الفصل الرابع

بيئة الشاعرة

بيئتها الاجتماعية

تُرى هل الحاضر إلا خلاصة ما أتمته الحياة واستهلكته من المطالب والجهود؟ وما هي البيئة إن لم تكن تلك «الخلاصة» منظمة بيد الإنسان وبمشورته أو منتظمة بحكم الأحوال والاسترسال؟ وهل اليوم إلا الماضي لغد، وهل يكون الغد إلا ماضيًا لبعد غد؟

إن كل صباح وكل مساء يأتيان بمجهودهما وخبرتهما ليضيفاهما إلى ذخيرة الماضي الفسيح، وكل خيط من خيوط الزمان ينسج نسيجه في رحاب ما يمر ويتجمع ويبقى. وعندما ننتقل من بيئة إلى بيئة، ومن مكان إلى مكان، ومن آنٍ إلى آن، لن نجد أمامنا إلا صورًا مختلفة من صور الماضي الحي في كل حاضر وفي كل مستقبل.

فإذا ما وُلد الطفل تلقته دائرة من دوائر الماضي التي تُدعى «البيئة»، فوجد فيها بداهة ما يقوم بحاجته؛ لأنه هو كذلك صورة أخرى من تجمع الماضي، فلا غرو أن يقوم كل نوع بنوعه ولا غرو أن تحتشد أسرار الحياة وتوجز في البيئة التي هي صورة مصغرة من العالم. ولا غرو أن تكون ممثلة المعالم وللحياة في إغداق نعمها ومواهبها بلا سبب على بعض أسراها، وتكون لآخرين أقسى مثال للجور والتعسف والحرمان.

وليست البيئة من خصائص الإنسان، بل للجماد، والحيوان والنبات بيئتها الموافقة لنموها، الملائمة لطبيعتها. إلا أن الإنسان قد يكون في بيئته الحسية يقوم بكل فرائض مرتبته الاجتماعية ومطالبها ويعد فيها من السعداء أو من البؤساء، ويظل في داخله شاعرًا بشعور غير هذا الذي يحسبه الناس عليه، ويرتبونه بموجبه. قد يكون جائعًا وهو يقيم الولائم، سائرًا في القفار وهو يتخطر في الحدائق، مستعطيًا متسول الفكر والعاطفة وهو كثير الفضل والمنح. وعلى نقيض ذلك قد يشعر بأجنحة الحرية تصطفق في نفسه وهو مكبَّل بالقيود والأصفاد. وقد يلمس مكمن مقدرته وهو في أدنى دركات العجز. وقد يتضح في وجدانه أعلى نهج للمعرفة والحكمة وهو أمي جاهل لا يدري، بموجب تعريف البشر، الفرق بين اللغة والفن ولا ماذا يميز بين الموسيقى والكيمياء.

البيئة الاجتماعية هي دائرة الإنسان الاجتماعي. إلا أنها لا يأبه لها الإنسان الخفي في الإنسان، الذي كثيرًا ما يحتاج إلى بيئة غير هذه، ويختار أقاربه وعشراءه وأحبابه مختلفين تمام الاختلاف عن الذين تجعلهم البيئة والحياة أقاربه وعشراءه وأحبابه. وفي هذه البيئة المعنوية صورة أخرى من الماضي الباقي. ولكم أنمت الحياة نفسها بحصر هذه المتناقضات في شخص واحد! ولكم خلق الماضي لنفسه مستقبلًا جميلًا من لهف الحرمان، وزفرات الأسى، وتجمد الدماء التي لا تسيل!

•••

وعائشة ابنة ذلك السري الوجيه والموظف الكبير الذي، بعد تقلب المناصب أيام عباس الأول وسعيد وإسماعيل، انتهى بأن يكون رئيسًا للديوان الخديوي؛ عائشة لم تفارق مرتبتها الاجتماعية بزواجها من محمد بك توفيق نجل محمد بك الاستامبولي الذي كان حاكمًا في السودان. ظلَّت في تلك المرتبة تتمتع بما هيأت لها بيئتها من رغد حسي، وتعاشر مثيلاتها نساء العظماء والكبراء. ولقد ذكرت عرضًا في أواخر كتابها «نتائج الأحوال» شيئًا عن اختلاطها بالبلاط، وذلك لشرح كلمة «واي واي أي غوث وأنا أي شيذرتوانا» التي تقولها الأعاجم حينما تُرمى بهول فجأة قالت:

… كانت تدعوني ربة المعالي وكنز اللآلئ والدة صاحب السمو إسماعيل باشا الخديوي السابق، تغمدها الله برحمته ومنحها فسيح جناته، بالقصر العالي للترجمة عند حضور أقارب ملوك العجم. فكنت أسمع هاته اللفظة من أفواههن. وهي كلمة تُقال عند مفاجأتهن بشيء ما. وكنت أقيم معهن على قدر إقامتهن وأتسامر معهن وأستفسر عن عوائدهن وأخلاقهن.

في هذه الأوساط تجد ما ألفته من كياسة وتهيب، وما أحسنته من آداب المحادثة والمجاملة واللطف. على أن أولئك السيدات لا يعنين بغير الشئون المعتادة في العائلة والاجتماع وما أفعمت به من مسرات وأحزان. أما عائشة فشأنها شأن العاشق الذي تبدو له جميع محافل الأنس والطرب مقفرة لتغيب الحبيب عنها.

في تلك المرتبة الرفيعة فخامة الصروح، وضخامة الألقاب، وأبهة المظاهر، ولكنها فيها يعوزها القوت، ويعوزها السرور، وتعوزها الحرية. إنها تتوق إلى الاختلاط بالذين يعرفون ما تعرف، ويفكرون بما تفكر، ويحبون ما تحب. في الخارج حركة التطور تجري مجراها الطبيعي، وإن وثبت حينًا، وتريثت حينًا. وفي الأفكار غليان، وفي الحماسة فتوة، وفي القلوب أشواق. ولا تخلو المدينة من دوائر علمية يتحاضر فيها أهل الفضل على طريقة العصر، ويتناقش فيها الأدباء كأنهم في وفاقهم وفي اختلافهم أعضاء الأسرة الواحدة. ولكن عائشة المعنوية إن هي تجاوزت نساء عصرها بالمعرفة والفهم، وسبقتهن باقتحام عواطفها وتقدم مطالبها، فإن عائشة الاجتماعية تظل مخدرة محجوبة.

