الفصل الأول

١

انتهيتُ من تصحيح ترجمة النبأ القادم من مكتب القاهرة — نقلًا عن جريدة الأهرام — عن قرار الاحتفال بمرور ٩٩ عامًا على مولد لينين. وتصوَّرتُ ما سيحدُث للنبأ بعد أن نُذيعَه؛ ستنشره جريدة الجمهورية المصرية نقلًا عنَّا، ثم نُعاوِد نشره نقلًا عنها.
ناولَني ماجد ترجمتَه للنبأ التالي: الحكم بالإعدام في ألمانيا الديمقراطية على أحد مجرمي النازية، الذي قاد في أبريل ١٩٤٣م، حملة تصفية الجيتو اليهودي في وارسو وإبادة أفراده الذين ضمُّوا عددًا كبيرًا من الأطفال. كان قد اختبأ بعد الحرب في قرية بجنوب ألمانيا الديمقراطية طيلة ٢٥ عامًا إلى أن وصلَت إليه السلطات.
أصابَتْني دقَّات التليبرينتر بالصُّداع. تابعتُ الصفحات التي خرجَت منه حاملة السطور المكرَّرة. أزحتُ مقعدي إلى الخلف ودُرتُ حول طاولة التحرير. تجاهلتُ نظرات نويمان القابع خلف مكتبه، مُشرفًا على الطاولة، ووقفتُ في النافذة أتأمل الطريق. مارَّةٌ قليلون. سيارات الترابانت والفارتبورج، المصنوعة في ألمانيا الشرقية، والأخرى القليلة العابرة من الغرب؛ فولكس أو مرسيدس. وظهَرتِ الشمسُ فجأةً فحزمتُ أمري.

تسلَّلتُ خارجًا وغادرتُ مبنى الوكالة دون معطف وكوفية وقبَّعة وقفَّاز ومظلَّة. الشمس! ولسعة بردٍ خفيفة محبَّبة. الأرض جافَّة تمامًا ولا أثَر لبقعةٍ مبتلَّة. لا خوف من الانزلاق والسقوط. لا ألم في الأذنَين ولا سيولة مستمرة في الأنف.

قمتُ بجولة حول الوكالة شاعرًا بأني خفيفٌ والمارَّة جميعًا بوجوهٍ مشرقةٍ مبتسمة. وقفتُ تحت أشعة الشمس لحظاتٍ ثم اتجهتُ إلى الفندق العتيد.

قطعتُ شارع أونتر دين ليندن حتى بوابة براندنبرج. ظهَرَت بعض المقاعد فوق الرصيف الأوسط. وأخرج مقهى دين ليندن مقاعد الصيف مقلوبةً فوق الموائد. مشيتُ حتى نهاية الشارع الذي خلا من المارَّة، ووقفتُ أتأمل الجياد المذهبة فوق البوَّابة والسفارة السوفييتية على الجانب الآخر من الطريق. وللحظةٍ ساد سكونٌ مطلَق حطَّمَته سيارةٌ قادمة من الشارع المتقاطع.

عُدتُ على مهلٍ إلى الوكالة. أبرزتُ بطاقة هُوِيَّتي للحارس الذي يعرفني جيدًا فتأمَّلها وتأمَّلني فيما خِلتُه غضبًا أو حسدًا. وخِلتُ أنه أدرك ما فعلتُه من ترك للعمل. صَعِدتُ إلى مكتبي وجلستُ إلى طاولة التحرير. استعدتُ إحساسي بالشمس وتذكَّرتُ الأطفال الفلسطينيين.

كان هناك بالأمس نبأ عن استقبال مجموعةٍ منهم من معسكرات اللاجئين في الأردن قَدِموا لقضاء خمسة أسابيع في معسكرات «الروَّاد»، التابعة للحزب، بدعوةٍ مشتركةٍ من مجلة فوخن بوست ولجنة التضامن الآسيوي الأفريقي وجمعية الصداقة الألمانية العربية. وفي يومهم الأول تفقَّدوا معالم برلين، فزاروا برج التليفزيون الجديد وحديقة الحيوان، وبعد الظهر شهدوا فيلم «التحرير» السوفييتي بعد أن استمعوا إلى شرحٍ وافٍ عن كفاح الشعب السوفييتي ضد الفاشية الهتلرية وانتصاره عليها.
خاطبت نويمان: عندي فكرة.

تطلَّع إليَّ في ارتياب ثم قال: ما هي؟

قلتُ: ما رأيُكَ في أن نقوم بتغطيةٍ خاصة لموضوع الأطفال الفلسطينيين؟

أجاب: كيف؟

– يمكنني القيام بذلك.

فكَّر لحظة ثم لمعَت عيناه وقال: عظيم.

نهضتُ واقفًا وأنا أقول: إذن اطلب لي سيارةً تأخذني إليهم.

أشار لي بأن أعود إلى مقعدي قائلًا: كل شيء يجب أن يتم بنظام.

ملأ ورقةً بعدة عباراتٍ ثم غادر الغرفة وغاب حوالي نصف ساعة. وقال عند عودته: النظام الألماني. كل شيء يتم بدقة وفي موعده. كل شيء الآن مضبوط. نطلُب السيارة.

هُرعتُ إلى الخارج، دون معطف وقبَّعة وقفَّاز ووِشاح. مررتُ بسيدةٍ خمسينية بيضاء الشعر إلى جوار باب القاعة الخارجية في وضعٍ غريب؛ فبدلًا من أن تجلس كالآخرين وظهرها إلى الحائط، واجهَته معطية ظَهْرها للجميع. كنتُ قد لمحتُها من قبلُ، ولاحظتُ أنها لا تُكلِّم أحدًا، وتُحدِّق دائمًا إلى الحائط أو الأرض.

حملَتْني السيارة إلى معسكر الروَّاد. وجدتُ الأطفال في ساحةٍ خضراء يستمتعون بالشمس. تعرَّفتُ بمرافقاتهم العربيَّات. كن ثلاثَ نساءٍ في أعمارٍ متفاوتة. أدفأَتني لكنتُهنَّ الشامية بعد شهورٍ من سماعها على ألسنة الذكور. أخرجتُ من جيبي مفكِّرةً صغيرة وبدأتُ أقوم بمهمَّة الصحفي.

تحدَّثن عن ظروف الأطفال، وكيف تعرَّضوا لإرهابٍ مزدوج من جانب السلطات الإسرائيلية والسلطات الأردنية. وكيف يقيمون في مخيَّماتٍ مبنيةٍ من الطين ومغطَّاة بألواح الزنك.

حدثَتني أكبرهن سنًّا وتُدعى رسمية عما قامت به السلطات الأردنية ضد اللاجئين الفلسطينيين: كنا خارج عمان نسمع مدافع القصف. كنتُ لدى أختي في شارع المحطة بين القصور وجبل التاج. وكان رجال الشعبة الخاصة في الجيش الأردني الذين اندَسُّوا بين حركات المقاومة بدعوى أنهم فدائيون هم الذين ضربوا الشعب.

بدا لي صوتُها ساحرًا في لهجته الشامية. قالت: إنها كانت تقوم بتدريس التاريخ، واصطدَمَت بالإخوان المسلمين الذين هاجموها على مآذن الجوامع، وعندما اشتكت لوزير التربية نقلَها إلى مدرسةٍ ابتدائية في مدينةٍ أخرى تأديبًا لها.

لفتَت أصغر المرافقات انتباهي. كانت في العشرينيات، سمراء دقيقة الحجم، ذات عينَين سوداوَين واسعتَين، وشعرٍ فاحم السواد تُدعى سعاد، حاصلة على ليسانس من جامعة بيروت العربية، ولها أخٌ أكبر في بعثة ﺑ باكستان وأخٌ درَس الهندسة في ألمانيا الغربية، وأختٌ في بيروت، وأخٌ صاحب مطعم في دمشق.
قالت: إنها نزحَت بعد الحرب إلى الضفة الغربية قرب أريحا، ثم إلى مخيم البقعة؛ حيث يحصل كل أربعة أشخاص في الشهر على ٣ كيلو دقيق، نصف كيلو سكر، نصف كيلو زيت، ٤ قطع صابون.
قدَّمتْني إلى الأطفال؛ عشرين طفلًا بينهم ٨ بنات، تراوحَت أعمارهم بين ١١ و١٣ وأسماؤهم بين أبو الثأر وأبو زياد وجيفارا ولينين وماو. آباؤهم وأشقاؤهم في السجون؛ الإسرائيلية أو الأردنية، أو قُتلوا أثناء العدوان الإسرائيلي في ١٩٦٧م، وبقية أهاليهم موزَّعة بين عمان والسعودية ولبنان.

سألتُها: هل طلبوا شيئًا خاصًّا؟

ضحكَت: طلبوا كوتشينة وبذرًا وحمصًا وعلكة (لبان)، وتليفزيونًا، وأحدهم طلب شراء كاميرا.

– هل هم راضون؟

– جدًّا. بالأمس أخذَنا المشرفون الألمان إلى حانوت دار الأطفال؛ حيث أخذوا ستراتٍ وملابسَ رياضية وأحذيةً بلغَت قيمتها ٢٥ ألف مارك، دفعتها الجهات الداعية.

استكمالًا للتقرير كان لا بد من الحديث مع المشرفين الألمان. استمعتُ من شقراءَ خمسينيةٍ رقيقة الملامح عن الصداقة الألمانية مع الشعوب العربية والتضامن ضد الهمجية الإسرائيلية. وتجنَّبتِ السيدة الذكية أيةَ إشارة إلى الهمجية التي تُمارِسها السلطاتُ الأردنية.

سجَّلتُ برنامج تحرُّكاتهِم للأيام التالية وأنا أبتسم لنفسي؛ فقد وجدتُ وسيلة لمغادرة مبنى الوكالة إلى الشمس. وربما تمكَّنتُ من مصاحبتهم في جولاتهم. ثم هناك أيضًا يوم مغادرتهم.

عُدتُ إلى المكتب وكتبتُ الخبر، ثم راجعتُ أخبار النشرة الثانية. وجلستُ أتطلَّع إلى النافذة وشمس الغروب، أنتظر موعد الانصراف.

