حبيب إمبراطورة

كانت القيصرة كاترين الثانية إمبراطورة روسيا في مقدمة الذين امتازوا في القرن الثامن عشر برفعة القَدْر وعَظَمة الشأن وغموض الأخلاق وغرابة الأطوار. ويقول عنها أحد المؤرخين إنها كانت منذ صباها إلى يوم وفاتها عانية بكمال الخضوع والاستسلام لشهوتين تملَّكتاها، ولم تستطِع الانفلات من قيودهما؛ إحداهما عشق الرجال، والثانية شدة الشغف بالمجد. وهذا الشغف أسرفت فيه حتى أفسدته، فتحوَّل إلى غرورٍ وباطل. وقد ظلَّت أربعين سنة، منذ أورق غصن بهائها النضير، وأشرق بدر جمالها المنير، إلى أن عراها الذبول والأفول بيد الموت؛ وهي منبعثة كل الانبعاث في اقتناص الرجال بشبكة عشقها وغرامها. فكان لها من العشاق سلسلة متصلة الحلقات. وقد قرَّبت كلًّا منهم إليها في حينه، وأسبغت عليه ما شاء من الحب والغنى والجاه والسلطان، وكانت تُقصيهم وتستبدل بهم غيرهم كلما عَنَّ لها ذلك كما تفعل في تغيير ملابسها.

وربما لم يقُم في الأرض امرأة مثلها في تناقض الخِلال وتغاير الصفات. وكان فولتير في طليعة الذين انغمسوا في حمأة الخنوع لها. وهاك بعض ما يصفها به: «كانت أكبر عظيم في أوروبا بلا مدافع ولا منازع. فنفسها محيطة عِلمًا بكل الأشياء، وعقلها مدرك كُنْهَ القوى جميعها؛ فهي معلِّمة الفلاسفة، وأوسع معرفةً وحكمةً من أعضاء مجمع العلوم. إنها مَلَاك كريم يجب أن يقابله الناس بالخشوع والسكوت. وحيثما أقامت فجنةٌ خالدةٌ ونعيمٌ مقيمٌ.»

وهذه المخلوقة السامية التي يَعُدُّها فولتير مَجلَى الكمال في كل ما يروق العين ويشوق النفس، ويفضِّلها على جميع سابقيها ومعاصريها من الملوك والقياصرة والعلماء والفلاسفة، تخلَّت عن الاهتمام بشئون إمبراطوريتها، متفرِّغةً للاستمتاع بأهواء الجسد الفاسدة وشهوات النفس السافلة، غير موجِسةٍ خوفًا من انتقاد الناس ولا من عقاب الله.

وقلَّما رُزِقَتِ امرأة ما رُزِقَتْهُ هذه الإمبراطورة من الجمال الذي خلبت به قلوب أعاظم الرجال. وفي روسيا كلها لم يكُن لها من شبيهات في بهائها الباهر وحسنها الساحر، سوى نساء قلائل قد لا يُجاوِزْن عدد الأصابع. اسمع ما تقوله عن نفسها في استعدادها لحضور مَرقَص: «أعمِد إلى شعري الطويل الجميل الحالك السواد، فأعقصه مكوَّرًا في مؤخر رأسي، وأشدُّه بشريطة حرير بيضاء، وأزيِّنه بباقة ورد نضرة الأزرار والأوراق، وأضع باقة أخرى مثلها في صدري فوق ريطة (ثوب) من حريرٍ رقيقة شفَّافة، فأبدو بقامة تزدري الغصن لِينًا واعتدالًا، وأفوق جميع أترابي حُسنًا وجمالًا.»

هكذا كانت كاترين الثانية في فجر صباها ومطلع شبابها. وهاك ما يصفها به بونياتوسكي وهي في الخامسة والعشرين، قال: «بلغ جمالُها الحَدَّ الذي يصل إليه عادةً جمالُ كل امرأةٍ؛ فقد كان شَعرُها شديد السواد، وبشرتها بالغة حَدًّا لا يوصف من شدة النعومة ونصوع البياض، يزيِّنهما لونٌ زاهٍ زاهرٌ، ولها عينان نجلاوان قال الله كونا فكانتا آيةً في حسن التكوين، تحت حاجبين كالقوسين، وفوق أنف أقنى وفَمٍ جامع من الحسن كل معنى، وقد تفنَّن فيه بعض واصفيه فقال إنه مخلوق لِلَّثم والتقبيل. ولها قامة كالصعدة السمراء في الدِّقَّة والاستواء، وابتسامة تفترُّ بها عن الدُّرِّ في المَرجان، وضحكة يقع صوتها في الآذان أطيب من وقع أعذب الألحان.»

ويقول فولتير في وصفه لها إنه لم يرَ أجمل من يدَيْها، ولا أشدَّ بياضًا ونعومةً من جسمها. وقد ظلَّت غانية بهذه المحاسن الباهرة النادرة إلى وفاتها وهي مشرفة على السبعين.

وليس عجيبًا أنها — وهي ممتازة بهذا الحسن الخالب والجمال الجاذب — تفتن ملوك أوروبا وعظماءها، حتى رأيناهم يُغلون في تملُّقها وتَرَضِّيها ولو بالجُثُوِّ عند موطئ قدمَيْها. وكانت أذناها مفتوحتين على الدوام لسماع المَلْث والتملُّق، وكان العالَم مفعمًا بروح النفاق والرياء، وقد راجت فيه بضاعة المداهنة والمصانعة، وبلغ من شدة غُلُوِّ القوم فيهما أنهم كانوا يجعلون مَن يرومون التزلف إليه في منزلة الإله المعبود. ولكن ممَّا حيَّر الأفكار في ذلك الحين، ولا يزال مَدْعَاةَ حيرتها في هذه الأيام، أن كاترين كانت تختار من بين عُبَّادِ حُسنها وجمالها واحدًا بعد آخر، تختصه بميلها إليه وولوعها به على مرأى جميع الناس ومسمعهم.