صدمتها الحياة للمرة الأولى في النضال مع والدتها بين الكتاب والإبرة. فأيدها الوالد الحصيف وسيرها إلى ما تريد وجرت خطوات في فرجة الأعوام فإذا بصدمة أشد وأصلب، صدمة العادة والتقليد. هذه لن يحميها منها الوالد القادر ولن تخرج عليها نفسها القلقة. أخبرني كيف تثور على جماعتها امرأة هي ابنة رجل معروف وأم أولاد محبوبين، وليس بين جماعتها صوت ينكر تلك العادة ويدعو إلى تغيير ذلك التقليد؟ يومئذ كان قاسم حدثًا، ولعله كان من دعاة الحجاب. ولعلها هي كذلك لم تفكر في وجوب السفور. بل عمدت إلى تلك العلامة الأخرى من علامات النبوغ ورضيت بها: الاحتمال حيث لا منفذ غيره.

امتثلت واحتملت. ولكن حتى للاحتمال والامتثال ساعات لا مندوحة للمرء فيها عن أن ينفس كربته، ويندب حسرته، ويرسل ما هو أشبه ببثَّة السجين المظلوم. فقالت إنها دعتها:
الرأفة بكل مغبون لقي ما لقيت، ودُهِيَ بما به دُهيت، إلى أن أبدع له أحدوثة تسلية عن أشجانه عند تزاحم الأفكار، وتلهيه عن أحزانه في غربة الوحدة التي هي أشد من غربة الديار١

هذه الكلمة تكفي لنشعر مع عائشة بوحدتها المضاعفة. وهذه الكلمة وهي لوحة تصويرية تامة، تدهش عند امرأة سبقتنا بثلاثة أرباع القرن. وغريب أن تهتدي يومئذ إلى حقيقة تلك «الوحدة» وأن تعبر عنها، وهي ابنة عصر التطويل والتبسط، بهذا الإيجاز البليغ.

وكأنها مرة أخرى تجد بعض الراحة في شرح ألمها بشكل الاعتذار المجلل بالسجع والتورية:
«… لم يمكن لي دخول محافل العلماء المتفقهين» … «فكم الْتهب صدري بنار شوق إلى محافلهم اليوانع، وأدر جفني على حرماني من اجتناء ثمرات فوائدهم در المدامع. وقد عاقني عن الفوز بهذا الأمل حجاب خيمة الأزار، وحجبني قفل خدر التأنيث عن سناء تلك الأقمار. وأحلاني بسجن الجهل حليف أثقال وأوزار. فكانت تلك الحجب لمن لام في هفوات هذا المسطور أكبر أعذار. فلا تلوموا معشر الأفاضل خيبة، ولا تعبثوا بسجينة شجية …»٢
… وخصوصًا … لا تلوموا معشر القراء في هذا العصر كاتبة مسجعة. لأنكم لو رجعتم إلى ما كتبه بعض «كبار» الناثرين في عهد الخديوين لعثرتم على ما ليس فيه شيء من أحكام عائشة ولا ذرة من صدق عواطفها. ولي من هذا البيان معارض لما جاء في جريدة «الأفكار» الصادرة يوم ١٣ مارس ١٩٢٣، استهلالًا لمقال عن الصالونات الأدبية في فرنسا وإنجلترا وألمانيا وعلاقة الآداب في تلك البلاد بالدوائر النسائية الفكرية. قالت «الأفكار»:

كنا نريد أن نكتب شيئًا عن السيدة عائشة تيمور باعتبار أن تاريخ حياتها يفيض النور على الحركة الأدبية الفكرية في مصر في عهد إسماعيل وتوفيق. ولقد أجهدنا أنفسنا على غير طائل وراء الحصول على وصف ولو مجمل أو غير دقيق للدائرة الأدبية التي ظلَّت سنين عديدة تجتمع بلا انقطاع في منزلها «بدرب سعادة». ولكننا سنتكلم عن سيدة إنكليزية (ليديا وايت) تشبه السيدة عائشة تيمور من حيث جعل منزلها ملتقى كبار الكتاب والشعراء في عصرها …

من أين جاء كاتب هذه الفقرة بمعلوماته؟ أهو استند على قول عائشة: … «صرت أتهافت على حضور محافل الكتَّاب بدون ارتباك، فأجد صرير القلم في القرطاس أشهى نغمة، وأتحقق أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة» … وهي تعني بذلك أيام اختلافها ووالدتها في حداثتها القصوى قبل أن تتحجب؟ أم هو رأي ما قد يشير إلى ذلك في القصائد العربية والتركية التي رثت بها بعض العلماء؟ أم لديه دليل آخر؟

حاولت الاستفسار عن ذلك من المسيطرين على «الأفكار» في ذلك الحين، فلم أظفر بالجواب الشافي. وتيمور باشا الذي قال قبلئذٍ إن شقيقته كانت «محجوبة» أجاب على السؤال الجديد بقوله إنه يظن «أن ذلك لم يحصل.»

أسافرة كانت عائشة — أحيانًا — أم محجوبة دوامًا؟ نقطة في غاية الأهمية ولكن يتعذر جلاؤها، خصوصًا بسبب تباين السن تباينًا كبيرًا بين تيمور باشا وشقيقته. فإذا جاء يومًا من يثبت بالحجة الناصعة سفور عائشة في تلك المحافل الكريمة سجل للشاعرة فضلًا جديدًا وشجاعة فائقة، وأظهر أنها بشير التحرر النسوي ليس الوجه النظري والعلمي فحسب، بل بالعمل كذلك؛ لأنها تكون قد حققت قاسمًا قبل أن يتكلم قاسم.

