النجار!

أسرع «تختخ» إلى التليفون، وطلب «لوزة» وهو يتساءل عن الأمر الهام الذي تريده من أجله … لقد كانت معه حتى نصف ساعة مضت فماذا حدث في نصف الساعة؟

على الخط جاء صوت «لوزة» مُتلهِّفًا مثيرًا قائلة: لقد عثرت على كلمة «النجار» في العناوين التي كنَّا نبحث عنها!

أثارت كلمات «لوزة» اهتمام «تختخ» فورًا وقال: كيف؟

لوزة: عندما عدتُ بدأت أستخدم التليفون فورًا … بعض المدارس لا يرد لأننا في إجازة … مدرسة «السيدة حنيفة الإعدادية» ردَّت … كان المتكلم هو فراش المدرسة …

وسكتت «لوزة» لحظات تَستردُّ أنفاسها المتلاحقة، وكان «تختخ» … في غاية التلهُّف لسماع بقية حديثها، ومضت «لوزة» تقول: وسألت الفرَّاش عن عنوان المدرسة فقال إنها في شارع النجار … بأول شبرا …

ضحك «تختخ» قائلًا: إنك أنشط مُخبِرةٍ في العالم … لقد عثرتِ عمَّا كنت أفكر فيه خلال الأيام الماضية … وأعتقد أننا عثرنا على طرف الخيط الذي سيُؤدِّي بنا إلى زعيم العصابة!

لوزة: هل تظنُّ أن النجار الذي تحدَّث عنه «صبحي» هو شارع النجار؟

تختخ: أُرجِّح ذلك. وسوف أتحدَّث إلى المفتش «سامي»، وأطلب منه أن يطلب كشفًا بأسماء التلاميذ الذين كانوا بالمدرسة عام ١٩٤٢م … فإذا كان «صبحي» بينهم فسنكون في الطريق الصحيح!

وبعد أن أنهى «تختخ» مكالمته مع «لوزة» اتصل بالمفتش «سامي» وأخطره باستنتاجاته، وطلب منه كشف تلاميذ مدرسة «السيدة حنيفة الإعدادية» عام ١٩٤٢م.

قال المفتش: من الصعب الحصول على هذا الكشف اليوم. ولكن سنحصل عليه غدًا!

وشكر «تختخ» المفتش «سامي»، وتناول غداءه بصدرٍ منشرحٍ؛ فقد عثر على البداية … وبعدها يستطيع المغامرون الخمسة أن يجدوا طريقهم إلى الزعيم الخفي … وقال «تختخ»، وهو يتناول قطعة لحمٍ: مهما تصوَّرتَ أيها الزعيم أنك ستُفلت من يدنا. فإنك لن تفلت أبدًا. وسوف تقع كما وقع قبلك الكثير من المجرمين.

ودُهش والده وهو يسمع هذا الكلام فقال: ما هي الحكاية؟ هل تُحدِّث نفسك؟

وتنبَّه «تختخ» إلى ما حدث وابتسم …

وفي المساء اجتمع الأصدقاء … وقضوا وقتًا مَرِحًا وهم ينتظرون صباحًا فيه أخبار قد تؤدي إلى مغامرةٍ مثيرةٍ … وقد ضحكوا كثيرًا عندما اكتشفوا أن «محب» كشف عن أسماء وعناوين المدارس في دليل التليفونات القديم … وكانت به الأسماء فقط، وليست به عناوين … والدليل الجديد فيه الأسماء والعناوين معًا.

•••

وفي مُنتصَف نهار اليوم التالي كان كشف تلاميذ مدرسة «السيدة حنيفة» موجودًا بين يدي «تختخ» … وكانت مفاجأة مثيرة للأصدقاء أن وجدوا اسم «صبحي عبد المنعم حسين» بينهم، وكان المفتش قد وضع تحته خطًّا، وكتب بجواره: لقد صحَّت استنتاجاتكم، ففي إمكانكم مواصلة البحث، وسوف نُساعدُكم.

لم يتمالَك «تختخ» نفسه وقال: ألم أقل لكم!

قال «عاطف» ساخرًا: ألا تَنتهي من الحديث عن نفسك؟! لقد كانت مُجرَّد خبطة … حظٌّ موفقٌ … ولا شيء آخر!

