الرجل السادس

في اليوم التالي انطلق الأصدقاء كلٌّ في مهمَّته … كانوا جميعًا يدركون أن «تختخ» اختار، صاحب المطبعة لأنه أكثر الخمسة قربًا لزعيم عصابة تزييف … إن التزييف أساسًا عملية طباعة، فإذا كان أحد الأربعة الأحياء، المُشتبه فيهم يملك مطبعة … فهو أقرب من أيِّ واحدٍ لزعامة العصابة …

وهكذا أخذ «تختخ» طريقه إلى شارع «محمد علي» حيث كانت المطبعة كما عرف من الأستاذ «حسن أبو المجد» المحامي … وأخذ يَسأل على طول الشارع المُزدحم حتى وصل إلى المطبعة … ووجد اسمها مكتوبًا عليها «مطبعة الأمانة» صاحبها ومديرها «كمال السيد» …

كانت واجهة المطبعة من الزجاج المصقول … وكل شيءٍ فيها يدعو للاحترام، فقد كان مظهرها بعيدًا عن كل شبهةٍ … وراجَعَ «تختخ» خطته، ثم دخل إلى المطبعة، وطلب مقابلة المدير، وكانت معه الصورة التي أخذها من المحامي …

قال كمال: طبعًا … لقد كان زميلي في المدرسة الابتدائية وكنَّا ستة أصدقاء لا نفترق …

تختخ: كنتم ستة … أم خمسة؟

وارتبك «كمال» قليلًا وقال: آسف … أقصد كنا خمسة أصدقاء لا نفترق … وقد سار كل منَّا في طريق!

تختخ: واحد أصبح طبيبًا … والآخر مُحاميًا … والثالث صاحب مكتب استيراد وتصدير والرابع أنت … والخامس …

قال كمال: الخامس … تقصد «صبحي عبد المنعم» …!

واكتسى وجهُه بالأسف لحظات ثم قال: لقد قرأت منذ فترة أنه مات، بعد أن قُبض عليه في عصابة تزييف …

تختخ: هل كانت علاقتك به وثيقة؟

كمال: لا … لقد كنتُ أراه بين فترة وأخرى … ولم أكن أعرف طبعًا أنه يتشغل بالتزييف …

تختخ: وآخر مرة رأيته فيها؟

اكتسى وجه «كمال» بحمرةٍ مُفاجئة وقال: لماذا تسألُني هذه الأسئلة؟ لماذا جئت؟ ما هي صفتك؟

كان هذا الانقلاب المفاجئ في حديث «كمال» مبعثًا لارتباك «تختخ» فقال: إن مجلة مدرستنا تقوم بتحقيقٍ صحفيٍّ عن حياة التلاميذ منذ ثلاثين عامًا … وقد اخترنا مدرسة «السيدة حنيفة» لأنها قديمة لإجراء هذا التحقيق … وقد قابلنا الأستاذ «أبو المجد» المحامي فروى لنا بعض ما يعرف عن زملائه … ومنهم أنت …

كمال: وماذا قال لك عني؟

تختخ: لم يقل شيئًا سوى اسمك وعنوانك … وجئت لأَحصل على المعلومات منك …

وقف «كمال» قائلًا: آسف … ليس عندي ما أقوله … لقد نسيت كل شيء عن تلك الأيام، وتستطيع أن تسأل غيري.

أدرك «تختخ» أنَّ المقابلة قد انتهت … وأنه لم يحصل على أية معلومات أخرى من «كمال» … فقام واقفًا … ومدَّ يده مسلمًا برغم كل شيء …

وعندما استدار خارجًا شاهد على الجدار الزجاجي للغرفة يد «كمال» وهي تمتدُّ مسرعةً إلى التليفون …

خرج «تختخ» ورأسه حافل بعشرات الأفكار والخواطر … من الواضح أن «كمال» يُخفي سرًّا ما … إنه لا يُريد أن يتحدث عن شيءٍ … فلماذا؟ ما هو السر الذي يخفيه؟ هل هو زعيم العصابة؟

واتجه «تختخ» إلى «العتبة» وركب الترام إلى «باب اللوق» ثم القطار إلى «المعادي» … ووجد «نوسة» وحدها. فلم يكن أحد من الأصدقاء قد عاد بعد …

وعندما رأت «نوسة» «تختخ» أدركت أن ثمة شيئًا هامًّا يشغل رأسه … وجلس «تختخ» وبدأ يروي ما حدث بينه وبين «كمال» من حديث، و«نوسة» تتابعه باهتمام فلما انتهى من حديثه قالت: إنني موافقة على شكوكك حيال «كمال» … إن رفضه الحديث عن السادس …

وتوقفت «نوسة» فقال «تختخ»: هل لاحظتِ أنتِ أيضًا … لقد كنا نقول إنهم خمسة … ولكن يبدو أن هناك سادسًا … لقد كنتُ مخطئًا عندما تسرَّعتُ وقلتُ إنهم خمسة … لقد كان يجب أن أتركه يتحدث عن الستة!