قلنا إنها عشقت كثيرين، ولكن واحدًا منهم امتاز بأنها بلغت من شدة الافتتان به مبلغًا عظيمًا، وبهذه الوسيلة تمكَّن من امتلاك قِيادها والاستئثار بالتسلُّط عليها؛ وهو بتيومكين.

أما حكاية اتصاله بها فتُلَخَّصُ فيما يأتي:

بعدما تُوفِّي زوجها بطرس الثالث أُلقِيَت مقاليد الحكم إليها، فخرجت ذات يوم لتشهد عَرْض جيوشها. واتَّفق أن أحد الجنود الفرسان لاحظ أن سيف الإمبراطورة بلا حمَّالة، فعدا على ظهر جواده وقدَّم إليها حمَّالة سيفه، فَرَاقها ما أبداه من نباهة الشأن وسرعة الخاطر، وعبَّرت عن استحسانها لعمله بابتسامة سلبت لُبَّه وأسكرت قلبه.

وهذه الحادثة البسيطة كانت فاتحة دخول بتيومكين في حياة كاترين، وتمثيله فصلًا ذا شأن من رواية تاريخ روسيا في أيامها. وقبل انتظامه في الجيش كان طالبًا في جامعة موسكو يستعدُّ في كلية اللاهوت لأنْ يكون من رجال الدين، لكنه طُرِدَ من الجامعة لشدة كسله وإهماله، وكان في الجيش مثلًا مضروبًا في سوء الأخلاق ونقص الفهم.

وهذه الحادثة نفسها لم يكن فيها ولا في بطلها ما يُحيي ذكرها في بال كاترين. ولكن حدث أنها كانت ذات يوم تبحث عمَّا يُسلِّيها ويُدخِل السرور إلى قلبها، فسمعت بجندي مشهور بالبراعة في الألعاب الهزلية المضحكة، ومن فورها أمرت بأن يؤتى به إليها. وعندما وقع نظرها عليه تذكَّرت أنه بطل يوم العرض. ولما عرض ألعابه أمامها أُعجِبت كل الإعجاب بما أبداه من الحذاقة والمهارة والجسارة، ولا سيما في تمثيله لها نفسها في كثيرٍ من حركاتها وإشاراتها وغير ذلك؛ مما أضحكها ضحكًا أسال دموعها على خدَّيْها. ومنذئذٍ بَسَمَ الدهر لبتيومكين، فطلع طالع جدِّه وأشرق نجم سعده، فأعلنت شموله بحمايتها واستظلاله بظل رعايتها. وكان بعدُ في ريِّق صبوته غير بالغ العشرين سنة، فأمرت بتعليمه اللغة الفرنسوية، وتخريجه في جميع شئون الدولة، وحصرت اهتمامها كله في العناية بمستقبله.

وكان عشيقها الخاص في هذا الوقت غريغوري أورلوف، الذي كان فيما يظن أطول شبَّان روسيا قامةً وأجملهم طلعةً. ثم مرَّت السنون وبتيومكين يتقدَّم في رتب الجيش، ويترقَّى من ملازم إلى ما فوقه، حتى بلغ رتبة جنرال. ولمَّا شعر باليأس من حصوله على ما طمحت إليه نفسه؛ أي أن يكون حبيب كاترين المخصوص، عزم أن يترهَّب ويدخل أحد الأديار، وإذا بكتاب قد جاءه في أحد الأيام من سنة ١٧٧٣ من كاترين، ولم يخفَ عليه مضمونه. فإنها أشارت فيه إلى شدة اهتمامها بمستقبله وحرصها على سلامته، وختمته بقولها: «ولعلَّك بعد الفراغ من تلاوة هذا الكتاب تسأل لماذا كتبته إليك. فاعلم أني كتبته ليتضح لك مبلغ عنايتي بك؛ لأنني دائمًا أتمنى لك الخير والسعادة.»

ومرادها بهذا ظاهرٌ لا يحتاج إلى شيء من الإيضاح. واتفق أنها اطَّلعت على ما يُثبِت خيانة غريغوري أورلوف، فأقصته عنها بعدما ظلَّ وقتًا طويلًا ينعم بكونه حبيبها الخاص غير منازَعٍ من أحد. فاختارت بعده فاسيليتشيكو، ولكنها لم تلبث أن ملَّته فنقلته إلى موسكو، ووجَّهت التفاتها إلى بتيومكين، فأدنته منها وبوَّأته المنزلة التي طالما حنَّ إليها وحسده ألوف من المقرَّبين عليها.

ولا يسع القارئ أن يتصوَّر الفرق الشديد بين هذه الإمبراطورة الفائقة في حُسنها وجمالها، وهذا الجندي الذي سلَّطته على جميع الناس. فقد كان ضخم الجثة، قاتم اللون، خشن الجلد، قبيح الملامح، أعور، وقد فقد إحدى عينَيْه بالحادثة الآتية:

كان ذات يومٍ يلعب البلياردو مع ألكسس أورلوف المشهور بضخامة جسده وشدة قوته، وكان هذا في عداد عشَّاق كاترين المبعدين، فحدث أن بتيومكين فاه بما هاج غيظ أورلوف، وأفضى الأمر بينهما إلى النزاع، فلطم أورلوف بتيومكين لطمةً أصابت إحدى عينيه وأفقدتها البصر. وكان هذا التشويه كافيًا لأنْ يقضي على آماله ويحمل كاترين على إقصائه عنها، ولكن الأمر جاء لحسن حظه على خلاف المنتظر، فإنه لسعة مكره أقنعها بأنه فقد عينَيْه في سبيل الدفاع عن عِرضها والذود عن شرفها، فعرفت له هذا الجميل وازدادت تعلُّقًا به وميلًا إليه.

