أنيس الجليس

١

شهريار ودندان يغوصانِ في الليل، يتبعهما شبيب رامة، وقد تلاشَتْ حركة الإنسان .. على ضوء المصابيحِ المتباعدةِ لاحَتِ الدورُ والحوانيتُ والجوامعُ نائمةً، وخفَّتْ حرارةُ الصيفِ، وومضتِ النجومُ في الأعالي .. تساءلَ شهريار: ما رأْيُكَ فيما كان؟

فقال دندان: سليمان الزيني رجلٌ مأمولٌ كحاكمٍ .. كذلك كاتمُ سِرِّه الفضلُ بنُ خاقان.

– إذا نامتِ الرعيةُ نام الخير والشر، الجميع شغوفون بالسعادة ولكنها كالقمر المحجوب وراء سُحُب الشتاء، فإذا وُفِّقَ حاكمُ الحيِّ الجديد سليمانُ الزيني تساقطَتْ قطراتٌ من السماء مُطهِّرةً الجَوَّ من بعض ما ينتشر فيه من الغبار.

– سيكون ذلك بفضل الله المتعالِ وبيد مولانا السلطانِ وحكمتِهِ.

فقال شهريار بعد تفكيرٍ: ولكنَّ القسوةَ يجبُ أن تبقَى ضمن وسائلِ السلطانِ!

فتفكَّرَ دندان بدوره، ثم قال بحذرٍ: الحكمةُ — لا القسوةُ — هي ما يقصدُ مولايَ.

فضحك السلطانُ ضحكةً مزَّقَتْ صمتَ الليلِ، وقال: ما أنتَ إلا منافقٌ يا دندانُ، ماذا قال المجنون؟ قال إنَّ الرأس إذا صلَح صلَح الجسمُ كلُّه .. فالصلاح والفساد يهبطانِ من أعلى، غَمزَني بجرأةٍ لا تكونُ إلا للمجانين، ولكنه عرف سِرَّ القضيةِ .. كيف تهيَّأَ له ذَلِكَ؟

– من أدراني يا مولاي بما يدور في رءوس المجانينِ؟

– زعم أنَّه أحاط بالأسرار مُذْ كان كبيرًا للشرطة.

– ما زال يُصِرُّ على أنَّهُ جمصة البلطي، وهو ادِّعاءٌ يكذِّبه رأسُ جمصةَ البلطي المعلَّق على باب داره .. لعله حقًّا من رجال الغيب.

فقال شهريار وكأنما يناجي نفسه: علَّمَتْني شهرزاد أن أُصَدِّقَ ما يُكذِّبه منطقُ الإنسان، وأنْ أخوضَ بحرًا من المتناقضات، وكلما جاءَ الليل تبيَّنَ لي أنِّي رجلٌ فقيرٌ!

٢

قالت زرمباحة لسخربوط: أخشى أن يركبَنا الضجرُ.

فقال سخربوط مشجِّعًا: بل ستُتاحُ فرصٌ وتُخلَقُ فرصٌ يا تاجَ الذكاءِ.

وترامَى صوتُ قمقام من أعلى الشجرة، وهو يقول: إذا تردَّدَ التذمُّرُ بينكما فهو البشرى بالرضا.

فقالت له زرمباحة ساخرةً: ما أنت إلا عجوزٌ عاجزٌ.

فقال سنجام من مجلسه لَصْقَ قمقام: الأرض تُشرِق بنور ربها، ونحو النور يتطلع ليلَ نهارَ جمصة البلطي ونور الدين العاشق، حتى عجر استقر في دكانه وتاب عن تطلُّعاته .. أما شهريار السفَّاح فَثمَّة نبضةُ هدًى تقتحم عليه هيكله المليء بالدم المسفوكِ.

فقال سخربوط هازئًا: ما ترى من الأشياء إلا ظلَّها الأخرسَ، وما تحتَ الرمادِ إلا جمراتُ نارٍ وسيُوقِظُكَ الغدُ من غَفوة العمى.

