بداية عمل

في التاسعة من صباح اليوم التالي كان «تختخ» يجلس في مكتب المفتِّش «سامي» يَتناول الشاي وأمامه ملفٌّ كاملٌ باسم «صبحي عبد المنعم». وكان الملفُّ يَشمل ملخَّصًا لسلسلة الحوادث التي ارتكبها … وبصماته وبعض صورٍ له.

وأخذ «تختخ» يقرأ: في سنة ١٩٤٢م، وسنُّه ١٦ سنة ارتكب أول سرقة له، وكان معه شريك، ولكنه رفض أن يبوح باسمه، وكانت سرقة بسيطة ولكن …

وسرَح «تختخ» … يُفكِّر … لا بدَّ أن هذا الشريك، هو الذي أصبح زعيم العصابة فيما بعد … إنه منذ البداية يَشتغِل بنفس الأسلوب … يَرسم الخطط … ويَترُك الآخرين يُنفِّذونها … ولا يظهر هو مُطلقًا.

ومضى «تختخ» يقرأ: بعد ذلك بخمس سنوات قُبض عليه في حادث سرقةٍ مسلَّحة وحُكم عليه بالسجن ٧ سنوات، ثم قُبض عليه مرةً أخرى بعد ٤ سنوات بتُهمة التزوير … ولكنه استطاع الهرب، واختفى ولم يَظهر بعد ذلك، وفي كل مرةٍ لم يكن يَعترف على شريكه أو شركائه.

وانتهى التقرير … وأخذ «تختخ» … يتأمل الصور … صورة ولد في السادسة عشرة وسيم الشكل. كيف تحوَّل هذا الولد الرقيق الجميل إلى مُجرِم؟! بالتأكيد كان ذلك تحت تأثير أصدقاء السوء. هؤلاء الذين يُزيِّنون للأولاد في هذه السن ارتكاب الجرائم الصغيرة التي سرعان ما تتحوَّل إلى جرائم كبيرة تنتهي حياة أبطالها في أعماق السجون.

وقبل أن يَسترسل «تختخ» في خواطرِه … قاطعه المفتش قائلًا: والآن … ما رأيك؟

رد «تختخ»: لم أتقدَّم كثيرًا!

المفتش: معك حق … فالمعلومات قليلة جدًّا … وهذا الزعيم الزئبقي ظل طول الوقت خلف الستار لا يعرفه أحد … حتى منذ كان ولدًا صغيرًا!

تختخ: على كل حالٍ إن المهمة القادمة تُناسب المغامرين الخمسة أكثر مما تُناسب رجال الشرطة. فسوف نتتبَّع ماضي «صبحي» حتى نعرف أين بدأ حياته … ونتعرَّف بأصدقائه … لعلَّنا في النهاية نستطيع أن نصل إلى الزعيم الخفي …

المفتش: إنها تُشبه التحقيق الصحفي!

تختخ: بالضبط!

وصمت «تختخ» … لحظةً ثم قال للمُفتِّش: قل لي ماذا يَخطر ببالك عندما تسمع كلمة «نجَّار»؟

المفتش: لا شيء سوى رجل يَعمل بالنجارة!

تختخ: هذا ما يخطر ببال أي شخصٍ … ولكن ما دخل رجل يعمل بالنجارة ﺑ «صبحي»؟

قال المفتش مبتسمًا: إنك تسألني … ولكن أنت المسئول عن الإجابات …

ابتسم «تختخ» أيضًا وقال: معك حق … وسوف نحصل على الإجابات قريبًا!

وبعد أن أخذ «تختخ» ملخَّصًا بالمعلومات التي بالملف، غادر مكتب المفتش وعاد إلى المعادي حيث كان بقية الأصدقاء في انتظاره، وروى لهم ما تمَّ في المقابلة بينه وبين المفتش، ثم أضاف: ليس هناك جديدٌ … ولكن هناك فكرةً خطرت ببالي … إن أهم المعلومات التي عندنا هو تاريخ ارتكاب «صبحي» أول جريمة له … كان ذلك سنة ١٩٤٢م وعمره ١٦ سنة … وفي مثل هذه السن يكون الطالب في نهاية المرحلة الابتدائية … أو بداية الثانوية!

نوسة: لعلك تقصد المدرسة الإعدادية!

ابتسم «تختخ»: لم تكن هناك مدارس إعدادية في ذلك التاريخ … كانت هناك مدارس ابتدائية وثانوية فقط … وكان التلاميذ أكبر سنًّا من الآن!

عاطف: وماذا يعني هذا؟

تختخ: سنبحث عن المدرسة التي كان فيها!

ضحك «عاطف» قائلًا: نبحث في آلاف المدارس … وبين آلاف التلاميذ … شيء مُضحك!

تختخ: إنك لم تُفكِّر طويلًا … إننا لن نبحث إلا في عشر مدارس أو أكثر قليلًا … سنبحث في مدارس شبرا فقط … فقد ارتكب «صبحي» أول حادثة له في شبرا!

محب: معك حق … ولكن هذا هو المرجَّح … ففي مثل هذه السن لا يذهب السارق الصغير بعيدًا عن مكان منزله ومدرسته … وكثيرًا ما تكون السرقة من الجيران أو الأقارب!

لوزة: في هذه الحالة لا بدَّ أن نحصل على أسماء وعناوين المدارس … فكيف؟

تختخ: من دليل التليفون!

