الفصل الأول

البارق في الظلام

دعتني جمعية «مصر الفتاة» دعوة كريمة إلى إلقاء محاضرة على أعضائها في الجامعة المصرية. فوعدت. وخطر لي أن خير موضوع أتخذه هو شخصية نسائية غنية ندرسها معًا. فتعرض لنا في سياق البحث موضوعات جمة في الأخلاق والأدب والاجتماع نمحصها قدر المستطاع، بينا نحن نرسم من المرأة صورة شيقة. فنسجل للحركة النسائية في هذه البلاد مفخرة أخرى تثير فينا الرغبات، ونستمد من وحيها المثل والمعونة والفائدة جميعًا.

وما خطر لي ذلك إلا وصحبه اسم شجي يحيا دوامًا بزفراته الحارة المنغومة. زفرات تناقلتها الأصداء يوم لم يكن للمرأة صوت يُسمع، فرسمت من الذاتية خطًّا جميلًا حين كانت صورة المرأة سديمًا محجوبًا وراء جدران المنازل وتكتم الاستئثار.

برغم ذلك أنشأت أنقب في تاريخ المرأة المصرية. وكنت كلما دقَّقت نمت «التيمورية» في ذهني وتفردت صورتها أمامي؛ إذ لم يقم على مقربة منها صورة تسابقها أو تشبهها ولو شبهًا بعيدًا. ونظرت إليَّ بعينيها المجهولتين المرمدتين باثَّة حسرتها، باكية شجوها، مهمهمة لي في خلوتي أبياتًا كثر أمثالها في ديوانها «حلية الطراز»؛ حيث تقول:

حيِّ الرفاق وصف للحي أشواقي
وحدِّث الركب عن تسكاب آماقي
قد جرَّعتني صروف الدهر مرتغمًا
لواعجًا كحميمٍ أو كغسَّاق
أسال حر الهوى قلبي وأبرزه
جفني على يد آماقي وأحداقي
هذا شواظ الهوى في القلب ملتهب
وفي التنفس من آثار إحراقي
فطالعت كل ما عثرت عليه من آثارها، وجمعت من المعلومات عنها ما تيسر، وفكرت في نشر بحوث عنها. وكان يدفعني إلى ذلك:
  • أولًا: أن لعائشة فضل المتقدم بيننا وهي طليعة اليقظة النسوية في هذه البلاد.
  • ثانيًا: أن الجمهور يعرف أنها «شاعرة» دون أن يلم بما تتكون منه شاعريتها، ودون أن يقف على حال من أحوال حياتها أو يحلل ميلًا من ميولها.
  • ثالثًا: أن النظرة في مقدرتها إنما هي اكتناه للذات المصرية ليس من الجانب النسوي بل بوجه عام. وسنرى بعد التحليل أن لعائشة مكانتها بين أدباء عصرها وليس بين الأديبات الشرقيات وحدهن.
  • رابعًا: أنها من عمال دولة القلم عاشت في وحدتها كثيرًا، وأعطتنا في شعرها ونثرها صورة مؤثرة. أما رأيها في الحياة فحقيق بالانتباه والتبصر؛ لأنه رأي جمهور كبير من الشرقيين والشرقيات كان شائعًا في زمانها وليس بالنادر في أيامنا هذه.
  • خامسًا: أن مثل هذا البحث يرافقه سرور متضاعف. أليس أن جميع طبقات الناس تلذ لها الروايات، وهي إنما تمثل حياة أشخاص وهميين؟ فكيف بحياة أشخاص عاشوا قبلنا وعانوا صامتين كل ما يعانيه أبطال الروايات! هم الذين توفرت لديهم شروط اليقظة أيام كان الجمهور منا في سبات واستكانة! وكم من نابه قضى تاركًا آثاره فاكتفينا بالثناء عليها وعليه ثناء النائحات على كل ميت، فظلمناه في مماته بعد أن كان مظلومًا في حياته! فلم نستجل من آرائه رأيًا ولم نحلل من العوامل التي كوَّنته عاملًا.
كلا، لم نحلل بعد رأيًا ولم نستجل عاملًا؛ لأننا ما زلنا في هذا الفن الجليل أطفالًا. نظرة إلى ما يُكتب عن ثمرات المطابع عندنا ترينا (مع استثناء صغير) أننا نقابل الكتب الجيدة بأحد الأنواع الثلاثة التالية.
  • الأول: أن نغفل ذكرها إغفالًا حتى وإن كانت عنوانًا قيمًا ليقظتنا الفكرية، وخطوة واسعة تستدعي الإعجاب والاغتباط. ولا يبرر هذا الإغفال حتى ولا الاعتذار بأن الجمهور يتطلب الآن موضوعات معينة لا يرضيه سواها؛ لأن هذا الجمهور المتهم هو هو الذي يبتاعها ويستهلك طبعاتها، فكيف يجد متسعًا من الوقت لمطالعة كتاب بكليته ويضيق وقته وصبره دون قراءة سطر عنه؟
  • النوع الثاني: هو إما مرقة دهنية لزجة مُزجت فيها مواد الثناء والمدح والإطراء يُطلى بها ذكر الكتاب، دع عنك كونه صائبًا أو غير صائب، وإما تقريظ بالاستعارات المألوفة التي لم تعد تعني شيئًا يختم (كما تختم جميع الصلوات بآمين) بكلمات لا مفرَّ منها مثل «حث الجمهور على اقتناء هذا السفر النفيس» أو «التمني أن يصادف هذا الكتاب الشيق النافع ما يستحقه من الرواج والانتشار».
  • أما النوع الثالث: الذي أرادوا أن يطلقوا عليه اسم «النقد الحديث» فهو نقيض «التقريظ» العتيق. ويفكهني أن أتخيل أحيانًا أن جميع اصطلاحات الثناء والإطراء «أضربت عن العمل» هي الأخرى لحين ما فتكأكأت في مكان واحد متماسكة متجمدة، ففاجأتها قنبلة تائهة فافرنقعت متطايرة أشظاظًا ملتهبة تقمصت بفضل بعض النقدة «العصريين» قذفًا وطعنًا وتهجمًا.

ومما يؤسف له أن من هؤلاء النقدة من هو ذو مقدرة كبيرة، لو هو أنال مقدرته كل موهبة من التثقيف والصقل والملاينة والكياسة الفنية، فتذكر أن نقده ليس بالبلاغ العسكري يعلن الأحكام العرفية، ولا هو بالمنشور الأسقفي يحرم عضوًا من شركة المؤمنين وشفاعة القديسين، ولا هو بأمر «المعلم» القروي (على الطراز القديم) غضب على تلميذ مسكين لم يحفظ أمثولته كما ينبغي فحظر عليه أن يأكل، أو يشرب، أو يتحرك، أو يتنفس بغير سماحه. كلا. ليس النقد بشيء من ذلك. إن هو إلا نظرة فرد معرض للخطأ في عمل فرد آخر معرض للخطأ يختلف عنه ميولًا وتأثيرات وكفاءة ووراثة. وإذا كان الأدب واجبًا في الخطاب الشفهي، فهو في الخطاب الكتابي أوجب. وأول مظاهر الأدب هو التهيب أمام شخصيات الناس لكونها شخصيات إنسانية فحسب، فكيف بها إذا هي بذلت مجهودًا ما، وكانت ذات ميزة علمية، أو فنية وأخلاقية؟