٣

بدأتِ الحركة بصوتٍ ناعمٍ كالحرير ثم انفجَرتْ بهزيم الرعد .. في ذات ليلةٍ بمقهى الأمراء خرج عم إبراهيم السقَّاء عن أدبه المعهود، وقال بصوتٍ مرتفعٍ دلَّ على شدة تأثُّرِه وانفعالِه: حملْتُ في صدر النهار الماءَ إلى الدار الحمراء.

فسأله شملول الأحدبُ بصوته الرفيع: وأيُّ جديدٍ في هذا يا أحمقُ؟

فقال السقَّاءُ وهو سكرانُ بالانفعال: لمحْتُ صاحبة الدار، تبارك الخلَّاقُ العظيمُ !

ضحك الجالسون على الأرض والمتربِّعون على الأرائك، وقال معروف الإسكافي: انظروا إلى جنون الشيخوخة.

فقال عم إبراهيم بأسًى: نظرةٌ منها تملأ الجوف بعشرة دِنَانٍ من خمر الجنون.

فقال الطبيب عبد القادر المهيني: صفْها لنا يا عم إبراهيم.

فهتف الرجل: إنَّها لا تُوصفُ يا سيدي، ولكني أسأل الله الرحمة والغفران.

وبعد ليلتَين قال عم رجب الحمَّالُ: دُعيتُ اليومَ لحمل نقلٍ إلى الدار الحمراء.

شدَّ الانتباه من فوره، وبدا فريسةً لعاطفةٍ قَهَّارة، فقال: لمحْتُ ستَّ الدار، أعوذ بالله من عنف الجمال إذا طغى.

لنا الله .. ليس الأمر بالهَزْل .. انطلَق أصحاب الأشواق يستطلعون .. انطلقوا إلى سوق السلاح حيث تقوم الدار الحمراء .. دارٌ كبيرةٌ هُجِرَت زمنًا لهلاك أصحابها في وباءٍ .. تُركَتْ عاريةً وماتَت حديقتُها .. حتى اكتَرتْها امرأةٌ غريبةٌ من بلدٍ مجهولٍ مصحوبةٍ بعبدٍ واحد .. وفي الليل العميق يترامى من وراء أسوارها غناءٌ عذبٌ ونغمٌ ساحر .. قالوا لعلَّها غانية!

وإذا بعجر الحلاق يتحدَّث عنها بجنونٍ لكل زبونٍ يقصده .. يقول: عصفَتْ بتوبتي وأصابَتْني بسهم العذاب الأبدي.

ويقول: دعَتْني لتهذيب خصلاتِ شعرها وتقليم أظافرها، لو كانتْ سيدةً محتشمةً لَدَعَتْ بلَّانةً ولكنَّها نار الله الموقدةُ!

وعرف أنَّ اسمها «أنيس الجليس» وتضاربتِ الأقوالُ في وصفها حتى أثارتِ الشكَّ في عقول الواصفين، فَمِن قائلٍ إنَّها بيضاءُ شقراءُ، ومِن قائلٍ إنَّها سمراءُ خمريةٌ صافيةٌ، ومِنْ مُنَوِّهٍ ببدانتها إلى متغزِلٍ في رشاقتها .. هيَّج ذلك مكامنَ الأشواقِ فتوثَّب الأعيانُ والموسرونَ لاقتحام المجهولِ.

٤

يوسف الطاهر أول من قام بالمبادرة .. منذ عزلِه وهو ثريٌّ يعاني البطالةَ والضجرَ فجاءَهُ الفرجُ .. مع الليل ذهب إلى الدار الحمراء وطرق الباب .. فتح له العبد، وسألَه: ماذا تريد؟

فأجابه بجرأة رجلٍ حكم الحيَّ زمنًا: غريبٌ ينشُد مأوًى عند أهلِ الكرمِ.

غاب العبد وقتًا، ثم رجع مُوسِعًا للقادم، وهو يقول: أهلا بالغريب في دار الغرباء.

