الفصل السابع

لزوجي أصدقاء كثيرون من خيرة طبقات القاهرة، يجتمع بهم في نادٍ من أنديتها، وقد كان يتناول طعامه في هذا النادي في أثناء غيابنا في أوروبا، كما كان يتناول بعض وجباته فيه إذا اضطره عمله للتخلف عن الحضور إلى المنزل في الظهر أو المساء، أو لو حملته على أن يتناول أكثر وجباته هناك، وأمعنت بذلك في إبعاده عنا وعن المنزل، أوَلا يشعر بالوحدة شعورًا يهون عليه أن يقبل الانفصال الذي أريده؟

وتنفيذًا لهذا التصميم كنت كثيرًا ما أطلبه في المساء في النادي، وأبلغه أن المنزل لا طعام فيه، وأنه إن شاء أن يتناول طعامًا فليتناوله في النادي، ولعله لم يكن يضيق بذلك ويتأذى منه، ولعله كان يجد فيه فرصة لإطالة المقام بين أصدقائه، فإذا جاء إلى المنزل في موعد النوم لم يزد على أن يبادلني تحية المساء ويذهب إلى غرفته، ولم أكن صادقة في كل المحادثات التليفونية معه، فكثيرًا ما كان يتناول العشاء معي في تلك الليالي أصدقاء وصديقات يُسرُّ زوجي بالوجود معهم، وفي هذه الليالي كنت أشد حرصًا على بقائه بعيدًا عن المنزل حتى لا يجد ما يحببه فيه ويدعوه إليه.

وللمصادفات في حياتنا الإنسانية تصاريف عجب، فقد كلمته ذات مساء ليتناول طعامه في النادي، وكانت عندي ليلتها وليمة دعوت إليها عددًا من أصدقائي الذين يسرون بلقائه، فلما حضروا ودعينا إلى المائدة سأل بعضهم عنه، فذكرت أنه اعتذر لي في اللحظة الأخيرة لأمر طرأ عليه، وإننا لنتناول الطعام إذ دخل هو علينا ووقف واجمًا ينظر إلى هذه المائدة الفاخرة، ويذكر قولي له إن المنزل لا طعام فيه، وأُخذت حين رأيته في موقفه منها وكدت أضطرب، لكني ملكت نفسي وقلت في عبارة حاسمة إنه لا مكان له على المائدة، وأراد بعض الحاضرين أن يفسح له مكانًا، فقلت في لهجة الحزم: «فليبق كلٌّ في مكانه، أما هو فلا مكان له بيننا»، وساد الحضور — وبينهم صديقنا — وجوم استمر حتى خرج زوجي من قاعة الطعام معتذرًا في ابتسامة متكلفة بأنه أكل قبل أن يحضر إلى المنزل، ثم عدنا إلى أحاديث تافهة نقطع بها جو هذا الوجوم.

وفي الغد تناول زوجي طعام الظهيرة خارج المنزل، ثم جاء مبكرًا في المساء فألفاني وحيدة في غرفة نومي، وقد تزينت لسريري زينة كلها الإغراء، وقد ألف بحكم مهنته أن يجلس على سرير المريض حين يفحصه، وكثيرًا ما كان يجلس إلى جانبي هذه الجلسة فيما مضى، أما اليوم فلم يفعل، بل جر كرسيًّا إلى جانب السرير جلس عليه، وارتسم على وجهه من سيما الحزم ما لم أتعوده منه قط، ثم قال: «اسمعي، إنني أريد أن أحدثك في هدوء فإياك أن تفسدي عليَّ هدوئي، إن ما حدث منك أمام ضيوفك أمس لا يصدر عن سيدة ولا امرأة من حثالة الناس، لقد تحملت منك ما تحملت حتى اليوم لغير سبب أعلمه، ولقد تحملته لا خوفًا منك، ولكن خوفًا عليك، وخوفًا عليك من نفسك؛ فأنت امرأة مريضة النفس، لا تنظرين إلى الحياة بالعين التي ينظر بها الأصحاء، بل متأثرة بعاملين هما مصدر علتك وسبب مرضك النفسي، هذان العاملان هما: الغرور والغيرة، برغم ذلك أحببتك ولا أزال أحبك! وحبي إياك من أجلك ومن أجل طفليك، هو الذي يجعلني أحتمل منك ما احتملت، وأن أصبر عليه ما بقي أمره بيني وبينك، آملًا أن يشفيك الله يومًا فيثوب إليك رشدك. أما أن يبلغ الأمر إهانتي على نحو ما حدث أمس فذلك ما لا قِبَل لي باحتماله، ويجب أن تعلمي أن هذا البيت بيتي أنا، وأن الذين يدخلونه يدخلون بيتي أنا، وأنت تقيمين فيه وتدعين أصحابك إليه لأنك زوجتي، وأحسبك تقرين هذا ولا تجهلينه، فلو أننا انفصلنا غدًا بالطلاق كما طلب إليَّ صديقنا أن أفعل لما بقي لك في هذا البيت مكان، ولما استطعت أن تستقبلي فيه أحدًا.»

كنت أسمع كل كلمة من كلماته هذه كأنها خنجر يطعنني في صميم كرامتي، ولكني كظمت غيظي وحبست دموعي، حتى إذا أتم مقاله أجبته في هدوء: «وماذا عليك إذا أرحت نفسك وأخرجتني من هذا البيت ليكون لك وحدك، أو لمن يرضي قلبك أن يحل فيه مكاني؟!»

لم أكد أتم هذه الكلمة حتى رفع يديه وقال: «الآن أيقنت أني أخطئ في تقديري، فصديقنا لم يحضر ولم يكلمني في طلاقك من تلقاء نفسه، بل اتفقتما معًا لغرض تضمرانه، لكني لست من السذاجة بما تتوهمان، إنني لن أنيلكما ما تبغيان، ولن أجعل نفسي وأجعلك وأجعل طفلينا أحدوثة الناس، كلا! لن أفعل، لن أطلقك وإن تحملت في سبيل إمساكك أضعاف ما تحملت، كلا، لن أنيل هذا الجاحد للأخوة الخائن للصداقة ما يريد، أوَتستطيعين أن تقولي كيف عرفتِهِ؟ أولم يكن صديقي الحميم وأنا الذي قدمته إليك وائتمنته على شرفي وعرضي، واتخذت منه أخًا فخان مودتي، وتسلل إلى قلبك مكاني؟! يا له من غادر مخادع! إني أحذرك مغبة السير وراءه، والانخداع بمعسول كلامه، إنك لا تزالين في أعين الناس السيدة المحترمة الشريفة التي تحمل اسمي، فلا تدعي هذا الماكر الخائن ينفث في فؤادك سمومه، ويدع الناس يتقولون عليك ما أنت بريئة منه، ويتهمونك باطلًا وأنت الطهر والعفاف والكرامة والشرف.»

وهنا بدأ الرجل يضطرب كأن به الحمى، وأمسك برهة عن الكلام، ولم أجد وهو في هذه الحال ما أجيبه به، فقد غلبتني الرأفة بحاله، وخشيت إن أنا قلت شيئًا أن يزداد اضطرابه.

وبدأ عليه شيء من الهدوء الظاهر، لكن نفسه كانت تتعذب، وكانت عيناه تنمَّان عن هذا العذاب الذي يتأجج في صدره، ولقد مر بخاطري في أثناء صمته أن تمنيت لو أنه ثار هذه الثورة منذ شهور وسنين، وتمنيت لو أنه يومئذ حطم كبريائي وإن أدت به الحال أن يضربني، فلو أنه فعل يومئذ لاعتقدت أن لي عنده مكانًا، وأنه يريد أن يدافع عني غيرة عليَّ، وإني لتمر بي هذه الخواطر وأشباهها إذ رأيته يمد يده ويسحب يدي في رفق ويقول، وقد تندت عيناه وانخفض صوته: «بالله خبِّريني، لمَ تعاملينني هذه المعاملة؟! إني لا أزال أحبك كما أحببتك يوم زواجنا ومن قبل زواجنا، وهذا الحب هو الذي يجعلني أحتمل منك ما لا يمكن — لولا الحب — احتماله، أوَيرضى قلبك أن ينخدع بصديقنا فينكر ماضينا، وينكر أبوتي لطفلينا؟ بالله عليك! بحق هذين الطفلين العزيزين، إلا ما راجعت نفسك، واتقيت الله في نفسك وفينا جميعًا.»