٢

هطل المطر بشدة فبسطتُ مظلَّتي. مشيتُ مسرعًا إلى حانوتٍ قريب. تذكَّرتُ أني لم أتطلَّع خلفي ولا مرة مثلما كنتُ أفعل في القاهرة بشكلٍ أوتوماتيكيٍّ بحثًا عن رجال الأمن المتنكِّرين. وقفتُ نصف ساعة في طابورٍ مكوَّن من ثلاثة أشخاص. كان الحانوت واسعًا كشفَت أنوارُه القوية ضآلةَ محتوياته من الخضراوات والفواكه الطازجة، وصفوفًا من عُلَبها المحفوظة.
وصلتُ أخيرًا أمام البائع فطلبتُ منه كيلو عنب وكيلو خوخ وفاصوليا صفراء وبقدونسًا وفلفلًا أخضر وخيارتَين كبيرتَين. وتعثَّرتُ في نطق كلمة جوركن، خيار، فأشرتُ إليه. تطلَّع البائع إليَّ في جمود متجاهلًا إشارتي ومتظاهرًا بعدم الفهم، وانتقل إلى الزبون التالي. ثم عاد إليَّ بعد أن فرغ منه وكرَّر مُؤنِّبًا: جوركن. جوركن. جمعتُ مشترواتي ودفعتُ عشر ماركات. ومن حانوتٍ مجاورٍ اشتريتُ زجاجة نبيذٍ بلغاري وأخرى من بونا كامب الشبيه بالكينا المصرية. وضعتُهما في حقيبتي ثم خرجتُ إلى الباب. بسطتُ المظلَّة وسِرتُ إلى موقف الباص.
راقبتُ ثلاث فتياتٍ صغيرات يتبادلن الحديث مع شابَّين قدَّرتُ من هيئتهما أنهما من عرب أو أتراك أو أكراد برلين الغربية، الذين يطلق عليهم جميعًا لفظ أرابا. كانا بسوالفَ طويلة وبنطلونَين ضيقَين عند الركبتَين وواسعَين عند القدمَين، ولفَّ أحدهما لفاعةً حمراء حول رقبته. وبدا لي أنهما يُحاوِلان إغراء الفتيات لمصاحبتهما.
ابتعدَت إحدى الفتيات قليلًا ووقفَت تتطلع حولها خجلةً بينما زميلتاها تناديانها. تلفتُّ حولي في ضجر. على الناحية الأخرى مقهى بريس كافيه الذي لم أدخُله ولا مرة. وأمامه وقفَت سيارة ستروين صغيرة، ذات الشكل الغريب الذي قيل: إنه من تصميم بيكاسو، قادمة هي الأخرى من الشطر الغربي، وبداخلها شابٌّ بسوالفَ طويلةٍ مال ناحية النافذة اليمنى يُتابِع المفاوضات الجارية. وعلى اليمين الجريدة المضيئة. وخلفي صندوق الصحف الذي برزَت منه صحيفة برلينر تسايتونج المسائية. وألقى كهلٌ متجهِّم الوجه بعُملةٍ معدنيةٍ في الصندوق وسحَب واحدة. طواها في عناية، ثم وضعَها في جيبه، ومضى في طريقه ليقرأها مع طعام العشاء.
جاء الباص بعد نصف ساعة، فصَعِدتُ وتطلَّع إليَّ الركاب وإلى السلة التي أحملُها، وفي أعينهم تساؤلات عن محتوياتها. نزلتُ في المحطة القريبة من المنزل. مشيتُ على مهَلٍ متحملًا ثقل السلَّة. فتحتُ البوابة الخشبية بالمفتاح الحديدي الثقيل الذي أعطَتْنيه إنجمار. عبَرتُ الفِناء، ووجدتُ الباب التالي مفتوحًا، فصَعِدتُ السلَّم الخشبي. وضعتُ السلَّة على الأرض وأنا ألهث. دقَقتُ الجرس فلم تَرُد. تركتُ السلَّة بجوار الباب ونزلتُ. صَعِدتُ المبنى الآخر، وطرقتُ باب العجوزتَين. فتحَت لي فراو جيلزر، ودَعَتني إلى الدخول فاعتذرتُ، نادت على إنجمار: فراو هرمان (لقب صديقتي). وهتفَت إنجمار من الداخل: قادمة يا فراو جيلزر. وعجبتُ لأنهما تتخاطبان بطريقةٍ رسمية بعد سنواتٍ طويلةٍ من العشرة اللصيقة.
سبقتُها إلى أمام شقَّتها ووقفتُ أنتظر. سمعتُها تُهروِل في الفِناء ثم تلجُ المبنى والطفلُ في أعقابها يُهمهِم بشيءٍ ما. توقفَت خطواتها أمام صندوق البريد، وأخرجَت الصحيفة المقرَّرة، نويس دويتشلاند، وطوَتْها ثم صَعِدَت وتطلَّعَت إليَّ بنظرةٍ متسائلة. أشحتُ بوجهي ووقفتُ بجانب الباب حتى انفتح ودخلنا.

قالت وهي تقود الطفل إلى المطبخ ليغتسل إنها ستفرغ لي بعد قليل. جلسْتُ على أريكة الصالة منحنيًا إلى الأمام. أشعلتُ سيجارة وأنا أسأل نفسي عن السر في ضيقي. خرجا إلى المخدَع فقمتُ ودخلت المطبخ وأعددتُ طبقًا من السلَطة. حملتُه إلى طاولة الصالة وجلستُ أنتظر. وجاءني صوتها تَروي حكايةً للطفل.

ظهَرَت بعد لحظاتٍ وأشعلَت المدفأة ثم عبَرتْ إلى المطبخ. عادت حاملةً طبقًا من البطاطس المسلوقة وآخر من الفورست، النقانق، وطبقَين فارغَين لنا.
سألتُها: ألن يأكل جون؟

أجابت وهي تجلس إلى جواري: تعشَّى عند العجوزتَين.

أضافت: تعتبرانه طفلَهما. وكثيرًا ما يُسبِّب هذا شجارًا بيني وبينهما.

– أليس لديهما أبناء؟

– كان للكبرى ابنٌ ثم مات فجأة.

– والأخرى؟

شرحَت لي أن الأختَين تعيشان سويًّا منذ أمدٍ طويل. إحداهما فقدَت زوجها في الحرب ولم تعرف رجلًا بعد ذلك، والثانية لم يكن لها رجل. عشرون سنةً بلا رجال.

سألتُ في دهشة: لماذا؟ تَرهْبنَتا؟

– أبدًا. لم يكن هناك رجالٌ كثيرون.

– كيف كانت حياتهما إذن؟

هزَّت كتفَيها وقالت: نهارًا في سكرتارية إدارةٍ حكومية. والمنزل بعد الخامسة، ثم تُعِدَّان طعام العَشاء. تقرآن قليلًا ثم تنامان في السابعة. في حجرةٍ واحدة.

سألتُ: هل …؟

ابتسمَت وهزَّت رأسَها: أبدًا. إنهما تسخران دائمًا من المثليِّين. مرةً كنا ثلاثتنا في مطعم وشربنا قليلًا، وعندما خرجنا أرادت إحداهما أن تضع ذراعها في ذراع الأخرى، لكن هذه رفضَت بشدة؛ لأنها لا تريد أن يظنها أحدٌ «عمَّةً دافئة». إنه التعبير الذي يُطلَق على هذا النوع من النساء.

أضافت بعد لحظة: تغيَّرتْ حياتهما قليلًا بعد تقاعُدهما. اشترتا جهاز تليفزيون. وصارتا تتأخَّران في النوم.

التفتَت نحوي وكأنما تذكَّرتْ. قالت: كنا الآن نُشاهِد في التليفزيون الغربي مظاهرات الاحتجاج على التدخل السوفييتي في تشيكوسلوفاكيا.

– التليفزيون الغربي؟ كيف؟ ألا تخافون من العواقب؟

أشاحت بيدها في استهانة: الجميع يُديرون تليفزيوناتهم على الغرب. وفشلَت كل محاولات الشوشرة على الإرسال.

– وماذا عن تشيكوسلوفاكيا؟
أولبريشت نفسه حاول في مطلع الستينيات تطبيق نظامٍ اقتصادي جديد شبيه بالنظام الذي سعى دوبتشيك إلى تطبيقه، نظام يستعين بآليات السوق لتنفيذ الخطط المركزية. لكن بريجنيف صدَّه عن هذا المسعى. وجرى هجومٌ شرس على كل من يتبنَّى موقفًا فكريًّا معارضًا للخط العام، مما أدى إلى انتحار إريش أبل رئيس لجنة التخطيط، ثم تحوَّل إلى هجوم في جبهة الأدب والفن. هل سمعتَ عن راينر كونتسه؟

هززتُ رأسي بالنفي.

– شاعرٌ كبير. استهزأ بالقيود الأيديولوجية الساذجة، فكتب قصيدةً ساخرة عنوانها: «نهاية الفن» يقول فيها: «لا يجوز لك. هذا ما قالته البوم للديك البري، لا يجوز لك أن تتغنَّى بالشمس؛ فالشمس ليست بالأمر المهم. شطَب الديك البري الشمس من قصيدته. قالت له البوم: أنتَ فنان. وهكذا تحوَّل النور إلى ظلامٍ دامس.» وقد استقال كونتسه من الحزب بعد ربيع براغ.
شَردَت برهة ثم استطردت: لم أعُد أعرف رأسي من قدمي. هناك قدْرٌ كبير من الكذب في الدعاية الغربية، ولكن … ليست لدينا معلوماتٌ كافية. دائمًا ما كان يُقال لنا أشياء وبعد سنواتٍ يُقال: إنها لم تكن صحيحة. حدث هذا مع ستالين ثم الآن ماو تسي تونج. قيل لنا دائمًا: إنه ثوريٌّ ومنظِّرٌ عظيم، ثم يقولون الآن: إنه مُراجع وفلاحٌ جاهل.

غيَّرتُ مجرى الحديث: قولي لي. هل تعرفين امرأة في صالة التحرير تجلس دائمًا بوجهها إلى الحائط ولا تكلِّم أحدًا؟

قطَّبَت حاجبَيها: أجل. أبوها كان من قادة الحزب الشيوعي قبل الحرب، ثم اعتقله الروس، وفقد حياته في معتقلات ستالين.

نظرتُ في الساعة فوجدتُها تقترب من العاشرة. قلتُ: لا بد أن ننام الآن.

مضت إلى المطبخ ونهضتُ واقفًا. خلعتُ ملابسي ورقدتُ عاريًا فوق الأريكة. سمعتُها تغسل أسنانها ثم تغتسل في البانيو، ثم ولجَت المخدع وعادت عاريةً تحمل اللحاف؛ ففرشَته على الأرض. وانضممتُ إليها.

قالت: أريدُ أن أطلب منكَ شيئًا.

قلتُ: اطلبي.

– أن تحلقَ ذقنكَ جيدًا؛ فهي تُلهِب بشرتي.

٣

ظهر ويلي في مدخل القسم العربي؛ خمسينيٌّ متوسط القامة بعويناتٍ طبية وفمٍ معوج، يخرج منه الكلام متلعثمًا. وتأهبتُ لسماع حديث كل يوم؛ أنه قضى في القاهرة بعض الوقت منذ سنواتٍ وقابل فُلانًا وعلَّانًا. ثم يوجِّه إليَّ نفس السؤال: هل تعتقد أن الحرب ستقوم مع إسرائيل؟ لكن الطريق اليوم كان ممهدًا بصورةٍ طبيعية بعد أنباء الاعتراف الدبلوماسي بجمهورية ألمانيا الديمقراطية من جانب مصر والسودان واليمن الجنوبي وسوريا والعراق.

قال: انتظرنا طويلًا. كان المفروض أن يتم ذلك من زمانٍ بعد المساعدات التي قدَّمناها لكم.

انطلق يُعدِّد هذه المساعدات، وأنا أتأمَّل فمه المعوجَّ مفكرًا: هل الاعوجاج عيبٌ خِلقي أم نتيجة لإصابة في الحرب؟ ففي صدر شبابه تم تجنيده في الجيش الهتلري، ووقع في أَسْر الجيش السوفييتي طوال أربع سنوات. وبعد الإفراج عنه التحق بالعمل الصحفي، وحملَته ثقافته الحزبية إلى رئاسة القسم الاقتصادي بالوكالة. قال لي مرة: نحن الألمان مجانين. نعمل بجنون، وعندما نشعر بالملل نُشعِل حربًا نخسرها ثم نكرِّر الأمر. لماذا؟ لأننا نصل دائمًا متأخرين إلى السوق العالمية.