ردَّ «تختخ» محتدًّا: خبطة حظٍّ … إنَّ الحظ لا يأتي وأنت جالس تطرقع أصابعك … إنه يأتي بالعمل الشاق، والتفكير المنظَّم … إن الحظ يا «عاطف» نتيجة الفكر والعمل، وليس مجرد مصادفة …

محب: أرجو ألا نُضيِّع وقتنا في الفلسفة … المهم الآن ما هي الخطوة التالية؟

تختخ: الحقيقة أن الخطوة التالية أوحى لي بها تحقيق صحفي قام به أحد المُحرِّرين، ويقوم التحقيق على وجود صورة قديمة لبعض الزملاء في مدرسة واحدة في سنة ما … ثم معرفة أين ذهب كلٌّ منهم … وكان من المدهش أنه في إحدى الصور ظهر شخصان مُتجاوران في الفصل، وعندما كبرا أصبح أحدهما سجينًا … والثاني هو ضابط السجن!

نوسة: غير معقولٍ!

تختخ: لقد قرأت هذه المعلومات في إحدى المجلات، وقد نجد نحن صورةً قديمة ﻟ «صبحي عبد المنعم» وزملائه في المدرسة ونحصل على معلوماتٍ أكثر غرابة …

لوزة: المهم أن نَحصُل على الصورة!

تختخ: سأبذل محاولة الآن لذلك … سأذهب إلى مدرسة السيدة حنيفة، وأقابل بواب المدرسة الذي أرجو ألا يكون قد تَغيَّر، فإنَّ بوابي المدرسة يعرفون أكثر التلاميذ، وبخاصة في الماضي عندما كان عدد التلاميذ أقل!

محب: ولكنه قد يكون بوابًا شابًّا!

تختخ: ذلك سيكون من سوء الحظ، ولكن دعونا نُحاول وتعالَ معي يا «محب».

وبعد ساعة في المواصلات من المعادي إلى القاهرة … إلى شبرا … أشرفا على المدرسة القديمة … وقبل أن يصلا إليها أطلا على اسم الشارع … وكان اسمه «شارع علي النجار».

واقتربا وكلٌّ منهما يُمنِّي نفسه أن يجد بوابًا عجوزًا، ولكن للأسف لم تتحقَّق الأمنية. فقد كان البواب شابًّا قويًّا لا يَتجاوز عمره الثلاثين، ولا يُمكن أن يكون هو بواب المدرسة من حوالي ٢٥ سنة … ولكنَّهما تقدما منه وقد استقرَّ «تختخ» على فكرة … فبعد أن حيَّاه قال: إننا نبحث عن البواب السابق!

قال الشاب ببساطة: تَقصد عم «علي»؟

تختخ: نعم … عم «علي»!

البواب: لقد أُحيل إلى المعاش منذ فترةٍ طويلةٍ!

تختخ: وهل ما زال حيًّا!

البواب: نعم، وهو يبيع للتلاميذ اللبَّ والفول في أثناء السنة الدراسية!

تختخ: هل تَعرف عنوانه؟

البواب: إنه يسكن قريبًا من هنا!

وأخذ البواب الشاب يُشير بيديه، ويتحدَّث وهو يَشرح مكان عم «علي» حيث يجلس بعربته الصغيرة … وشكره «تختخ»، ثم اتجه هو و«محب» حيث أشار البواب الشاب، ومن شارعٍ إلى شارع … ومن حارة إلى حارة حتى شاهَدا الرجل العجوز يَجلس أمام قفص صغير عليه كومة من اللب وأخرى من الفول السوداني وثالثة من الحمص، واقترب «تختخ»، وأخرج من جيبه قرشَين وطلب من العجوز أن يعطيه بقيمتهما لبًّا وفولًا … ومدَّ العجوز يدًا مُرتعشةً إلى الكومتين، وأخذ يملأ قرطاسين صغيرين …

انتهز «تختخ» الفرصة وقال: ألستَ عم «علي» بواب مدرسة «السيدة حنيفة»؟

ردَّ الرجل: نعم … ولكنِّي تركتها منذ سنوات بعيدة!

تختخ: كم قضيتَ في العمل هناك؟

العجوز: كثير … لقد قضيت عمري كله هناك!

تختخ: هل كنت هناك سنة ١٩٤٢م؟

العجوز: قبل ذلك بعشر سنواتٍ أو أكثر … وبعد ذلك بسنواتٍ طويلة!

ورقص قلب «تختخ» ونظر إلى «محب» الذي بادله ابتسامته … وكان الرجل قد ناولهما قرطاسي اللب والفول … فأخذا يقزقزان ويمضغان وهما يتحدثان إلى العجوز الطيب …

قال «تختخ»: هل ما زلتَ تذكر أسماء الطلبة الذين كانوا بالمدرسة!

وابتسم الرجل العجوز عن فمٍ خلا من الأسنان وقال: كيف أتذكَّر الألوف!

تختخ: إننا سنَسألُك عن واحد فقط منهم … كان بالمدرسة في سنة ١٩٤٢م!

العجوز: أيام الحرب العالمية!