كدت أشفق عليه وأضعف لضعفه، بل كدت أتلطف معه وأعتذر عما بدر مني أمس له، ولكني ما لبثت أن رأيت طيف صديقتي يتبدى في خيالي، ويجفف في عيني عبرات كانت توشك أن تنحدر، عند ذلك سحبت يدي من يده، واستويت جالسة في سريري، ونظرت إليه بعينين انقلب حنانهما حزمًا، بل قسوة، وقلت: «يرحمك الله يا صديقي! لقد كدت تمس قلبي كما لم تمسسه من قبل قط، فما عهدتك في كل ما خلا من سني حياتنا تتقن التمثيل المسرحي، وتستطيع أن تتلاعب بالعواطف، أما اليوم فما أبرعك ممثلًا تتقن الأدوار المتناقضة، فأنت «روميو» وأنت «عطيل» في وقت معًا! أتراك لعب بك إغرائي وأنا في هذا السرير فانتقلت من التهديد الذي حفظت دوره قبل أن تحضر إليَّ، إلى الاستعطاف وإلى الحديث عن الهوى والغرام؟! وإني لأسأل نفسي ولك هذه المقدرة: أي دور تمثل حين تلقى صديقتي؟ أحسبك حين تراها لا يبقى أمامك من الوجود كله سواها، فهي أمامك الشمس والقمر، ولعلها في نظرك أبهى من الشمس والقمر.

أيقظته عبارتي الأخيرة فنظر إلي بعينين فيهما عطف وفيهما حزم، وقال: «حسبك الله يا ظالمة، فأنت تعلمين أني لو أردت أن أتزوج صديقتك بعد وفاة زوجها لما عزَّت نفسها عليَّ، وأنني لو أردت أن أتزوجها بعد أن بدا اليأس لها من صديقنا لاستجابت في غير تردد، وأنني لو أردت أن أتزوجها اليوم أو غدًا لقبلت في اغتباط أي اغتباط، لكني لم أفكر قط في أن أتزوجها، ولن أفكر في ذلك، فهي لي منذ مات زوجها بمثابة الأخت المحرمة عليَّ، وأنت تعلمين أني أعرفها وأعرف أسرتها منذ بدأت أمارس مهنة الطب، ولعلي فكرت في أن أتزوجها قبل أن أعرفك، وأن يكون بيننا من الود ما أدى إلى زواجنا، ولم أجرب عليها من يومئذ إلى اليوم ما يمس شرفها وعفافها برغم ما تُتَّهم به من خفة، وبرغم جمالها الفاتن، فبالله عليك لا تسرفي في تصوير عواطفي نحوها، فعواطفي كلها لك، وليس بيني وبين صديقتك إلا الإخاء يدفعني إليه سابق معرفتي بها وبأسرتها وبزوجها.»

دهشت لهذا الدفاع الحار عن امرأة قاطعتني، وأذاعت في كل مجتمعات القاهرة ما أذاعت عني، فلو أن عواطف زوجي كانت كلها لي كما يقول لغضب لي من صديقتي، ولما ذكر جمالها الفاتن وريقه يتحلب، وكأنما يريد أن يطير إليها ليستمتع بنظرة من عينيها الساحرتين، لذلك قلت له: «إنك يا صديقي لست ممثلًا بارعًا وكفى، بل أنت محامٍ بارع كذلك، وكنت أود أن تكون قضيتي أقرب إلى قلبك من قضية صديقتي، فتدفع تخرصاتها عني في كل مجالسها بهذه الحماسة التي تدافع بها عن عفافها وشرفها.»

وبعد هنيهة أردفت: «ولو أنني أردت أن أدافع عن صديقنا — كما تدافع أنت عن صديقتي — لما أعوزتني الحجة الصادقة، فهو لم يخنك كما تزعم، ولم يحاول التسلل إلى قلبي، ولكني أشعر بأن حديثنا الليلة طال، وأن من الخير أن تنسحب أنت إلى غرفتك، وأن تدعني أستريح في مخدعي.»

وابتسم هو وقد بدا عليه شيء من الاطمئنان، أو من الإذعان، وأطفأت أنا مصابيح الغرفة، وحاولت أن أنام فذهبت محاولتي عبثًا، فقد أخذت أستعيد الحديث الذي دار بيني وبين زوجي كلمة كلمة وحرفًا حرفًا، ثم أخذت أفكر كيف أواجه هذا الموقف؛ فلو أن هذا الحديث جرى بيننا قبل أن أوجِّه إليه في وجود أصدقائنا تلك الإهانة التي أدمت قلبه ودفعته لما فعل لكان لي فيه رأي، أما وقد شعر بأني أتعمد إحراجه، فأراد بما فعل أن يفسد خطتي، فلن أمكنه مما أراد، لقد تحطم ما بيننا منذ عهد طويل، وهو قد واجهني خلال هذا العهد كله بجمود يدل على أنه لا يحس نحوي بأي عاطفة، فمجيئه اليوم بعد اللطمة القاسية التي نالته مني يتحدث عن قلبه وحبه ليس إلا أحبولة يتوهم بها القدرة على تغيير ما استقر عليه عزمي، وذلك ما لا سبيل إليه.

وفكرت فيما عساي أفعل في هذا الموقف الذي خلقه هو بأسلوب لا يخلو من براعة، واستقر بي الرأي بعد طول الروية على أن أكتب إليه خطابًا يكون عريضة اتهام، وإنذارًا نهائيًّا في الوقت نفسه، وأردت بالفعل أن أبدأ الكتابة رغم تقدم الليل، ولكني شعرت بالجهد، فأطفأت الأنوار من جديد ولزمت سريري.

وكان النهار ضحى حين استيقظت في الغداة أجمع أعصابي المهدمة، وسألت عن زوجي فإذا هو قد استيقظ وتناول فطوره وخرج كعادته إلى عمله، وشعرت بالضيق يكاد يخنقني، وبالحاجة إلى الهواء أتنفسه، وكأن المنزل على سعته لم تبق فيه أثارة من هواء؛ ولذا قمت فتناولت فنجانًا من اللبن والقهوة، واكتفيت به عن كل فطور، وخرجت إلى الشوارع ألتمس فيها متنفسًا، وجعلت أسير حتى انتهيت إلى حدائق الجزيرة، هنالك وقفت على شاطئ النيل أستنشق الهواء ملء رئتي أسترد به نشاطي وهدوء أعصابي، فلما رُدَّت إليَّ حيويتي أخذت أفكر فيما حدث أمس، وفي الخطاب الذي أكتبه إلى زوجي.

ولم تطاوعني نفسي على العودة إلى المنزل ساعة الظهيرة، وتابعت السير حتى بلغت حديقة الحيوان، فدخلتها وذهبت إلى جزيرة الشاي، وتناولت فيها طعام الغداء، جالسة إلى مائدة على حافة بحيرتها الصغيرة، ونظري كله إلى الماء، وإلى الطيور الجميلة التي تعوم فيه، وفكري مشتت يحاول أن يجمع ما يحويه خطابي إلى زوجي، فلما كانت ساعة الشاي أقبل قوم وعليهم سيما المرح، وفي أصواتهم رنين المسرة، وأفسدت ضجتهم الطروب عليَّ خلوتي، فغادرت مكاني وخرجت من الحديقة، وناديت سيارة أقلَّتني إلى المنزل.

فلما احتواني المنزل عاد الضيق يأخذ بخناقي، فذهبت إلى غرفتي، وجلست إلى نضد زينتي، وهيَّأت منه مكتبًا، وأخذت أدوِّن ما أريد أن أكتبه لزوجي، لقد كانت الكتابة تستعصي عليَّ حين ألجأ إلى الحجة والمنطق، فإذا أرخيت العنان لعاطفتي وما تتنفس عنه اندفع قلمي لا يكبو ولا يتعثر، وسطرت بضع صفحات أعدت قراءتها فإذا هي ليست عريضة اتهام وكفى، بل تأنيبًا موجعًا في لهجة مقذعة لا تتفق ومألوف رزانتي واتزاني، ولا مع الهدوء الذي حاول زوجي به أن يصوغ كلامه لي، لذلك أعدت الكتابة وحاولت التخفيف من حدتي، لكني لم أستطع أن أكون هادئة ولا موجزة، بل كتبت عشرات من الصحف كانت سطورها تتدافع إلى قلمي، ولا تكاد يدي تجاريها في سرعة تدفقها لتدوِّن كل كلمة من كلماتها، فلما فرغت من تدوين الكتاب وراجعته بعثت به إليه، وأقمت أنتظر النتيجة التي يرتبها عليه.