أُدخِلَ إلى بهوٍ مُزيَّنِ الجدرانِ بالأرابيسك، مفروشٍ بالأبسطة الفارسية، والدواوينِ الأنطاكيةِ، مُحَلًّى بتُحَف الهندِ والصينِ والأندلسِ، أُبَّهَةٌ لا تُرى إلا في دور الأمراءِ.

وهلَّتِ امرأةٌ محجَّبةٌ، تَشِي قامتُها المتواريةُ في طيلسانها الدِّمشْقِيِّ بالجلال، فجلسَت متسائلةً: مِنْ أيِّ البلادِ يا غريبُ؟

فقال وهو يتلقَّى من الحيوية زادًا كالخمر: الحقُّ أنِّي من عشَّاق الحياة.

– خدعْتَنَا وحقِّ السلطانِ.

فقال بحماسٍ: عُذري أنَّ قارئ الكفِّ تنبأ لي بأنَّي أعيش للجمال وأموت في سبيله.

فقالت بنبرةٍ جادَّةٍ: إنِّي امرأةٌ متزوجةٌ.

فتساءل بقلقٍ: حقًّا؟

فاستدركَتْ: ولكنِّي لا أدري متى يلحقُ بي زوجي؟

– يا له من قولٍ غريبٍ!

فتمتمَتْ متهكِّمةً: ليس دون قولكِ غرابة.

وبدلالٍ أزاحتِ النقابَ عن وجهها فسطع جمالٌ قد خُلِق على هواهُ وحقَّق شواردَ أحلامِه .. تلاشى العقل فركع على ركبتَيه .. أخرج من جيبه حُقًّا عاجِيًّا ففتَحه ووضَعه بين قدمَيْها كاشفًا عن جوهرةٍ ناطقةٍ بمثل ضوء الشمس .. همس بصوتٍ متهدجٍ: حتى جوهرةُ التاج لا تليقُ بقدمَيك.

انتظرَ الحكمَ المقَرِّر للمصير، فقالت بنعومة: مقبولةٌ تحيتُك!

فانتفَض بفرحة الأمل، أحاط ساقَيْها بذراعَيْه، وهوى رأسُهُ فلَثمَ قدمَيْها.

٥

كانت مبادرةُ يوسفَ الطاهرِ بمثابة فتح الباب لأمواج الجنون الهادرة الصاخبة التي تدفقَتْ لتغمرَ الحيَّ كالطوفان وتُصيبه في أغنى أبنائه، أما الفقراءُ فكانت لهم الحسرةُ .. باتتِ الدارُ الحمراءُ بسوق السلاح قِبْلةً لحسام الفقي وحسن العطار وجليل البزَّاز وغيرِهم .. حُمِلتِ الهدايا في إثر الهدايا، وسُلبتِ القلوبُ والجوانح، وتاهتِ العقولُ وشرَدَت، وسيطر الإسراف والسفَه، ونُحِّيَتِ العواقبُ وتلاشى الزمنُ فلم تَبقَ إلا الساعةُ الراهنة، ومضتِ الدنيا تضيعُ في إثر الدين .. وأنيسُ الجليس ساحرةٌ فاتنة، تُحب الحبَّ، تُحب المال، تُحب الرجال .. لا يرتوي لها طمعٌ ولا تكُفُّ عن طلب .. الرجالُ يستَبِقون بجنونٍ بحكم الحُب والغَيرة، لا يستأثر بها أحد، ولا يزهَد فيها أحد، منحدرينَ بقوةٍ واحدةٍ نحو الضياع.

٦

لم يعرفِ المعلم سحلول النشاطَ كما عرفه في تلك الأيام .. إنَّه رجلُ المزاداتِ وأوَّلُ من يحضُرُ عند حلولِ الإفلاس .. سقط أول من سقط حسام الفقي .. لم يهمَّه ضياعُ المالِ بقَدْر ما أهمَّهُ ضياعُ أنيس الجليس .. لم يكربه مصير النساء والأولاد كما أكربه الحرمان .. قال للمعلم سحلول: لا يستطيع أن يدمِّرَ الإنسانَ مثل نفسه.