هكذا كان منظر بتيومكين عشيق أجمل إمبراطورة في أوروبا مظهرًا للقبح والدمامة، ولم يكن هذا بخافٍ عليه، ولأجله ظلَّ وقتًا طويلًا يأبى على المصوِّرين أن يصوِّروه، ولولا شدة إلحاح كاترين وتوسُّلها إليه لما أَذِن أخيرًا لمصوِّر أن يرسم صورته المحفوظة في قصر الشتاء في بطرسبرج. ولكن هذه الصورة كاذبة؛ لأنها لا تمثِّل ملامحه الحقيقية التي تعاف العيون النظر إليها لشدة قبحها.

ولم تكن دمامة منظره بأقبح من سوء أخلاقه وسفالة عاداته. قال عنه أحد المؤرخين: «كان بتيومكين دعَّابة، ولكن أكثر مزاحه مما تبذؤه نفس الحر الأديب. وكان من عادته على الدوام أن يقلِّم أظافره بأسنانه، ويمعن في حكِّ رأسه الوسخ. وكثيرًا ما كان يقضي أيامه في غرفته ليس عليه من الثياب إلا ما يستر عورته، منفوش الشعر وسخ الجسم، وهو يلهو بحكِّ جسده وتقليم أظافره بأسنانه. وكان شديد الإفراط في الأكل والشرب والانبعاث في المُسكِرات على أنواعها.»

وكان في أسفاره يعيش على الثوم والخبز الأسود. أما في بطرسبرج وكيافو وجاسي وغيرها من أمهات مدن روسيا، فكان يتأنَّق في تناول أفخر الأطعمة وألذ الثمار وأطيب أنواع الحلوى. وكان بعدما يغادر قصر الإمبراطورة ويخلو في قصره، يخلع الحلَّة الرسمية ويرتدي جلبابًا (جلابية) فضفاضًا. وفي هذا اللباس كان يستقبل حتى السيدات. وفي الأرياف كان يلبسه في الحفلات والولائم الرسمية مقتصرًا عليه في ستر عُريه.

وكثيرًا ما كان يعدل عن تعرية ساقَيْه فيغطيهما بنسيج مطرَّز بالذهب ومرصَّع بالألماس وغيره من الحجارة الكريمة.

فماذا كان سر تسلُّط هذا الجلف على أذكى امرأة في أوروبا؟ يقول أحد المؤرخين إنه في صباه استمالها بما كان يبديه من فرط شغفه وشدة ولوعه بها، ولكنه فيما بعد ذلك كان يواصل التزلُّف إليها بالإسراف في تملُّقها وإطرائها.

ومهما يكُن من أسباب ذلك، فمن المحقَّق أن هذا الرجل الوضيع الحقير لم يلبث أن حازَ سلطانًا مطلقًا على الإمبراطورة، فخضعت له وذلَّت كأنها إحدى إمائه. ويقول مؤرِّخ آخر إن شغفها به بلغ حدَّ الجنون، وذلك ظاهر مما كانت تخاطبه به في كتبها الغرامية قائلة له: «يا روحي، يا ملكي، يا كنزي الفائق الثمن.» وكان لشدة دهائه ومكره يزيد نار هيامها به اتقادًا بقوله لها في رسائله إليها: «عندما رأيتكِ أول مرَّة تعلَّقت أفكاري بكِ، وسحرني جمال عينَيْكِ، فإلى الآلهة أشكو ما أعانيه من حبي لكِ وشغفي بكِ، بكِ وحدكِ أهيمُ وإليكِ أحنُّ، وبغير اسمك المقدَّس لا تنطق شفتاي، وسوى رسمك الفائق الجمال لا يجول في خاطري.»

وكانت إذا تبسَّم تطير ابتهاجًا وحبورًا، وإذا عبس تملَّكها اليأس واغرورقت عيناها بالدموع، بل لم تكن غلاظة طبعه ووحشية خلقه في مستأنف الأيام إلا ليُضْرِما في فؤادها سعير الوجد والغرام. وما مثلها به في ذلك العهد إلا مثل قيصرة روسيا ورسبوتين في صدر هذا القرن. روى أحد الجالسين معهما حول مائدة الطعام في أحد الأيام قال: «جلس بتيومكين بجانب الإمبراطورة واجمًا مقطبًا، ولم يقتصر على الوجوم وعدم الكلام، بل تعدَّاهما إلى السكوت عن إجابة ما كانت توجِّهه إليه من الأسئلة، حتى ساءنا الأمر نحن الباقين، وتولَّانا غيظ وحنق لا مزيد عليهما. ولما فرغنا من تناول الطعام ذهبت الإمبراطورة إلى غرفتها، ثم عادت إلينا وعيناها محمرَّتان، ومحيَّاها مغشَّى بسحب الغم والأسى. فإلى هذا الحد كان يبالغ في امتهان عشيقته الملكة غير مكترث لحضوره أمامها وسخ الجسد أشعث عاري الساقين، ليس عليه من الثياب سوى الجلباب، وهي ضاربة صفحًا عن ظهوره في أقبح مظهر منافٍ لقواعد الحشمة والأدب.»