إن ألزم مميزات الناقد هي العطف. لست أعني العطف بمعنى الإغضاء والتساهل واعتبار العيوب والنقائص حسنات وكمالات. وإنما أعني عكس التحامل والتعنُّت ليتهيأ له التجرد من ذاتيته تجردًا موقوتًا يتسنى معه الدخول في حياة المنقود شاعرًا معه، متوجعًا لحاجته، مراعيًا عادات بيئته ومطالبها، خاضعًا لجميع مؤثرات المحيط، طالبًا لحين غايته من الحياة. وإلا فكيف يدعي أنه فهم المنتقد عليه؟ وإن لم يفهمه فكيف يكون رسوله إلينا؟ كيف يجرؤ امرؤ على تحويل حاجات الناس إلى حاجته، وحصر عقلياتهم في عقليته، وسجن قلوبهم في قلبه، وقياس أحوال حياتهم بمقياس حياته، ثم يأتينا بحكم يزعمه نهائيًّا بلا نقضٍ ولا إبرام؟! إلا أن ذاك هو الهاجي وليس بالناقد. هو المتصلب وليس بالفنان. هو الذي يتجاهل أن النقد لا يقوم بإظهار العيوب (وجميع الناس بارعون فيه) وإنما هو إحكام التمييز والتعليل، شأن المصور في توزيع الأنوار والأظلال على ما يجب أن تكون في اللوحة الواحدة.

أعلم أن بين نقدة الفرنجة كثيرين من المتحاملين، ولكن ما يأتونه من ضروب الطعن والنهش لم يقنعني بأن العصمة في جانبهم، ولم أرَ في أحكامهم سوى رأيهم الخاص ليس إلا … وهذه الصورة التي أرسم من التيمورية إنما هي نظرة فردية في طبيعتها ولا زعم لي أنها صورة مطلقة. وأتمنى أن تتنبه الرغبة في معرفتها في نفس كل من شاء مسايرتي فيدرسها معي متصفحًا روحها، راسمًا لذاته صورة منها خصيصة. فإن الحرية الفكرية هي ما ننعم به ولله الحمد. وبها سيبقى الإنسان كبيرًا نبيلًا وإن كان في سواها عبدًا ذليلًا.

•••

وقد أحصيت الأسباب العمومية لدرس الشاعرة، ولكنَّ لدي سببًا آخر؛ وهو مقابلة معنوية جرت لي معها منذ حداثتي القصوى.

كان ذلك في تلك البلدة بفلسطين وقد بدا الحي متجليًا ببهجة الأعراس وبهائها لزواج ذلك الوجيه السري. ونصب صوان عظيم على سطح الدار الواسعة ليقام فيه مهرجان الفرح كل ليلة. فما يخيم الظلام إلا وتعزف الآلات الشرقية تحت الخيمة الوضاءة بتألق الأنوار ومعالم الزينات، الغاصة بوجوه القوم وأعيانهم من تلك البلدة وضواحيها.

إذ ذاك يهرع أهل الحي إلى الشرفات والنوافذ وسطوح المنازل يتسمعون إلى آهات الطرب الشائعة في الفضاء حتى لتتهادى أصداؤها نحو ما جاور من جبال الجليل. والأطفال مغتبطون بأن يحتضنهم صدر دافئ ويحميهم من أهوال الظلام، فتتنبه منهم النفوس لتفهم أعجوبة الألحان.

كنت على ذلك في ليلة فإذا بصوت ينشد على نقرة العود:

كحل بعينيك أم صبغ من الرحمن
جفن من السحر أم سحر من الأجفان
خال بخديك أم صنع من الديان
توَّهت فكر الأنام في الجفن والخالات١
تبارك الله ما أحلاك من إنسان