فقال الرجل بغموضٍ: ولا يستطيع أن ينجيَهُ مثلُ نفسِه.

فقال الفقي ساخرًا: أفلستِ المواعظُ من قديم.

ولحق به في السقوط جليل البزَّازُ، ثم حسن العطار، أمَّا يوسف الطاهر فترنَّح على حافَةِ الهاوية .. وقال عجر الحلاقُ لسحلول معلِّقًا على نشاطه المتصاعدِ: مصائبُ قومٍ!

فقال سحلول دون مبالاةٍ: همُ الجناةُ وهمُ الضحايَا .

فتنهَّدَ عجر قائلًا بأسًى: لو رأيْتَها يا معلم لَهَفَت نفسُك إلى الجنون.

– ما هيَ إلا بسمةُ شيطان.

– إنِّي أعجب كيف لم تقع في هواها!

فقال سحلول باسمًا: جرتِ المقاديرُ بأن يوجدَ عاقلٌ واحدٌ في كلِّ مدينةٍ مجنونة.

وذات ليلةٍ وسحلولُ يخوضُ الظلامَ متمَهِّلًا اعترضه قمقام وسنجام فتبادلوا تحيةً مقدَّسةً، وقال قمقامُ: انظر إلى العبثِ يعصفُ بالمدينة.

فقال سحلول: لقد عشْتُ ملايينَ من السنين فما يُدهِشُني شيء.

فقال سنجام: ستُقبَضُ أرواحُهم ذاتَ يومٍ وهي تَنِزُّ إثْمًا.

– وقد تسبقُ التوبةُ حلولَ الأجل.

– لماذا لا يُسمَحُ لنا بمساندة الضعفاء؟

فقال سحلول بوضوحٍ: وهبَهم اللهُ ما هو خيرٌ منكم؛ العقلَ والروح!

٧

مضى حسام الفقي ثَمِلًا مترنِّحًا إلى الدار الحمراء وطرق البابَ الكبيرَ .. فاضَتْ كأسُ جنونِه فساقَتْه إلى باب النجاة، ولكنْ لم يفتَح له أحد، فصاح في الليل غاضبًا: افتح يا مفتِّح الأبواب.

ولكن لم يكترِثْ بندائِه أحد، فانزوى تحت السورِ في قهرٍ وعناد .. وما لَبثَ أن رأى شبَحًا قادمًا حتى رأى وجهَهُ تحت ضوءِ المصباح المعلَّق، فعرف فيه رئيسَهُ القديم يوسُف الطاهر فاشْتَعل بيقظةٍ غاضبة .. طَرقَ الرجلُ البابَ فسرعان ما فُتحَ له .. اندفع حسام الفقي في أثَره، ولكن العبد اعترض سبيلَه قائلًا: معذرَةً يا معلِّم حسام.

فلطَمه على وجهه بِحَنق، فقال له يوسف الطاهر برقَّة: أَفِق، واسْلُك كما يليقُ بك.

فتساءل بغلظة: ضاع المالُ والدينُ فماذا يبقى لي؟

تحوَّل عنه ليمضيَ في سبيله، ولكن الآخر وثَب عليه كنَمِرٍ وطعَنه في قلبه بخنْجَرٍ مسمومٍ .. عند ذاك صَرخ العبدُ صرخةً أفزعتِ النِّيَام.

٨

قُبضَ على حسام الفقي الذي لم يُحاولِ الهربَ .. نظر إليه بيومي الأرمل برثاءٍ، وقال: أسفي عليك أيها الصديقُ القديمُ!

فقال حسام بهدوءٍ: لا تأسفْ يا بيومي، ما هي إلا قصةٌ قديمةٌ يستدفئُ بها العجائزُ .. قصةُ الحبِّ والجنونِ والدمِ.

٩

وقال العبد لأنيس الجليس: حبيبتي زرمباحة، عمَّا قليلٍ سَيشَرِّفُ دارَنا بيومي الأرملُ كبيرُ الشرطةِ.

فقالتِ المرأةُ: كما رسمْنَا يا سخربوط .. ونحن في الانتظار.