ولما بلغ مراده من امتلاك قيادها والتسلُّط على أفكارها، طفق يُعد لنفسه سبيل الحصول على ما أراد من التقدم والارتقاء، حتى أصبح حاكم روسيا المطلَق، يدير شئونها الداخلية وسياستها الخارجية كيفما شاء لا ينازعه منازع. وتَعيَّن قائد الجيش العام وأمير البحر الأول، وبات إمبراطور روسيا بالفعل إن لم يكن بالاسم. واستحوذ على كل ما كان في طاقة كاترين أن تمنحه من الألقاب السامية، والوِسامات الرفيعة الشأن، والقصور والعقارات والتحف والنفائس، وجادت عليه فوق هذه كلها بملايين الريالات؛ فكانت حُلله الرسمية تسطع بالوِسامات المرصَّعة بأغلى الحِلى والجواهر. وخصه جوزيف الثاني بلقب أمير الإمبراطورية الرومانية المقدَّسة، وأهدت إليه الإمبراطورة صورتها في إطار مرصَّع بالألماس، وهو امتياز لم يظفر به غيره من معشوقيها سوى غريغوري أورلوف. وفي أقل من سنتين ارتقى هذا الجندي ارتقاءً منقطع النظير، وبات أوفر ثروةً وأعرض جاهًا وأسمى مقامًا من جميع رجالات أوروبا. وهذا كله ناله لأن أجمل النساء صورةً وأشرفهن رتبةً عشقته على قبح شكله وسوء خلقه.

على أن هذا كله لم يكن كافيًا لإشباع مطامعه الفائقة الحد، فقال في نفسه: ها أنا الآن إمبراطور روسيا بالفعل، فلماذا لا أكون إمبراطورها بالاسم وأتزوج علانية المرأة التي قلبها في يدي أحوِّله كيفما شئت؟!

وقد سنحت له فرصة السعي لإدراك هذه الأمنية يوم غادرت الإمبراطورة قصرها إلى أحد الأديار لتقضي أيامًا في الصوم والاعتكاف للتكفير والاستغفار. فصحبها عشيقها وحاول إرغامها على الاعتراف به قيصرًا لها، وجَعْله زوجًا بدل عشيق. فخلع حلَّته الرسمية المتلألئة بالحِلى والجواهر، وارتدى ثوب راهب وشرع يتلو المزامير في فجر كل يوم، وينشد تسابيح الصلاة في المساء، حتى رأى أن الفرصة سانحة والوقت مؤاتيًا، فمَثُل أمام الإمبراطورة وعليه علامات النحول والهزال من مواصلة الصوم والتقشف، وقال لها إنه صمَّم على اعتزال كل ما في العالم من زخارف وأباطيل، والتماس سلام القلب وراحة الفكر في عيشة الزهد والتفرغ لعبادة الله. وما كان أشد خيبة أمله وضياع أمنية قلبه عندما فاجأته الإمبراطورة بما لم يدُر قط في خلده. لم تتوسَّل إليه أن يعدل عما نوى، ولا عرضت عليه أن يتخذها زوجة له كما توقَّع، بل صوَّبت رأيه ووافقته عليه من كل قلبها، وأكَّدت له أنه بعمله هذا جارٍ على مقتضى الحكمة؛ إذ هو ساعٍ للحصول على خلاص نفسه، وذلك خيرٌ وأبقى. وما أبطأت أن أسرعت في الرجوع إلى قصرها، وغادرته يَصلى نار الخيبة.

وبعد ثلاثة أسابيع دهشت إذ رأت الراهب القانت الزاهد داخلًا إليها، متجمِّلًا بأغلى حلَّةٍ وأنفس رداءٍ، وكانت جالسة تتسلَّى بلعب الورق هي وبعض سيدات قصرها، فجلس بجانبها وحدق إلى الإمبراطورة المدهوشة بهذه المفاجأة، ثم مدَّ يده وتناول الورق المطبَّق أمامها على المنضدة وفتحه، وأراها الورقة المفتوحة، وكانت ممَّا تعدُّه فألًا حسنًا، فهشَّت له وبشَّت وقالت: إنك دائمًا سعيد الطالع! وما لبث أن استردَّ ما كان له عليها من مطلق السلطان.

على أنه لم يغفل عن استخراج العبرة البالغة من هذه الحادثة، بل اتضح له أن امتلاكه لقلب الإمبراطورة الكثير التقلُّب لم يكن امتلاكًا ثابتًا دائمًا كما ظن. فقد سبق لها أن سئمت وملَّت كثيرين غيره من العشاق الذين كانوا أشد منه اجتذابًا لقلبها وتسلُّطًا على أفكارها؛ فمصيره من كل وجهٍ عرضةٌ لأن يكون كمصيرهم. ومنذ الآن رأى عينَي كاترين تبعثان بنظرات الارتياح والاستحسان إلى شابٍّ جميل الطلعة اتخذته كاتبًا لها، فتوقَّع أنها تُعده لأن يكون خلفًا له. وقد وقع ما كان يخشاه سريعًا؛ فإنه تغيَّب بضعة أسابيع للتفتيش في مقاطعة نوفغورود، وعاد فوجد ذلك الشاب حالًّا محله.

فهاج بركان غيظه وغضبه على كاترين، وأخذ يقذفها منه بحمم المسابِّ والشتائم، حتى أصيبت من جرَّائها بأعراض هستيرية، واضطرت لشدة خوفها منه أن تتقي غضبه بردِّ ما كان له من السلطان ورفعة الشأن، ولكنها أفرغت قلبها من حبِّها له وهيامها به. وهذا ما كان قاصرًا همه عليه. فليكن غيره حبيبها وعشيقها ما دام هو قادرٌ أن يكون إمبراطورًا. فاكتفى بنيله هذه البغية، وعاد إلى سابق عهده رسول غرام كاترين وسفير عشقها، متمليًا لذَّة تمهيد السبيل لعشَّاقها كما كان يتمتع بها عندما كان ينعم هو نفسه بمحبَّتها له.