كان محبوبًا من العاملين بسبب نشاطه الاقتصادي؛ فهو يبيعهم الفراولة التي يزرعها في حديقة منزله. وعندما ينعدم المحصول يبيع أوراق اليانصيب، شأنه شأن العجوز ذي القبَّعة العالية الذي يقف في مدخل محطة المترو.

اقتربَت منا الشقراء الخمسينية التي شُفيَت بعد علاجٍ مكثَّف من اكتئابٍ بالغٍ إثْر وفاة زوجها، وصارت تضحك طُول الوقت دون سبب. استفسَرَت منه عن أوراق اليانصيب ونصحَتني بأن أشتري بعضها؛ لأن نجمي ممتاز هذا الأسبوع.

لم أُدرِك صحة النبوءة إلا بعد انصرافهما. كان ماجد قد انتهى من ترجمة نبأ عن مؤتمر صحفي في برلين لأحد قادة الاتحاد الاشتراكي العربي، التنظيم السياسي الوحيد في مصر.
قرأتُ النبأ فوجدتُه كما توقَّعتُ. أشاد الرجل بالتغيُّرات الاقتصادية الواضحة في ألمانيا الديمقراطية؛ زيادة الإنتاج والدخل وزيادة إنتاجية العمل. وقال: إن معدلات النمو في هذه المجالات تُعادِل أرقى المعدَّلات العالمية.
سأله مندوب صحيفة نويس دويتشلاند السؤال التقليدي: كيف ترون موقف ج. أ. د (جمهورية ألمانيا الديمقراطية) من الصراع في الشرق الأوسط؟

أجاب: هو موقفٌ مبدئي.

تتابعَت الأسئلة المتماثلة (وأجوبتها أيضًا) من ممثلي الصحف الألمانية الشرقية؛ يونجه فيلت، هوريتسونت، برلينر تسايتونج: ما رأيكم في مؤتمر دول حلف وارسو والقرار الذي اتخذه بتأييد الدول العربية، ما رأيكم في موقف صحف ألمانيا الغربية من القضية العربية؟
ابتسمتُ وأنا أقرأ إحدى إجاباته: العمل الأيديولوجي في ج. ع. م، مصر، يحظى باهتمامٍ بالغ؛ فنحن ننظِّم دوراتٍ سياسيةً لقيادات «الاتحاد الاشتراكي» يتم فيها تدريبُ أكثر من ٣٥ ألف عضو في المعهد العالي للدراسات الاشتراكية. ونرسل إلى ألمانيا الديمقراطية ١٢٠ دارسًا لمدرسة الحزب و٣٠ متعاونًا كل ثلاثة شهور.

رفعت عيني إلى زجاج النافذة والشمس المشرقة في الخارج. شَعرتُ بالاختناق، فخاطبت «نويمان» دون أن أغادر مقعدي: عندي فكرة.

تطلَّع إلى عابسًا؛ فلم يعُد أخيرًا يرحِّب بأفكاري.

أشرتُ إلى خبر ممثِّل الاتحاد الاشتراكي العربي: هذه فرصة لأن أُجري معه حوارًا مفصَّلًا للقسم. خصوصًا بعد الاعتراف الدبلوماسي.
تأمَّلني باستغراق ثم أشرق وجهه بابتسامةٍ عريضة. وبعد ربع ساعة أقلَّتني سيارة الوكالة إلى طرف شارع فريدريش شتراسه القريب من الحدود. وبين أطلال المنازل التي دمَّرتْها الحرب استقرَّت «دار الصناعة» في مبنًى فخم، حيث يقيم الوفد المصري. واصطفَّت أمامه سيارات تاترا التشيكية الرسمية السوداء.

ولجتُ بهوًا امتلأَت فوتياته الوثيرة بأعضاء الوفد. تبيَّنتُهم من بشراتهم السمراء وكروشهم البارزة وسِمات الأهمية على وجوههم.

رافقَني شابٌّ ألماني في البزَّة الرمادية التقليدية التي تزينُ ياقة سُترتِها شارةُ الحزب عَبْر ممراتٍ مفروشة بالبُسُط الحمراء. طرقنا بابًا من الخشب السميكِ. سمعنا صوتًا حادًّا: ادخل.

ولجنا غرفةً واسعة تصدَّرها رجلٌ ذو قامةٍ عسكرية في قميص وبنطلون ووجهٍ حليق يُجلِّله شَعرٌ لامعٌ مصفوفٌ بعناية. جلس ممسكًا بصحيفة اليوم المصرية، وقد انحنَى من خلفه شابٌّ مصري يقلِّب له صفحاتها.

دقَّ جرس التليفون الموضوع فوق منضدةٍ أمامه. رفع السماعة، وقال: شيءٌ عظيم يا بك. هل رأيتَ الحجرة؟ سويت كامل. حاجةٌ عظيمة.

عرَّفتُه بنفسي ووجَّهتُ إليه بضع أسئلةٍ تقليدية عن تاريخه الشخصي. وصحَّ ما توقَّعتْه؛ فقد كان عقيدًا في الجيش قبل أن ينتقل إلى العمل السياسي في الاتحاد الاشتراكي. سألَتْه عن العلاقات الودية بين البلدَين، وخاصة بعد الاعتراف الدبلوماسي. وأخيرًا السؤال المحتوم؛ انطباعات الزيارة.

قال: هم ناسٌ ممتازون والتجربة الاشتراكية هنا ناجحةٌ للغاية. وكأنما تذكَّر دوره أو ما ينتظره من تعليقات عند عودته إلى القاهرة، فأضاف على عجل: الرئيس جمال عبد الناصر أعلن عزمه على المضي في عملية التحوُّل الاشتراكي، واقترح ألا تزيد الملكية الزراعية عن خمسين فدانًا للفرد.

كان من الممكن أن أكتب كل ذلك دون أن أقابله أو أغادر مكتبي. لكني كسبتُ ساعة من الانعتاق من أَسْر المكتب. سألَني باهتمام: كيف التحقتَ بالوكالة؟

حكيتُ له فسأل من جديد: يعني ليس للسلطات المصرية الرسمية علاقةٌ بأمرك؟

أجبتُ باقتضاب: تمام.

قال: برنامجي مشحونٌ بالاجتماعات. وأريدُ أن أُفلِتَ من كل ذلك.

خمَّنتُ ما يريده بالضبط. شيئًا من الثقافة. لكنه خيَّب ظني.

قلتُ: أنا جديد هنا ولا أعرف اللغة. لن أستطيع مساعدتك.

قال: أريد فقط أن أشتري بضعة أشياء. معي بعض الماركات الغربية. وأريد مبادلتها بالنقود المحلية دون أن يلحظ أحد؛ لهذا لا أريد الاستعانة بسفارتنا في ذلك.

قلتُ: مفهوم.

– كم السعر الآن؟

قلتُ: رسميًّا المارك الغربي يساوي المارك الشرقي.

– وعمليًّا؟

– في السوق السوداء المارك الغربي بثلاثة شرقيين.

استخرج حافظة نقوده وسألَني: هل تتكرَّم بتغييرها لي؟

قلتُ: لديَّ صديق يعرف هذه الأمر. بالمناسبة هل تنوي الذهاب إلى برلين الغربية؟

قال: أجل. أريد أن أشتري بضعة قمصانٍ لأخي الصغير، وماكينة حلاقةٍ كهربية، وملابسَ نسائية.

قلتُ: أنصحُكَ ألا تذهب. الناس هنا حسَّاسون لهذا الأمر. يمكنكَ أن تجد هذه الأشياء هنا في حوانيت الإنترشوب، التي تتعامل بالمارك الغربي والدولار. هناك واحدٌ قريبٌ أسفل محطة فريدريش شتراسه.
أطرق برأسه قائلًا: شكرًا على النصيحة. أحد أعضاء الوفد يريد شراء سيارةٍ مستعملةٍ من الغرب. أنت تعرفُ القيود على شراء السيارات الأجنبية لدينا. ويُقال: إن السيارات المستعملة رخيصةٌ في برلين الغربية.

قلتُ: فعلًا. صديقي يمكن أن يُساعِده.

قال: جيد. متى؟

طلبتُ استخدام التليفون. وأعطيتُ عامل الفندق رقم الوكالة. وبعد ثوانٍ كنتُ أُحادِث فخري. ورتَّبتُ لقاءً بينه وبين ممثِّل الاتحاد الاشتراكي، ثم استأذنتُ في الانصراف.

٤

غادرتُ اﻟ إس بان، المترو العلوي، في محطة ألكسندر بلاتز وانتقلت إلى الأوبان، مترو الأنفاق، المتجه إلى فريدريش فيلده.
وجدتُ نفسي بين مجموعة من شباب اﻟ «إف دي يوت، منظَّمة الشباب التابعة للحزب، بالقمصان الزرقاء التي تميِّزهم. رأيتُ بينهم فتاةً صغيرة الحجم تُقبِّل شابًّا آخر بقبلة أقلُّ وصفٍ لها أنها تجريبية. وعندما ركبنا العربة جلسَت بجوار شابٍّ آخر، ووقف الشاب الأول الذي قبَّلها إلى جوار فتاةٍ شقراء بشعرٍ قصير تدلَّت أطرافه المتساوية فوق جبهتها. كان يُحاول احتضانها وهي لا تبتعد عنه ولا تنحِّيه جانبًا، لكنها لا تترك نفسها له. جلستُ في مواجهة فتاةٍ أخرى بشعرٍ أسودَ غير مرتَّب ورداءٍ قصيرٍ كشف فخذَيها، أعطت يدها بعد قليل للشاب الجالس إلى جوارها، وبدا عليها شيءٌ من الولَه. ونزلوا جميعًا في صخبٍ في آخر محطة.

سِرتُ حوالي مائة خطوة ثم ولجتُ شارعي. مضيتُ بين صفَّين من الشجيرات المزروعة حديثًا حتى المنزل.

التقت عيناي بعينَي العجوز التي تقطُن الشقَّة المجاورة لي، والتي تابعَتْني في جمود من خلف زجاج نافذتها. دفعتُ الباب الزجاجي الخارجي وصَعِدتُ الدرجات القليلة وأنا أستخرج مفتاح بابي. وشَعرتُ بها تتلصَّص عليَّ من خلف باب شقَّتها.

ولجتُ المسكن وألقيتُ نظرةً على حوض المطبخ الممتلئ بمخلَّفات اليوم السابق. شعرتُ بالغضب لأن زميليَّ في المسكن، عدنان ونبيل، لم يلتزما باتفاقنا على توزيع المهام المنزلية والمحافظة على نظافة المطبخ.

مضيتُ إلى غرفتي وخلعتُ سترتي. جمَعتُ ملابسي المتَّسِخة، ووضعتُها في كيس من القماش، ثم ارتديتُ سترتي من جديد، وحملتُ الكيس إلى الباب. تركتُه هناك ودخلتُ المطبخ. جمعتُ زجاجات البيرة الفارغة وحملتُها في سلَّة من الخيوط البلاستيكية المتشابكة، وغادرتُ المسكن بعد أن التقطتُ كيس الملابس.