– دعيني أُقَبِّل الرأسَ الحاويَ للعبقريَّة.

١٠

لم تستغرقْ محاكمةُ حسامِ الفقي إلا ساعاتٍ ثم ضُرِبَ عنقُه .. واجتمع الحاكم سليمان الزيني بكبير الشرطة وحضور كاتمِ السرِّ الفضل بن خاقان والحاجب المعين بن ساوي .. قال الزيني مخاطبًا بيومي الأرمل: ما هذا الذي قال الشهود؟ عشراتُ الرجالِ يُفلِسون .. رجلانِ يفقدانِ حياتهما بسبب امرأةٍ غريبةٍ داعرة .. أين كنتَ يا كبيرَ الشرطة؟

فقال بيومي الأرمل: الدعارة إثْمٌ سِريٌّ، ونحن منهمكونَ في مطاردة الشيعة والخوارج!

– لا .. لا .. إنَّك عين الشريعةِ .. حقِّقْ مع المرأةِ .. صادرْ مالَها الحرامَ، استدرِكْ ما فاتَكَ قبل أنْ تُسألَ أمام السلطانِ.

١١

وقف بيومي الأرمل بين نخبةٍ من رجاله في بهو الاستقبال بالدار الحمراء ينظر فيما حوله ويتعجَّب .. تُرى هل تفوق سراي السلطان هذه الدار في شيء؟! وجاءت المرأة مقنَّعة الوجه، محتشمة الجسد.

– أهلا بكبير الشرطة في دارنا المتواضعة.

فقال بخشونة: لا شكَّ في أنكِ علِمتِ بالجريمة التي ارتُكبَت عند مدخل داركِ؟

فقالت بتأثُّر: لا تُذكِّرني بها فلم يغمُض لي جفنٌ منذ ارتكابها.

فقال بحدَّة: لا أُصدِّق كلمةً مما تُزوِّرين، أجيبي عن أسئلتي بالصدق، ما اسمك؟

– أنيس الجليس.

– اسمٌ مريب، من أي البلاد جئتِ؟

– أمي من الهند وأبي من فارس وزوجي من الأندلس!

– مُتزوِّجة؟

– نعم، وقد تلقَّيتُ من زوجي رسالةُ ينبئني فيها بقرب قدومه.

– أتمارسين الدعارة بعلمه؟

– أعوذ بالله، إني امرأةٌ شريفة.

فهز رأسه ساخرًا: وما شأن الرجال الذين يتردَّدون عليك؟

– أصدقاءُ من سادة البلد ممن يطيب لهم الحديث في الشريعة والأدب.

– عليكِ اللعنة، ألذلك أفلَسوا وتقاتَلوا؟

– إنهم كُرماء ولا ذنب لي، وما كان يصحُّ في آدابنا أن أرفض هداياهم، ولا أدري كيف اندَس الشيطان بينهم.

فقال بنفاد صبر: لديَّ أمرٌ بمصادرة مالَكِ الحرام.

أشار إلى رجاله فانتشروا في الدار يُنقِّبون عن الحلي والجواهر والنقود .. في أثناء ذلك لبثا وحيدَين صامتَين .. خطَف من نقابها نظراتٍ مستطلعة بلا ثمرة. أما هي فلم تَجزع .. استسلَمتْ للقدَر أو هكذا بدت، ثم تساءلت في عتاب: هل أعيش بعد اليوم من بيع أثاث داري؟

رفع منكبَيه استهانة، فأزاحت النقاب عن وجهها قائلة: معذرة، حر الصيف لا يُطاق.

نظر بيومي فصعِق .. لم يصدِّق عينَيه ولكنه صعِق .. التصق بصره بوجهها فلم يستطع أن يستردَّه .. سبَح في بحر الجنون المتلاطم .. فقد القوة والوظيفة والأمل .. دفنَ كبير الشرطة بيدَيه فانبعَث من قبره مائة عفريت وعفريت .. دفَعتْه آلاف الأيدي فكاد يتهاوى لولا سماعه عربدةَ أعوانه في الحُجُرات .. الرقباء والعيون قادمون، أما بيومي الأرمل فقد ضاع إلى الأبد .. وعادت تقول متوسِّلة: أسألك المروءة يا كبير الشرطة.

