صنعاء الجمالي

١

الزمن يدُق دقةً خاصةً في باطنه فيُوقِظه .. مدَّ بصره نحو نافذةٍ قريبةٍ من الفِراش فرأى من خلال خصَاصِها المدينةَ مسربلةً في الظلام .. النومُ سلبَها الحركةَ والصوتَ فاستكَنَّتْ في صمتٍ مفعمٍ بهدوءٍ كَوْني .. انفصل من جسد أُمِّ السعدِ الدَّفيء هابطًا إلى الأرض .. انغرزَت قدماه في زَغَبِ سجادةٍ فارسية .. مدَّ ذراعه ملتمسًا موقعَ الشمعدان، فارتطمَتْ بكثافةٍ صلبة فجفَل متسائلًا: ما هذا؟!

جاء صوتٌ غريب، لم يَطْرق أذنَيْه مثلُه من قبلُ .. لا صوت إنسانٍ هو، ولا صوت حيوان .. اجتاح حواسَّه، وكأنما انتشَر في المدينة كلِّها .. ونطَق الصوتُ في غضبٍ: دُسْتَ رأسي يا أعمى؟!

صرعَه الخوفُ .. ما به من الفروسية ذرَّةٌ .. ما يُجيدُ إلا البيعَ والشراءَ والمساومة .. أَكَّدَ الصوت قائلًا: دُسْتَ رأسي يا جاهل.

قال بنبراتٍ مرتجفة: من أنتَ؟

– أنا قمقام.

– قمقام؟!

– عِفْريتٌ من أهل المدينة.

أوشَكَ أن يتلاشى من الرعب فانعقد لسانُه.

– آلَمتَني فَحقَّ عليك العقاب.

عجز لسانه عن أيِّ دفاعٍ، فواصل قمقامُ حديثَه: سمعْتُكَ أمسِ يا منافقُ وأنت تقولُ إنَّ الموتَ علينا حقٌّ، فما بالُكَ تبولُ من الخوف؟!

نطق أخيرًا بضراعة: ارحمْني، أنا ربُّ عائلة.

– لن يحيقَ عقابي إلا بكَ أنتَ.

– ما فكَّرْتُ لحظةً واحدةً في التعرُّض لكَ.

– يا لكم من مخلوقاتٍ مزعجةٍ! لا تَكُفُّونَ عن الطمع في استعبادنا لتحقيق أغراضكم الدنيئة .. أَلَم يشبعْ نَهمُكم باستعباد الضعفاءِ منكم؟

– أقسمُ لكَ …

فقاطَعه: لا ثقةَ لي في قَسَمِ تاجر.

فقال: أسألُكَ الرحمةَ والعفوَ.

– أيُّ سببٍ يدعوني لذلك؟

فقال بلهفةٍ: قلبُكَ الكبيرُ.

– لا تُحاولْ خداعي كما تخدعُ زبائنَكَ.

– افْعَلْها لوجه الله.

– لا رحمةَ بلا ثَمنٍ، ولا عفوَ بلا ثَمن.

فَشَرِق بالأمل المباغت فقال بحرارة: إني أفعلُ ما تشاءُ.

– حقًّا؟

فقال بلهفةٍ: بكل ما أملكُ من قوَّة.

فقال بهدوءٍ مخيف: اقتُلْ علي السلولي.

غرِقَت الفرحةُ في خيبةٍ غيرِ متوقَّعة، كسلعةٍ وردَت بعد أهوالٍ من وراء البحار، ثم تَبيَّن عند الفحص فسادُها .. تساءل بذهولٍ: علي السلولي حاكمُ حيِّنا؟

– دون غيره.

– لكنه حاكم، ويقيم في دار السعادة المحروسة، وما أنا إلا تاجر.

فهتفَ: إذن فلا رحمة ولا عفو.

– سيدي .. لِمَ لا تقتلُه بنفسكَ؟

قال بِحَنق: استأنسَني بسحرٍ أسود، وهو يستعين بي في قضاءِ مآربَ لا يرضى عنها ضميري.

– لكنكَ قوَّةٌ تفوقُ السحرَ الأسود!

– نحن بعدُ نخضعُ لقوانينَ معينة، دعِ المناقشةَ، لك أن تقبلَ أو أن ترفض.

قال صنعان بحرارة: أَليس لكَ رغباتٌ أخرى؟ لديَّ مالٌ موفورٌ وسلعٌ من الهند والصين.

– لا تُبدِّد الوقتَ سُدًى أيها الأحمق.

اشتدَّ به الإغراءُ من جديدٍ فنطَق به اليأسُ قائلًا: إني طَوعُ أَمرِك.