اتجهتُ إلى مجمع الخدمات القريب. مررتُ ببنايةٍ حديثةٍ من حوالَي عشرة طوابق. ولجتُ المغسلة، وأفرغتُ محتويات الكيس في إحدى الآلات وشغَّلتُها، ثم مضيتُ إلى الكونسوم، السوبر ماركت التابع للدولة.
أودعتُ الزجاجات الفارغة في المكان المخصَّص لها، وأخذتُ إيصالًا ﺑ فينيجاتٍ قليلةٍ مقابلها، ثم التقطتُ سلَّةً بلاستيكية. طفتُ بصفوف الأطعمة المحفوظة، وانتقيتُ علبتَين من الرنجة المدخنة، وأخريَين من الجبن المطبوخ، أضفتُ إليها كارتونةً من البيض، وقالبًا من الزبد، وبرطمانًا من المربَّى. انتقلتُ إلى قسم الخضراوات ولم أجد بالطبع طماطم أو خيارًا. أخذتُ حبة قرنبيط من الذي يعشقُه عدنان ويُسمِّيه الزهرة، وحبة كرنب ملون، وبضع حبَّاتٍ من البطاطس، ثم مضيتُ إلى قسم المشروبات.
كانت هناك أنواعٌ وفيرة من الكحوليَّات المحلية التي تعلَّمتُ تجنُّبها بسبب رداءتها؛ «ليكيرات» بالبيض والفواكه وغيرها. لم أجد الفودكا الروسية التي تتوافر أحيانًا. اكتفيتُ بعدة زجاجات من بيرة بيلسنر الألمانية اللذيذة بعد أن بحثتُ عَبثًا عن بيرة بوك السوداء التي أعشقها. واتجهتُ إلى الخزينة.
وقفتُ في طابورٍ طويل تحرَّك في بطء. وفوجئتُ ﺑ إيزابيلَّا، إحدى زميلات الوكالة من القسم الإسباني، تتقدَّمني متأبطة ذراع شابٍّ ألماني فارعِ القامة مفتولِ العضلات. كانت أربعينيةً طويلة القامة سمراء البشرة، عصبية الملامح، من أمٍّ ألمانية وأبٍ إسباني شارك في الحرب الأهلية ضد فرانكو. وبدا الشابُّ في نصف عمرها.

قلتُ مرحِّبَا: لم أعرف أنكِ تقيمين في هذا الحي.

قالت ضاحكة: أنا أقيم بعيدًا. لكني هنا لزيارة صديقي.

قدَّمَته لي باسم رولف. وكان يحمل في يده علبةً تحوي نموذجًا لطائرة. وحملَت هي زجاجة نبيذ.

سألتُه: أأنت معنا في الوكالة؟

قال: كنتُ. عملتُ سائقًا خاصًّا للمديرة. هكذا تعرَّفتُ ﺑ إيزابيلَّا.

– والآن؟

قال باعتداد: أصبحتُ منذ أسبوعٍ السائق الخاص للسفير العراقي.

بلغنا الخزينة. دفعَت حسابها، وقالت لي ضاحكة بينما صديقها يدفع ثَمن نموذج الطائرة: الرجال وألعابهم. من القطارات ونماذج الطائرات إلى جمع سِدادات زجاجات البيرة وعُلب الثقاب. يظلون أطفالًا طوال عمرهم.

غادرنا الحانوت سويًّا. أشارت إلى المبنى المرتفع ذي الطوابق العشرة. وقالت: رولف يقيم في هذا المبنى. وهو مبنًى حديث للغاية، شُيِّد من ألواحٍ سابقة التجهيز، ومخصَّص للعازبين من الجنسَين؛ فهو مؤلَّف من شُققٍ صغيرةٍ تتسع كلٌّ منها لفردٍ واحد.

لَكزَته بمرفقها وأضافت: اللجنة الحزبية للسكَّان تقيم حفلًا أسبوعيًّا كي يتعارفوا.

تركتُهما يتجهان إليه، ومضيتُ إلى المغسلة. التقطتُ ملابسي، وواصلتُ السير حتى المنزل. لم يكن أحد من رفيقيَّ قد وصل. ألقيتُ الملابس فوق فِراشي، وخلعتُ سُترتي وعلَّقتُها على المِشجَب المثبَّت في ظهر الباب. شَعرتُ بالراحة لأني تخلَّصتُ من ضغط مفتاح بوابة إنجمار الحديدي الثقيل في جيبي. وضعتُ سلة المشتروات في المطبخ، ثم استخرجتُ زجاجة بيرة من البَرَّاد وفتحتُها وحملتُها إلى الأريكة أمام التليفزيون.
تفرَّجتُ على برنامج ساندمانشان (رجل الرمل الصغير). كان برنامجًا جميلًا موجَّهًا للأطفال، ويأتي دائمًا في السابعة قبل موعد نومهم. وتلَته نشرة الأخبار؛ الحرب في فيتنام، والاعتداءات الإسرائيلية على الشعوب العربية، والمظاهرات في ألمانيا الغربية ضد نشاط الحزب النازي الجديد ووحشية البوليس في التعامل معها. ثم تعليقٌ أورد مقتطفاتٍ من تصريحاتِ زعماء ألمانيا الغربية وبرنامج الحزب النازي الجديد. ثم تقريرٌ مُصوَّر عن أعمال البناء التي تجري بمناسبة قرب الاحتفال بالذكرى العشرين لمولد جمهورية ألمانيا الديمقراطية.
انتهت النشرة، وأعقَبها تعليقٌ سياسي ﻟ فون شنيتزلر. كان — كما يوحي اسمه الأرستقراطي — ذا مهابة ووقار. تحدَّث في سرعة مدركًا أن المشاهدين سينتقلون إلى قناةٍ أخرى هربًا من حديثه الذي لم يتجاوزْ ما جاء في نشرة الأخبار. وظهَرتِ المذيعة لتعلن عن برنامج المساء، ثم سَكتَت لحظةً وأعلنَت في بطء وهي تشعر أن كل العيون معلَّقةٌ بها عن فيلمٍ بوليسي في الساعة العاشرة.
حوَّلتُ إلى قناة برلين الغربية. وتجاهلتُ شحوب الإرسال بسبب عمليات التشويش الفاشلة التي تقوم بها ألمانيا الشرقية. شاهدتُ فيلمًا ممتازًا للمخرج الإيطالي روسيليني من إنتاج التليفزيون الفرنسي يُصوِّر صعود لويس الرابع عشر إلى السطوة.

كانت كل لقطة من الفيلم معدَّة بأسلوب اللوحات الفنية التاريخية. وأعجَبَني تصوير الفيلم لتطوُّر شعوره بالسلطة من خلال التغيُّرات التي أحدَثَها في السلوكيات وخاصةً في الأزياء.

فتحتُ زجاجة بيرة ثانية واسترخيتُ في مكاني. داعبتُ فكرة الذهاب إلى إنجمار وقضاء الليلة معها. تصوَّرتُ عملية الذهاب وركوب الأوبان ثم الانتقال إلى الآخر القديم ذي النور الضعيف، وكيف يصعد عاليًا فوق شنهاوزر ألليه، وتبدو من نوافذه حجراتُ منازل قبل الحرب الواسعة التي تستدعي المقارنة مع الحجرات الحديثة الخانقة، ثم أُغادِره بعد محطتَين وأمشي مسافةً حتى منزلها قرب الحائط.
عدَلتُ عن الخروج، وما لبث عدنان أن وصل في صحبة هيلدا. صحبتُه إلى المطبخ وعاونتُه في إعداد طعام العَشاء من «القرنبيط» المحمَّر، بينما استرخت هيلدا أمام التليفزيون معلنةً أنها متعبةٌ للغاية.
وفَد نبيل في هذه الأثناء في صحبة فتاةٍ شقراءَ جديدة. كانت أطولَ منه في ملابسَ أنيقة وجوبة تتوقَّف عند منتصف فخذَيها. ولحظتُ نظرة امتعاضٍ على وجه هيلدا.

قلتُ له: جئتَ في وقتكَ. سيكونُ العَشاء جاهزًا بعد دقائق.

قال وهو يسحب فتاته إلى غرفته: شكرًا. أكلنا في مطعم.

أكلنا نحن أمام التليفزيون. وعندما انتهينا قمنا أنا وعدنان بإزالة أطباقنا وحملناها إلى المطبخ مع طبق هيلدا التي استرخت في مكانها تُتابِع التليفزيون دون أن تعبأ بمساعدتنا.
اغتسلتُ، ومضيتُ إلى غرفتي مارًّا بغرفة نبيل المغلقة. تناهت إلى سمعي أصوات حديثهما. ولاحظتُ أنه يتحدَّث الألمانية بطلاقة.

ولجتُ غرفتي وأغلقتُ بابها بالمفتاح. تناولتُ الكاميرا وقمتُ بلفِّ الفيلم داخلها حتى يعود إلى عُبوته. أطفأتُ نور السقف وأضأتُ المصباح الأحمر، ثم جذبتُ ظَهر الكاميرا وأخرجتُ عُبوة الفيلم. لفَفْتُه حول الإصبع الحلزوني داخل عُلبة التحميض وأفرغتُ فيها نصف لتر ماءٍ من زجاجة ومحتويات الكيس الأول من الحامض، ثم أضفتُ محتويات الكيس الثاني في جرعاتٍ صغيرة، وقلَّبتُ المزيج حتى ذاب تمامًا. كانت عمليةً صعبة تدرَّبتُ عليها طويلًا.

قصصتُ لسان الفيلم بصورةٍ مستقيمة. وجعلتُ الطبقة الحسَّاسة غير اللامعة إلى الخارج، ثم شبَكتُ الثقب الثاني من أسفل في الإصبع الحلزوني. أدرتُ الفيلم بيدي اليسرى حوله إلى اليسار ببطء، ثم أغلقتُ العلبة، وأضأتُ النور، وضبطتُ المنبِّه.

أدرتُ الحلزون ببطء عدة مرات في اتجاه السهم. انتظرتُ أربع دقائقَ وعيني على المنبِّه ثم مضيت إلى الحمَّام. رميتُ المحلول من فتحة الإناء وصبَبتُ فيه مياه الصنبور. انتظرتُ خمس دقائقَ ثم أفرغتُ المياه، ووضعتُ سائل التثبيت الذي أعددتُه من قبلُ في زجاجةٍ خاصة. بعد عشر دقائقَ أخرى أفرغتُ السائل ووضعتُ العُلبة تحت الصنبور وعُدتُ إلى غرفتي.

انتظرتُ نصف ساعة ثم مضيتُ إلى الحمَّام فأفرغتُ محتويات العلبة وحملتُها إلى الغرفة. رفعتُ الغطاء وأخرجتُ الفيلم ورفعتُه في الضوء. كانت الصور السلبية واضحة. تناولتُ مشبكًا معدنيًّا من دُرج المكتب وعلَّقتُ الفيلم في مقبض النافذة، أعلى الشوفاج، ليجف.

غادرتُ الغرفة إلى الحمَّام. كان المسكن غارقًا في الظلام يُخيِّم عليه الهدوء التام. غسلتُ يدي جيدًا. ولاحظتُ أن هيلدا قد استحمَّت ولم تُعنَ بتنظيف الآثار المتخلِّفة عنها.

لجأتُ أخيرًا إلى فراشي بعد أن ضبطتُ المُنبِّه على السادسة والنصف. نمتُ في عمق ثم استيقظتُ على صوت المُنبِّه. قمتُ مسرعًا إلى الحمَّام. وسمعتُ صوت فتح وإغلاق باب الشقة مرتَين. وفكَّرتُ أن الفتاتَين قد انصرفتا لعملَيهما. ثم سمعتُ صراخًا مفاجئًا فاندفعتُ خارجًا إلى الصالة.