ولست أريد أن أنقل نص ذلك الكتاب إلى هذه القصة، وأنا كلما تلوته بعد السنين التي انقضت على كتابته خجلت وتولتني الدهشة كيف استطعت أن أفرغ كل ما فيه من قحة وإقذاع! وحسبي أن أذكر أنني قلت فيه إنني لم أشعر بالسعادة منذ زواجنا يومًا من الأيام، وإن مسلكه فيما ادعاه من معاونة صديقتي للحصول على ميراثها وميراث أبنائها كان معيبًا دنيئًا، وإنه أهملني وأهمل ولدينا وكأننا من سقط المتاع، وإنه عاملني كما لو كنت خادمة أبيه، وإنه كان يغتبط بسفري إلى أوروبا ليخلو له الجو ليندفع في تيار أهوائه ومفاسده، وإنه ضيق الفكر ريفي العقلية إلى الحد الذي جعله يقول لي في آخر حديث له إن هذا البيت بيته، وإنني أقيم فيه بأمره وإذنه وتسامحه. وذكرت أنني لن أبقى في هذا البيت، ولن يعرف هو بعد ذلك مقري، وأنه يستطيع إن شاء أن يطلبني إلى بيت الطاعة، وإنني أتحداه أن يفعل ليتيح لي فرصة الدفاع أمام القضاء عن نفسي وعن حياتي التي حطمها، ولأتمكن بعد ذلك أن أطلب الانفصال عنه، ويومئذ لن يتردد قاضٍ في الحكم لي، ثم يعلم الناس كم قاسيت في سبيل المحافظة على سمعته وسمعتي، لا حبًّا إياه ولا حرصًا على الحياة معه، لكن من أجل طفلينا حتى لا يصيبهما رشاش من مسلك أبيهما المشين.

ولم أتحرج حين الحديث عن معاونته صديقتي في أن أصفها بما أعتقد أنها أهل له، وأن أذكر أن صلاته بها أوحت بها الأهواء، ولم توحِ بها المروءة ولا الإنسانية! كما أنني ذكرت له أنه سبَّني سبًّا قبيحًا حين تكلم عن صديقنا وزعم أني دبرت معه أن يتحدث إليه في أمر طلاقي منه لغرض في نفسينا، وأعدت في خاتمة الكتاب أنني لن أراه، ولن أسمح له بأن يراني، وأنني لن أبقى في بيت يسميه بيته، وأنه لن يعرف لي مقرًّا، وأنني أحتقر نفاقه حين يزعم لي أنه لا يزال يحبني، وأنا أعلم علم اليقين أن قلبه لغيري، هذا إن كان قلبه يعرف الحب، أو يملي عليه عاطفة كريمة صادقة!

ماذا كان شعوره حين قرأ هذا الكتاب؟ لا أدري، لكن صديقنا جاءني بعد أيام يقول لي إنه التقى بزوجي مصادفة، وإنه رآه في حال من الهم والأسى تثير الشفقة، وإنه تحدث إليه محاولًا أن يخفف عنه فإذا عيناه تدمعان، وإذا هو يخرج من جيبه خطابي ويدفعه إليه، ويطلب إليه أن يقرأه. قال صديقنا: «وقد تصفحت بعض صحفه فأدهشني أنه لم يحضر إليك ولم يضربك ولم ينتقم لنفسه من بذاءة لم أقرأ ولم أسمع قط مثلها من سيدة أو امرأة من السوقة أو سواد الدهماء، ولو أنه فعل لما استطعت إلا أن تعتذري له عن هذا الطيش الجنوني الذي أملى عليك ما كتبت، أنت حرة في أن تكرهيه أو تحبيه، لكنك لست حرة في أن تهينيه وتسبيه.»

قلت: «أتراك عاودتك نزواتك السابقة حين أردت أن تتزوج من صديقتي، وأن هذه النزوات هي التي دفعتك للتطاول عليَّ الساعة؟!»

نظر الرجل إليَّ في صمت حين سمع مني هذا الكلام نظرة تأنيب وعتاب، ثم استدرك هذه النظرة بعد برهة وقال: «وماذا يعنيك أنت من أن تعاودني نزواتي أو لا تعاودني؟ أم تريدين أن تسمعي مني مرة أخرى أني لن أتزوج صديقتك؟ إذن فاعلمي أني لن أتزوجها، نعم، لن أتزوجها، وليس ما تتوهمين من نزواتي هو الذي دفعني لأخاطبك بهذه اللهجة التي خاطبتك بها، لكنك أسرفت في إهانة رجل لا يسوغ لك أن تهينيه وأنت لا تزالين زوجته وله عليك حقوق أولها احترامه، فالزوجة قد لا تستطيع أن تحب زوجها، ولكنها لا حق لها بحال أن تهينه، أفهمت الآن سبب ما سميته تطاولي عليك؟»

هذه كلمات قاسية لم أسمع من قبل مثلها، لكنها نزلت عليَّ بردًا وسلامًا، أكان ذلك لأنه أكد من جديد أنه لن يتزوج صديقتي؟ أم لأنه خالف بزجره إياي ما ألفت من جمود زوجي؟ لا أدري، لكني ابتسمت حين أتم كلامه، وقلت: «ما أظرف حديثك، وما أرق فلتات لسانك!» ثم نظرت إليه في خبث نظرة حرصت عيناي على أن تكذِّب بها لساني وأضفت: «وأي شأن لي إن أنت تزوجت صديقتي، اللهم إلا أن تكون حريصًا على أن تجيء معك لزيارتي؟» وازدادت ابتسامتي وضوحًا ونظرتي خبثًا وزدت: «هذا إلا أن تخشى أن يكون عندي قريبي الذي رأيته معها في السيارة.»

وكان كل جواب الرجل: «دعيني من صديقتك فقد انقطع ما بيني وبينها كما انقطع ما بينك وبينها، لكنك ذكرت في خطابك لزوجك أنك لن تبقي بهذا البيت، فإلى أين تذهبين؟ وهلا تخشين ما يتقوله الناس عليك وأنت لا تزالين في عصمة زوجك، ولا يزال هو مُصِرًّا على إمساكك؟»

قلت: «أمَّا أنِّي سأترك هذا البيت فذلك أمر قررته ولا رجعة فيه، ولست أخشى ما يقوله الناس؛ لأنهم لا يعلمون ما قاسيت هنا، فقلوب الناس كالحجارة ما دام الأمر لا يمسهم، وإن أوقف هذا الأمر من يعنيه على حافة اليأس ودفعه إلى الانتحار، لقد دبرت أمري في سر، ولعلي لا أضن عليك أنت بسري، يوم يصبح أمرًا مقضيًّا، فأنت وحدك الذي أجد في التحدث إليه السلوى عن بلواي، ومنقذي من عزلة يحاول زوجي أن يضرب نطاقها حولي بما يذكره إلى أصدقائنا عني، فأنا أعلم أنه تحدث إلى غير واحد من هؤلاء الأصدقاء عن الخطاب الذي بعثت به إليه، وذكر لهم شر ما فيه، لكن ما يقوله لم يعد يعنيني، وقد انحسم ما بيننا، ولم يبقَ سبيل إلى غير انفصالنا.»

وتركني صديقنا بعد حديث حاول به أن يردني إلى ما سمَّاه الصواب، فلما خلوت إلى نفسي أخذت أقلب صفحاتها وأنا مضطربة الخاطر حينًا، هادئة حينًا، وعدت بذاكرتي إلى حديث زوجي الأخير معي، ووقفت منه عند كلامه عن مرضي وعلتي، وأن الغرور والغيرة هما مصدر هذه العلة، عند ذلك ثارت نفسي، وسمعت بأذني صوتي وأنا أقول: «يا بؤسى لهذا الرجل! أولو صح ما يزعم أفلا يرضيه أن أغار عليه؟! أم يريد أن أصنع صنيعه فأختار رجلًا غيره أصفيه مودتي وأهبه قلبي؟ أم تراه يحسبني بعض متاع هذا المنزل، يسكن إليه متى شاء، ويدعه متى شاء، ويركله برجله أو يلقيه من النافذة إن أراد؟ إن يكن ذلك رأيه فليبحث عمن توافقه عليه، ولألقين عليه درسًا لن ينساه ما عاش.»

وشغلت بالتفكير في ترك هذا البيت الذي يسميه بيته، فأين أذهب؟ وكيف أنفذ ما ذكرته له من أنه لن يعرف لي مقرًّا؟ ليس ذلك يسيرًا إن أنا بقيت بالعاصمة، وليس يسيرًا كذلك في مدينة صغيرة تثير أتفه الحوادث فيها طلعة ساكنيها، فهم يتحدثون عنها، وتلوكها ألسنتهم ويتناقلونها، فلا يبقى فيهم صغير ولا كبير لا يعرفها، إذن فليكن مقري الجديد بالإسكندرية، ولأذهب إليها أبحث فيها عن سكن لي وللطفلين؛ فالإسكندرية مدينة فسيحة الأرجاء مترامية الأطراف، وحسبي يوم أقيم بها ألا أختلط بأهلها، وأن أجعل مقامي في حي ناءٍ من أحيائها، وسأستحلف صديقنا يوم أبوح إليه بسري ألا يبوح به لأحد، ولن أقبل منه إلا أن يقسم بقبر أمه، فذلك قسم لا يحنث هو به أبدًا.