وأسرعت «لوزة» تُحضر دليل التليفونات … وبحثوا عن المدارس التابعة لمنطقة شمال القاهرة التعليمية التي تتبعها مدارس شبرا … وأخذ «محب» يقرأ أسماء المدارس الابتدائية والإعدادية … وكان عددها ٣٥ مدرسة، وبعد أن انتهى من قراءته قال: ما هي خطوتك التالية يا «تختخ»؟

ردَّ «تختخ»: هل عندك عناوين هذه المدارس في دليل التليفونات؟

محب: لا. الموجود هو أسماء المدارس وأرقام التليفونات فقط!

تختخ: إن هذا يُصعِّب مهمتنا، ولكن لا بأس … سيأخذ كلٌّ منا مجموعة من الأرقام … وما دام العدد هو ٣٥ ونحن خمسة فلكلٍّ منَّا سبعة أسماء … وعليه الاتصال بهذه المدارس ومعرفة عناوينها!

نوسة: ولكن لماذا؟

تختخ: سوف نزورها مدرسة مدرسة ونعرف في أي فصلٍ كان «صبحي» … ومَن هم أصدقاؤه في هذه الفترة!

عاطف: معنى هذا أننا سوف ننتهي من هذه الزيارات وقد تجاوز عمرنا الأربعين!

وضحك الأصدقاء، وقالت «لوزة»: ولكن كيف نُقنعهم ليقولُوا لنا العناوين … بأية طريقةٍ؟

تختخ: هذا لغزٌ بسيطٌ يا «لوزة» … فكِّري في طريقة!

واحمرَّ وجه «لوزة» … ولزمت الصمت فقالت «نوسة»: ما رأيكم في أن يدَّعي الواحد منا أنه شقيق أو شقيقة أحد الطلبة، وهو يسأل عن عنوان المدرسة ليَحضر إليها أو لمقابلة أحد المسئولين!

وابتسم «تختخ» … وقال «عاطف» متحمسًا: معقول … معقول جدًّا!

قالت «نوسة»: الحمد لله أنكَ وجدت شيئًا معقولًا في حديثنا!

نهض «تختخ» واقفًا وقال: لقد حان وقت الغداء، هيا بنا، وعلى كلٍّ منكم أن يتَّصل بالمدارس … سآخذ أنا المدارس السبع الأولى … و«محب» … السبع التالية … و«عاطف» السبع الثالثة … وهكذا …

وانصرف «محب» و«نوسة» معًا … وخرج «تختخ» وحده … بعد أن اتَّفق الجميع على اللقاء في المساء … ولم يكد «تختخ» يقترب من منزله حتى وجد الشاويش «فرقع» يُغادرُه، ونبح «زنجر»، كأنه ينبه «تختخ» إلى الشاويش. والتقيا وجهًا لوجهٍ. فنزل الشاويش من على درَّاجته وتقدم من «تختخ» قائلًا: أخيرًا وقع!

وانتبه «تختخ» لكلمة وقع وقال: من هو؟ زعيم العصابة؟

قال الشاويش: لا … هذا الكلب الأسود … لقد اشتكى أحد المواطنين أن كلبًا أسود قد عضَّه منذ ساعتين … وعرفتُ على الفور أنه هذا الكلب …

قال «تختخ» في ضيق: هكذا مرة واحدة؟! كلب أسود يعضُّ شخصًا فيكون الكلب هو «زنجر»! أليس في المعادي كلها كلب أسود سوى هذا الكلب؟!

الشاويش: إنه كلبٌ شرس …

تختخ: إنك تعلم جيدًا يا حضرة الشاويش أن «زنجر» لا يعضُّ أحدًا مطلقًا … إلا إذا كان لصًّا … أو …

وتوقف «تختخ» عن إكمال جملته فصاح الشاويش بغضبٍ … أو من؟

تختخ: لا أقصد يا حضرة الشاويش …

الشاويش: تقصدني أو لا تقصدني … هاتِ هذا الكلب وتعال معي!

تختخ: لن أحضر يا حضرة الشاويش … مع احترامي الشديد لأوامرك … ولكن هذا الكلب لم يعضَّ أحدًا اليوم!

الشاويش: كيف تُؤكِّد هذا؟

تختخ: لأنه كان معي منذ الصباح، وهناك شهود …

الشاويش: الشهود طبعًا هم بقية المغامرين الخمسة.

تختخ: نعم … وقد تُكذِّبهم كالمعتاد. ولكن والدة ووالد «عاطف» و«لوزة» … شاهَداه أيضًا. فهل تتَّهمُهما بالكذب!

احمرَّ وجه الشاويش، وقفز إلى دراجته قائلًا: قد يُفلت هذه المرة أيضًا … ولكن أؤكد لك …

قال «تختخ» مقاطعًا: تقول لي الأسطوانة المعتادة نفسها … إنك في يوم ما سوف تقبض عليه، وترسله إلى الإعدام!

الشاويش: أؤكد لك …

تختخ: وأنا أؤكد لك أيضًا أن هذا لن يَحدُث مطلقًا!

وانطلق «تختخ» وخلفه «زنجر» الذي لم يَفُته أن يَقفِز على قدمي الشاويش مداعبًا كالمعتاد … وصاح الشاويش أَبعِده عنِّي … أبعد هذا الكلب الشرس!

وصفَّر «تختخ» ﻟ «زنجر» ثم قال: هيَّا بنا … الغداء أهم يا «زنجر» …

وترك الشاويش وهو يسبُّ ويَلعن، ويُقسم أنه في يوم ما سوف يقبض على هذا الكلب اللعين، وسوف يُرسله إلى حيث لا يعود مرة أخرى!

وكان الشاويش ما زال مستمرًّا في لعناته عندما دخل «تختخ» منزله، وكم كانت دهشته عندما وجد «لوزة» قد اتَّصلت به منذ دقيقة واحدة، لتَطلُب منه الاتصال بها لأمر هامٍّ بمجرد وصوله!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