وجدتُ نبيل عاريًا وهو يتأمل شعر عانته في المرآة موشكًا على البكاء. انضم عدنان إلينا ووقف مذهولًا مما يجري.

كشف الشاب السوري عن ثقافةٍ واسعة رغم صغر سنه؛ فقد أعلن أنه أُصيب بعدوى قمل العانة من «أخت الشرموطة».

اقترح عدنان الذهاب إلى طبيب الوكالة، فرفض الشاب تجنُّبًا للفضيحة. واستقر الرأي على الالتجاء إلى المركز الطبي في مجمعِ الخدمات المُجاور.

٥

أعَدَّ لنا نويمان السيارة الفارتبورج لتأخذنا — نحن الأعضاء الجدد في القسم العربي — لزيارة معسكر اعتقال بوخنفالد (غابة أشجار الزان) الشهير.
انطلقنا في الثانية. وجلستُ في المقدِّمة إلى جواره بينما جلس عدنان ونبيل في الخلف.

أدار راديو السيارة بصوتٍ مرتفع. وأخذ يتكلَّم طُول الطريق قائمًا بدور المرشد السياحي: هذه حقولٌ بألوانٍ رائعة، وهذه المرأة الضخمة تعمل فوقَ آلةِ حصاد.

أعطانا أيضًا بعض المعلومات الشخصية؛ فقد قضى عامًا في معسكر الأَسْرى الألمان في بلجيكا في نهاية الحرب العالمية الثانية. كما أنه يملك سيارة ترابانت، لكنه سيترقَّى قريبًا؛ إذ حجز سيارة فارتبورج سيتسلَّمها بعد عام.
شَعرتُ بالصُّداع فمددتُ يدي إلى الراديو وخفَّضتُ صوته. وبعد دقائقَ قام هو بتعليته من جديد. وتكرَّرتْ هذه المهزلة حتى بلغنا جوتا بعد أربع ساعات، ثم مَررْنا بقريةٍ بدت ميتةً تمامًا ومنازلها الخشبية المتجاورة متلاصقة وذات واجهاتٍ ممسوحة بلا أي بروز. ولم نَرَ أحدًا في الشارع.
قبل أن نبلغ إيرفورت بخمسة كيلومترات انحرفنا إلى طريق الأوتو بان الذي يمتد من أيزناخ قرب الحدود إلى برلين. وهنا انطلق بسرعة. وكان الطريق مزدحمًا بالسيارات. وجعل همَّه أن يسبق كل سيارات الترابانت المتواضعة التي نُصادِفها، فكان يُضاعِف سرعته وينتقل إلى يسار الطريق، ثم يعود إلى يمينه بعد أن يتجاوز السيارة المسكينة التي تبدو كعلبة كبريتٍ متأرجحة وتُوشِك هبَّة هواءٍ أن ترفعها وتُطوِّح بها عاليًا.
وصلنا فايمار بعد ساعة. شوارعُ مشجَّرة ببيوتٍ من طرازٍ قديم لها بلكوناتٌ بارزة تبدو كمنازل القاهرة القديمة. وقال نويمان إن المباني الحديثة كانت تُبنى دائمًا ببلكوناتٍ بارزة حتى زار أولبريشت المدينة مع عدد من رجال الحزب، فأعلن أنه لا يفهم جدوى البلكونات؛ لأن ألمانيا ليست مثل إيطاليا، ولا تعرف الشمسَ إلا شهرَين فقط في السنة، وبذلك تكون البلكونات تبذيرًا لأموال الشعب. وفي اليوم التالي دعَت الصحف إلى إلغاء البلكونات البارزة، وخلَت منها البلوكاتُ السكنية بعد ذلك.
بسرعةٍ عبَرْنا الطريق الذي يقوم فيه منزلا جوته وشيلر المتجاوران. ثم انطلقنا في طريقٍ مرتفع تُطِل عليه بلوكاتٌ سكنية، قديمة بعض الشيء، لها شرفاتٌ ملوَّنةٌ بارزة.
قال نويمان: هذه منازل الضباط الروس؛ فلهم حاميةٌ قريبة. الضباط فقط هم الذين يُسمَح لهم بإحضار عائلاتهم، أما الجنود فلا.
بلغنا نصبًا تذكاريًّا من الرخام الوردي عليه كلمة بوخنفالد. انطلَقنا في طريقٍ جميل بين صفوف من الأشجار الكثيفة العالية، وأشجار الزان الرشيقة الملساء ذات الرءوس المدبَّبة. دار الطريق عدة مرات وحاولتُ أن أتمثَّل شعور المعتقلين الذين كانوا يعبُرونه كل يومٍ ذاهبين إلى المعتقل بلا عودة، وشعور ضباط المعتقل الذين كانوا يقطعونه في الموتوسيكلات الشهيرة ذات المقاعد الجانبية.

عَبَرنا مدخل المعسكر المحاط بالأسلاك الشائكة. ومرَرْنا أسفل لافتةٍ تحمل هذا الشعار الساخر: «لكلٍّ ما يستحق».

استقبلَنا مرشدٌ شابٌّ يحمل شارة الحزب الدقيقة في ياقة سترته. واجهنا مُعطِيًا ظهره للمعسكر وقال: أُقيم هذا المعسكر في عام ١٩٣٧م، ليضم معارضي النازي، ويجري تحطيمهم معنويًّا بالمعاملة الوحشية. تعرَّض ١٨ مليون فردٍ هنا للتعذيب. آلافٌ من الألمان والبولنديين. ولم يعُد ١١ مليونًا منهم إلى الحرية؛ إذ ضُربوا حتى الموت، ثم أُحرقوا في أفران الغاز.

أشار إلى الطريق الممتد وسط المعسكر، وقال: السجناء أطلقوا على هذا الطريق «شارع الدماء».

تقدَّمنا إلى ساحةٍ واسعة، كان يجري بها تعداد المساجين والنداء عليهم، وكانوا يُجبَرون على الوقوف ساعاتٍ كل صباح ومساء من أجل ذلك تحت الثلج والمطر. وغالبًا ما كان البعض يسقُطون موتى أثناء الانتظار الذي يستمر أحيانًا ١٨ ساعة. ولا ينتهي الأمر عند ذلك؛ إذ يُقادون إلى المحجر لتصفيتهم، فيُرغَمون على السير وسط صفَّين من الحُراس الذين يضربونهم بالهراوات أو يُطلِقون عليهم الرصاص، ثم يعملون حُفاةً في تكسيرِ الأحجار ونقلِها، تمامًا كما حدث للشيوعيين في معتقل أبي زعبل شرق القاهرة منذ سنواتٍ قليلة.
فكَّرتُ: تُرى، هل أشرف خبراءُ ألمان على ذلك أم تفتَّقتْ عنه عبقرية رجال جمال عبد الناصر بمفردهم؟
احتوت الساحة أيضًا على عامودٍ خشبي يُعلَّق السجين فوقه ليُجلدَ بالسياط والأحزمة الجلدية. لدينا في مصر أيضًا منذ القِدَم «العروسة» التي تقوم بنفس المهمة.

دخلنا أحد العنابر التي ضمَّت عند نهاية الحرب قرابة أربعين ألفَ معتقلٍ وُضِعوا في فجوات خشبية، تضم كل واحدة ٣ أو ٤ مساجين يلتحفون ببطانيةٍ واحدة. التقطتُ لها صورةً وأنا أتخيَّلها بقاطنيها السابقين.

أخذَنا المرشد إلى مبنًى يُدعى «المعزل»، استخدَمه النازيون لانتزاع الاعترافات بالجلد بالسياط والوطء بالأقدام والشنق والتسميم، ثم ولجنا العنبر رقم ٨ الذي خُصِّص للأطفال. تصدَّرتْه صورةٌ لجموعٍ من الأطفال في ملابسَ رثَّة خلف الأسلاك الشائكة وأخرى لهياكلَ عظميةٍ لهم.

مررنا بالمحرقة. كانت الأدخنة تنطلق منها كل ليلة، فيراها برينبك، كما ذكر لي، من المصنع الذي يعمل به.
عدنا إلى المدخل، وولجنا مكتبًا إداريًّا عُلِّقَت بجدرانه عدة لوحات لأصحاب الاحتكارات التي ساندَت هتلر، وهي فليك وكروب وثيزين وسيمنس وغيرها، وكيف كُوفئوا بعقود التسليح وعمالة السخرة من معتقلي المعسكرات. وعلى سبيل المثال بلغَت أرباح آي جي فاربن عام ١٩٤٣م، ٨٢٢ مليون مارك.

سألت: ماذا حدث لهم؟

أجاب المرشد مبتسمًا: أُدِينُوا بهذه الجرائم بعد الحرب، ورغم ذلك ما زالت شركاتُهم تمارس نشاطَها وهُم على رأسها.

حملَت لوحةٌ أخرى صورًا زنكوغرافية من رسائلَ متبادَلة، منها واحدةٌ بتاريخ ٢٩ ديسمبر ١٩٤١م، تقول: «لمَّا كانت التجارب على الحيوانات لا تعطي تقييمًا مناسبًا يجب أن تُجرى هذه التجارب على البشر». ورسالةٌ ثانية بتاريخ ١٣ أبريل ١٩٤٣م، بعنوان: «التجربة الأولية» وبتوقيع دكتور دينج من المعهد الصحي التابع لقوات الجستابو: «… أبدى الأفراد الستة الذين حُقِنوا في الأوردة مرةً أخرى أعراضَ حُمَّى عنيفة، ومات منهم خمسة.»
علَّق المرشد: أُجريَت التجارب لمصلحة شركة آي جي فاربن لإنتاج أمصالٍ ضد الحميات.
قادنا إلى ركن به صندوقٌ زجاجي ضَمَّ قفَّازًا وأباجورة وسَوطًا جلديًّا مزركشًا. ابتسم بطريقة الحاوي الذي ينوي الكشف عن آخر غرائبه، وقال: كان قائد المعسكر مولر مع طبيبه الدكتور واجنر ينتقيان من يحمل وشمًا من السجناء ثم يسلخان جلده. وصَنعَت فراو كوخ، زوجة مولر، هذه الأشياء من الجلود البشرية.
شعرتُ برغبة في التقيؤ. وغادرنا المكان في صمت. ركبنا السيارة عائدين، وأكلنا في مطعمٍ صغير على جانب الطريق. أكل نويمان بشهيةٍ كبيرة كما فعل نبيل. أما عدنان فاكتفى مثلي ببضع لُقَيمات.

٦

تقدَّمَتني بجسمِها الكبير في الطريق المحفوف بالأشجار. وتبعتُها مثقلًا بحقيبتَين من احتياجات الويك إند والكاميرا المعلَّقة في رقبتي تتأرجحُ مع كل خطوة وتلطمُني في صدري. وهَروَل الطفل خلفنا مترنمًا بأغنيةٍ ما. استمعتُ إلى حديثها بنصف انتباه، وأنا أتأمَّل شمس العصاري فوق أوراق الشجر. روت كيف رافقَتِ الطفل أمسِ إلى المدرسة وراقبَتْه ينضَم إلى طابور الصباح. وكيف هُرع إلى جوار طفلٍ آخر أكبر منه. مدَّ إليه يده. لكن الأخير تركَه إلى صديقٍ له، فظل واقفًا بلا حَراكٍ ويدُه ممدودة في الهواء وقد اندفعَت الدماء إلى وجهه. توقَّفَت عن الحديث، فقلتُ: يحدُث هذا مع الكبار أيضًا. قالت: فعلًا. معي كان الأمر دائمًا هكذا.