تختخ: كان اسمه «صبحي عبد المنعم حسين»!

هزَّ العجوز رأسه وبرقت عيناه، وخفَقَ قلبا «تختخ» و«محب» فقد كانت الكلمات القادمة بعد ذلك سوف تَحسم الموقف كله … وقال العجوز: صبحي عبد المنعم حسين!

تختخ: نعم … صبحي عبد المنعم!

وعاد الرجل يَهزُّ رأسه، ثم تقدَّم ولدٌ صغير يشتري من العجوز بعض اللبِّ والفول. وأحسَّ «تختخ» بأنه سيَنفجِر من الغيظ … وكاد «محب» يسبُّ ويلعن … ولكنهما تمالكا أعصابهما، والعجوز يملأ القرطاس بيدٍ مُرتعشةٍ. ويتحدث مع الولد الصغير يسأله عن أسرته … وانتهى العجوز، ووضع القرش في جيبه ثم التفت إلى «تختخ» و«محب» … فعاد «تختخ» يسأله: صبحي!

قال العجوز: نعم … نعم … صبحي عبد المنعم … مَن الذي ينسى هذا الولد!

وتنفس «تختخ» الصعداء وهو يقول: أنت تذكره؟

العجوز: طبعًا … أذكره … لقد كان ولدًا مهذَّبًا وطيبًا … ولكن …

وسعَلَ العجوز … واستمر يسعل لحظات، ثم استعاد أنفاسه … وكادت أنفاس «تختخ» و«محب» تنقطع، وهما في انتظار إجابته … وبعد دقائق مضى العجوز يقول: كان ولدًا صغيرًا لطيفًا عندما جاء إلى المدرسة … وكان ناجحًا وممتازًا … ولكنه تعرَّف ببعض الأولاد المُنحرِفين … ووقع تحت تأثيرهم وبدأ يتعثَّر في دراسته … حتى إنه وصل إلى السنة الرابعة الابتدائية وهو في السادسة عشرة … ثم ارتكب جريمةً ولم يَعُد بعدها إلى المدرسة!

ونظر «تختخ» إلى «محب» … كأنه يُريد أن يقول له إنَّ استنتاجاته مضبوطة …

وقال «تختخ»: وهل تذكر هؤلاء الأولاد؟

قال العجوز: أذكر بعضهم … فقد كانت هذه الحادثة من أسوأ ما مرَّ بي في المدرسة … وقد حزنت من أجل «صبحي» جدًّا … وإن كنتُ ما أزال متأكدًا أنه ضحية الأولاد الذين كانوا معه!

تختخ: هذا ما أتصوَّره أنا أيضًا!

العجوز: أنت … هل تعرف صبحي!

تختخ: نعم … تقريبًا أعرفه!

العجوز: أين هو الآن؟

تختخ: لقد مات!

العجوز: مسكين … ماتَ في هذه السن المبكرة!

تختخ: وبسبب أصدقاء السوء أيضًا!

العجوز: لقد كانوا خمسة … يسيرون دائمًا معًا، ويَهرُبون من المدرسة معًا … وكم نصحتهم!

تختخ: هل تذكر أسماءهم جميعًا!

هزَّ العجوز رأسه وقال: لا … لقد مضى على ذلك وقت طويل … لقد تذكرت صبحي فقط للحادثة التي ارتكبها … ولكن لا أتذكَّر الباقين بالضبط …

تختخ: أرجو أن تتذكر … إن هذا يُهمُّنا جدًّا!

أخذ العجوز يهزُّ رأسه ويُسوِّي كم اللب الذي أمامه ثم قال: أذكر واحدًا منهم فقط … لأنه استقام وأكمل دراسته، أصبح الآن رجلًا معروفًا. وهو يسكن قريبًا من هنا!

تختخ: عظيم … مَن هو … وأين يسكن؟

قال العجوز: في شارع الأزهار … لا أعرف رقم البيت، ولكنها عمارةٌ كبيرةٌ في الشارع … واسمه «حسن أبو المجد» …

تختخ: وأين شارع الأزهار هذا؟

وأخذ العجوز يُشير بيديه وهو يوضِّح للصديقين الطريق إلى الشارع حتى عرفا مكانه، وشكرا العجوز وانصرفا …

قال «محب»: إنني أشعر أننا لا نتقدَّم كثيرًا!

تختخ: ليس بالسرعة المطلوبة … ولكن مثل هذا اللغز يحتاج إلى صبرٍ طويلٍ … فنحن نبحث عن رجلٍ مجهولٍ بين ملايين الناس … وسنتتبَّعه خطوةً خطوةً … وسوف نعثر عليه …

محب: أرجو ذلك …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