– حذارِ أن تُحاولَ خداعي.

– سلَّمْتُ الأمرَ لقَدَرِي.

– ستكونُ في قبضَتي ولو أويْتَ إلى جبالِ قاف.

عند ذاك شعَر صنعان بألمٍ حادٍّ في ساعده فصرخ صرخةً جرفَت أعماقَه.

٢

فتَح صنعان عينَيه على صوت أُمِّ السعد وهي تقول «ماذا أخَّركَ في النوم؟» .. أشعلَت الشمعدان فجعل ينظرُ فيما حولها بذهول .. إن يكن حُلمًا فما له يمتلئُ به أكثرَ من اليقظة نفسها؟! .. إنَّه حيٌّ لدرجةٍ تجلب الذعر .. رغم ذلك ابتلَّ ريقه برحيق النجاة فهَيمَن عليه هدوءٌ وامتنان .. رُدَّ العالمُ إلى نظامه بعد خرابٍ شاملٍ ونَعِمَ بعذوبة الحياة بعد عذاب الجحيم .. تنَّهَدَ قائلًا: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

نظَرتْ أُمُّ السعد نحوه وهي تدُسُّ خصلاتٍ مبعثرةً من شعرها داخلَ منديلِ رأسِها وقد طمَس النوم على رونقِ وجهها بطبقةٍ زيتية، فقال ثملًا بالنجاة: الحمد لله الذي أنقذني من كربٍ عظيم.

– الله يحفظنا يا أبا فاضل.

– حُلمٌ فظيع يا أم السعد.

– خيرًا إن شاء الله.

وقادَته إلى الحمام فأشعلَت مصباحًا في كوَّة، وتَبعَها وهو يقول: قضيتُ شطرًا من الليل مع عِفريت.

– كيف وأنت الرجل التقيُّ؟

– سأقُصُّه على الشيخ عبد الله البلخي، اذهبي الآن بسلامٍ لأتوضأ.

راح يتوضأ .. عندما همَّ بغسل ساعِده اليسرى توقَّفَ مرتعدًا.

– ربَّاه!

جعل ينظر بذهولٍ إلى جُرحٍ كالعضَّة .. ليس وهمًا ما يرى؛ فمن مغارِز الأنياب يبضُّ الدم.

دار رأسُه وغمغم: هذا هو المستحيل.

فزع قائمًا وهَرولَ نحو المطبخ، تساءلَت أُمُّ السعد وهي تُوقِد الكانون: توضَّأتَ؟

مَدَّ إليها ساعِدَهُ قائلًا: انظري!

شهِقَتِ المرأة متسائلةً: ماذا عضَّكَ؟

– لا أدري.

فاستحوذ عليها القلق وقالت: نمتَ على خير حال!

– لا أدري ماذا حصل.

– لو حدثَت في النهار …

قاطعَها: لم تحدُث في النهار.

تبادلا نظرةً قلقةً مضطربةً بالخواطر المكتومة .. قالت بفزعٍ: حدِّثني عن الحُلم.

فقال بضيقٍ: قلتُ إنه عِفريتٌ .. ولكنه حُلم.

تبادلا النظرة مرَّةً أخرى .. وتبادلا معاناة القلق .. قالت أُمُّ السعد بحذر: ليكنِ الأمرُ سرًّا.

أدركَ سرَّ مخاوفِها المتجاوبةِ مع مخاوفِه .. إذا جرى ذكر العِفريتِ فلا يدري ماذا يَحِيقُ بسمعته كتاجرٍ غدًا، ولا ماذا تتعرَّضُ له سمعةُ كريمتِه حُسنيَّة وابنه فاضل، قد يلد الحُلم خرابًا شاملًا .. ثم إنه ليس على يقينٍ من شيءٍ .. قالت أُمُّ السعدِ: الحُلم حُلم .. وسِرُّ الجرح يعلمه الله وحده.

فقال بيأسٍ: هذا ما يجبُ التسليمُ به.

– المهم الآن أن تبادر إلى العلاج، فاذهب إلى صديقِك إبراهيم العطار.

كيف يهتدي إلى الحقيقة؟ .. أرهقَه القلقُ حتى أحنَقَه فجاش بالغضب .. شعر بأنَّه يمضي من سيئٍ إلى أسوأَ.. وجدانه جميعه يُشحَن بالغضب والحَنَق، وطبعُهُ يسوء؛ فكأنه يُخلَق من جديدٍ على حالٍ تُناقِض دماثتَه القديمةَ الراسخة، ولم يعُد يطيق نظراتِ المرأة، فَكَرِه نظراتِها ومَقتَ خواطرَها ووجد رغبةً في تحطيم كلِّ قائم .. وفي غفلةٍ من ذاته الضائعةِ طعنها بنظرةٍ غاضبة حانقة مستفزَّة كأنما هي المسئولةُ عن محنته، ثم تحوَّل عنها ذاهبًا وهي تُغمغِم: ليس هذا بصنعان الذي كان!