فلما صح مني العزم ترددت على الإسكندرية، ثم اخترت في ضاحية من ضواحيها النائية بيتًا صغيرًا أنيقًا تحيط به الأشجار، وكأنما بناه صاحبه للغرض الذي أقصد إليه، وبعد أيام مر بي صديقنا فأخبرته بما فعلت بعد أن أقسم لي بقبر أمه أنه لن يبوح بسري، وبعد أيام جاءت إلى المنزل عربة من عربات نقل الأثاث حين كان زوجي في عمله، فنقلت ما أخذت إلى الإسكندرية، وقبل أن يحضر زوجي كنت قد سافرت أنا والمربية والطاهي إلى مقرنا الجديد.

وتنفست الصعداء حين نزلت بيتي أنا، لا بيت زوجي، وشعرت كأن عبئًا ثقيلًا قد انزاح من فوق صدري، واستنشقت رئتاي هذا الهواء الجديد، هواء الحرية المطلقة، وخُيِّل إليَّ أن السعادة أصبحت في متناول يدي، وأنني ألقيت ما كان يساورني من هموم في لجة البحر المترامي بموجه المصطخب أمام نظري، وزاد في غبطتي أني رأيت طفليَّ مغتبطين بهذا الانتقال كأنما كانا يعانيان ما كنت أعاني، ويضيقان بالجو الخانق الذي كنت أضيق به.

وبعد أسبوع أو نحوه جاء صديقنا يزورني، فلما رأى المنزل ونظامه هنَّأني على حسن اختياري، ثم تحدثنا في شئون حرص من ناحيته وحرصت من ناحيتي على ألا نشوبها بشيء من ذكرى الماضي، وقد حمدت له عنايته بسؤالي عن الطفلين وأية مدرسة اخترت لهما، ونصحه إياي أن أحتفظ بمربيتهما. وانقضى الوقت وأنا أقص عليه في مرح كمرح الأطفال ما أجده في هذه الحياة الجديدة من مسرة، أيسرها جلوسي إلى شاطئ البحر، أسمع إلى صريف أمواجه، وأستنشق طيب هوائه، وأمد ببصري إلى آفاقه التي لا تنتهي، والتي تحجب في طياتها غيب السموات والأرض.

أتاح لي هذا الهدوء الذي اشتملني أول مقامي بالإسكندرية — لبعده عن موطن النضال، وما يثيره النضال في النفس من غضب — أن أسبر غور نفسي لأستظهر عواطفي، لقد بذلت الجهد في مقاومة صديقتي، أريد أن أستخلص من براثنها زوجي لأختصه خالصًا لي ولولدي، غير مطمئنة لتوكيده المتكرر لي أنه لا يحبها ولا يحب غيري، وأن تردده عليها عناية بشأن أولادها لا تشوبه قط ريبة، وقد بقيت أمقتها برغم شعوري في أعماق روحي بأن حجابًا قام بيني وبين زوجي يحول دون تآلفنا وامتزاج قلبينا، وقد بلغت قسوتي في مقاومتها ذروتها يوم أوحيت إلى صديقنا فذهب إلى الصحراء فألفاها في سيارة مع قريبي ويدها بين يديه، ورأسها على كتفه، فأفسد ذلك عزمه على التزوج منها، وكان هذا الزواج موشكًا أن يتم، وأنا إن أحسست في نفسي ميلًا لصديقنا واستلطافًا، فلم يبلغ هذا الميل وهذا الاستلطاف مبلغ الحب الذي يجيز لصاحبه أو لصاحبته المغامرة بمثل ما فعلت، ولا أحسب غيرتي من جمالها باعثي على هذا النضال، وهل تراني تحركني غيرة من مثلها ولم يقف جمالها الساحر حائلًا دون فتنة المعجبين بي وقد فتنتهم جاذبيتي وذكائي، وسحر حديثي، وسائر مواهبي؟ وحسبي أن أذكر الألماني الذي كان يجالسنا معًا بالأقصر، وكيف دفعه ذكاؤه وواسع علمه وسعة أفقه ففتن بي وسحره حديثي، ولم يفتن بها ولم يسحره جمالها. فما الذي حركني إذن إلى هذا النضال؟

لم أهتد إلى جواب على هذا السؤال بعد أن جهدت أيامًا حسومًا ألتمس الجواب عليه، وعند ذلك آثرت أن أدعه واثقة أن الزمن سيكشف لي عن هذا الجواب، وعدت إلى طمأنينتي السابقة الجميلة، وقد زادت حياتي الجديدة في سعادتي بها واستراحتي لها.

كان صديقنا يزورني في عطلة آخر الأسبوع مرتين على الأقل في كل شهر، وإننا يومًا لنتحدث إذ فتح الباب، ورأينا زوجي وكأنما يريد أن يدخل علينا، وأجفلت لمرآه وتولتني الحيرة ماذا أصنع؟ لكنه لم يدع لي فرصة للتفكير، فإنه ما لبث حين رآنا أن ارتد على عقبه، وأن أقفل الباب الذي فتحه، وأن هرول مسرعًا إلى خارج الدار حتى خلت أنه طيف لا حقيقة له، وأن خيالي هو الذي صوره لي، ولكنني صدمت بهذه المفاجأة صدمة هزت أعصابي، واضطر صديقنا أن يدعو المربية لتسعفني، وانقضى وقت غير قليل قبل أن أسترد هدوئي، فلما سكنت نفسي، واستطعت أن أفكر وأن أتكلم قلت: كيف اهتدى هذا الرجل إلى المنزل، وكيف سوَّلت له نفسه أن يصعد إلى هنا؟

ولم يكن صديقنا أقل مني حيرة ولا دهشة، فهو لم ير زوجي منذ أطلعه على خطابي، ولم يحدث له من أمري ذكرًا، من ذا الذي هداه إذن إلى بيتي؟ وهل تراه يريد أن يفسد عليَّ حياتي من جديد بعد أن تركت له العاصمة كلها، وما فيها ومن فيها؟ لقد كان يخشى قالة الناس فينا إذا هو سرحني ولم يمسكني، أما وقد حسمت ما بيني وبينه بهذا الانفصال من غير طلاق فما مطاردته لي، كأنني سجين هارب من سجنه، ولا مفر من إعادة القبض عليه؟!

انصرف صديقنا حين أوشك النهار أن يولي، بعد أن حاول ما استطاع أن يهوِّن عليَّ ما حدث، فلما خلوت إلى نفسي ارتسمت أمامي صورة زوجي ساعة فتحَ الباب علينا ووجدني في خلوة مع صديقنا، وكاد يتولاني الدوار من جديد، ترى أي ظنون قامت بذهنه لهذا المنظر الذي لم يكن يتوقعه؟ أم تراه جاء وهو يعلم بوجود صديقنا عندي، فأراد أن يظهرني على أنه يعلم من أمري ما أردت ستره؟ أم أنها المصادفة البحتة هي التي ساقته في تلك الساعة، وأوقفتني منه موقفًا أُرتِجَ عليَّ فيه فلم أستطع أن أقول كلمة، ولم أستطع أن أزجره لاقتحامه عليَّ بيتًا هو بيتي وليس بيته ولا شأن له به؟ وكذلك أخذت أقلب هذا الأمر في نفسي، ثم ترتسم بين آونة وأخرى أمام خيالي تلك الصورة التي أثارت انزعاجي، ترى أين ذهب بعد أن ولى مدبرًا وأقفل الباب وراءه؟ هل ذهب يدعو من يشهد ما رأى؟ لكن أحدًا لم يحضر، وهل تراه غادر الإسكندرية أم بقي بها؟ وهل أستطيع أن أراه لأؤنبه على فعلته المنكرة؟

وجفا النوم مضجعي تلك الليلة لكثرة ما فكرت فيما عساي أصنع، وكيف أستطيع أن أعلم كيف عرف زوجي مقري، ولم يغمض لي جفن حتى الهزيع الأخير من الليل، فلما استيقظت ضحى الغد ناولتني مربية أولادي خطابًا عرفت لأول ما رأيت عنوانه أنه من زوجي، وتوقعت قبل أن أفتحه أن أقرأ فيه من فحش القول وهجر الكلام ما لا أستطيع الرد عليه، وما لزوجي كل العذر في أن يقوله، فلما فتحته وتلوته انقلبت مخاوفي دهشة وعجبًا، وتولاني من الحيرة ما كاد يذهلني، فهو كتاب موجز كل الإيجاز، وفيه يقول زوجي بعد تحية رقيقة إنه لم يحضر إلى بيتي لظنة قامت بنفسه كما قد أتوهم، ولكن عليه واجبات بصفة كونه زوجًا وأبًا لا يمكن أن يهملها، ولا بد له من أدائها، ويسألني أن أفكر لصحتي وصحة الولدين أن أسافر إلى أوروبا هذا العام ليبعث لي نفقات السفر كما عودني، ويختم خطابه: زوجك الوفي المخلص.