وصلنا العشَّة أخيرًا، فتخلَّصتُ من حِمْلي، وتمدَّدتُ على الفراش بملابسي، منهكًا. استغرقتُ في النوم على الفور.

أيقظَتْني قرصاتُ البعوض في العاشرة ليلًا. أعدَدتُ كوبًا من الشاي في الظلام. وسمعتُها تُناديني فذهبتُ إليها. انحنيتُ فوقها وقبَّلتُها في شفتَيها. ثم مدَدتُ يدي إلى ما بين ساقَيها وتحسَّستُها. قالت: إنها ميودة، مُتعَبة. رفعتُ يدي إلى ثديها، وداعبتُه من فوق قميص النوم، ثم انسحبتُ قائلًا: أنا أيضًا متعب. الكلمة التي تتردَّد كثيرًا على لسان الألمان.
اجتمعنا في الصباح حول مائدةٍ بلاستيكية نصبناها في الحديقة الصغيرة. وانضَم إلينا سكان العشَّة الملاصقة؛ هر وفراو تسان، وأطفالهما الثلاثة. كان الهر نجَّارًا مفتول العضلات، معتدًّا بقوَّته وشبابه. أما زوجتُه، فمُدرِّسة أطفال، مليحةٌ ورشيقة بنظرةٍ دائمة الشرود. كانت ترتدي بلوزةً بلا أكمام وشورتًا أزرق كشف عن انسياب ساقَيها. وكان هو عاري الصدر في شورتٍ مماثل يبرُز من جيبه مقياس النجارة. بسط أمامنا خريطةً للمنطقة، ومضى يتتبَّع المجرى الذي سيتخذه بقاربه في البُحيرة والبُحيرات المتصلة بها.
قدَّمَت إنجمار الشاي وأردفَته بطبقٍ من الشطائر مخاطبةً زوجته: فراو تسان، هل لكَ في فطيرة جبن؟
أجابت الفراو: شكرًا لكِ فراو هرمان.
دار حديثٌ متكلَّف حول الفاكهة المتوافرة في أسواق برلين والأماكن التي يُوجَد بها الخوخ. ولحظتُ أن إنجمار لا تكاد ترفع عينَيها عن صدر الهر تسان المشعر.
أحضَرتُ الكاميرا والتقطتُ بعض الصور للمجموعة. وتضرَّج وجه فراو تسان عندما صوَّبتُ الكاميرا إلى ساقَيها.
انسحبَت عائلةُ تسان لتقوم بجولتها النهرية، مصطحبةً معها الطفل جون. واقتَرحَت إنجمار أن نقومَ بجولة على الأقدام ثم نزور صديقةً لها. أعدَدْنا شرائح الخبز الأسود بالزبد والفورست وتُرمُس من القهوة وزجاجة مياه. ارتدَت مايوه أسفل فستانها واكتفيتُ أنا بشورت وقميصٍ خفيف. وضعتُ الكاميرا حول رقبتي وغادرنا العشَّة. سرنا أمام صفٍّ من الأكواخ المتلاصقة، كان أصحابها يروحون ويجيئون من أبوابها المفتوحة. وفوق فِراشٍ أمام بابٍ استلقت امرأةٌ بمايوه من قطعتَين تستمتع بأشعة الشمس بوجهٍ جامدٍ حادِّ القسمات. وفي حديقة الكوخ المجاور راح عجوزٌ عاري الصدر يُرتِّب حوضًا للزهور تحت إشراف امرأةٍ بدينة في مايوه. وانشَغل كهلٌ آخرُ بتصيُّد ذبابة. وتوزَّع سكان الكوخ التالي بين استخدام أرجوحةٍ للأطفال ونفخِ فِراشٍ من الكاوتشوك.

عبَرْنا جسرًا فوق جدول. وقفنا فوقه نُطِل على الزوارق المارَّة، بعضها بمجاديف والآخر بموتورات. تابعتُ رجلًا يجلس مسترخيًا أمام المِقوَد وهو مستغرق في تتبُّع الطريق. وخلْفه امرأةٌ بالمايوه. وبين الحين والآخر يعتدل في جلسته ويُلقي نظرةً على الأجهزة ويُرتِّب شيئًا في الركن. ثم يعود للقيادة مستمتعًا.

واصَلْنا السير وهبطنا على الناحية الأخرى؛ حيث تبدأ الغابة. استمتعتُ برائحة الجو النقي وأصوات البلابل والعصافير. وتمهَّلَت نظراتي عند شابٍّ وفتاةٍ تمدَّدا ملتصقَين فوق العُشبِ إلى جوار درَّاجتِهما، واختفت يده أسفل بلوزتها. أردتُ أن أُصوِّرهما؛ فمنعَتْني إنجمار كي لا نعتدي على خصوصيتهما.

قالت متفكِّهة: في منتصف الخمسينيات كان محظورًا علينا ارتداء ملابس الجينز في المدارس والرقص على أنغام الروك في الحفلات المدرسية، وتدخين السجائر وتبادُل القبلات جهارًا. وفي مطلع الستينيات كنا أول جيلٍ تعاطى حبوب منع الحمل.

تأمَّلتُ قليلًا ثم استرسلتُ: لكن مشاكل المرأة لم تُحل؛ فما زال الحصول على الرجل المناسب صعبًا. خذ مثلًا إيزولدا.

كنتُ قد حكَيتُ لها تجربتي مع شقراء القسم الإنجليزي.

– إنها الآن تقترب من منتصف الثلاثينيات ولم تتزوَّج أو تنجب إلى الآن. في صباها ارتبطَت بقريبٍ لها ارتباطًا قويًّا، ثم فرَّقَهما الحائط، ولم تتمكَّن من تجاوُز هذه التجربة. كنتُ أتحدَّث معها من أسبوع، فقالت إنها تفكر في اصطياد رجلٍ في صحةٍ جيدة لتقضي معه ليلةً واحدة كي تنجب.

صَعِدنا شبه هضبة، ألقينا منها نظرةً على المكان كلِّه. وبدَت الشوارع بالغة النظافة والبيوت متلاصقة في نظام. هبطنا منخفضًا ينحدر إلى شاطئ البُحَيرة. وفجأةً وجدنا أنفسنا أمام أكوامٍ من الزبالة وكلِّ أنواع المخلَّفات.

قالت: خلف الواجهة البَرَّاقة نظهر على حقيقتنا.

سألتُها: لماذا لا يُنظِّمون الأمر؟

أجابت: لا تُوجد اعتماداتٌ كافية.

تضَرَّرَت إنجمار من تأثير أشعة الشمس القوية على بشرتها الحسَّاسة، فالتجأنا إلى منطقةٍ مظلَّلة بالأشجار ازدحمَت باللاجئين. واحتلَّت أُسرةٌ جانبًا بأغراضٍ عديدة؛ فِراشان من المطَّاط المنفوخ أُقيما على جوانبهما، بحيث شكَّلا جدارَين واطئَين، مائدةٌ معدنية فوقها أكوابٌ من البلاستيك وخزانة بيض وجبن وخبز وسكين، جلَس إليها منتصبًا كتمثالٍ عجوزٌ عاري الصدر بنظَّارةٍ سوداء يُتابِع مجموعةً من الشبان يلعبون الكرة الطائرة.

اقتعَدنا الأرض إلى جوار عجوزٍ مضطجعةٍ فوق مقعدٍ واطئ، بينما يستمع رفيقها إلى الراديو. وأمامنا استلقت فتاةٌ في بكيني أسود على بطنها فوق بطانيةٍ واعتمدت على مرفقَيها تقرأ. تأمَّلتُ بشرتها التي لوَّحَتها الشمس والزغب الأصفر المنتشر فوقها، ثم استدارة مؤخِّرتها المرتفعة. وكان شعرها أسودَ طويلًا وبدا مغبَّرًا لم يُغسَل من مدة.

اجتذَبَت إنجمار اهتمامي قائلة: انظر إلى السماء الصافية. لا تُوجد سحابةٌ واحدة. إنه أمرٌ نادر.

نزعَت فستانها وهتفَت لي: دعنا نعوم. سأُسابقُكَ إلى الشاطئ الآخر.

قلتُ: لم أُحضِر مايوه. ثم إني لا أُجيد السباحة.

هُرعَت إلى الشاطئ وقفَزَت إلى البحيرة. مضت تضرب المياه بقوة. راقبتُها تعوم ببراعة. وسرعان ما اقتربَت من الشاطئ الآخر. استدارت وعامت عائدة بنفس القوة والبراعة. قالت عندما انضمَّت إليَّ وشرعَت تجفِّف جسدها بمنشفة: هيرليش، المياه رائعة.
تناولنا شطائر الجبن. وقمنا بعد قليلٍ لنزور صديقتها زيجريد التي تعمل محرِّرةً في دارٍ للنشر وتعود علاقتهما إلى أيام الدراسة الجامعية. عُدنا من حيث جئنا. ولم نجد عائلة تسان والطفل فواصلنا السير. وبعد ربعِ ساعةٍ بلغنا عشَّة الصديقة. كانت أكبر من عشَّتنا وبها عدةُ غرف.
استقبلَتنا أربعينيةٌ سوداء الشعر ذات ملامحَ شرق أوسطية، وشفتَين حسيَّتَين، تبدو علامات الإرهاق على وجهها. وكان لها ابنٌ بدين في الخامسة عشرة من عمره. وقدَّمَتنا إلى سوكارنو.

لم يكن هذا هو اسمه المؤلَّف من حروفٍ عديدة صعبة النطق. أطلَقتُ عليه هذا الاسم بيني وبين نفسي عندما علمتُ أنه إندونيسي، ورأيتُ أنه يشبه الزعيم الشهير. كان في طول قامتي وأكبر مني بعدة سنوات، أسمر البشرة، متين البنية، مليئًا بالحيوية.

سألَتنا زيجريد وهي تُقدِّم لنا الكعك والقهوة: أين ستقضيان الأورلاوب، العطلة الصيفية؟
قالت إنجمار: سأذهب إلى بلغاريا.
رفعَت زيجريد حاجبَيْها: وحدَكِ؟
اندفعَت الدماء إلى وجه إنجمار، وقالت: مع أصدقاء.

تدخَّلتُ في الحديث قائلًا: أنا حجزتُ مكانًا لي لدى نقابة العاملين في الوكالة.

أوضحَت إنجمار: لم نكن قد تعارفنا بعدُ. وحجز الأماكن يتم دائمًا في أول العام.
علَّق سوكارنو ساخرًا: هذا هو دور النقابات في المجتمعات الشيوعية؛ الرحلات والعطلات.

لم يبدُ على وجهَي المرأتَين الانزعاجُ من تعليقه كأنما ألِفتاه.

سألتُه: ما المفروض أن تفعله؟

قال في حدَّة: الدفاع عن مصالح العاملين. هناك دائمًا تناقضٌ بينهم وبين الإدارة والدولة. لكن الحزب يقول: إنه المدافع عن مصالح العاملين والدولة تمثِّلها، إذن فلا حاجة لمدافعٍ آخر.

سألتُه: هل تُقيم هنا أم أنت في زيارة؟

كان يتحدَّث إنجليزيةً جيدة. وكانت زيجريد تُجيدها بالمثل.
قال: أنا أعيش في برلين الغربية وآتي هنا كل أسبوعٍ لأرى زيجريد.