وجد في الصالة فاضل وحسنية على ضوءٍ كابٍ نضحَتْ به ثقوب المشربية .. ارتسم في وجهَيهما انزعاجٌ دلَّ على ارتفاع صوته الهائج، فازداد غضبًا، وصاح بهما بلا سبب وعلى غير عادة: اغْرُبا عن وجهي.

رَدَّ باب حجرته وراءه وراح يتفحَّصُ ساعِدَه .. لحق به فاضل بشجاعةٍ .. قال بقلقٍ: لعلك بخيرٍ يا أبي.

فقال له بفظاظة: دعني وحدي.

– كلبٌ عضَّكَ؟

– من قال لكَ ذلكَ؟

– أُمِّي.

أدركَ حكمتَها في إعلان ذلك فرضِي، ولكنَّ حالَهُ لم تتحَسَّن .. قال: أمرٌ تافه، إني بخيرٍ، ولكن دعني وحدي.

– لا بُدَّ من الذهاب إلى العطَّار.

فقال بضيقٍ: لا حاجةَ بي إلى من يُذكِّرني بذلك.

في الخارج قال فاضل لحسنيةَ: شدَّ ما تغيَّرَ أبي!

٣

غادر صنعان الجمالي داره دون صلاةٍ لأوَّل مرة في حياته مُذْ صار صبيًّا .. ذهب من تَوِّه إلى دكان إبراهيم العطار .. صديقٌ قديمٌ وجارٌ في الشارع التجاري .. ولما رأى العطار ساعِدَه قال متعجبًا: أيُّ كلبٍ هذا؟! ولكن ما أكثرَ الكلابَ الضالَّة!

وعكف على انتخاب جملةٍ من الأعشاب، وهو يقول: عندي وصفةٌ لا تخيبُ.

غلى الأعشاب حتى ترسَّبتْ مادةٌ لزجة .. غسل الجرح بماء الورد .. غطَّاهُ بالمادة وبسطَها عليه بملعقةٍ خشبية، ثم عصَبَ الساعِد بشاشٍ دِمَشْقي وهو يتمتم: بالشفاء إن شاء الله.

وإذا بصنعان يقول رغمًا عنه: أو فليفعلِ الشيطانُ ما يريد.

تفرَّس إبراهيم العطار في وجه صاحبه المحتقن فعجب من تغيُّرِه وقال: لا تَدَعْ جرحًا تافهًا ينال من طبعكَ الحلو.

فمضى مكفهِرَّ الوجهِ وهو يقول: لا تأمن لهذه الدنيا يا إبراهيم.

ما أشدَّ جزعَهُ! .. كأنما اغتسل بماء شطةٍ حامية .. الشمس حارَّةٌ غليظة .. وجوه العباد كئيبةٌ .. وكان فاضل قد سبقه إلى الدكان فاستقبله بابتسامةٍ مشرقة ضاعفَت من غيظه .. لعن الجوَّ رغم ارتياحهِ المعروفِ لجميع الأجواء .. لا يكادُ يردُّ تحيةً .. ولا يرحبُّ بأحدٍ .. لا يستبشرُ بكلمةٍ أو وجه .. لا يضحكُ لدعابة .. لا يَتَّعِظ بعبور جنازة .. لا يَسُرُّه وجهٌ مليح .. ماذا جرى؟ ضاعَف فاضل من نشاطه ليحُولَ ما أمكنَ بين أبيه والزبائن .. وأكثرُ من زبونٍ سأل فاضل همسًا: ما بالُ أبيكَ اليوم؟

فيقول الفتى بامتعاضٍ: به وعكةٌ، لا أراكَ اللهُ من سوءٍ.

٤

سرعان ما تكشَّف حالُه لرُوَّاد مقهى الأمراءِ .. يقصدُهم متجهِمًا، يجلس صامتًا، أو يُحاوِر محاورةَ الشارد .. كفَّ عن تعليقاته الضاحكة .. يضجر سريعًا فيُغادِر المقهى .. يقول إبراهيم العطار: عضَّهُ كلبٌ متوحش.

فيقول جليل البزَّاز: لقد فقدناه تمامًا.

ويقول كرم الأصيل صاحبُ الملايينِ وذو وجهِ القرد: حالُه التجاريةُ مزدهرة جدًّا.

فيقول الطبيبُ عبد القادر المهيني: قيمة المال تتبخَّر عند المرض.