لم أصدق عيني حين تلوت الكتاب، فأعدت تلاوته مرة ومرة ومرة، ثم شعرت بعد هذه التلاوة وكأنني هويت من أعلى السحاب! يا عجبًا! أولو كانت في يد هذا الرجل طبنجة أفرغها فيَّ وفي صديقنا، أفكان يلومه أحد؟ أولو كانت معه هراوة أدارها علينا، ثم طرد صديقنا كما يطرد الكلب، أفما كان الناس جميعًا يرونه مُحِقًّا؟ أولو كان قد وجَّه إلينا أقبح الشتائم وأقذع السباب، أكان في مقدورنا أن ندافع عنَّا بكلمة؟ لكنه لم يفعل من ذلك كله شيئًا، بل انسحب وكأنه لم يرنا، وها هو ذا يبعث إليَّ بذلك الكتاب العجيب يريد أن يؤدي واجب الزوج والأب، ويعرض عليَّ أن أسافر إلى أوروبا، أأستطيع مع ذلك أن أهمل الرد عليه؟ وإذا رددت فماذا أقول؟!

وأسندت رأسي برهة إلى مقعدي أفكر في الأمر، على أنني ما لبثت أن مَرَّ بخيالي أن يكون هذا الخطاب أحبولة نصب لي شباكها، فلو أنني قبلت ما عرضه لكان ذلك أقوى سند له إذا أراد أن يُكرِهني بحكم القضاء على العود إلى بيته، وإلى طاعته، أأرفض إذن؟ ولكني إن رفضت أسقطت حجتي في مطالبته بنفقتي ونفقة الطفلين إذا اقتضى الأمر. وإني لأفكر في هذا كله إذ جاء صديقنا يبلغني أنه عائد إلى القاهرة، ويسألني أفي حاجة أنا لأي رأي أو معونة، ولعله أراد أكثر من هذا وذاك أن يرى الأثر الذي تركته مفاجأة زوجي في نفسي بعد انقضاء يوم كامل عليها، فلما أريته الخطاب وتلاه تولَّاه من الدهشة ما تولاني، وأخذ يقلب الأمر معي على وجوهه بعد أن ذكرت له ما ثار عندي من ظنون، ثم إننا اتفقنا على أن أكتب له في إيجاز كتابًا أقول له إنه أدرى بواجبه أكثر مني، وإن طبَّه يسمح له بأن يقدر حاجة الولدين للسفر إلى أوروبا، فإن رأى ذلك ورأى أن أسافر معهما للعناية بهما فإنني لن أقصِّر في القيام بواجب الأمومة، وسأنهض به كما ينهض هو بواجب الأبوة، أما إن رأى بقاء الطفلين بمصر فلا اعتراض لي على ذلك، فصحة الولدين غاية همي، والعناية بهما مصدر سعادتي وهنائي.

على أن كتاب زوجي ورَدِّي عليه لم يهدياني إلى جواب عن سؤالي: كيف عرف مقري؟ وقد عرفت من بعد أنه علم بتردد صديقنا إلى الإسكندرية، فأيقن أني أقمت بها، فاتصل بمحافظها — وكان صديقه — وطلب إليه أن يدله على عنواني، ولم يجد المحافظ مشقة في الاهتداء إليَّ حيث أقيم؛ إذ سأل رجال الإدارة في أحياء الإسكندرية جميعًا فجاءه من أقيم في حيه بالعنوان، فأبلغه إلى زوجي، عند ذلك أيقنت أن من يعيش في جماعة منظمة يصعب عليه أن يحتفظ بأسرار حياته، وبخاصة ما كان منها واقعًا تحت نظر الدولة ورجالها كمحل السكن.

وأقمت أنتظر تصرف زوجي بعد ردي على خطابه، ولم يَطُل انتظاري، فبعد أيام تناولت كتابًا به تحويل على أحد بنوك الإسكندرية بنفقة إقامتنا، وفي الكتاب أن محل كوك أصدر تعليماته إلى فرعه بالإسكندرية ليعطيني تذاكر السفر لي وللولدين والمربية إلى أوروبا، وإلى حيث أريد التنقل بين أرجائها ذهابًا وإيابًا حتى عودتي إلى مصر، وأنه يريد أن يعرف الزمن الذي أعتزم قضاءه في تلك الربوع، ليبعث إليَّ تحويلًا بالنفقة اللازمة له.

لم تكن دهشتي إذ تلوت هذا الكتاب بأقل من دهشتي يوم تلوت الكتاب الأول، فلو أنني كنت مكانه حين رآني أتحدث في خلوة مع صديقنا لأكلت الغيرة قلبي، ولما ملكت نفسي، ولما استطعت أن أضبط أعصابي، وها هو ذا يبعث إليَّ بالنفقة كأن أمرًا لم يحدث، وكأني لا أزال أهلًا لعطفه وحبه، أيُّ إنسان هذا الرجل؟! وكيف ظل واثقًا بي ليوقِّع كتابه إليَّ: «الزوج الوفي المخلص»، وكأني لست دونه إخلاصًا ولا وفاء، أم يحسب نفسه قديرًا على أن يشتريني بالمال؟! إن يكن ذلك ظنه فقد خاب رجاؤه، فلست بالجامدة التي تستطيع أن تتحكم في أعصابها وعواطفها كما يتحكم هو في أعصابه وعواطفه.

وألفيت نفسي، بعد أن تلقيت كتابه الأخير، أمام الأمر الواقع؛ لذا ذهبت الغداة إلى البنك فقبضت التحويل، ثم ذهبت إلى كوك لمخاطبتهم في أمر السفر، واستعنت بهم في تصوير خطته وبرنامجه، ووعدتهم أن أعود الغداة لأبلغهم مطالبي، وأخذت وأنا في طريق عودتي أفكر من جديد في زوجي وجموده أمام منظر يثير الغيرة في نفس أكثر الناس جمودًا وأشدهم لزوجته — التي لا تزال على ذمته — كراهية واحتقارًا.

على أنني سمعت إذ ذاك صوتًا يناديني منبعثًا من أعماق نفسي: «لك الله يا ظالمة! أوتظنين أنه كان يحمل على نفسه كل ما حمل، ويكلف نفسه عبء سفركم وحالته المالية ما تعلمين، لولا أنه أراد أن يفرق بينك وبين صديقنا من غير ضجة تفضحكما وتسيء إلى ولديكما؟ خففي إذن من غلوائك، واعلمي أن غيرتك الحمقاء وكبرياءك المغرور هما علة ما أنت فيه، وأنك لولاهما لاستطعت أن تكوني أسعد النساء.»

أزعجني هذا الصوت، فلم يبق في قلبي ذرة من عطف على هذا الرجل، أو عاطفة تقربني منه ليفرق بيني وبين صديقنا، وإذا صح أن غيرته هي التي دفعته ليحمل على نفسه ويحتمل عبء سفرنا إلى أوروبا، فأين كانت هذه الغيرة من سنوات مضت؟ وإذا كان يظن أن هذا السفر يصلح ما أفسد، فما أفحش خطأه! لقد تنافر ود قلبينا فلم يعد إلى تجاوبهما سبيل، أما غيبتي عن صديقنا أشهر الصيف فلا أثر لها في نفسي، فليس بيني وبين الرجل إلا أنه كان شهمًا ذا مروءة، سندني في أوقات محنتي، وأظهر من الرجولية إزاء صديقتي ما لم يظهره زوجي، وأبدى من العطف على ولديَّ منذ انتقالي إلى الإسكندرية ما استحق ثنائي الجميل.

ومر بخاطري برهة أن أرفض السفر، وأن أظل بالإسكندرية كيدًا لزوجي، وامتحانًا جديدًا لغيرته، ولكني خشيت إن فعلت أن يتمسك عليَّ بهذا الرفض، ويتخذه حجة لأمر يدبره ضدي، فذهبت الغداة إلى كوك، ورتبت معه برنامج رحلتنا وطلبت إليه أن يعد تذاكر السفر كلها، ثم مررت به بعد يومين وأخذت كل ما أعده، وأبلغ المحل الرئيسي زوجي ما حدث، فبعث إليَّ بكتاب أرفق به تحويلًا جديدًا لنفقات السفر، وبعث معه بالجوازات اللازمة لي وللطفلين والمربية، وتمنى لنا رحلة سعيدة موفقة.