قلتُ: وماذا تفعلُ هناك؟

ابتسَم وقال: أكتب.

– ماذا تكتُب؟

قال: قِصصًا.

علَّقَت زيجريد: قِصصٌ بوليسية ممتازة.

– وأين تنشُرها؟

– هنا.

سألتُه: هل تُجيد الألمانية؟

– لا. أنا أكتب بالإنجليزية. وزيجريد تُترجِم إلى الألمانية.

– ولماذا بوليسية؟

– إنها الأقرب إلى القُراء. ثم ماذا أكتب غيرها؟ أعمالًا ساذجة عن أبطالٍ مجرَّدين من الحياة ومملِّين مثل الذي يُنشَر هنا؟ القصَّة البوليسية تُعطيني الفرصة لتقديم بطلٍ واقعي يبحث عن الحقيقة بذكاء.

سألتُه بخبث: طالما تنشُر هنا، فلماذا تقيم في برلين الغربية؟
قالت زيجريد: قلتُ له هذا أكثر من مرة.
قال: خصوصًا أني أتعرَّض للسرقة عندما أعبُر من الغربية إلى الشرقية. كل من يعبُر يجب أن يستبدل ٢٥ ماركًا غربيًّا بمثلها شرقية. لكن الجو هنا خانق. تسع ساعاتٍ من العمل. وغياب المتطلبات الأساسية يستهلك طاقة الناس ويتركُهم عاجزين عن أي نشاطٍ فكري أو ثقافي.

– في الغرب يعملون كثيرًا أيضًا إلى حد الإنهاك الشديد. وغالبًا من غير الضمانات المتوافرة هنا.

– ألم تسأل نفسكَ مرة: لماذا يقتصر الازدهار الفكري والثقافي على الغرب؟ هل سمعت عن بيتر هاكس الذي لجأ من ألمانيا الغربية ويكتب مسرحياتٍ تُعرض مرةً واحدة ثم تُسحب من العرض على أساس «إعادة كتابتها» ولا تعرض مرةً أخرى على الإطلاق؟ أو عن قصيدة الجاز للشاعر فولكر براون التي استنكَرَها النقَّاد الرسميون على أساس أن الجاز ليس الصورة المجازية المناسبة للمجتمع الاشتراكي، وأن أبياتَه تخلو من إشارة إلى النوتة الموسيقية وقائد الأوركسترا على وجه الخصوص؟
تدخلَت زيجريد لوقف الجدال قائلة: لماذا لا تُريه بعض قصصكَ؟
جذبَني من ذراعي إلى غرفةٍ صغيرة اكتظَّت بالكتب والمجلات تصدَّرَتها صورةٌ كبيرة له على الحائط وهو يكتب، وإلى جوارها صورةٌ أخرى له بمعطف المطر الثمين وفي يده الحقيبة الجلدية الفاخرة وهو يخطو بثقةٍ نحو محطة المترو، في طريقه إلى برلين الغربية حاملًا قصصه. استَخرجَ أربعة أعداد من مجلةٍ شهرية تصدُر في ألمانيا الشرقية. وفتحَها على صفحاتٍ مطوية ضمَّت قِصصَه القصيرة.

سألَني: ألم تُفكِّر في الكتابة؟

أجبتُ: هي مهنتي.

قال: أَقصِد الكتابة الأدبية.

قلتُ: فكَّرتُ. أنا الآن مهتم بالتصوير. يمكنكَ أن تُعبِّر به عن نفسك بصرف النظر عن البلد الذي تُقيم به واللغة السائدة.

– جرِّب القصص البوليسية. إنها سهلة النشر هنا.

– لكني لا أعرف الألمانية.

– اكتُبها بالإنجليزية. وإنجمار تُترجِمها لكَ. كما أفعل.
– كم لكَ من مدة خارج إندونيسيا؟
قال: أنا هربتُ منها عندما قام سوهارتو بذبح الشيوعيين، وتلوَّثَت مياه الأنهار بدمائهم. كانت لي علاقةٌ بهم وخفتُ أن ينالَني القمع. ومن ساعتها لم أعُد.

– ألا تشعُر بالحنين إليها؟

قال: بعد هذه السنوات أصبحَت غريبةً بالنسبة لي. لم أعُد أشعر بالانتماء إلى أي بلد.

قلَّبتُ بين الكتب ووجدتُها عن أشهر الجرائم وإجراءات تحقيقها والوسائل الحديثة المستخدَمة في ذلك. وكانت هناك عدة مجلَّداتٍ ضخمة تحتوي على أرقام التليفون في بلدان وسط أوروبا وأسماء أصحابها وأخرى لمواعيد القطارات والطائرات.

قال: كاتب الروايات البوليسية لا يستغني عن هذه المراجع.

لمحتُ رواية ﻟ جورج سيمنون عن المفتش ميجريه. طلبتُ أن أقترضها فأعطانيها.
عُدنا إلى مقعدَينا بجوار السيدتَين. ومضى يتحدَّث عن تعليقات الألمان على قصصه وإعجابهم بها. وبدأتُ أشعر بالصُّداع. غمزتُ ﻟ إنجمار بعيني فأعلنَت رغبتنا في الانصراف.

قالت عندما ابتعدنا عن الكوخ: إنه لا يكُف عن الكلام.

قلتُ: لعله السبب فيما يبدو على زيجريد من إرهاق.

ضحكَت وقالت: لا. هناك سببٌ آخر. اشتكت لي من كثرة مطالبه الجنسية.

كان جون ما زال مع عائلة تسان عندما وصلنا العشَّة. نادَت عليه ليتناول طعام العَشَاء، وقالت: سأُعِد فاصوليا بالطماطم وأُرزًا بالكاري وكوتليت.

قلتُ: سأُساعدكِ ثم أقرأ قليلًا.

٧

قال نويمان متأفِّفًا: الحرارة لا تُطاق. لم تشهد برلين صيفًا كهذا من قبلُ.
كان وجهه مُتضرِّجًا بالحمرة من الكحول أو الحرارة. سارع نبيل إلى التأمين — كعادته — على ملاحظة الرئيس. وبدا الإرهاق على وجوه الجالسين حول المائدة المستطيلة التي هي مكتبُنا المشترك. وكنا ما زلنا في بداية اليوم.
دق جرس التليفون خلف نويمان، فمد ذراعه خلفه ورفَع السمَّاعة، ثم تطلَّع إليَّ: لكَ.
غادرتُ مقعدي ودُرتُ حول المائدة. وشعَرتُ بالآذان تُرهِف السمع لِتتبيَّن المتحدِّث. وتوقَّعتُ أن تكون إنجمار.
تناولتُ السماعة التي تركها نويمان فوق قاعدة النافذة، وسرحتُ ببصري إلى الشارع والناس التي خرجَت إليه متخفِّفة من ملابسها.
سمعتُ صوتًا عربيًّا باللهجة المصرية: آلو. الأستاذ صادق؟ أنا حازم النجدي وأحملُ لكَ رسالةً من صديقكَ كمال.

رحَّبتُ به قائلًا: أين أنتَ؟

قال: في مدخل المبنى.

قلتُ: سأنزلُ إليك حالًا.

وضعتُ السمَّاعة وقلتُ ﻟ نويمان: سأنزل دقيقة. عندي زائر.

بدا الضيق على وجهِه وتطلَّع إلى موقعي من المائدة. لم تكن هناك أية أوراقٍ تنتظر التصحيح وبيننا وبين الإرسال التالي ساعةٌ من الزمن.

غادرتُ القسم دون أن أنتظر موافقته. وهبطتُ إلى المدخل.

وجدتُ شابًّا نحيفًا أسمر في سنِّي أمام الحارس. صافحتُه واقتدتُه إلى الكانتين في الطابق الأرضي بعد أن ترك بطاقةَ هُويَّته لدى الحارس.

قال لي إنه يدرس هنا للدكتوراه في الاقتصاد. وكان في القاهرة منذ أسبوعٍ حيث تعرَّف بصديقي. وأعطاني خطابه.

أحضرتُ كوبَين من القهوة لنا. وجلسنا متقابلَين.

سألتُه: كيف الجوُّ في القاهرة؟

أجاب: كئيب. الناس فقدَت ثقتها في كل شيء. والاتحاد الاشتراكي شبه مُجمَّد. والناسُ أصبحَت تُعادِي كلَّ ما له علاقة بكلمة اشتراكية.

– لهذه الدرجة؟

– أجهزة الأمن في كل مكان. كل إنسانٍ يتلفَّت حوله خوفًا من أجهزة التسجيل. هل تعرف لطفي؟ سَجَّلوا له حوارًا حميميًّا مع زوجته أثناء نومهما. وخالد لا ينام مع زوجته في منزلهما. يأخذ سيارةً بها إلى مدينةٍ أخرى لينام معها.

تعلَّقَت عيناه بساقَي فتاة البوفيه اللتَين كشفَت عنهما جوبةٌ قصيرة للغاية. ارتشف قهوتَه وسألَني: أين تسكن؟

ذكرتُ له اسم الشارع والضاحية. قال متعجبًا: بالقرب مني. أنا أُقيم في مساكن المدرسة ﺑ كارلسهورست. هل تعرف زينب؟

هززتُ رأسي نفيًا.

قال: إنها تسكُن على بعد أمتارٍ منكَ في بنايةٍ عاليةٍ مخصَّصة للعازبين.

قلتُ: أعرف البناية. ماذا تفعل؟

– قصَّتُها غريبة. هي في جامعة الأزهر، وأعدَّت رسالة دكتوراه عن الصوتيات في القرآن، فثار عليها بعض الشيوخ مهدِّدين بتكفيرها. ووجدت الحكومة الحل في إبعادها عن المشهد، فحصَلوا لها على منحةٍ دراسية شكلية في ألمانيا الشرقية.

– كم عمرها؟

– حوالي الثلاثين.

– هل تعرف الألمانية؟

– أبدًا. لكننا نحن المصريين في كارلسهورست لا نتركها لحظةً واحدة. اسمع. سأزورها اليوم. تعالَ معي أُعرِّفكَ بها.

فكَّرتُ قليلًا ثم سألتُ: متى؟

قال: أي وقت. يمكن أن نذهب الآن.

– لا أستطيع الخروج قبل الخامسة.

قال: يمكنني الانتظار. سأقضي الوقت في ميدان ألكسندر بلاتز أتفرَّج على الأفخاذ العارية.

قلتُ: يمكن أن نلتقي أمام البناية في السادسة إلا الربع بالضبط.