أراد أن يُجيب إجابةً خشنة تُناسِب المقام .. أراد أن يُجيب إجابةً ناعمة تُناسب المقام .. لكنه غرق في الصمت.

١٢

عند منتصف الليل فقد صَبْره، فطار مُستخفيًا إلى الدار الحمراء .. مثل بين يدَيها مُستسلِمًا وهو يقول لنفسه: «إنَّها القدَر الذي لا ينفع معه حذَر ولا يُنتفع لديه بمثال» .. تجاهلَت حاله وقالت بأسًى: لم يبق لديَّ ما تُصادِره يا كبير الشرطة.

فقال بذُلٍّ: لقد قمتُ بواجبي، ولكنَّ ثمَّة جانبًا للرحمة.

ورمَى عند قدمَيها بدُرةٍ مكتنزة .. ابتسمَت بعذوبةٍ، وتمتمَت: يا لك من رجلٍ شهمٍ!

ركَع على ركبتَيه في خشوعٍ، أحاط ساقَيها بذراعَيه، ثم سجد لاثمًا قدمَيْها.

١٣

تصاعدَت أنَّات شكوى من مستحقِّي بيت المال، وتهامَس كُتَّاب البيتِ بأنَّ المال لا يُصْرف في وجوهه الشرعية كما أمر الزيني .. وبلغَت الأنباء الحاكم فبثَّ العيون وشدَّد المراقبة .. وكلف كاتمَ سرِّه الفضلَ بن خاقان وحاجبه المعين بن ساوي بالتحقيق السري .. وقَّرر أخيرًا استدعاء كبير الشرطة بيومي الأرمل، وقذَف في وجهه بالبيانات الصادقة .. بدا الرجل مستسلمًا وغيرَ مبالٍ، فعَجِب لشأنه، وسألَه: أرى فيكَ شخصًا آخرَ لم أعهدْه من قبلُ؟

فقال الرجل بأسًى: تقوَّض البناء القديم يا مولاي.

– ما تصوَّرْتُ أن تغتال أموال المسلمين.

فقال بالنبرة نفسها: اغتالَه المجنون الذي حلَّ فيَّ.

وحُوكِم بيومي الأرمل فضُرب عُنقه .. حلَّ محله المعين بن ساوي .. صُودرَت أموال أنيس الجليس مرَّةً أخرى .. ولزم حارسٌ بابَها ليمنع أي رجل من الدخول.

١٤

ورُفع أمرها إلى المفتي، ولكنه أفتى بأنَّه لم تقُم بيِّنةٌ شرعية على فسقها، وكان المعين بن ساوي يمارس عمله في مقر الشرطة عندما استأذنَت امرأةٌ في مقابلته .. نظر إلى نقابها الكثيف بلا مبالاة وسألَها: من أنتِ؟ وماذا تُريدينَ؟

فأجابت بعصبية: أنا أنيس الجليس المظلومة.

فانتبه الرجل إليها باهتمامٍ وسألها بخشونةٍ: ماذا تريدينَ؟

فأزاحت النقاب عن وجهها، وقالت: صادرتم مالي، أصبحتُ مستحقةً للصدقة والزكاة فاكتبني عندكَ ضمن المستحقَّات.

لم يفقَه معنى كلمة مما قالت .. نسي أشياءَ لا تُحصى كما نسي نفسه .. عبثًا حاول أن يستمد من ضميره قوةً .. زلَّت قدمه فتردَّى في الهاوية .. سَمِع صوتَها يتردَّد مرة أخرى من دون أن يفقَه له معنًى .. أخيرًا سألَها وهو يلهثُ: ماذا قُلتِ؟

فقالت متجاهلة حالَهُ: اكتُبني عندك في المستحقَّات للزكاة والصدقة.