•••

أما وأندية الرجال ليست، في الظاهر، لشاعرتنا فلنتحول إلى اللاتي قد تتفاهم معهن من النساء. وفي مقدمتهن «ربة الأدب الباهر والقدر الشريف السيدة وردة بنت الفاضل الشيخ اليازجي نصيف» فإن عائشة لتتمثل بها وتذكرها بإعجاب في ديباجة «حلية الطراز»، وأهدت إليها نسخة من ديوانها بعد صدوره. فشكرتها «وردة العرب» نثرًا ونظمًا، وأعقب هذه الصلة الأولى تبادل بعض الرسائل أثبتتها زينب فوَّاز في كتابها «الدر المنثور». لن تجد في تلك المراسلة كل الحياة التي يودعها بعض الأدباء في رسائلهم حتى ليتغذى بها أصحابهم أيامًا وأسابيع، ويتعشقونها كأنها قطع من أرواحهم. بيد أنك ستجد سبك الكلام اللطيف، والثناء المأنوس، والنظم الحلو الرنان الذي يرضي ويجعلك شاكرًا لهاتين السيدتين ما أبرزتا لك من أسلوب المجاملة النسائية الكتابية في ذلك العصر.٣

وهناك سيدتان قِيل لي إنهما كانتا تقولان الشعر وهما ابنتا حبيب أفندي الكتخدا، ومن عشيرات الشاعرة. لم أوفق إلى شيء من آثارهما وقد قلَّ من سمع بآدابهما بين المصريين. حتى أني قيل لي مرة عند ذكرهما أني أبتدع شعرهما في مخيلتي على نحو ما فعل زفس بابنته بالاس — أثينا التي أخرجها من رأسه تامة الجمال والكمال. لا شيء من ذلك، بل قال لي أحد الفضلاء إنه قرأ لإحداهما أبياتًا جيدة.

ومن معاصراتها الست المغربية والبون بينها وبين عائشة شاسع جدًّا طبقة وحالة ومعرفة. إلا أنها كانت امرأة ذكية، سريعة الخاطر، تمازح الناس بشيء من الجرأة المتطرفة، وتتطارح الأزجال مع الشيخ علي الليثي وغيره. ومن المأثور عنها من دلائل سرعة الخاطر أنه اتصل بها يومًا أن أحد الباشوات كان يرميها بما هو غير حسن وغير ممدوح. فأجابت المغربية بابتسامة ذات معنى خطير: «والله كلام سعادة الباشا في محله» …

كذلك نعرف زينب فوَّاز السورية المولد المصرية الموطن، منشئة «الرسائل الزينبية» فضلًا عن فصولها الأخرى وقصائدها. وهي التي عقدت في كتابها «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور» فصلًا مطولًا عن شاعرة آل تيمور. وصدَّرت الكتاب المذكور بخطاب من السيدة عائشة مثقل بالثناء والتبجيل من نحو ما كانوا يثنون يومئذ ويبجلون.

•••

ويحدثنا «المقتطف» في عدد يونية ١٨٩٧ عن السيدة ليلى هانم «كريمة المرحوم خليل باشا شريف من وزراء الدولة العلية، وأخي المرحوم علي باشا شريف رئيس مجلس شورى القوانين السابق». فيقول إن هذه السيدة «تكتب بالإنجليزية مقالات تُنشر في أشهر المجلات» وإنها كتبت رواية غرامية اسمها A Turkish Love Story ترجمها محرر «المقتطف» ونشرها متتابعة في المجلد السادس والعشرين سنة ١٩٠١ باسم «رواية أمينة». قرأت هذه الرواية بثوبها العربي بكل سرور في العام الماضي، ولا شك عندي أن الوصف فيها «لحريم» الأستانة يومئذ أصدق من كل ما كتبه الإفرنج في هذا الباب.

وليست لتقصر يقظة المرأة على الكاتبات والأديبات بل للمهتمات بالشئون العمومية عن غير طريق القلم أثر قيم. لذلك يتسع المجال هنا لذكر المغفور لها البرنسس عين الحياة، الزوجة الأولى للسلطان حسين (يوم كان أميرًا)، ووالدة البرنس كمال الدين حسين. فإنها كانت معروفة بالمقدرة والفطانة وحب السعي الحميد. ومن مآثرها الخطيرة الشأن «مبرة محمد علي» أول جمعية خيرية للسيدات المسلمات، بيد أنها لم تشهد نتيجة ما دعت إليه. ولم يتم إنشاء المستوصف الأول الذي أُطلق عليه اسمها وما زال معروفًا به «مستوصف عين الحياة» إلا بعد وفاتها في أوائل ١٩١١. أما الغرض الذي عينته لنفسها هذه الجمعية فهو «العمل جهد الطاقة؛ أولًا لتقليل عدد الوفيات الجسيم من الصغار في القطر المصري. ثانيًا لتقليل عدد وفيات الأمهات الناجمة عن حميات النفاس.»

وماذا أقول عن البرنسس نازلي الملتهبة ذكاء، البارعة في الموسيقى وفي اللغات التي عرفتها، الخارجة على عادات زمنها بمقابلة من شاءت من أفاضل الرجال والتدخل في مختلف الشئون العالمية والحوادث الوطنية. ولقد نشر المرحوم ولي الدين يكن في كتابه «المعلوم والمجهول» صورة خطاب أرسلته إلى عبد الحميد في أيام بطشه وجبروته. وحسب القارئ الاطلاع على هذا الخطاب ليعرف ما كانت عليه من الجرأة والذكاء والنزعة الاستقلالية. قالت تخاطب صاحب الجلالة اليلدزية الرهيبة:

مليكي

قرأت مع الأسف الشديد في جرائد أوروبا التي وردت في هذا الأسبوع أن مولاي الأعظم غاضب عليَّ غضبًا شديدًا. وعلمت أن السبب في غضبه حضوري مؤتمر «تركيا الفتاة» الذي عُقد بباريس. ولهذا أرجو الإذن لي ببيان ما يدور بخلدي في هذا الباب:

إن استهدافي للغضب الملوكي ليس بالأمر الحادث، ولكنه مستمر منذ أربع سنوات. وإذا وجب أن يميز من حلَّ بهم ذاك الغضب سهل تعيين الفئة التي ينبغي أن أحشد في عدادها. غير أن حضوري مذكرات هذا المؤتمر ليس تذرعًا للشهرة؛ فهو إذن منزه عن كل غرض ذاتي.