وفي تلك اللحظة وصلت «لوزة» … جلست ساكتةً لحظات ثم قالت: لم أحصل على معلوماتٍ تؤدِّي إلى أي شيءٍ … الدكتور «عزيز» رجلٌ ممتاز … وقد استقبلني في منزله بعد أن أوصاه خالي الدكتور «مختار» … وقد ضحك كثيرًا عندما علم أنني أريد أن أستمِع إلى قصة حياته … وقال إنه ليس فيها شيءٌ هامٌّ. ولما ذكَّرته بمدرسة «السيدة حنيفة» وشلَّة الأصدقاء الذين كانوا معه روى لي بعض الذكريات عنهم … ولكن يبدو أننا أخطأنا في العدد … فهم لم يكونوا خمسة …

أسرع «تختخ» يقول: كانوا ستة!

قالت «لوزة» مُندهِشةً: كيف عرفت؟

تختخ: هذا أهم ما يُمكن معرفته … إن زعيم العصابة في الأغلب هو الرجل السادس … ولكن لستُ أدري لماذا لا يُريدون جميعًا الحديث عنه … الفراش العجوز قال إنهم كانوا خمسة … المحامي قال إنهم كانوا خمسة … صاحب المطبعة بعد أن قال إنهم كانوا ستة عاد فأكَّد أنهم كانوا خمسة … لماذا؟

لوزة: لا بدَّ أنه يُهددهم … أليس زعيم عصابة؟

نوسة: المهم الآن أن نعرف من هو!

وهنا أخرجت «لوزة» صورة من جيبها وأشارت إلى ولد بين مجموعة من الأولاد، وقالت: هذا هو الرجل السادس!

قفز «تختخ» من مكانه، وأمسك بالصورة وأخذ يُدقِّق النظر فيها … وإصبع «لوزة» الصغير يشير إلى الولد السادس: هذا هو الولد المطلوب!

قال «تختخ» متسارع الأنفاس: هل عرفت اسمه؟

لوزة: طبعًا … إنَّ اسمه هو … هو …

نوسة: هو ماذا «يا لوزة»؟

لوزة: ياه … لقد …

تختخ: لا تقولي إنك نسيته!

لوزة: لا … لقد كنتُ أُحاول أن أعتمد على ذاكرتي … ولكن اسمه على ظهر الصورة …

وقلب «تختخ» الصورة … ووقع بصره بسرعة على الاسم السادس … «شحاتة علي» … وقال «تختخ» مبتسمًا: ها أنتِ ذي تُسجلين براعتك مرة أخرى أيتها المغامرة الصغيرة. إن هذا الاسم لا يعرفه رجال الشرطة أنفسهم …

وفي هذه اللحظة وصَل «محب» وخلفه ظهَر «عاطف» وقال «محب» وهو يُلقي بنفسه على مقعد: رحلةٌ مُرهِقةٌ بلا داع؛ فعندما ذهبت إلى المحامي وجدته قد سافر إلى «طنطا» لحضور قضية هناك!

عاطف: أما «علي بدر» فقد غادر القاهرة منذ شهر في رحلة عملٍ إلى «أوروبا» ولم يعد حتى الآن … والمعلومات التي جمعتُها عنه لا تؤدِّي إلى شيءٍ … فهو حقًّا كثير الأسفار … ولكن عمله نظيف لا تشوبه شائبة …

تختخ: لقد حصلنا على المعلومات المطلوبة … المهم هي الخطوة التالية!

عاطف: المعلومات المطلوبة؟! هل عرفتُم شخصية زعيم العصابة؟

تختخ: نعم … عرفنا اسمه … عرفته «لوزة» … وقد كنا نتصور أنها لن تعثر على معلومات على الإطلاق …

ومدَّ «تختخ» يده بالصورة إلى «محب» و«عاطف» وأشار إلى أحد الأولاد في الصورة قائلًا: هذا هو «شحاتة علي» أو زعيم العصابة!

ونظر «عاطف» إلى الصورة طويلًا ثم قال: إنه يُشبه زعيم عصابة فعلًا … بقامته الطويلة، واستهتاره الواضح … ونظرةِ الشرِّ في عينيه! المهم كيف نقبض عليه؟

هزَّ «تختخ» رأسه قائلًا: إنك مُتفائلٌ جدًّا … إن المسافة بين هذه الصورة وبين القبض عليه كالمسافة بين الأرض والشمس … بعيدة جدًّا! … ولكن ما فعلناه حتى الآن يؤكِّد أننا نسير على الطريق الصحيح!