وما خسره من محبتها له استردَّ أكثر منه من حيث استئثاره بها وتسلُّطه عليها. ومن الغريب أنه فاق ما كان عليه من قبل في تملُّقها وإطرائها ولو بلسانه لا من جنانه. فقد كتب إليها مرةً وهو يقود الجيش في إحدى المعارك يقول: «أكتب إليكِ على بُعد آلاف من الأميال وقصارى ما تشتهيه نفسي أن أتفانى في خدمتكِ، وأضحي بكل عزيزٍ وغالٍ في سبيل رفاهيتكِ وسعادتكِ، وتوفير أسباب مجدكِ وعظمة شأنكِ، أيتها الأم الحنون، لقد أسبغتِ عليَّ كل ما عندكِ من النعم والهبات ولم أزل حيًّا، ولكن حياتي هذه ستظل وقفًا على خدمتكِ.»

وكانت كاترين تجيبه عن كتبه بمثلها من حيث المجاملة والمصانعة، كقولها له في إحدى رسائلها: «أراكَ في كتبكَ إليَّ تحاول التعبير عمَّا أروم أن أقوله لكَ. فثِقْ يا صديقي أني لو استطعت لضمَّنت رسالتي إليكَ أرقَّ التعابير الدالة على ثبات صداقتي لك.»

وبناءً على شدة ثقة بتيومكين بصداقة كاترين، أطلق لنفسه عنان التمادي في ما أراد من الاستئثار بالسلطة والانبعاث في الإسراف والتبذير والتمرغ في حمأة الشهوات الدنسة، وأصبحت أعماله الشاذة ظاهرة للعيان، دلالةً على أنه بلغ في غرابة الأطوار مبلغًا أشبه بالجنون، بل هو الجنون بعينه. وبينما كان يقود الجيش في محاربة تركيا، كان حسب رواية أحد المؤرخين يقضي معظم وقته في صقل جواهره، والبعث بالهدايا إلى موضوع حبِّه وغيرها من سيدات القصر. وقد استصحب خمسمائة خادم ومائتي موسيقي، وجوقًا كبيرًا للرقص والتمثيل، ومائة مطرِّز وعشرين جوهريًّا.

ومن غرابة أطواره أنه كان كثير التقلب سريع التحول في آرائه وأفكاره، وكأنه المعنيُّ بقول الشاعر العربي:

كريشةٍ في مهبِّ الريحِ طائرةٍ
لا تستقرُّ على حالٍ من القلق

ففي أقل من ساعة كان يبدو لمجالسيه فَرِحًا مسرورًا وكئيبًا مغمومًا، هاشًّا باشًّا وباسرًا شديد التقطيب والعبوس، رقيق الحاشية ليِّن العريكة، وفظًّا جلفًا إلى الغاية. ومبالِغًا في الاحتفاء والترحيب بالزائرين، ومفرِطًا في ردِّهم على أعقابهم بما لا مزيد عليه من الجفاء والخشونة، يُصدِر الأمر ثم لا يلبث أن يعقبه بما يلغيه ويناقضه. وكان في إحدى المعارك يختبئ في قبو ويسدُّ أذنَيْه حتى لا يسمع قصف المدافع، وفي غيرها يقف في الخنادق وقفة الأبطال الصناديد، ورصاص البندقيات يصفِّر عن يمينه ويساره. وبكلمة نقول عنه إنه كان مجموع متناقضات ومتغايرات.

ولما فاته التمتع بمحبة كاترين الحقيقية حوَّل اهتمامه نحو غيرها من النساء الحِسان، وهبَّ يُطلِق لنفسه عنان التمتع بشهواته حتى في ساحات الكفاح. قال أحد المؤرخين: «كان الأمير بتيومكين يجلس على أريكة موشَّاة بالأطالس المطرَّزة بالحِلى والجواهر، ومغشَّاة بالأزهار والرياحين، ومضمخة بغوالي الأطياب، وحوله الغواني بأفخر الحلل وأغلى الحِلى، وأمامهن العطور في مباخر من ذهب. وكانت فريدة عقدهن الأميرة دولغورنكي زوجة أحد ضباطه.»

وكانت حفلات الولائم والمراقص تقام متواصلة متلاحقة بلا انقطاع، وهو لاهٍ بها، يتملَّى لذَّاتها وينتهب مسراتها، والجيوش تخوض غمار القتال، وتكتوي بنار الطِّعان، وتضيف إلى رأسه أكاليل انتصارات جديدة مجيدة. قال شاهد عيان يصف انبعاثه في مخازيه وانصرافه لمداعبة محظياته وسراريه: «كان في ذلك الحين يأبى دخول أحد عليه، إلا إذا كان من متملقيه ومطرئيه. وكانت الغرف في قصر الكونتس غالفن مقسومة إلى قسمين؛ أحدهما للرجال، حيث مُدَّت موائد القمار، والآخر للأمير، حيث يجلس على أريكته محاطًا بالسيدات.»