يذكر مولاي الأعظم أنه قال ذات يوم للمرحوم خليل باشا شريف: «إني مغرم بكلمة الحق.» ولقد بشرني المرحوم بهذه البشارة الملكية وتعاهدنا كلانا منذ ذلك أن لا نحيد عن كلمة الحق.

قرأت ما ينشره هذا المؤتمر منذ زمن مديد واطلعت على اللوائح التي رفعها إلى الأعتاب الشاهانية. ولما كانت هذه المنشورات بمثابة كلمة حق في وصف الدمار الذي باتت فيه المماليك المحروسة الشاهانية، رأيت أن أحضر مذكراته عند نزولي بباريس.

فشهدت من الجميع منتهى الود والولاء للمقام الملوكي وللوطن والأمة. ورأيت الجميع باكين لحال الوطن الذي بات على شفا الفناء. فهاجني ذلك وتذكرت أن مولاي كان مغرمًا بكلمة الحق، فظننت، وا أسفاه، أنه ربما تسلى من ذلك الغرام. ولكن هزَّ فؤادي ما عاهدت الله عليه وأيقنت أن العشق يزول والعهد يبقى.

ولما زرت الأستانة منذ أربع سنوات أوصاني بعض المقربين بأن أرفع إلى مولاي عريضة أستقيل بها من هفواتي، ولما لم يكن لي علم بهفوة سبقت لي لم أقدم على هذا الأمر. فقد تغيرت سياسة مولاي مع الإنكليز. وذهب الرضاء الذي كان توسط لي في نيله المرحوم السير هنري لايرد: وأني لأتلقى بكل ارتياح توسط الإنجليز في إحراز رضاء مليكي. بل أشكر اليوم ما أصابني من الغضب الملوكي. وإن في بعدي عن مشاهدة ما وقع بالأستانة من الزلازل وما نزل بالرعية من الفقر، وما جرى من دماء المظلومين الذين ذُبحوا كما تُذبح الأضحية، وعن سماع استغاثات المظلومين وتأوهاتهم ما يسليني وما أحمد الله على بعدي عنه. وسأستمر لذا على العمل بنص الأمر الملوكي الذي بلغتنيه الحكومة المصرية غير رسمي — ما دامت لي الحياة.

على أني لا أبرح داعية بطول عمر مولاي وبقاء دولته. ولا أبرح داعية بأن يعود له سالف غرامه بكلمة الحق. فإذا قدر الإله ليزولن بؤس اليوم كما تزول الرؤيا المفزعة. فيصبح سعيدًا مهنأ. ويلقى رعيته في رغد بالاتحاد والحرية فإن رعيته لا تريد منه إلا أن يكون أبًا مشفقًا.

ولعلي تجاوزت الحد وأسأت البيان. فلست أدري مبلغ وقع ما أتشرف بعرضه. فليثق مولاي أن كلام أصدق عبيده في زماننا هذا لا يختلف عما جرى به قلمي. وليوقن مولاي أن ورقتي لم تُسطر إلا بخالص النية وصادق الولاء.٤
خادمتك نازلي
بنت المرحوم مصطفى فاضل باشا المصري
القاهرة في ٢٢ أكتوبر سنة ١٨٩٦

يجب لتعلم قيمة هذه الرسالة أن تعلم من هو عبد الحميد، وكيف كان ينتقم من مناهضيه في أية بقعة كانوا من الأرض فكيف بهم في مصر ومن أعضاء الأسرة المالكة.

قد يفوتني أسماء أخرى معروفة. وقد يكون ثمة سيدات كثيرات ذكيات قديرات من اللاتي يُدمجن في «الطراز القديم» وقد يدهشن العالم والمحنك بأسلوب إدارة بيوتهن وأعمالهن وأملاكهن لوفرة ما يبدين من الخبرة والدراية — حتى ولو كنَّ أُمِّيَّات. ولكن أيكون لمثل عائشة من مثيلاتهن بيئة معنوية؟

بيئتها المعنوية

لم يكن للشاعرة من بيئتها الاجتماعية البيئة المعنوية المطلوبة. ولا أظنها نعمت من ذلك العصر بما نحن اليوم نفتقر إليه.

ما سمعت أديبًا يذكر أهمية المحيط ومبلغ تأثيره إلا سمعت منه الشكوى. ما حدثني مطلع على شئون الشبان العائدين من أوروبا إلا قال إنهم بعيد وصولهم يشعرون بنقص علمي عظيم حولهم، ولا يلبثون أن يفهموا أنهم عائشون في وحدة فكرية وفنية بعيدًا عن تواصل الحركة الذهنية في العالم. ولا يعرف مرارة تلك الوحدة وصقيعها إلا الذي أُرغم على تقطيع الأعوام والأعوام تبليه في انفراد ووحشة. لا يعرفها إلا الذي صرف الأيام والليالي جائعًا عطشًا، وهو يعلم أنه في قفر لن ينبت له في القريب العاجل قوتًا ولن تفجر له منه المفاوز منهلًا.