وجاء صديقنا قبيل السفر يودعني ويذكر أنه كان يود أن يراني ساعة السفر، لولا مخافته أن يلتقي بزوجي على الباخرة لقاءً تُخشَى مغبته. فلما كان يوم الرحيل وذهبنا إلى الميناء ألفيت زوجي في انتظارنا، فلما رآنا أقبل علينا، وقبَّل الولدين وسلم عليَّ، وحيَّا المربية، وصعد معنا الباخرة، واطمأن معنا إلى حجراتنا منها، وإلى موضع متاعنا بها، ثم ذهبنا جميعًا نستريح فوق ظهر الباخرة، فسرت أمامه وسار خلفي ممسكًا كلًّا من الولدين في إحدى يديه حتى أجلسهما معه على مقعد طويل، ولقد أخذ يداعبهما ويقبِّلهما، وأخذت أرقُّ له وأرثي لحاله. وإننا لكذلك إذ فاجأتنا المصادفة بمنظر ارتاع له قلبي، رأيت صديقتي مقبلة علينا وحولها عديد من معارفها والمعجبين بها، وهي توزع بينهم نظراتها الساحرة وابتساماتها المشرقة، وتبادلهم في صوت خافت عبارات لم أتبينها، وأشحت وجهي حتى لا أراها، ومرت هي بي في استخفاف وكأنها لا تراني، ولكنها وقفت عند زوجي وحيته وقبَّلت ولدينا، وبادلته عبارات فهمت من مجموعها أنها تسأله إن كان مسافرًا معنا، وأنه يجيبها أن عمله لا يسمح بهذا السفر، إذ ذاك تضاحكت في دلال وقالت بصوت مسموع: «كم آسف لذلك، فقد كانت رفقتك تسعدني، ولو لم تَطُل لأكثر من الأيام التي نقضيها على ظهر السفينة حتى نصل إلى جنوا.»

هي إذن مسافرة معي على الباخرة، وقد كان زوجي يعلم لا ريب بموعد سفرها، أتراه جاء اليوم ليودعنا، أم اتخذنا سلمًا ليودعها؟ ها هي ذي تنظر إليه كأنما تريد أن تلتهمه بعينيها، وهو يحدثها ملقيًا بنظره إلى الأرض كأنما خجل من أن أراهما يتحادثان، وحانت مني التفاتة إلى مربية أولادي فهمت منها ما أريد فأسرعت إلى الولدين وجاءت بهما عندي، وصديقتي تتعمد إطالة الحديث حتى استغرق دقائق خِلتُها دهرًا أرهفت أذنيَّ في أثنائه لأسمع ما يدور بينهما من حديث، ولاحظت منذ جاء الولدان عندي أن زوجي يريد أن ينهي هذا الحديث ليعودا إليه، وأدركت صديقتي ذلك من ردوده المقتضبة، فسلمت عليه سلامًا حارًّا وودعته بنظرة بارعة، وقالت في ابتسام ساحر: «أرجو أن أراك حين عودتي مستريح البال موفور العافية.»

فلما عاد إلى مجلسه على مقعده الطويل نظر إلى ولديه، وأومأ إليهما برأسه فهرولا نحوه مسرعين، وأجلسهما معه كما كانا من قبل، وعاد يقبلهما ويداعبهما، فلما أعلنت الباخرة المودعين بصوتها الضخم تؤذنهم بالانصراف ضم كلًّا من الولدين إلى صدره، ثم مسح عينيه بمنديله، وأقبل نحوي فسلم عليَّ وعلى المربية، وقصد نحو السلم يهبط عليه إلى رصيف الميناء.

وجرى ولداي مع المربية إلى الناحية الأخرى من الباخرة حيث السلم ليتمكَّنا من رؤية أبيهما حين انصرافه، ومكثت أنتظر عودتهما، لكنهما طال غيابهما؛ لأن أباهما وقف يشير إليهما ويناديهما، ويلوح بمنديله الأبيض حتى تحركت الباخرة واستدارت نحو مدخل الميناء إلى فسحة البحر، عند ذلك عادا فقبلتهما وقلبي يدق، وكأنما يقول في دقاته: تستطيعين أن تنفصلي عن هذا الرجل بجسدك، لكنك لن تستطيعي أن تفصلي حياتك عن حياته، وهذان الطفلان يربطان بينكما بأوثق رباط!

وتخطت الباخرة الميناء إلى البحر، وأطلقت لمحركاتها العنان، وأخذت الإسكندرية تتوارى شيئًا فشيئًا في حجاب الأفق، فلما لم يبقَ أمام ناظري إلا السماء والماء تمطيت على مقعد طويل، وحاولت أن أخلي خاطري من كل شيء، وأن أدع نفسي تموج مع نسيم البحر العليل في عوالم مبهمة لا يشغل الخيالَ ولا الذهنَ شيءٌ مما فيها، وإنني لكذلك إذ مرت صديقتي مستندة إلى ذراع أحد المسافرين وهي ترسل الحين بعد الحين ضحكات ناعمة تشهد بما يملأ قلبها من مرح ومسرة، قلت في نفسي: «ما أسعد هذه الأرملة الطروب بالحياة اليوم! وهي هي التي كانت من سنوات مضت صورة ناطقة لمعاني الهم والشجن، وهمها وشجنها بالأمس هما مصدر مرحها وسعادتها اليوم، فلولاهما ما بذل صديقنا وزوجي ما بذلا من عناية حتى استخلصا ميراثها وميراث أبنائها، وأتاحا لها هذه الحياة الناعمة التي تحياها، ولما شغل صديقنا، ولما شغل زوجي بها إلى اليوم. وهكذا الحياة، مجموعة من المتناقضات يسعد بها قوم ويشقى آخرون: صحة ومرض، فقر وغنى، شقاء وسعادة، وهذه المتناقضات تتداولنا دراكًا فنسعد ثم نشقى، ونشقى ثم نسعد، ويتوالى ذلك علينا حتى يدركنا الأجل المحتوم!

لست أدري لِمَ أثار مرور صديقتي هذه المعاني الفلسفية في نفسي، وجعلني أفكر في ضعف الإنسان أمام الحياة حتى لتزعجه أتفه الأشياء كما تسعده أتفهها، قد يكون موج البحر الممتد أمام النظر إلى مدى الأفق، والذي يستر في طياته من الغيب ما لا أعلم، هو الذي أثارها، وقد يكون هواء هذه الساعة برقته وما يهيئ للنفس من استرخاء وسكينة هو مبعثها، على أية حال فقد بقيت بعدها كأنني في حلم متمطية على مقعدي، أفتح عينيَّ وأغمضهما كما أهوى، وأشعر بنوع من تخدير الأعصاب الذي يسبق النوم.

فلما حان موعد العشاء وحان للناس أن يبدلوا ملابسهم ارتديت للسهرة ثوبًا بسيطًا، ثم صعدت إلى سطح الباخرة تلمع عليه أضواء الكهرباء، وبينما أسير ذهابًا وجيئة مرت بي صديقتي من جديد، وقد ارتدت للسهرة ثوبًا بارع الجمال، وقد تزينت زينة كلها الإغراء، وقد أمست بجمالها وزينتها وثوبها تلفت نظر كل رجل وكل امرأة مرت به أو مر بها، ونظرت إليها إذ ذاك، وأطلت النظر، وذكرت كلماتها الأخيرة لزوجي: «أرجو أن أراك حين عودتي مستريح البال موفور العافية.»

وتناولنا طعام العشاء، ثم أديرت بعده حفلة رقص شهدتها إلى منتصف الليل، وقد رقصت صديقتي مع كثيرين كانوا يستبقون إليها ويطلبونها للرقص معهم، وكانت لا تأبى أن تلبي من يتقدم إليها لتراقصه، ثم كان جمالها وكانت زينتها حديث الرجال جميعًا، وكان مرحها وكانت ابتسامتها أشد إثارة لإعجابهم من ثوبها ومن زينتها، وقد خيل إليَّ ساعة غادرت هذه الحفلة إلى مخدعي أن الرجال جميعًا جُنُّوا بها جنونًا، وأنهم لن يدعوا الحفلة تنتهي حتى مطلع الفجر!

وخلعت ثيابي، وارتديت ملابس النوم، واستلقيت في سريري وصورة صديقتي — وهي موضع الإعجاب، بل موضع التقديس عند الجميع — لا تبرح خيالي، وأغمضت عيني أحاول النوم، فإذا هذه الصورة تتوارى لتحل محلها صورة صديقتي يوم التقينا بالأقصر بعد عام من وفاة زوجها، لم تكن يومئذ الأرملة الطروب التي يراها الرجال اليوم ويعجبون بها، بل كانت سيدة بادية الحشمة، تؤمن بجمالها من غير أن تعرضه نزهة للناظرين، بل كانت تبدو وكأنها تستحيي منه، وتود لو تستطيع أن تواريه عن الأعين، يومئذ كنت أجلس إليها وأراها شابة جميلة ساذجة لا تجيد أن تتكلم، ولا تجيد إلا أن تنظر بعينيها الساحرتين إلى من يجالسها ومن يمر بها، ويومئذٍ لم أرَ بأسًا بأن يهتم صديقنا بأمرها، وأن يُعنَى زوجي بشئونها وشئون أبنائها، أما منذ خلص لها ولأبنائها ميراثهم وحسبت أنها اطمأنت إلى الحياة، تبدلت حالها غير الحال، وأصبحت امرأة وقاحًا لا تطاق، ظنت أنها تستطيع أن تنافسني في سلاسة العبارة وجمال اللفظ، وأنها تستطيع أن تسحر بهما الناس فوق سحرها إياهم ببارع جمالها وساحر فتنتها، وقد بلغت من ذلك أن فكر صديقنا في أن يتزوجها، وأن قبضت على ناصية زوجي، واستبقت مودته.