وكانت أنباء هذه الفضائح تبلغ كاترين فلا تغضب لها، بل كثيرًا ما كانت تنظر إليها بعين المسرَّة والارتياح. وكانت إذا رأته يُعنى بشئون لذَّاتها وأمور عشقها وغرامها تقابل ذلك بالشكر والثناء. وقد يمل القارئ تلاوة تفاصيل هذه الحوادث الشاذة البالغة غاية الغرابة، ولكنها ليست بغريبة عن طبيعة هذين الشخصين النادرين، ولا عن تاريخ ما كان بينهما من العلاقات الشاذة التي ارتبطا بها مدة عشرين سنة، حتى بعد انقطاع صلات الحب بينهما.

ولما حوَّل بتيومكين صلات العشق والغرام من كاترين إلى وصيفاتها بنات أخته — الواحدة بعد الأخرى — لم يبدُ على كاترين شيء من علامات النفور والامتناع. ولعل هذه الفعلة الشنعاء كانت أعظم ما في أعماله من موجبات الاستفظاع والاستنكار؛ فإن رسائله إلى بنات أخته — أولًا إلى بارب ثم إلى شقيقاتها الأربع — مفرَّغة في أفحش القوالب التي يستخدمها أهل الخلاعة والدعارة للتعبير عن شوقهم وغرامهم. فقد كتب إلى بارب يقول: «إذا أحببتكِ حبًّا أبديًّا، ولم يكن لنفسي معين سواكِ، فهل تدركين معنى هذا؟ وهل أثق بقولك لي إنكِ تحبينني إلى الأبد؟ أحبكِ يا حياتي حبًّا لم أختص قط به أحدًا قبلكِ. فقولي لي يا فارينكا (لعل فارينكا لقب بارب) يا حياتي وكل مناي، قولي لي إنكِ تحبينني، وهو كافٍ لأن يعيد إليَّ صحتي ومسرَّتي وسلامي وسعادتي. إنني ممتلئ بكِ يا روحي. بكِ وحدكِ يا ذات الحسن والجمال. الوداع الوداع. على البعد أعانقكِ عناقًا لا حدَّ له.» وحرارة هذا الشوق انعكست من كتب فارينكا إليه. فمن ذلك قولها له في إحدى رسائلها، وكان إذ ذلك مريضًا: «إني في قلق وانزعاج لا مزيد عليهما، فأناشدكَ الله أن تكتب إليَّ بما يُستطاع من السرعة لتطمئن نفسي ويسكن اضطراب قلبي عليك يا حياتي. أقبِّلك مرات لا عداد لها.»

وبعدما شفي من مرضه، سرَّى عن نفسه بالكتابة إليها عقب زيارته لها ورجوعه من عندها قائلًا: «فارينكا، يا روحي ومصدر حياتي، لقد نمتِ ولم تذكري ما جرى، فقبلما فارقتكِ أضجعتكِ في سريركِ مزوِّدًا لكِ بقبلات تفوق الإحصاء، ودثَّرتكِ بجلبابكِ، ورسمت علامة الصليب على محيَّاكِ.»

وعندما كتب إليها هذه الرسائل كان في عبِّه رسالة شوق وغرام من إحدى عشيقاته، وهي من كبيرات نساء القصر جاهًا وشرفًا تقول له: «كيف قضيت ليلتك يا عزيزي؟ لعلك كنت أنعم مني بالًا! أما أنا فلم أذُق طعم الرقاد ولم يغمض لي جفن. فأنت وحدك موضوع افتكاري، وشغلي في ليلي ونهاري. ولست أجهل شدة محبتك لي، وعنايتك بي. الوداع. حسبي هذا الآن؛ لأني منتظرة قدوم زوجي.»

ولما ملَّ بنات أخته تعلَّق بمن تُدعى براسكوفيا زاكرفسكا، فتصبَّته وتصبَّاها، ولم يكن شغفها بهواه أقل من ولوعه بهواها. ومما كتبه إليها مرة: «أسرعي إليَّ، أسرعي يا نور عيني وحياة قلبي. أسرعي يا كنزي الفائق الثمن. بكِ أُوجَد وأحيا. وسأقضي حياتي كلها مبرهِنًا لكِ أني أحبكِ حبًّا يفوق الوصف، بل يشبُّ عن طوق التصور. فمن صميم فؤادي أقبِّل يدَيْكِ الجميلتين وقدَمْيكِ الناعمتين. ولا يخطرنَّ ببالك يا عزيزتي أني أهيم بكِ مدفوعًا بجاذب حسنكِ وجمالكِ. لا، ليس هذا مبعث تهيامي، بل إني أرى في نفسك ملاكًا مطبوعًا على غرار ملاك نفسي. فكلانا واحد، وليس ممكنًا أن يفارق أحدنا الآخر.»

وإلى آخر حياته ظلَّ هذا الماجن الخليع عبدَ لذَّاته وأسير شهواته، واستمر يلقي شباك مكره وخداعه، ويتصيَّد حِسان النساء واحدة بعد الأخرى، منتقلًا متبدِّلًا بسرعةٍ حُق لكاترين أن تُعَدَّ بالنسبة إليها مثال الرسوخ والثبات. وقد قال يومًا عن نفسه: «لقد نلت كل ما تمنَّيت الحصول عليه، ولم يفُتني منه شيءٌ. طمحَتْ نفسي إلى السلطة والسيادة، فأحرزت منها ما شئت، وأصبحت مطاع الأمر والنهي. ومِلْتُ إلى القمار، وكان في إمكاني أن أخسر كل ليلة مبالغ لا تقدَّر من غير أن أشعر بأقل انزعاج على فقدها. وقضيت مرادي من مآدب وولائم يعجز عن الإنفاق عليها أعظم الملوك ثروةً واقتدارًا. وعندي من العقارات فوق ما أروم، ومن القصور ما لم يكن لأكبر السلاطين والقياصرة، ومن الحجارة الكريمة ما لا يُحصى. فأنا من كل وجه مغمور بالعز والجاه والسؤدد، ومحاط بالثروة والغنى، ولست بحاجة إلى شيء ما على الإطلاق.» ولما فرغ من هذه التأملات عمد إلى إناء من الخزف الفاخر ورمى به الأرض، ثم دخل مخدعه وأقفل الباب وراءه.