حال محزنة حال التأنق إلى ما يعلو على العيشة الملامسة الثرى. حال محزنة حال الأديب الصميم في عصرنا والمتأدب. إنه سرعان ما يتصدى له من يناقض ويعاكس ويتمطى ليقدم له ويؤخر، ويفصل في قماشه ويخيط، وسرعان ما ينبري له وللعالمين من يقدح ويهجو لسبب أو لغير سبب، أو لسبب جدير بالتقدير. وسرعان ما يسمع المدح المائع المتهدل لا اعترافًا بالأهلية، بل عن هوس، أو حمق، أو لغاية. وقد يجد من يمتدح بإخلاص ولكن ببلاهة فيجعل الذبابة فوق النسر، أو يسيرهما في فلك واحد فإنهما يطيران وكلاهما من «ذوات الأجنحة».٥

أما تجانس الخواطر، وحب الآداب، وسعة الإدراك في تحليل الأشياء وتقديرها، والإحكام في وضعها وتربيتها، والغوص في المعاني الواسعة، وفهم مناحي الحياة والعناية بخصائصها كما هي لا كما يُراد حصرها في شخصية واحدة؛ كل تلك الغبطة المعنوية التي نطلبها بأشواقنا ولا نحسن التعبير عنها، فليست بعد لنا. وهي مفقودة في هذه البلاد. بل ندر الذين يفهمون ارتفاعها ونبلها من الأفراد.

وأولئك هم المعذبون.

وستبقى هذه الحياة مفقودة ما بقي التعاطف الأدبي غير موجود. وإذا طرح اليوم متحمس النداء المستثير فكأنه يستنهض أنبتة تضطرب وتتحرك في مكانها وقد حظر عليها الخطو والانتقال. وتمضي الصيحة الرجافة فترتطم نبراتها في الهواء ثم ترتد على مرسلها ثقلًا باهظًا كأنما يتعرضها المضي جدار كثيف تختنق عنده الأصداء فترتد على قلب مرسلها ثقلًا يجر معه معاني المحال وانقطاع الرجاء — إلى حين.

والمدهش بعد كل هذا أن نجد منها من يشب وينهض ويتفوق. يتفوق ليس على قياس مدح المداحين، وهجو الهجائين، ومسيري الذبابة والنسر في خط واحد. بل هو يرتفع رغم المثبطات فوق الصدمات والموانع …

يرتفع ويبدو عظيمًا وكأن اسمه وحده يكفي ليقول: «إني موجود وأثري متسرب إلى جمودكم ليقلبه حركة! إني موجود، وحميتي ماضية في خمولكم لتثيره نهوضًا! إني موجود، وعزمي متغلغل في قلقكم لينسقه انتظامًا!» قلت: مدهش ذلك؟ كلا، بل هو خطير!

أليس أشد دلائل القوة خطرًا في أن يظل النسر محلقًا ولو مهشمًا داميًا؟ أن يظل محلقًا. حتى بجناحين مهشمين داميين؟

•••

ولعل الحياة تحتال على بنيها، لا سيما الأصفياء منهم عندما توسعهم مقاومة وتشبعهم تعذيبًا؟ لعلها تودعهم حاجات ومطالب تعلم سلفًا إنها غير مهيئة لها ما يقوم بها ويحققها. وما ذلك إلا لتلح على الفرد الموهوب أن يجني المعونة والتعزية والقوة من أعماق وحدته، من أعماق وجعه، من أعماق قنوطه! لعل لها غرضها من المنع والحرمان فيظل لابنها المختار أن يخلق لنفسه عالمًا يملأه ببرايا هواجسه وبأشباح ما يحب ويأمل وينشد. يظل له أن يبدع ما ينقصه إبداعًا ما، إبداع التخيل والتدوين، فتكون الحياة لذاتها عن هذه الطريق صورًا جديدة من لهف الحرمان، وزفرات الأسى، وتجمد الدماء التي لا تسيل؟

أم لعلَّ الحياة في أحشائها كلوم يعوزها البلسم، وهو لا يستخرج من شكوى البؤساء. فتخلق لهم المحن لتسمع مثل هذه الزفرات التي ترسلها عائشة في خلوتها:

أعلل نفسي والأماني كثيرة
وما كان أغنى النفس عن ذا التعلل
فلا الوقت في أمري فأقضى مآربي
ولا الدهر يصفو لي فأكمد عذلي
ولا النيل يدنو لي فأروي بفيضه
ولا الصبر طوع لي فتحلو الحياة لي
ولا الحظ ذو سعد ولا البخت مسعف
ولا مهجتي صلد أقول تحملي
ولا لوم إن واريت في الترب جثتي
وقلت أقيمي حيث ذلك منزلي

أي إنها تحبذ الانتحار في هذا البيت الأخير. ومن ذا الذي لا يشتهي الموت في بعض لحظات الألم؟ ثم تعود إلى طلب المسرة والهناء، ولكن لتلقى خيبة أخرى:

والله ما همت حظًّا باسم داعية
إلا وأعقبت فيها الهم من أسفي
ولا سعيت بأقوى العزم في أرب
إلا رجعت طريح الأرض في دنف

أو لترى السرور يتحول إلى الألم شأن كثير من مسرات الحياة!

وما منحت بيوم قد أتى غلطًا
بالأنس إلا وقامت فيه غاراتي

ويظل الاختبار يحذر وينذر:

لا تفرحن بدنيا أقبلت وصفت
بكل ما ترتضي، واحذر عواقبها

وترقب أحوال الناس فيسوءها منها الخلل والفساد:

حسن الوفاء وصدق الود قد صرعا
واستوحشا بفيافي الغدر وانصدعا
كلاهما من سقام لا مساس له
حزنًا على الحق والإنصاف مذ صرعا

وأولئك الأدعياء الناعتون نفوسهم بما ليس فيهم، المتلمظون لأن الفرص سنحت لهم ضلالًا بأن ينزلوا الأذى بما يحيط بهم. وهم يحسبون واجب البشر كله في إيقاف الجهود على إشباعهم وإرضائهم — كيف تذكر أولئك إن لم يكن بلهجة الازدراء والأخطار هذه:

آل الغرور لقد ساقوا نجائبهم
شرقًا فغربًا فداست كل ما لاقت
ظنوا الزمان على رغم يطاوعهم
وأن أوقاته طوعًا لهم راقت
وليس إلا عدوًّا سوف يفجأهم
برقط غدر إلى عاداتها اشتاقت

ألا يذكرك هذا البيت، لا سيما الشطر الثاني منه، بالمعري وآرائه في الدهر وعربدته على الدنيا التي كثيرًا ما يشبهها بالحية الرقطاء؟

وهكذا تجد عائشة الألم عوضًا عن الهناء. وليست الآلام الملموسة البارزة أنكأ الآلام. بل قد نفضل أحيانًا أن نُصاب بما يسحقنا ويجرفنا بشدة جرف العاصفة لأوراق الخريف، بدلًا من معاناة ما نسكت على مضضه مما نأنف التفكير فيه مليًّا، ونستنكف شرحه مع عجزنا عن مقاومته والابتعاد عنه.