وكانت صورتها تتبدل أمام بصيرتي وأنا مستلقية في مرقدي، كلما تصورت حالًا من أحوالها التي أثارتني بها وانتهت إلى القطيعة بيني وبينها، وكنت أزداد حنقًا على هذه الصور وعلى صاحبتها كلما هفا إلى مسمعي صوت موسيقى الرقص آتيًا من ناحية بهو الباخرة، وهي الليلة في ذروة مجدها وانتصارها.

وأصبحت فتناولت فطوري في غرفة الطعام، وصعدت إلى ظهر الباخرة، ووقفت أستنشق هواء البحر لعله يذهب عني جهد الأرق الذي لازمني معظم ليلتي، وبعد قليل وقفت إلى سيدة حيتني بالفرنسية، ثم أخذنا نتبادل الحديث المألوف في مثل هذه الأسفار عن الجو والبحر، والرجاء أن يظل هادئًا إلى نهاية السفرة، وإنا لفي حديثنا إذ مرت صديقتي مشرقة الوجه باسمة الثغر كأنها نامت كل ليلتها، وسعدت بأجمل أحلامها، وكأنها لم ترقص إلى قرابة الصبح، ونظرت إليَّ ساعة مرت بنا نظرة تعالٍ وكبرياء وكأنها تقول لي: «أرأيتني ليلة أمس، وهلا تزال الغيرة تأكل صدرك مني ولا تفتئين تطمعين في منافستي؟ إن يكن ذلك فهذا البحر أمامك فاشربي منه، أو ألقي نفسك بين أحضانه لتتخلصي من غيرتك ويأسك.»

وسألتني محدثتي، وكنت قد علمت منها أنها فرنسية، أأعرف هذه السيدة الجميلة؟ قلت: نعم، أعرفها، وإن لم نكن أصدقاء، وهي كثيرة المعارف والأصدقاء، وأصحابها في مصر يسمونها «الأرملة الطروب»، ففيها خفة تقارب الطيش، وتذكرت وأنا أتكلم أن صديقتي مصرية، ويجب لذلك ألا أجرحها، فاستطردت في كلامي: «لكن أصدقاءها يذكرون أنها طيبة القلب، وأن خفتها ومرحها لا يتعديان المجتمع إلى حياتها الخاصة، أما معرفتي بها فقليلة، وليس من حقي أن أحكم لها أو عليها.»

وعلقت محدثتي الفرنسية على كلامي فقالت: «أنت على حق يا سيدتي، فأنا أعرف في باريس نفسها سيدات اشتهرن بالخلاعة، وهن مع ذلك مثال الشرف والسمو عن الابتذال، وتقولين أنت الآن إن أصدقاء هذه السيدة المصرية يقولون ذلك عنها، ولا أحسبني في ريب من ذلك بعد الذي رأيته أمس، لقد تركتنا أمس منتصف الليل والسهرة لم يحمَ وطيسها، ولو أنك بقيت إلى نهايتها لرأيت عجبًا، شرب بعض الشبان حتى ثملوا، وعرضوا على هذه السيدة أن تشرب ولو قليلًا من الشمبانيا فأبت إباء مطلقًا، معتذرة بأنها لم تشرب في حياتها، وأن دينها يحرم عليها الشراب، وألقى هؤلاء الشبان الثملون أنفسهم على أقدامها، وزعم أحدهم أنه شاعر إنجليزي، وألقى مقطوعة ادَّعى أنه نظمها لساعته من وحي عينيها الساحرتين، وذهب آخر إلى غرفة الطعام وجاء بما فيها من الأزهار ونثرها عليها، ولم يكن القبطان أقل الحاضرين افتتانًا بها، فقد عرض عليها وهو في نشوة شرابه إن لم تكن تعجبها قمرتها، أن تأخذ قمرته وصالونه، وضحكت هي لهذا العرض، وقالت إنها ستفكر فيه متى أصبحت وأصبح القبطان، والحق أشهد أنها كانت برغم مرحها وطربها شديدة الاعتزاز بنفسها وبكرامتها، وإن لم تكن أقل من ذلك اعتزازًا بجمالها وبسحرها»، وسكتت محدثتي قليلًا، ثم قالت: «ألا ليتك تستطيعين يا سيدتي أن تحدثي التعارف بيني وبينها.»

وأُخِذت لهذه العبارة الأخيرة، فلن يحملني اعتبار أيًّا كان على التحدث إلى هذه المرأة التي سلبتني هناءتي وسعادتي، بل سلبتني كل ما في الحياة من نعمة وجمال، على أني سارعت مع ذلك وقلت لمحدثتي: «أنت يا سيدتي في غير حاجة إلى من يقدمك لها، وحسبك أن تبادئيها الحديث بإطراء جمالها لتكسبي قلبها، وهي طيبة القلب كما ذكرت لك، ويسرها لذلك أن تعامليها من غير كلفة ولا رسميات.»

لا أستطيع أن أصف ما أثاره هذا الحديث في نفسي من غيرة ومن حيرة، لقد كان هذا الانتصار الباهر الذي أحرزته صديقتي خنجرًا مسمومًا صُوِّب إلى صدري، ولكني كتمت موجدتي، واتخذت من طفليَّ مسلاةً لي أنسى بهما همي وكربتي.

وتناولنا طعام الظهيرة وذهبنا إلى بهو الباخرة نتناول القهوة، فإذا إعلان بخط واضح أن الآنسة الإيطالية، ضاربة الكمان الشهيرة في الأوساط العالمية جميعًا، تفضلت بإحياء سهرة هذا المساء في بهو الباخرة، وتبدأ الساعة التاسعة والنصف، والجميع مدعوون.

أقبل المساء وبدَّل المسافرون ملابسهم لطعام العشاء، فإذا صديقتي أبدع ثوبًا وزينة مما كانت عليه أمس، وإذا العيون تنهبها ساعة دخلت قاعة الطعام، وعجب الناس حين رأوها تتخطى المائدة التي كانت تجلس عليها الليلة الماضية إلى مائدة القبطان لتجلس إلى جانبه، عند ذلك دوَّت القاعة بالتصفيق مما أخجل مصريتي، فلما فرغنا من الطعام وذهبنا إلى البهو إذا رجال الباخرة قد استحدثوا فيه منصة للاعبة الكمان، وإذا على هذه المنصة كراسي ثلاثة لم نعرف لمن وضعت، وبعد قليل أقبل القبطان وعن يمينه لاعبة الكمان، وعن يساره صديقتي، وإذا هم يصعدون جميعًا إلى المنصة، ويجلس القبطان بين السيدتين، فلما سكن تصفيق الحضور وقف القبطان يقول: «لا حاجة بي إلى تقديم الآنسة ربة الكمان وشهرتها تغنيها عن كلامي، وكمانها الذي ستسمعونه عما قليل أبلغ عبارة مني في تقديمها، أما السيدة المصرية فقد عرفتموها جميعًا ليلة أمس، بعد أن قدَّمها لكم جمالها وظرفها وقلبها الكبير، والكلمة الآن للكمان البارع.»

figure
فلما كان يوم الرحيل وذهبنا إلى الميناء ألفيت زوجي في انتظارنا، فلما رآنا أقبل علينا وقبَّل الولدين.

ولعبت الآنسة عدة مقطوعات لعبت معها بالعقول والقلوب، فكانت كل مقطوعة تنتهي تدمي الأكف بالتصفيق، ولست أذكر أني سمعت موسيقى بلغت من الإعجاز ما بلغت موسيقى تلك الليلة، سمعنا مقطوعات لبتهوفن، ولموزار، ولفاجنر، وأمثالهم من الخالدين الذين أشاعوا في جو العالم أبدع الأنغام وأعذب الألحان، فلما فرغت الآنسة من إيقاعها البارع البديع الذي سما بنفوسنا إلى أجواء الفن العليا، وقف القبطان يشكرها لما أسعدتنا جميعًا به من تلك الموسيقى السماوية، ثم قال: «ولم أرد أن أروعكم ساعة بدأت هذه الحفلة، فقد صادف بدؤها بدء عاصفة لعبت بالباخرة، وستحسونها جميعًا عما قليل، لكن هذه العاصفة وعبثها بالباخرة لم يكن لهما أي سلطان على الآنسة؛ لأن فنها ملكها في أثناء لعبها فلم يكن لغيره، ولم يكن للعاصفة، سلطان على أصابعها البارعة، ولا على جسمها الذي استطاع أن يحتفظ بكل توازنه أكثر مما استطاعت باخرتي أن تحتفظ بتوازنها.

