق رأيها معي في أن اختفاء «الطيب» وظهور الشاويش مرتبطان ببعضهما بعضًا أشد الارتباط … ولكن ماذا حدث بالضبط؟ لا بد أن نعرف! وكيف نعرف؟

وهكذا أسرعت في اليوم التالي إلى القصر … قررت أن أدخله بأي ثمن، لأعرف ماذا حدث … لقد شممت رائحة لغز … وإن كانت روائح الألغاز من اختصاص «لوزة» إلا أنني قلت إنها لن تشم رائحة اللغز على مسافة ٢٣٠ كيلومترًا هي المسافة بين المعادي والإسكندرية … وهكذا قمت أنا بهذا الدور نيابةً عنها.

أسرعت إلى القصر … ودققت الجرس طويلًا … وكان أول من أجابني هذه الكلاب الشرسة التي أسرعَت تتسابق إلى البوابة المغلقة كأنها شمَّت رائحة لحمٍ … وأنت تعرف أنني قليل اللحم! على كل حالٍ أقبلَت الكلاب تنبح كالوحوش، فابتعدت عن البوابة … ووقفت أنتظر … وبعد لحظاتٍ ظهر مدرب الكلاب الذي وصفته لك قبلًا … هذا الرجل الضخم الذي يُشبه مصارعًا من الوزن الثقيل … اقترب الرجل من الباب ونهر الكلاب، فوضعت أذيالها بين أفخاذها وتراجعت … بينما أقبل هو وعلى وجهه شراسة لا تقلُّ عن شراسة الكلاب، وسألني عمَّا أريد … فلما قلت له إنني أبحث عن الجنايني «الطيب» لم يُجب، ولكن سألني عن السبب … فقلت له إنني اتفقت معه على رعاية حديقتنا، فنظر إليَّ طويلًا ثم قال: لا داعي لأن تسأل عنه أو تبحث عنه، واعتبر الاتفاق الذي كان بينكما قد انتهى، ولا تعد إلى هذا القصر مرة أخرى!

ثم استدار ومشى في اتجاه القصر، وتركني حائرًا ومتضايقًا، ولم يكد يبعد حتى عادَت الكلاب إلى النباح مرة أخرى، وكأنها تلقَّت إشارة منه أن تعاود مهاجمتي.

لم أجد فائدةً من الانتظار … فانسحبت عائدًا إلى «الفيلا» وأنا في غاية الألم والضيق … وذهبت مرةً أخرى إلى «نوسة» فقالت لي إن الحل الوحيد هو مقابلة الشاويش «فرقع» والتفاهم معه بأية طريقة ليقول لنا ما حدث … وهكذا أسرعت بالدراجة إلى مكتب الشاويش الذي استقبلني بتكشيرة لا تقل عن تكشيرة مدرب الكلاب … ومع ذلك حاولت أن أكون لطيفًا معه لأحصل على المعلومات اللازمة … ولكنه أخذ يسخر مني … ومن المغامرين الخمسة ويسألني: أين الولد السمين الذي يظن نفسه مخبرًا حقيقيًّا؟!

وبرغم هذا كله ظللت ألحُّ عليه لأعرف، ولكنه في النهاية هبَّ واقفًا في وجهي قائلًا: لا تتدخل فيما لا يعنيك … هذه قضيةٌ ليست من اختصاصكم فلا داعي لمضايقتي … وفرقع من وجهي!

وخرجت أجر أذيال الخيبة … فلا أنا استطعت دخول القصر والتفاهم مع أصحابه … ولا أنا استطعت أن أقنع الشاويش بالكلام … وعدت إلى «الفيلا» … وخطر ببالي أن أصعد إلى السطح لأراقب القصر من بعيد … لعلني أرى شيئًا يمكن أن يهديني … وجلست طويلًا أرقب «قصر الصبار» الكبير دون فائدة … فلم تكن هناك إشارةٌ واحدةٌ تدل على الحياة فيه … وكأن سكَّانه جميعًا قد هجروه.

إن «نوسة» مشغولة … وأنا أعمل وحيدًا في حل لغز اختفاء «الطيب»، ولكني أجد نفسي عاجزًا عن عمل شيء … وأفكِّر جديًّا في اقتحام القصر ليلًا … ولكن المشكلة في هذه الكلاب الشرسة … إنها بالقطع سوف تقطعني … فماذا أفعل؟

إنكم بالطبع سوف تتأخَّرون في العودة وسأفعل ما بوسعي لحل اللغز وحدي … وإذا وصلتني معلومات جديدة فسوف أكتب لك مرةً أخرى، وأنا في انتظار ردك.

«محب»

من «تختخ» إلى «محب»

لقد وقعت على لغز … ولكن أول شيء أنصحك به هو ألا تحاول دخول القصر مطلقًا … إنها مغامرة غير مضمونة العواقب على الإطلاق … ثم ماذا تنتظر أن تجد في القصر بفرض أنك استطعت الخلاص من الكلاب والسكان معًا؟! ماذا ستجد هناك؟

أرجوك لا تحاول دخول القصر … وأحب أن أعرفك أن «لوزة» شمت رائحة اللغز برغم المسافة الطويلة … فعندما قرأت خطابك صاحت: رائحة لغز! رائحة لغز! وكادت تحاول ركوب أول قطار إلى القاهرة لتشترك في حل اللغز … لولا أن حكاية الكلاب أفزعتها … ولولا أنها لا تملك بالطبع أجرة السفر.