ولربما آثرنا الداهية الدهماء تعبث بنا فتذرنا هباء، على مقاساة نكال متقطع متتابع كوخز الإبر. نكال لا هو يشتد فيقتلنا، ولا هو يكف لحظة لنتخدر. ولا يكون عقابًا على ذنب فنثوب ونتفادى. بل كثيرًا ما يجيء مكافأة على الحسنى فيفعم القلب مرارة.

•••

اجتمعت في أوائل مايو ١٩٢٢ بالأستاذ الشيخ الغمراوي المفتش الأول للغة العربية في وزارة المعارف. فذكرت عائشة فقال: «إنها شاعرة عصرها وإن أساءوا فهم كثير من معانيها.» قلت: «مثلًا» فقال: مثال ذلك قولها:

ما ضرني أدبي وحسن تعلمي
إلا بكوني زهرة الألباب

فما يفهمه الشخص العادي من هذا البيت أنها تمدح نفسها مدحًا يشبه الذم. وما ذلك إلا لقصر النظر أو لتعمد. في حين هذا القول يقرر أمرًا واقعًا تألمت من جرائه. ذلك أن بعض السيدات كن يسمعن عليها الثناء الذي لم تربحه بالتظاهر والتهويش بل بالكفاءة والكرامة. فيثور منهن الحسد فيعمدن إلى تشويه الحقائق. والتحريف والتعريض. يشعرن بالقصور عن مجاراتها فيستسلمن لتعذيبها وإلحاق الأذى بها على مختلف الأساليب انتقامًا لنفوسهن من تفوقها. فشعرت بهذا وتألمت. لذلك قالت: «ما ضرني أدبي … إلخ.»

هذه خلاصة كلام الأستاذ وهو من الصحة بحيث تجد له طائفة من الأدلة في شعر عائشة كقولها:

وكم حليفة سعد إذ تعنفني
تقول سعيك مذموم النهايات
فأخفض الطرف من حزن أكابده
وأهمل الدمع من تلك المقالات

واها لتلك الدموع! تنصب في القلب عند كلام الحاسد والمتطاول، وتدفع إلى التشاؤم في نبالة الفطرة البشرية، ثم تنهمر في الخلوة لاذعة محرقة. على أن عائشة عذبة بطبيعتها فهي لا تثور سريعًا. بل تتجلد هنا وفي معاكسات أخرى وتكافئ الشر خيرًا حتى نفاد الصبر:

ومذ أتت عذلي تبغي مصادرتي
ظلمًا منحتهمو أسنى الكرامات
وكلما عددوا ذنبًا رميت به
بسطت للعفو راحات اعترافاتي
وكلما حرروا منشور مظلمتي
وأظهروا في الورى غدرًا جناياتي
أظهرت شكري لهم بالرغم من أسفي
وكان ما كان من فرط الْتهاباتي

واهًا لتلك النصال تغمدها في القلوب أيادي الغرباء وأيادي المعارف والأصدقاء!

واها لتلك الأيدي التي أحسنت إلينا، ولتلك الأخرى التي أحسنَّا إليها، تمتد لتأتي إشارة تمحو جميل الذكرى حينًا وتحجب رقيق الشفقة دهرًا!

وتلك الكلمات الفاترة الركيكة وذلك الترفع المصنوع الحقير! وتلك العناية التي سرها التقليل! وذلك الشرح للثناء في الظاهر وكل الغرض منه التصغير والتحديد السخيف!

وتلك الشبكة الواسعة التي يحبكها حولك الاغتياب والافتراء ويلصق بك ما يلصق من التهم والذنوب! فتفكر أولًا في الدفاع عن نفسك أمام الذين تحسبهم أفطن من غيرهم وأقرب إلى الإنصاف. وبعد قليل تصمم على السكوت كبرًا وازدراء. ذلك ما تعنيه الشاعرة:

ولم أفه لذوي رد لمعرفتي
أن الحبيب حبيب في المسرات

طبعًا. هم كذلك أصدقاء المجتمع، الأصدقاء السطحيون والآخرون المتقمصون في أثواب الأصدقاء والمتكلمون بلسانهم كيف يركن إليهم. لذلك:

أخفي الأسى إن حسود جاء يسألني
لأين أسعى، وأومي لابتهاجاتي

وقد تخفيه احتشامًا وصيانة لكرامة الألم، وقيامًا بالواجب الذي يمتهنه أولئك الذين يكرهون الناس إكراهًا على مخاشنتهم ومقاطعتهم؛ لأن الجفاء الوسيلة الوحيدة للتخلص من تطفلهم. يزعجون الناس بلا مراعاة فيخسرون حتمًا عطف القلوب. يتجاهلون أن لكل شيء حدًّا طبيعيًّا، وأن أعصاب بني الإنسان ليست من حديد. فلا تحتمل النواح والشكوى والإلحاح والمضايقة إلا لحين. وإن واجب المرء الأول نحو صحته لا سيما وأن له من مسئوليته وشئونه ما يتحتم القيام به أن يضن بكل تأثر مضنٍ وأن يقلع عن كل اضطراب عقيم.

إن التحدث بالهموم وشكوى الغموم مرض شرقي متأصل. وكأننا أقرب الشعوب إلى رجم الآخرين بآلامنا وأوصابنا في كل زمان ومكان. وليس أدل من هذا على الضعف المعنوي وضعف الخلق … ليس أدل من هذا على الحاجة إلى التهذيب.