ولم تقف قدرة الآنسة عند هذا الحد، فقد أنستكم جميعًا ببراعة فنها أن الباخرة تميل يمنة ويسرة؛ لأن أنغامها أمسكتكم في مقاعدكم تطربون لها وتستمعون إليها، أفلا يوجب هذا كله عليَّ وعليكم أن نضاعف شكرنا لمن أباحت لنا هذا الفن الجميل، وأنستنا غضب البحر وهياجه؟! فباسم هؤلاء الحاضرين واسمي أقدم لك يا سيدتي خالص الشكر وجزيل الثناء.»

واندفع الحاضرون نحو المنصة يحيُّون الآنسة ويشكرونها، ولكن الأعجب من هذا أنهم كانوا يتجهون بعد تحيتها إلى صديقتي يحيونها هي الأخرى، ثم يقفون حولها يبدون من الإعجاب بجمالها مثل إعجابهم بالكمان ولاعبته، وحاولت صديقتي أن تنصرف حين انصرف القبطان، فإذا المحيطون بها قد ضربوا حولها نطاقًا يتعذر اختراقه، ولم ينجها من هذا الموقف إلا أن أعلنت أنها بدأت تشعر بالدوار، وأنها في حاجة إلى الهواء الطلق، أو تهبط إلى قمرتها، عند ذلك أفسح المحيطون بها طريقًا لها، وكلهم يكررون آي إعجابهم بجمالها ورقتها وظرفها.

وكنت أشهد ذلك مشدوهة، لا دهشة أعظم من دهشتي، ولا حيرة أعظم من حيرتي وغيرتي، ولو أن زوجي اختار لها أن تسافر معي على هذه الباخرة كيدًا لي، لقد بلغ من كيده ما أراد، وأكثر مما أراد، أما إن كانت المصادفة هي التي ساقت ذلك كله إليَّ فيا لبؤسها من مصادفة مشئومة!

وخرجت مع الناس إلى ظهر الباخرة، وكأني أشعر بالدوار يعبث بي، فهبطت مسرعة إلى قمرتي، وقضيت بها ليلة نابغية، فلما أصبحت كان البحر قد استرد اتزانه فسكن هياجه، وعاد سلسًا كما كان، والتقيت بالفرنسية بعد الفطور، وتبادلنا التحية، وأخذت تحدثني عن موسيقى الآنسة الإيطالية وروعتها، ثم قالت: «وصاحبتنا المصرية، أرأيت تهافت الرجال عليها، واستسلامهم لفتنة جمالها؟» قلت: «نعم، رأيت ذلك ولم يدهشني، ذلك شأن الرجال، يترامون على المرأة ترامي الفراش على النور، ثم لا يعنيهم أن تحرقهم بنارها، وتذري بقاياهم في الهواء يبددها كل ريح.»

وقالت محدثتي: «وأعجب الأمر أن أكثر الرجال رزانة وحكمة لا يمتازون في هذا الشأن عن أكثرهم طيشًا ونزقًا، وإن اختلفت أمزجتهم في ذوق الجمال وصاحبته، وأعجب من ذلك أن البريق الظاهر يفتنهم ويغريهم أكثر مما يفتنهم الجمال الحق في المرأة الكاملة، ولا شيء يدل على هذا ما يدل عليه افتتانهم بثياب المرأة وحليها وظاهر زينتها، وأنهم مع ذلك يذكرون أن المرأة هي التي تخلع على هذه الأشياء جمالها ورونقها، وأما إن رأوا سيدة بسيطة الثياب قليلة الزينة فقلَّما يلفتهم جمالها، وأقل من ذلك أن يلفتهم ما تنطوي عليه روحها وجسمها من كريم المعاني، ورائع الجمال، ثم يقول الرجال بعد هذا إنهم أولو حكمة، وإن كانت حكمتهم أغلب الأمر هي السخف كل السخف، ولم يكن لها من سند إلا سخرية المرأة منهم وفتنتها إياهم.»

أعجبني هذا الكلام فانصرفت أكرره في أعماق روحي، وتبدو لي من خلاله صورة زوجي وعطفه على صديقتي، فلا يزيدني ارتسامها أمامي إلا ازدراء له ومقتًا إياه، فهو الذي أفسد حياتي ودفعني للفرار من بيتي باصطفائه صديقتي على رغم علمه بخفتها وطيشها.

كانت ليلتنا المقبلة آخر ليالينا على الباخرة؛ إذ كانت ترسو الصباح بمرفأ جنوا، ولهذا أقيمت في المساء حفلة تنكرية لم أرد أن أشترك فيها؛ لأن صديقتي بارعة في التنكر، تبتكر له من الأزياء ما لا يرد بالخاطر، وما يلفت الأنظار إليه ويمسكها عنده، ولست حريصة على أن أشهد الاحتفال بانتصارها الساحق للمرة الثالثة؛ لهذا أويت إلى قمرتي، وأعددت متاعنا، وقضيت بعض الوقت أقرأ وأنا في سريري، ثم أطفأت مصباحي.

واستيقظت بكرة الصباح وصعدت إلى ظهر الباخرة فإذا هي ترسو، وانتقلنا توًّا إلى محطة السكة الحديدية، فلما انطلق القطار ولم تكن به صديقتي تنفست الصعداء، وحمدت الله أن استعدت حريتي، وتنقلنا بين شمال إيطاليا وسويسرا وفرنسا وألمانيا مبتعدين عن المدن ما استطعنا، مستمتعين من هواء الجبال والبحيرات بما رد إليَّ هدوئي وطمأنينتي، وزادني هدوءًا أني انتهيت إلى تصميم حاسم أن أنفصل بالطلاق عن زوجي، وإن كلفني ذلك ما كلفني، فلم يعد يعنيني ما يقوله الناس عني إذا لجأت إلى القضاء، فالأمر لا يتعلق بسعادتهم بل بسعادتي، ولم أعد أعبأ بما كان يذكره صديقنا من تأثر ولديَّ بهذا الطلاق، فالوضع الحاضر أسوأ أثرًا على نفسيهما، وأكثر إساءة لهما، وإذا اضطرني عناد زوجي إلى التشهير به، فلن يكون ذلك ذنبي، ولن أكون آخر امرأة طُلِّقت، ولا آخر امرأة تُطلَّق، ولن يكون لي من وراء هذا الطلاق إلا أن أستعيد حريتي، وأن أحيا كما يحيا كلُّ من ملك حريته.

من يوم صح على هذا الرأي عزمي شعرت بدبيب الحياة السعيدة يجري في عروقي، ورأيت الجبال أبهى منظرًا بالخضرة التي تكسو سفوحها، والبحيرات أبرع جمالًا بأضواء الشمس والقمر تنعكس على صفحتها، ثم شعرت بنوع من النعمة لم أكن أشعر به من قبل، شعرت بكمال شخصيتي، وبقوة أنوثتي.

وعدنا إلى مصر، فألفيت زوجي يصعد إلى الباخرة وهي لا تزال في عرض الميناء، وأقبل علينا وجلس إلينا بعد أن قبَّل الطفلين وضمهما إلى صدره وقبَّل يدي وسلم على المربية، وكأنه مشوق إلينا أعظم الشوق، وبعد أن اطمأن بنا المجلس وتبادلنا السؤال عن الصحة وكيف قضينا سفرنا، نظر إليَّ في عطف وحنان، وسألني: «ألا تريدين أن نعود جميعًا إلى القاهرة؟» فأجبته في هدوء وحزم: «أشكرك يا صديقي فلم يبق إلى حياتنا المشتركة من سبيل، وأنا أطلب إليك منذ اللحظة أن تسرحني، ولن أضن عليك بما تطلب لقاء طلاقي، فإن أجبتني إلى ذلك شكرت لك، وإن أبيت فلن تحمد من بعدُ إباءك.»

ووجم الرجل لما سمع، ولم نتبادل بعد ذلك كلمة حتى خرجنا من الجمرك، وذهبت إلى بيتي بالإسكندرية، وعلى باب البيت ودَّعنا ولا يزال واجمًا كئيبًا، وعاد إلى القاهرة، وعدت إلى حياتي أنتظر ما الله فاعل به وبي!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