إن اختفاء «الطيب» لغز حقًّا … ولكنه قد يكون لغزًا بسيطًا لا يستحق منك كل هذا الاهتمام … لولا أنك أحببت الجنايني العجوز … وعزَّ عليك أن يختفي بهذه السرعة قبل أن تصبحا صديقَيْن … وقبل أن يتولى أمر حديقتكم، وكثيرًا ما يقع الإنسان في خطأ التسرع نتيجة لعواطفه … فأرجوك أن تهدأ وسوف تعرف القصة كاملة بعد فترة من الوقت … فلا شيء يختفي إلى الأبد …

المهم في رأيي أن تفكر في احتمالات اختفاء «الطيب» وفي رأيي أن هناك ثلاثة احتمالات:
  • أولًا: أن يكون قد سافر إلى مكانٍ ما دون أن يُخطر أحدًا.
  • ثانيًا: أن يكون — للأسف — قد مات في مكانٍ خارج القصر.
  • ثالثًا: أن يكون قد مات في حادث … وهذا سر استدعاء الشاويش «فرقع» …

والمهم حقًّا هو: لماذا لا يريد سكان القصر الحديث عن «الطيب» ولماذا يُخفي الشاويش «فرقع» الحقيقة؟ إن في حديث «فرقع» إليك كلمة واحدة يجب أن نقف أمامها طويلًا … هي كلمة «قضية» … معنى هذا أن هناك شيئًا يتعلَّق بالعدالة … فهل «الطيب» متهمٌ في جريمةٍ ما؟ هذا هو السؤال الأول الذي يجب أن تعثر على إجابة عنه قبل أن تبحث عن «الطيب» نفسه …

وهناك طريقان للوصول إلى الإجابة؛ الأول أن تسأل المفتش «سامي» وسيسأل الشاويش «فرقع» ثم يقول لك … والثاني أن تستعين ﺑ «جلال» ابن شقيق الشاويش وهو عادةً يقضي الإجازة عنده … اسأل عنه … فإذا وجدته فسوف يحصل لك على الإجابة … ولعلك تذكر أنه اشترك معنا في مغامرتَيْن وأنه يحب المغامرات فعلًا.

فإذا حصلت على إجابةٍ فاكتب لي سريعًا …

«تختخ»

من «محب» إلى «تختخ»

لم يظهر «الطيب» حتى الآن ولكني عرفت السبب في اختفائه … ليس عن طريق المفتش «سامي» … فإنه ليس موجودًا في القاهرة، ولكن عن طريق «جلال» كما قلت لي!

وسبب اختفاء «الطيب» مفاجأة قاسية لي … وقد تكون مفاجأة لك أيضًا … هل تتصور أن هذا الرجل العجوز الطيب لص؟! شيء لا يصدقه عقل! لقد كنت أظنه أطيب وألطف رجل قابلته في حياتي … فإذا به لص … وهارب من العدالة!

وهذا ما حدث بالتفصيل … سألت عن «جلال» فوجدته قد حضر إلى «المعادي» كعادته كل صيف … وأسرعت إلى لقائه، ودعوته إلى «فيلتنا» الجديدة، ورويت له ما حدث … وقلت له إنك مهتم جدًّا بمعرفة الحقيقة … وقد استطاع «جلال» أن يعرف بعض الحقائق من الشاويش … ولكن ليس كل الحقائق … فقد قال له الشاويش إن «الطيب» متهم بسرقة مجموعةٍ نادرةٍ من طوابع البريد يملكها «سيف» صاحب القصر … وهي مجموعة تساوي ألوف الجنيهات … وقد اختفى «الطيب» بعد أن سرق المجموعة … ووجدت بصماته على الدولاب الذي اختفت منه المجموعة … بل وجدت محفظته كلها … ويبدو أنها سقطت منه وهو يستولي على الطوابع وبها بطاقته الشخصية … وقد طلب «سيف» من الشاويش أن يكون رفيقًا ﺑ «الطيب» إذا قبض عليه؛ فهو لا يريد أن يعاقبه بعد أن خدم الأسرة عشرات السنين … وهو بلا شكٍّ رجلٌ نبيل الخلق إذ يبدي استعداده للعفو عن «الطيب» برغم ثبوت السرقة عليه.

وقال الشاويش ﻟ «جلال» إن «سيف» شديد الرغبة في ألَّا تتسرَّب أخبار السرقة إلى الصحف أو إلى أي مخلوق … لأنه مهتم بسمعة أسرته اهتمامًا كبيرًا … حتى بسمعة من يعملون عنده.

هذه هي المعلومات التي حصل عليها «جلال» وقد أسفت كثيرًا عند سماعها … لأنني كنت أتصوَّر أن «الطيب» لا يمكن أن يقدم على مثل هذا العمل …

بقي شيءٌ واحد أن «سيف» أخبر الشاويش أنه لاحظ اختفاء أشياء كثيرة بعد عودته من السفر، ولكنه لم يكن يتهم أحدًا … ولم يكن ليتهم «الطيب» … لولا أنه وجد محفظته في مكان الحادث … فما رأيك؟

«محب»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