وكأني بعائشة مطبوعة على هذه الصيانة الخلقية والكتمان النبيل فهي تقول:

أقوم والضيم تطويني نوائبه
طي السجل، ولم أسمعه أناتي
إن ضل سعيي فهادي الصبر يرشدني
إلى طريق رشادي واستقاماتي

أما والقلب المعذب يظل على نبله، في حاجة إلى أن يبث كربته لصديق ذي حول ولطافة، فعائشة تتجه إلى القلب الرءوف الأكبر الذي لا يقلقه أنين البرايا:

ولم أزل أشتكي بثي ومظلمتي
لعالم الجهر مني والخفيات

وقد يحسن أن أدغم في هذا الباب ملاحظة أخرى: هناك نكتة تكاد تكون الوحيدة في كل كتاباتها، وقد ظهرت كل الظهور في عصرها دون تمييز في الموضوعات. فتجدها أمامك في المرض والعافية، في رثاء الأحباء وفي آهات الغرام. موضوعها الطب والأطباء.

وقد تشير إلى قلة ثقة الشاعرة بأبناء أبقراط الجهابذة النطس. قالت تتهكم على طبيب في ثلاثة أبيات مفردة:

يا من أتى للجسم يبرئ سقمه
ويظن جالينوس بعض عبيده
أفنيت بالطب الذي تهدي به
أممًا، وقربت الردى ببعيده
وزعمت أنك أنت قد جددته
وقد أضعت قديمه بجديده

وهاك ما يعني أن يأس الطبيب في نظرها أمل:

إذا يئس الطبيب وكل عنِّي
بقدرته بما أرجو حباني

وهذا استهزاء بالأطباء وتوجع من رمد عينيها:

تخالفت الأساة بطول وعد
يعللني، ويأس فيه حيني
ومن فظ يهددني جهارًا
بمبضعه المصوب في اليدين
وقد عفت الأساة وعدت أرجو
طبيب الكون رب المشرقين

وفي وصفها لأقوياء العالم وضعفهم حيال الردى:

يئوب بالعجز أقواهم إذا ألمٌ
به ألمَّ، ويبدي شر حسرات
يلوذ ضعفًا بأذيال الطبيب، وما
يغني الطبيب لدى فتك المنيَّات

وكذلك كان لها في الرثاء مجال لإظهار عجز الطب والأطباء فقد جاء في مرثاة والدها:

رجع الطبيب بيأسه متسربلًا
وأراق جرعته على الحصباء

وفي مرثاة ابنتها:

جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا
إن الطبيب بطبه مغرور
وصف التجرع وهو يزعم أنه
بالبرء من كل السقام بشير
فتنفست للحزن قائلة له
عجل ببرئي حيث أنت خبير
وارحم شبابي، إن والدتي غدت
ثكلى يشير لها الجوى وتشير
وارأف بعين حُرِمت طيب الكرى
تشكو السهاد وفي الجفون فتور
لما رأت يأس الطبيب وعجزه
قالت، ودمع المقلتين غزير
أماه قد كلَّ الطبيب، وفاتني
مما أومل في الحياة نصير
لو جاء عرَّاف اليمامة يبتغي
برئي، لرد الطرف وهو حسير

ومن مثال ذلك في شعرها الغزلي:

سروري باللقا ونعيم قربي
أعاد بعودك الميلاد ثاني
لقد أرغمت كل طبيب سوء
أضاع بهزله طول الزمان

وغيره:

لو شخَّص الداء جالينوس أعجزه
وقال لقمان تكليفي به باطل
كيف الشفاء ومن أهواه فارقني
هيهات إن الهوى بحر بلا ساحل
جاء الطبيب يداويني فقلت له
دع عنك طبي ولا تتعب بلا طائل
تعذر الطب والبرء انزوى ونأى
عني، ولوني من فعل الهوى حائل
ما ينفع الطب والأحشاء في حرق
والجفن من فرط وجدي دمعه هاطل

وأحسن دواء ينجح وينشد هو ذا:

أرنا زمان الأنس يا وجه الحبيب
واحذر، حماك الله، أن يدري الرقيب
دعني، لأني باللقا قلبي يطيب
ودع العلاج وما يقول به الطبيب

عفوكم يا سادتنا الأطباء لئن قال بعض الشعراء إن بعض الأمراض خير من بعض الأطباء، فلكم من شاعر قدر أفضالكم على المرضى والأصحاء على السواء.

ولكم من شاعر جعل الطبيب عالمًا وحكيمًا ورسولًا في آن واحد، عندما يدرك كرامة مهنته وكل ما تقتضيه! وإذا كان الاصطلاح العربي ماضيًا على التوحيد بين الطب والحكمة فينادي الطبيب «حكيمًا» ألا ترون في بيان الشعراء وتوقيع أسجاعهم ما عمل على حفظ تلك العادة التقليدية ونقلها من جيل إلى جيل؟

وبعد هذه العوارض فلنلخص: البيئة المعنوية الصميمة كانت لعائشة في كتبها وأوراقها، وفي الكتب التي تقرأ، وفي الأوراق التي تحبر؛ ففيها كانت تجد التعزية ومنها المعونة. وإذا أصابها الرمد شكت بلغة التوقيع!

إذا شكت الورى سقم العيون
فإني أشتكي ألم العيون
أبيت كوالهٍ أضناه وجد
أنادي من جفوني! من جفوني!
فلا جفن يطاوعني فأبكي
ولا صبر أزيل به شجوني

وإذا طال رمدها طلبت كتبها وأوراقها كما يُطلب الحبيب الغالي:

أمس الكتب من شغفي عليها
وأبلي حسرة من سوء حالي
وأندب مهجتي حبًّا لأني
حُرمت بدائع السحر الحلال

وليست لتشغف فريدة. بل هي ككل محب تريد عند حبيبها مثل ما عندها. فتنيل الأوراق والمحابر والأقلام روحًا تحس وتشوق وتبكي:

نعاني أبيض القرطاس لما
جفاني اليوم نور الأسودين
وقد جفَّت دواتي وهي تبكي
لما قد راعها من طول أيني
وأقلامي قد انشقت لأني
حرمت مساسها بالأصبعين

كذلك كان وسط عائشة من أرواح المؤلفين والشعراء ومن نفثاتهم، من أرواحهم كان لها أسرة تناجيها. فتتحدث إليها وتصغي حينًا بعد حين.