محب: ولكن كيف جزمتَ بأنه زعيم العصابة … ألِمُجرَّد وجوده في صورة مع «صبحي عبد المنعم» عضو العصابة الميت؟!

تختخ: إنني أرجو أن تقوم «نوسة» بشرح القصة كلها باعتبارها مسئولة عن تجميع المعلومات حتى نصل لاستنتاجاتٍ محددةٍ.

قالت «نوسة»: لقد أعددتُ بحثًا صغيرًا عن الموضوع … فقد اصطدمنا بعصابة التزييف أولًا في لغز الفهود السبعة … واستطعنا الإيقاع بجزء من العصابة … والمطبعة التي تطبع عليها … ولكن بقية العصابة بما فيهم الزعيم استطاعوا الفرار ومعهم الكليشيهات، وهي أهم جزء في عملية التزييف … ثم اصطدمنا بالعصابة مرة أخرى في لغز عصابة التزييف، ووقعت العصابة كلها في يد رجال الشرطة، كما تمَّ الحصول على الكليشيهات … ولكن رئيس العصابة استطاع الإفلات مرةً أخرى وعرفنا أنه لا يَظهر لرجاله مطلقًا، وأنه يُدير العصابة من بعيد مُعتمِدًا على مساعدة «صبحي عبد المنعم». وقد وقع «صبحي» في يد رجال الشرطة مصابًا … وقبل أن يموت أدلى بحديث فهمنا منه أن زعيم العصابة كان زميلًا له في المدرسة … وكانت هناك كلمات مثل «نجار» ودلَّتنا على الشارع الذي به المدرسة والمدرسة نفسها … وعرفنا أن «صبحي» كان له عدد من الأصدقاء في فصلٍ واحدٍ … وأنه ارتكب جريمة عام ١٩٤٢م وهو ما زال طالبًا، وأنه رفض الاعتراف على شريكه في الجريمة. وكانت الدلائل تدلُّ على أن هذا الشريك زميل له في المدرسة … وهكذا بدأنا البحث عن هؤلاء الزملاء …

سكتت «نوسة» لحظات فقال «تختخ»: هذا ملخصٌ ممتازٌ … استمري يا «نوسة».

نوسة: وقد قال بواب المدرسة إنهم كانوا خمسة؛ هم: «كمال السيد» صاحب مطبعة … «عزيز سيدهم» طبيب … «علي بدر» صاحب مكتب استيراد وتصدير … «حسن أبو المجد» المحامي … ثم «صبحي عبد المنعم» المتوفى … وقد بدأ بالمحامي … الذي قدم صورة للخمسة معًا … وذهب «تختخ» لمقابلة «كمال السيد» … الذي تسرَّع وقال إنهم كانوا ستة … وقد أكَّدت معلومات «لوزة» … التي حصلت عليها من الدكتور «عزيز» أنهم كانوا ستة فعلًا … وأمامنا الآن صورة فيها الستة معًا … واحد منهم لا بدَّ ان يكون زعيم العصابة … ونحن نستطيع استبعاد «صبحي» لأنه مات … والدكتور «عزيز» لسُمعته الممتازة … و«حسن أبو المجد» المحامي و«علي بدر» لأنه كان مُتغيبًا خارج مصر في أثناء الصدام مع العصابة … ويبقى «كمال السيد» … و«شحاتة علي» … أو الرجل السادس الذي حاول الجميع أن يُخفُوه من الصورة …

أنهت «نوسة» تقريرها المُتقَن وقال «محب»: لقد تذكرتُ الآن أن المحامي وهو يبحث في الصورة كان يَبحث بعيدًا عنا … كأنه يُريد أن يخفي شيئًا … ولا شك أنه كان يخفي الصور التي يظهر فيها الرجل السادس.

تختخ: هذه ملاحظةٌ معقولةٌ. ومن الواضح أنهم جميعًا يخشونه … ربما يعرف أشياء عنهم لا يحبُّون أن يقولها، أو ربما يُهدِّدهم، وهذا هو الاحتمال الأكبر.

عاطف: لنا إذن جولة أخرى مع المحامي …

تختخ: فعلًا … وعلى «محب» أن يذهب للقائه مرةً أخرى … أما أنا فسوف أتابع «كمال السيد» صاحب المطبعة … إنَّ أحدهم سوف يؤدِّي بنا إلى زعيم العصابة الخفي …

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