نهض واقفًا وهو يقول: اتفَقنا. ابتسم ثم أضاف: أوف فيدرزيهين.
أوصلتُه إلى المدخل ثم صَعِدتُ إلى مكتبي. استقبلَني نويمان بوجهٍ لائمٍ سرعان ما انفرجَت أساريره.
جلستُ في مقعدي، وفتحتُ خطاب كمال. كان يشكو من الاكتئاب وعَجزِه عن استكمال رواية بدأ كتابتَها، وفشَلهِ في إقامة علاقة مع زميلةٍ له في الجريدة التي يعمل بها. وألمَحَ إلى رغبته في الحصول على عملٍ في ألمانيا.
قرأتُ الخطاب عدة مراتٍ كعادتي مع الرسائل القليلة التي تصلُني من مصر. شعَرتُ بعينَي نويمان مسلَّطتَين عليَّ فنظرتُ إليه.
تجنَّب التقاء نظراتِنا، وحوَّل عينَيه إلى ورقةٍ وضعَها ماجد أمامي. التقطتُها وراجعتُها دون تركيز. مقترحاتٌ أمريكية لحل ما يُسمَّى بمشكلة الشرق الأوسط، تتضمَّن توقيع الصلح بين العرب وإسرائيل وحرية الملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة وقناة السويس.
قفَز إلى ذهني نبأٌ قرأتُه بالأمس في الصحيفة الإنجليزية عن فيلمٍ جديد يُعِدُّه فسكونتي باسم ليلة السكاكين الطويلة، يدور حول السلطة ونزاعاتها وتداعياتها. فكَّرتُ في الليالي التي يمكن أن تندرج تحت هذا العنوان؛ ليلة الكريستال التي ذبح فيها هتلر اليهود، وسان بارثلوميو التي ذبح فيها الكاثوليكُ البروتستانت، وليلة ذبح البرامكة على يد هارون الرشيد، وعثمان بن عفان على يد المتمردين، والمماليك على يد محمد علي.
استرخيتُ في مقعدي وأنا أتأمَّل الفكرة. ماذا عن الليالي العصرية؟ هناك ليلةُ كفر قاسم التي ذبح فيها اليهودُ الفلسطينيين. وليلةُ ذبح الشيوعيين الأندونيسيين على يد سوهارتو. ابتسمتُ عندما تذكَّرتُ سوكارنو. كانت القائمة طويلة؛ لومومبا، بريا، تروتسكي، عبد الكريم قاسم، شهدي عطية. وابتسمتُ مرةً أخرى، وأنا أُفكِّر في إضافة اسم نويمان.
عُدتُ إلى العمل مع حلول الإرسال الأخير لليوم. وقبل الخامسة بعشر دقائق كنا نتدافَع إلى الخارج دون معاطفَ أو قبَّعات أو قفَّازات. انفصل عدنان ونبيل عني ليتجها إلى فندق الأونتر دين ليندن. ومشيتُ خفيفًا بالقميص والبنطلون حتى محطَّة فريدريش شتراسه. أخذتُ المترو العلوي وبعد محطتَين لاحتِ المباني الحديثة المرتفعة، المصنوعة من ألواحٍ أسمنتيةٍ سابقة التجهيز، والملوَّنة باللون الأصفر، حول ميدان ألكسندر بلاتز. انتقلتُ إلى الأوبان، المترو الأرضي، وواصلتُ حتى نهاية الخط.

غادرتُ المحطَّة ومضيتُ في الطريق إلى منزلي. مررتُ من أمامه ثم انحرفتُ يمينًا. وظهَرَت أمامي بناية العُزَّاب بواجهتها الملوَّنة. وفي السادسة إلا الربع بالضبط كنتُ أمام مدخلها.

وجدتُ حازم النجدي في انتظاري. ضغَط أحد أزرار لوحة الديكتافون. وانفتَح الباب الزجاجي بعد لحظةٍ فارتقينا المصعد إلى الطابق السادس. سرنا في رَدْهةٍ طويلة انتَشرَت أبواب الشقق المغلقة بها. ووجَدْنا واحدةً مفتوحة وأمامها فتاة سمراء تميل إلى البدانة، ذات وجهٍ مليح وشعرٍ أسود غطَّته بشالٍ حريري.
رحَّبَت بنا وقادَتْنا إلى صالةٍ صغيرة بها عدة فوتياتٍ حديثة ومائدة، وتُطِل عليها غرفة النوم المغلقة. قالت دون أن تجلس: ماذا تشربان؟ شاي؟ عندي أيضًا كركديه أحضَرتُه معي من مصر.

قلتُ: أي شيء. شاي معقول.

قالت ﻟ حازم: وأنت طبعًا كركديه؟

كانت ملتفَّةً برداءٍ سابغٍ ملوَّن غطَّت أكمامُه ساعدَيها حتى المرفقَين، ووصل ذيله إلى فوق قدمَيها بسنتيمترات. اتجهَت إلى باب في الصالة يؤدي إلى مطبخٍ صغيرٍ. ورأيتُها تملأ غلَّاية مياه من الصنبور وتُوصلُها بالكهرباء. ثم أعدَّت ثلاثة أكواب، وسألَتْنا عن احتياجنا من السكر.

لاحظتُ أن أثاث الشقة بادي الجدَّة ويماثل أثاثَ شقتي، كأنما خرجا من نفس المصنع.

انتهت من إعداد الشاي وجلبَته للمائدة. ولم تكد تجلس أمامنا حتى رنَّ جرسُ الديكتافون.

وجمَت وقامت إلى فتحة الديكتافون. سمعنا صوتًا يقول: نحن هنا.

ردَّت بغير حماس: تفضَّلوا.

فتحَت الباب بعد قليلٍ لثلاثة شبانٍ مصريين؛ أحدهم طويل القامة، والثاني قصيرها، بدين، والثالث شديد القِصَر يُعاني عطبًا ما في ذراعه. وكانوا جميعًا بعويناتٍ طبية. كانوا في سنِّ حازم ويعرفونه. وما لبثتُ أن أدركتُ أنهم يحضِّرون للدكتوراه بنفس المدرسة. وأحدهم موفَد من معهد التخطيط القومي في القاهرة.
جلس ذو الذراع المعطوبة على فوتي خالٍ، واقتعَد الآخران الأرض. سألَتْهم زينب: كركديه طبعًا؟
أَومَئوا بالموافقة، وقامت تُعِد الشراب. عرَّفهم حازم بي وشعَرتُ بأني غيرُ مرحَّب بي. واشتبكوا في حديثٍ صاخب عن الأساتذة والألمان وآخر الأخبار من مصر.
نهضتُ واقفًا، وانضممتُ إلى زينب في المطبخ. سألتُها إذا كان من الممكن مساعدتُها في تحضير الشراب. ناولَتْني ثلاثة أكوابٍ زجاجية قائلة: ثلاثُ ملاعق من السكَّر لكلِّ واحد.

قلتُ: تعرفين رغباتهم.

قالت: إنهم هنا كل يوم.

سألتُها: هل تعرَّفتِ على المدينة؟

قالت: لأ. لي هنا شهران ولم أرَ شيئًا بعدُ.

– لماذا؟

– لا يُمكِنني التحرُّك وحدي. ألمانيَّتي صفر.

– اخرجي مع واحدٍ منهم. وأشرتُ إلى الجالسين في الصالة.

قالت منفعلة: لا يتركوني أخرج مع أي واحدٍ منهم؛ فلا بد أن نتحرك جماعة كأننا في رحلةٍ مدرسية. وأنا لا أُحبُّ ذلك.

سألتُها متعجبًا: لماذا يتصرفون هكذا؟

– في البداية ظننتُ أنهم يبالغون في رعايتي. أفهمتُهم أني لستُ طفلة، وأني أستطيع العناية بنفسي.

– وبعد ذلك؟

خفضَت صوتَها إلى درجة الهمس: إنهم يَغَارون بعضهم من بعض، ولا يريدون لأحدٍ منهم أن ينفردَ بي.

أدهشَتْني صراحتُها وخِلتُها تُبالِغ. وفكَّرتُ أن الأمر قد لا يتعدَّى حرص أبناء القبيلة على ألا تقَع إحدى بناتها في يدٍ غريبة.

أعددنا الكركديه وحملتُه إلى المائدة. وتَواصَل الحديث الصاخب دون أن تُشارِك زينب فيه ودون أن يعبأ أحدٌ من الشبان بمحاولة إشراكها.
كان أحدُهم يقول: إن مصر لا تعترف حتى الآن بأي شهاداتِ دكتوراه من ألمانيا الديمقراطية.
قال حازم: الدكتور رحمي يقول: إن شهادات ألمانيا الديمقراطية منخفضة المستوى.

سألتُ: مَن هو؟

قال: حاصل على دكتوراه من أمريكا، وفكَّر في وسيلةٍ للحصول على سيارةٍ جديدة؛ فسعَى حتى قدِم هنا في تبادُلٍ للأساتذة، وهو يأخذ ١٨٠٠ مارك في الشهر دون إيجار السكن. ولأن والد زوجته يعمل في شركة الطيران المصرية، فهي تُسافِر مجانًا؛ ولذلك يرسلها كل شهرَين إلى أمها في مصر حتى يوفِّر نفقاتِها. ويستبدل النقود بعملةٍ صعبة ليشتري السيارة في نهاية مدَّته.
قال مبعوث معهد التخطيط القومي: أنا اشتريتُ سيارة لأختي، وقادتها صديقتي الألمانية إلى روستوك لتحميلها على سفينة إلى مصر. كانت مُستعمَلةً بالطبع، واكتشفنا في الطريق أن ماسورة عادمها مخرومة. لكم أن تتصوَّروا منظرنا ونحن ندخُل المدن الصغيرة ظهر يوم الأحد والسيارة تُطلِق زئيرًا كزئير الأسود، فيُهرَع السكان إلى النوافذ المغلَقة بالطبع.
شَعَرتُ بالضجر بعد قليل، فاستأذنتُ في الانصراف مُتحجِّجًا بموعدٍ سابق في منزلي. أوصلَني حازم حتى المِصعَد وعاد بسرعة واعدًا بفتح الباب الخارجي.
غادرتُ المصعد في الطابق الأرضي واتجهتُ إلى الباب، وقبل أن أمُد يدي لجذبه، فوجئتُ بمفتاحٍ يندسُّ فيه من الخارج. وانفرج عن إيزابيلَّا.

كانت متأنقةً بصورةٍ واضحةٍ يفوح منها عِطرٌ باريسي. هتفَت: ماذا جاء بك هنا؟

قلتُ: أزور أصدقاءَ. وأنتِ؟

قالت: لأرى رولف.

قلت: تَبدِين رائعةً.

ضحكَت: المنافسة قوية. إنها زيارةٌ مفاجئة فهو لا يتوقَّعني. اصعَد معي.

اتجهَت نحو المصعد فتبعتُها مُتردِّدًا ثم حسمتُ أمري قائلًا: في مرةٍ أخرى. لا بد من ذهابي الآن.

لم تُلحَّ وضغطَت زِرَّ المِصعَد. وانتظَرتُ معها وصولَه.

كان اليوم مليئًا بالمفاجآتِ المتعاقبة؛ فعندما وصل المصعد انفرج بابه عن إيزولدا شقراء القسم الإنجليزي، ممسكةً برغيفٍ طويل من الخبز الأبيض.
بدا عليها الارتباكُ الشديدُ عندما رأتنا. أما إيزابيلَّا فقد شَحبَ وجهُها وصاحت: ماذا تفعلين هنا؟
أجابت إيزولدا متلعثمة: لم أجد خبزًا أبيض في المخبز، فجئتُ أقترض واحدًا من رولف.
قالت إيزابيلَّا في صوتٍ كالثلج: تأتين من شونهاوزر ألليه إلى هنا من أجل رغيف خبز؟
اغتصبَت إيزولدا ضحكةً قائلةً بالفرنسية: هكذا الحياة.
تنحَّت جانبًا عن باب المصعد لتسمح ﻟ إيزابيلَّا بولوجه، واتجهَت نحو باب المبنى قائلة: أراك غدًا.
تبعتُها قائلًا: سأُرافقكِ حتى محطة الأوبان.
قالت: دانكه، شكرًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