تساءل وهو يُلقي بتاريخه من النافذة: متى أبعثُ لكِ بحاجتكِ؟

فقالت بدلال: سأنتظركَ عقب صلاة العصر.

١٥

اشتعلَت نشاطًا ومقدرة .. قالت إنَّه يوم الفصل والنصر .. ضحكَت طويلًا كما ضحك سخربوط .. وفي الحال قصدَت كاتمَ السر الفضلَ بن خاقان .. تكرَّرتِ اللعبة والمأساة .. ضربَت له موعدًا عقب صلاة المغرب .. أما سليمان الزيني فكان موعده عقب صلاة العشاء .. نور الدين عاشق الروح وعديل السلطان وافَق على الذهاب بعد العشاء بساعتَين، وقد حرَّر لها رقعةً لمقابلة الوزير دندان وأخرى للقاء السلطان شهريار بحُجة أن تظفر بالعدل والإنصاف عند أيٍّ منهما .. هوى الرجال جميعًا وتطلَّع كلٌّ إلى موعده وقد فقد رشدَه .. حتى دندان وشهريار!

١٦

في موعده جاء المعين بن ساوي بدقَّةٍ فلكية تعكس عيناه معاناة عاشقٍ قديمٍ .. رمَى بالبدرة في خفة طفلٍ سعيد، لم يَرَ من الوجود الفخم إلا كوكبه الساطع، وثَمِل بالنشوة حتى استقَر عند قدمَيْها .. ليس في الجلسة إلا بروق الوعود السعيدة المحتدمة ولا مكانَ بها للعواقب .. شرب من يد العبد تارةً ومن يدها أخرى، وتمادى في أفانين الهوى حتى تجرَّد من ثيابه فارتدَّ للعصر البدائي .. وهو يندفع بها نحو الفِراش اندفَع العبد داخلًا مهرولًا، وانكبَّ على أُذنَيها فأسرَّ إليها بسرٍّ خطيرٍ كما بدا .. وثبَتْ واقفة، أسدلَت على جسَدها البضِّ طيلسانها وهمسَت محمومة: زوجي وصل.

أفاق الرجل من سَكْرته بضربةٍ قاضيةٍ فشدَّته من يده إلى حجرةٍ جانبيةٍ، ثم أدخلَته في صوان، أغلقَتْه بإحكام، وهي تقول من خلال رجفة الاضطراب والذعر: ستذهب بأمانٍ في الوقت المناسب.

فهتَف الرجل: إليَّ بثيابي.

فقالت وهي تبتعد: إنَّها في الحفظ والصوْن، اصمت، لا صوت ولا حركة وإلا هلكنا!

١٧

تتابعتِ الرجالُ .. الفضلُ بن خاقان .. سليمانُ الزيني .. نورُ الدين .. دندانُ، شهريار .. استسلموا للنداء الآسر، ثمِلوا بالنشوات المعربدة، ثم سيقوا عرايا إلى الأصوِنة، وترامى إليهم صوتُ أنيس الجليس وهي تضحك ساخرةً، فأدركوا أنَّهم وقعوا في شَرَكٍ مُحكَمٍ .. قالت: غدًا في السوقِ سأعرض الأصونةَ للمزاد بما فيها ..

وضحكَت مرةً أخرى وواصلَت: سوف يُشاهِد شعب السوق سُلطانَه ورجال دولته وهم يُباعون عرايا!

١٨

ولما رجعَت إلى البهو رأت أمامها «المجنون» واقفًا في هدوء .. انزعجَت مرتجفةً .. ماذا جاء به؟ كيف اقتحم دارها؟ هل سمع حديثها للرجال؟ سألته: كيف دخلْتَ داري بلا دعوةٍ ولا استئذانٍ؟

فقال بهدوئه: رأيتُ الرجال يتتابعون فثار شوقي للمعرفة.

صفَّقَت بيدَيها مناديةً العبد، فأدركَ ما تريد، فقال: لقد ذهب!

فسألَته غاضبةً: إلى أين؟

– دعينا منه وأكرمي ضيفك.