وفي تلك «الغربة» التي تأوي إليها أرواح الخواطر كتبت أشعارها العربية المجموعة في ديوان «حلية الطراز» وديوانها التركي والفارسي «كشوفة» و«نتائج الأحوال» ورسالة صغيرة اسمها «مرآة التأمل في الأمور»؛ هذه هي بيئتها المعنوية المحبوبة.

حبها لاسمها

والاسم … أليس هو أول علامات الفرد في جماعته؟

«على أي شيء يحتوي الاسم؟» يسأل شكسبير بلسان جولييت، ومن منا لم يتساءل عن اهتداء البشر إلى التسمية وعن رائدهم في ذلك! ألا تصغي إلى همس خفي وراء الاسم، والكنية عند سماعها للمرة الأولى كأن لهما ذاتًا خفية وراء المعنى الظاهر؟ أَوَلَيس من هذه الروحانية المستترة استخرج معنى الحساب بالأرقام والحروف، الذي لا يُستهان به في أصوله الفيثاغورية؟

إلا أن الشاعر العربي القائل «الأذن تعشق قبل العين أحيانًا» عبَّر عن جانب من حقيقة روحانية عميقة ومضت له في لحظة إلهام وإشراق.

راجع ما شئت من الأسماء التي تعرف أصحابها معرفة شخصية أو معنوية، ترَ استحالة تبديل اسم بسواه. كأنما تلك اللفظة التي يعرف بها المرء عن طريق الانتحال أو بالمناداة منذ الولادة، أصبحت جزءًا أساسيًّا من ذاتيته، أو صارت على الأقل من أدل الدلائل عليها. وفوق ذلك فإن معنى الاسم الواحد يتغير بإطلاقه على أشخاص مختلفين. هذا شيء يعجز الوصف إلا أننا نشعر به بجلاء، ترى ألأن شخصية الفرد تتفاعل وشخصية الاسم بامتزاجها بها؟

إن ما يحدو بي إلى هذا الشرح هو شغف عائشة باسمها، شغفها بأسمائها الثلاثة؛ فإني لم أرَ في مطالعاتي كاتبًا يشبه عائشة من هذا الوجه، لا في الشرق ولا في الغرب.

شغفت بكل اسم من أسمائها الثلاثة ورضيت بها جميعًا في بيئتها المعنوية فلم تنتحل اسمًا جديدًا. وأحسنت توزيعها؛ إذ خصت شعرها العربي باسم «عائشة» وشعرها التركي والفارسي باسم «عصمت» حتى لتكاد ترى هذه الكلمة في ختام كل قصيدة من قصائدها «كشوفة»، وخصت اسم عائلتها بنثرها.

ولماذا هذا الشغف؟ لكأنها متينة الشعور بالصلة بين المسمى واسمه. أو كأنها تذكر قولًا مأثورًا عند بعض المشارقة، وهو أن الاسم ينزل على صاحبه من السماء! أو كأنها تطرب له لأنه اسمها ليس غير، وأنه أول علاماتها بين الناس! أو كأنها تتشبه بداهة بذلك الفيلسوف الهندي، يقضي الوقت الطويل مكررًا لنفسه اسمه حتى تنكشف له حجب الغيب فتستيقظ ذاته البصيرة العليمة رائية ما يجري على بعد مسافات، سامعة ما يُقال في البعد السحيق! جميل معنى «عائشة» وجميل معنى «عصمت» أما «تيمور» — فعلى عهدة من شرح لي وفسر — فلفظة تركية أصلها في اللغة العامية «دمير» ومعناها الحديد الصلب الذي لم يصقل بعد. ولذلك يخطئ من يطلق هذه اللفظة على تيمورلنك للتصغير أو للاختصار؛ لأن معنى «تيمورلنك» نصل السيف المصقول.

على أننا قبل الانتباه لمعنى هذا الاسم نتأثر بوقعه المرضي للسمع. وهو يمثل (على ما يلوح لي) مزيجًا من نبرة الأمر العسكري وأبهة وقورة رزينة. تمسها كآبة طفيفة ووداعة.

وبعد، أيتسع معنى الاسم فتكون كلمة تيمور رمزًا إلى أن الطبيعة النسوية المصرية بدأت تصقل بعائشة؟

لكنها لم تأخذ الاسم كما هو بل أطلقته على نفسها بصيغة النسبة. فإذا بها «التيمورية» وفي هذه الأيام حيث صارت الألقاب والنعوت طوفانًا يغمر الصالح والطالح على السواء أصبح عدم اللقب لقبًا وغدا التجرد من النعوت نعتًا. فجمل بنا أن نوجز في نعت الشاعرة المصرية وأن نسميها، حينًا بعد حين، بهذا الاسم الآخر الذي أحبته ووضعته في فم أشخاص يستشهدون بأقوالها ويضربون بأشعارها الأمثال «التيمورية».

١  نتائج الأحوال.
٢  نتائج الأحوال.
٣  السيدة وردة اليازجي صاحبة ديوان «حديقة الورد» هي مع عائشة، الشعاع الأول في ظلام الحالة النسائية في الشرق.
٤  عن «المعلوم والمجهول» جزء أول. وقد قدَّم ولي الدين بك هذه الرسالة قائلًا إنها منقولة عن جريدة «حذام» التي كان يصدرها شقيقه يوسف بك حمدي يكن.
٥  كأن عائشة شعرت بهذا في أيامها وأرادت الردع عنها بقولها:
الناس شتى في الصفات فلا تكن
ممن يقيس الدر يومًا بالبرد
إن قِسْتَ فظًّا بالرقيق فلا تلم
من بعد نفسك في الورى أبدًا أحد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