سمعت وأصغيت ليس بنفسي كما كانت صغيرة وقتئذ بل بكل قواي الكامنة التي سينميها المستقبل وبكل ما في الأيام التي عشتها وسأعيشها من أمل ويأس وسعادة وشقاء. ولعلي استشعرت ببعض ما سأفهمه بعدئذ من نجوى الموسيقى الشرقية … تقول إن الإنسان يجهل كيف ولماذا وُلد، ولكنه يعلم أنه يحتاج إلى السعادة التي لم يفز بعد منها سوى بفتيت موهوم. تقول للطفل والشاب أنهما أكبر سنًّا مما يظنان، وتقول للقوي الظافر أنه ضعيف مدحور، وتقول لكل أحد إن حياته كانت إلى هذه الساعة خالية سخيفة قحطاء. تقول له إن في الدنيا أمورًا لم يختبرها وإن جهله لها فقر وضنك وذلٌّ وعبودية وموت سبق الموت. تقول إن الاجتهاد والجهاد عقيم النتائج؛ لأن العمر قصير سريع العطب، وإن كل لحظة يجب أن «تُعاش» بأكملها ليستخرج منها أقصى ما تكنُّ. تقول إن القلب رُوي بالعبرات ينتظر اليد القادرة تضرب عليه ليتفجر كصخرة موسى … وإذ تنطلق الأصوات سابحة كالأجنحة في فردوس من الألحان، ثم تصبح متفجعة منتحبة، ثائرة، عاصفة تلج وتتمادى يخيل أن الفزع قد جوَّف تحتها هاوية تترامى فيها الأصداء المرتعشة. فتعكف النفس على حاجتها ووحدتها وحيرتها بين هذه الهاوية وذلك الفردوس، وتطلب التوازن والراحة في سحر الحب وذوب الحنان … ولكن العمر قصير سريع العطب، وكل ما فيه موسوم بوسمه … ولكن الحياة مراوغة في استقامتها، شحيحة في كرمها، وكل ما فيها كريم شحيح مراوغ مستقيم …

هذا بعض ما قاله لي فيما بعد شهيق الأوتار، فهل فهمت منه عندئذ شيئًا؟! لا أدري! ولكن كم ذا انتقش الظلام بالمشاهد الخلابة لذكر ذلك الشخص العجيب الذي لم يكن أحد يعلم ما إذا كان جمال عينيه كحلًا أم صبغًا من الرحمن! ذاك الشخص الذي تاهت به أفكار الناس فتجمهرت لتهتف: تبارك الله، ما أحلاك من إنسان! أتتصورون أثر هذا الرسم في مخيلة صغيرة شديدة التيقظ، وفي نفس ليِّنة ترتعش أمام مظاهر الفن والجمال حتى لقد تبكي لمرور سحابة زاهية في الأفق الأزرق؟

•••

ولطالما سمعت هذا «الموال» بعدئذ من منشدين أصوليين وغواة يقبلون عليه إقبالهم على جميع الأدوار المصرية المشوقة. ولكن أكانوا يعلمون من هي شاعرته؟

أرجح أن تلك كانت نشوتي الموسيقية الأولى. فأبقت فيَّ أثرًا، كأنما هو إشارة من روح التيمورية تنبهني. وما تبينت تلك الإشارة إلا عند مطالعة ديوانها والاهتداء إلى ذلك «الموال» فيه. فأدركت أنها حدثتني منذ زمن بعيد تلك الروح التي غاصت نفثاتها الحزينة الطروبة في أرواح المنشدين فحبست على أوتارهم ألحانًا، وانطلقت على أمواج الهواء فنًّا وتغريدًا وإبداعًا. وهكذا تلك المرأة التي وقعت زفراتها في وحدة خدرها وراء الحجاب، صار الشجن والطرب منها فعالًا تتناقله أجواء الأقطار وتتأثر به ليالي الأفراح في نازح الديار.

كذلك برقت التيمورية في تلك الظلمة وكان ذلك النور منها رمزًا لنور آخر خطير. إن عائشة عصمت ظهرت حين كانت المرأة في ليل دامس من الجهل. فجاءت بارقًا يبشر المرأة المصرية ومستقبلها.

١  كذا في الأصل. أما أنا فأذكره كما كنت أسمعه «توهمت فكر الأنام بالعين والحاجب».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