وقد بلغ من الاستئثار بهذه العظائم مبلغًا قصَّرت الإمبراطورة كاترين عن مجاراته فيه؛ فإن قصوره كانت مفروشة بأغلى الرياش وأكرم الأثاث، ومزدانة بأنفَس ما ابتكرته قرائح رجال الفن في النَّقْش والحَفْر والتصوير. وكان يقضي وقت الفراغ في عرض هذه التحف والطرائف، ونقلها من مكان إلى آخر، أو بجمع ما عنده من الحلى والجواهر. وفي ذات يوم ملَّ جواهره فباعها، وما عتَّم أن اشتراها بمضاعف الثمن الذي باعها به.

ولعل أعظم مجالي الأبهة والمجد ومظاهر الفوز والانتصار التي ازدانت بها حياة بتيومكين، هي تلك الرحلة السنية المَلَكية التي أعدَّها لسفر كاترين إلى بلاد القرم في جنوب روسيا ١٧٨٧ لكي تشاهد بعينَيْها الجوهرة الساطعة التي أضافها حبيبها السابق إلى تاجها الملكي. ولم يرِدْ قط في التاريخ وصف رحلة أعظم شأنًا وأبهى رونقًا من هذه الرحلة، بل لم يَرُج قط على ملكة من سلع المكر والخداع ما روَّجه بتيومكين على كاترين.

وهذه الرحلة الطويلة التي بلغت مسافتها ٢٠٠٠ كيلومتر، قطعت الإمبراطورة بعضها في مركبة فاخرة يجرُّها ثلاثون جوادًا، وبعضها في مركب يخفره ثمانون سفينة وثلاثة آلاف جندي. وكانت في كل موقف تجد منزلًا معدًّا حافلًا بكل ما تشتهيه من أسباب الراحة والرفاهة. وكانت كيفما التفَّت على جانبَي الطريق ترى البلاد والقرى عامرة بسكان تلوح على وجوههم أمارات رغد العيش ونعيم البال، والسهول الفسيحة الواسعة الأرجاء تموج كالبحر بقطعان المواشي، والفتيات يرقصن على نغمات قياثير الرعاة. هذه المظاهر الخالبة الساحرة كان بتيومكين قد سبق وأعدَّها وحوَّل القفر الماحل الجديب إلى روض مَرِيع خصيب، لتَقَرَّ برؤيته عينا عشيقة لم يخامرها قط شبه ريب في صحة ما تراه وتسمعه. ولما اجتاز مركبها ضفاف نهر دنيبر إلى البحر الأسود مخفورًا بالثمانين سفينة غصَّت ضفاف النهر بجماهير السكان رجالًا ونساءً وأولادًا، وهم يزحمون بعضهم بعضًا لينظروا هذا المشهد البالغ غاية الفخامة، ويقدِّموا إلى قيصرتهم فروض الولاء والإخلاص. وخلاصة القول إن كاترين اجتازت هذه المسافات الشاسعة محمولة على جناح الابتهاج والحبور والدهشة والاستغراب من كل ما شاهدته من الزينات الفاخرة الباهرة، التي يطول بنا الكلام لو أردنا وصفها بالتفصيل. وهَبْها ظنَّت أن لبتيومكين يدًا في هذه الزخارف، فمن المحقَّق أنها لم تُشِر قط إلى ارتيابها بكلمة واحدة. وقد سافر الأمير نفسه في موكب لا يقل عظمة وفخامة عن موكب كاترين إن لم يزِد عليه. وقد سبقت الإشارة إليه سابقًا.

ولما عاد من سفره جرى له استقبال لم يجرِ قط لملك مثله في الأبهة والعظمة والفخامة. وأهدت إليه كاترين مائة ألف ريال وحلَّة رسمية يتألَّق صدرها بحجارة الألماس، وقصرًا أنفقت على أثاثه ورياشه ستمائة ألف ريال. وهذه الهدايا مع شدة نفاستها وكرامتها لم تكن شيئًا يستحق الذكر عند بتيومكين وليد الحظ وربيب الترف. فقد رُوي عنه أنه أنفق في سفرته هذه سبعة ملايين. وهذا المبلغ مع دلالته على أعظم ضروب الإسراف والتبذير ليس إلا جزءًا يسيرًا من المائة مليون ريال التي اغترفها من بحر جود كاترين.

على أن كوكب سعده الذي تألَّق بكمال الضياء في سماء روسيا مدة عشرين سنة كان لا بد له من الخضوع لحكم الأفول، وإن دلَّت الظواهر على إمكان مواصلته للإشراق الساطع الباهر سنين ليست بقليلة. فقد كان وهو في الثانية والخمسين من عمره ممتَّعًا بصحةٍ ونشاطٍ لا مزيد عليهما، حتى كتبت عنه كاترين حينئذٍ — في ربيع ١٧٩١ — إلى أحد أصدقائها في باريس تقول: «من يشاهد المارشال الأمير بتيومكين يحكم بأن الانتصارات المجيدة التي أحرزها قد جمَّلته وحسَّنته؛ فقد رجع من ميدان القتال بهيًّا كطلعة النهار، وطروبًا كالهزار، ومشرق الوجه كنجم الصباح. وزاد ما كان فيه من خفة الروح وسرعة الخاطر وشدة البراعة في ابتكار أساليب الهزل والمزاح. وقد هجر عادة تقليم الأظفار بالأسنان، فأصبح مثالًا للإنسان الكامل أو لكمال الإنسان.»