بدا مفروقَ الشعر مُستَرسِلَه .. غزيرَ اللحية، حافيَ القدمين، في جِلبابٍ أبيضَ فَضفاض، ينبعث من طوقه شعر صدره .. أتُوقِعُه في شِراكها؟ أقبلَت ولكن في فتورٍ .. لأول مرة لا يُحدِث وجهُهَا أثرَه .. إنَّه فتنةٌ ولكن للعقلاء لا المجانين .. اقتربَت من المائدة مُتثنِّية وقالت: إن كنتَ تريدُ طعامًا فُكُل.

فقال بازدراءٍ: لست متسولًا.

فتساءلَت مدافعةً اليأس: إليك الشراب.

– رأسي مليء بالدنان!

– لا يبدو عليك سُكْر.

– ما أنتِ إلا عمياء.

فقطَّبتْ مستوحشةً، وسألَته: ماذا تريد؟

فسألها بدوره: كيف تعيشينَ في قصرٍ مهجورٍ خالٍ من وسائل الحياة كافَّة؟

فنظَرتْ فيما حولها بقلبٍ منقبضٍ وتساءلَت: ألا يُعجبكَ هذا الجمالُ كلُّه؟

– لا أرى إلا جدرانًا تتردَّد بينها أنفاس الوباء القديم.

جاء دورها لتتعرى كالآخرين .. استسلَمتْ ضعيفةً أمام جنونه المقتحم .. انهزم الإغراء كما انهزم التمويه .. ولَّته ظهرَها لتُفكِّرَ .. تحرَّكتْ شفتاه بتلاوةٍ خفيفة .. لم تُسعِفها المقاومة اليائسة .. وزحَف عليها ما يُشْبه النوم الثقيل .. تراخت أعصابها .. تركَت تيار التغيُّر يتدفَّق .. مضت قسمات وجهِها تذوب وتَنْدَاحُ فصارت عجينةً متورمةً .. تقوَّضتِ القامة الفارهة وطارت منها الملاحة والرشاقة .. بسرعةٍ عجيبةٍ لم يَبقَ منها إلا نقاطٌ منفصلة .. استحالت دخانًا ثم تلاشت غير تاركة أيَّ أثَرٍ .. في أعقابها اندثَرتِ الأرائكُ والوسائد والأبسطة والتُّحَف .. انطفأتِ القناديل .. فنِيَت، فساد الظلام .. حمل رُكام ثيابِ الرجالِ فقذف بها من نافذة، ومضى نحو حجرة الأصوِنة.

١٩

قال المجنون يخاطب مَن في الأصوِنة: لن أُعفيَكم من العقاب، ولكني اخترتُ لكم عقابًا ينفعكم ولا يضرُّ العباد.

فتح الأقفال بسرعة، ثم غادر المكان.

٢٠

تسلَّل الرجال من الأصْوِنة في حذرٍ وإعياءٍ يترنَّحون من الإرهاق .. لم يفتح أحدٌ منهم فاه من القهر والخجل .. عُراة الأجساد عُراة الكرامة يتخبَّطون في الظلام .. يُفتِّشون عن ملابسهم، عن أيِّ ملابسَ، عن أي شيءٍ يستر العورة .. الوقت يمضي لا يرحم، والنور يقترب، والفضيحة تُومِض في الظلام .. جالُوا في الظلام يستكشفون المكان بأذرعهم الممدودة .. لا أثَر لشيءٍ .. لا أثر لحياةٍ .. وهمٌ أو كابوسٌ .. أما الفضيحة فحقيقةٌ .. إنَّه الذل واليأس .. واسترشدوا بالجدران نحو الباب الخارجي ودبيبُ الزمن يتلاحق خلفهم .. وما إن تنفَّسوا هواء الطريق حتى تَشَهَّدُوا وبعضهم بكي .. المدينة خالية .. فرصةٌ وأيُّ فرصةٍ .. انطلَقوا حفاةً عرايا في ظلمة الليل .. بصقَهم المجد وعَلاهُم الخزي، وكسا الإثم وجوهَهم بطبقةٍ من القصدير المُذابِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