وآخر لقاء بين كاترين وعشيقها السابق كان في الحفلة التي أقامها لها في قصر توريدا، الذي كان آخر الهدايا الكبرى التي خصَّته بها. وكانت هذه الحفلة مما يعجز قلمُ أبلغ الكتَّاب عن وصف عظمتها. فقد بذل الأمير بتيومكين كل ما في استطاعته من مظاهر التجلة والتكريم في استقبال كاترين. ولم يترك قط شيئًا من أسباب الاحتفال ومظاهر الترحيب إلا وفَّره وادَّخره، فلم يستقبلها في القصر كملكة أو قيصرة، بل كإلاهة.

فقد أعدَّ لها ثلاثمائة موسيقي يوقِّعون على آلاتهم أعذب ما تشنَّفت بسماعه الآذان من مُطرِبات الألحان، وأقام مرقصًا تنكَّر فيه الراقصون والراقصات، وكانوا من نخبة عظماء روسيا وصفوة نسائها الحِسان، وقد رفلوا كلهم بملابس أدهشت الأبصار بغرابة أزيائها وكثرة ما عليها من الحِلى والجواهر. ولما مُدَّت موائد العشاء ناءت بحمل صحاف الفضة وأطباق الذهب، وتدفَّقت الخمور على أنواعها من البواطي تدفُّق المياه من ينابيعها. ومن كل وجه كانت هذه الحفلة أعظم حفلة جرت في قصور الملوك، وآخر مظهر من مظاهر بتيومكين وعظمته، وكان سرور كاترين بها لا يوصف. وظلَّت إلى آخر ساعة تأبى الانصراف وتكره مفارقة هذا النعيم المقيم. ولما فرغ الموسيقيون من إيقاع نشيد مخصوص لجلالتها نهضت تستعد للخروج، ومدَّت يدها لوداع بتيومكين والدموع تتساقط من أجفانها، ولم يكن دونها شعورًا، فخرَّ أمامها ساجدًا وتناول يدها وبلَّلها بدموعه. وهكذا افترقا ذانك العاشقان فراقًا لم يعقبه لقاء.

فبعد أيامٍ امتطى بتيومكين غارب السفر في رحلة بعيدة إلى الأقطار الجنوبية، فلقي فيها حتفه ولم يعُد منها. ولما بلغ جاسي أصابه مرضٌ لم يكترث له في أول الأمر، ولا خطر بباله أنه سيكون القاضي عليه. وعلى رغم شدة إنذار الأطباء له وتكرار توسُّلاتهم إليه، ظلَّ تاركًا نوافذ غرفته مفتوحة، معرِّضًا جسمه لنفح الهواء في أوائل فصل الشتاء واشتداد وطأة الزمهرير. وكان يرحض جسده بماء الكولونيا، ويتناول أغلظ الأطعمة بما هو معهود فيه من النهامة والإفراط، ويغتسل بمقادير كبيرة من الخمور وغيرها من السوائل.

ولشدة رغبته في مواصلة السفر، وعلى رغم كون حياته معلَّقة حينئذٍ بميزان القدر، أصرَّ على وجوب الرحيل عن جاسي والشخوص إلى نيكولايف. ولكنه لم يسِر بضعة أميال حتى أناخ عليه الداء بكلكله، فنقلوه من المركبة وأضجعوه على العشب، وبعد دقائق معدودة أسلم الروح ورأسه على حضن ابنة أخته الأميرة برانتسكي، فمات على قارعة الطريق في صباح يوم من أيام أكتوبر سنة ١٧٩١، وانتهت حياة ذلك الأمير الذي ظلَّ مدة عشرين سنة معدودًا من أعظم الرجال سطوةً وسلطةً، وأعرضهم جاهًا وعزًّا. وحسبه أنه كان صاحب السلطان الحقيقي في أكبر إمبراطورية.

ولما بلغ كاترينا نعيه أغمي عليها وتحوَّل الدم إلى رأسها، فعالجوها بالفصد. ولما أفاقت لم تجد إلى العزاء سبيلًا، فقضت أيامًا في خلوتها تأبى مقابلة أحد، وهي ممعنة في الحزن والاكتئاب والنوح والانتحاب.

ولكن بعد دفنه في كنيسة القديسة كاترين في خرصون، كتب عنه الكونت دستوبشين يقول: «إنه مذ الآن قد أُدرِج في طي النسيان، وعاد غير مذكور بلسان إنسان. ولن يُذكَر في الأجيال المقبلة بسوى اللوم والذم. وقد كانت أعماله كلها متناقضة متضاربة، فكان يمزج عمل الخير بفعل الشر، ويتبع الحسنات أضعافها من السيئات، ويأتي ما يُنشئ الحقد والضغينة والمقت والكراهة في قلوب الذين سبق فغمرهم بفيض جوده وإحسانه. وأشهر مظاهر ضعفه أنه كان يعشق كل امرأة يراها، ثم لا يلبث أن يبدل بها سواها. وهذه الشهوة على فسادها وشدة سفالتها كثيرًا ما اقترنت بالنجاح، فكنت ترى النساء يتسابقن إليه لمطارحة العشق والغرام تسابق الرجال للحصول على المناصب.»

وبعد سنوات أمر الإمبراطور بولس ابن الإمبراطورة كاترين الثانية عاشقة بتيومكين وحاميته، أن ينبش قبره ويُذرى رفاته في الهواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