فيقول عجر الحلاق الوحيد بين الجالسينَ على الأرض الذي يدُسُّ نفسَه أحيانًا في أحاديث السادةِ، يقول متفلسفًا: ما الإنسانُ؟ .. عضَّةُ كلبٍ أو قرْصةُ ذبابة.

ولكن فاضل صنعان صاح به: أبي بخير، ما هي إلا وعكةٌ تزول قبل شروقِ الصبح!

•••

لكنه توغَّلَ في حالٍ يتعذَّرُ الهيمنةُ عليها .. وفي ليلةٍ التهمَ من المنزول قدرًا مجنونًا وغادر المقهى مُتوثِّبًا لاقتحام المجهول .. كَرِهَ الذهابَ إلى داره فراح يتخبطُ في الظلام مُشَعَّث العقلِ والإرادةِ تسوقه أخيلةٌ معربدة .. تمنَّى فعلًا يمتصُّ توترَهُ الثائرَ ويُريحُه من العذاب .. وتذكَّر نساءً من أهله شبعن موتًا فتمثَّلنَ له عارياتٍ في أوضاعٍ جنسيةٍ تطفحُ بالإغراء فأسفَ على أنه لم ينَلْ من إحداهُنَّ وَطَرًا .. ومرَّ بعطفة الشيخِ عبد الله البَلْخي، ففكَّر لحظةً في زيارته والاعترافِ بين يدَيه بما وقع له ولكنه أسرع مبتعدًا .. وعلى ضوء مصباحٍ مُدَلًّى من هَامَة أحدِ أبوابِ الدورِ رأى بنتًا في العاشرة ماضيةً في طريقها تحمل بين يدَيها سلطانيةً .. اندفع نحوها معترضًا سبيلها متسائلًا: أين تذهبينَ يا عروس؟

فقالت ببراءة: راجعة لأمي.

فغاص في الظلام حتى فقد البصر، وقال تعالَي أُرِيكِ شيئًا طريفًا.

حملها بين ذراعَيه حتى اندلَق ماء المخلل على جبَّته الحريرية، ومضى بها إلى ما تحت سُلَّمِ الكُتَّاب .. حارت البنتُ في أمر حنانه الغامض، لم تَرتحْ إليه، وقالت مُتشكِّيةً: أمي تَنتظر.

لكنه أثار حبَّ استطلاعِها بقدْرِ ما أثار مخاوفَها .. أغراها عمرُهُ — الذي ذَكَّرها بأبيها — بنوعٍ من الاطمئنان .. خالَط ذلك قلقٌ مجهول، وتوقُّعٌ لحُلمٍ عجيب .. ونَدَّت عنها صرخةٌ باكيةٌ تمزَّقَ لها وجْدانُه، وبعثَت في مُخَيِّلته المظلمة أطيافًا مرعبة، فسرعان ما كتم فَاهَا براحته المُرتعِشة .. لطمَتْه إفاقةٌ مباغتة، فعاد إلى سطح الأرض وهمس متوسلًا: لا تبكي .. لا تخافي.

وزحَف اليأسُ حتى قَوَّض أركان العالم .. ومن الخراب الشامل تَناهَى إليه وقْعُ أقدامٍ تقتربُ .. وبسرعة قبَض على عنقها الرقيقِ بيدَين غريبتَين عنه، وتردَّى في الهاوية كوحشٍ كاسرٍ زلَّت قدمُه .. أدرك أنَّهُ انتهى .. انتبهَ إلى صوتٍ ينادي: بسيمة .. بنت يا بسيمة.

قال لنفسه في يأسٍ كامل: لا مَفرَّ.

وضَح الآنَ أنَّ الأقدام تقتربُ من مَكْمَنه .. وضوء فانوسٍ يتخايل .. دفعَتْه رغبةٌ للخروج حاملًا الجثَّة .. وإذا بوجودٍ ثقيل يقتحمُ وجودَه المتهافتَ فاقتحمَتْه ذكرى الحُلم .. وسمع الصوتَ الذي سمِعَه منذ يومَين يتساءلُ: أَهذا ما تعاهدْنا عليه؟

قال مستسلمًا: أنت حقيقةٌ إذن ولستَ حُلمًا!

– أنتَ مجنونٌ ولا ريبَ.

– أُوافق على ذلك ولكنكَ أنتَ السبب!

فقال الصوت بغيظٍ: ما طالبْتُكَ بشرٍّ قَطُّ.

فقال بحرارة: لا وقتَ للمناقشة، أنقذْنِي لأفِيَ لكَ بما تعاهدْنا عليه.

– هذا ما جئْتُ من أجلِه، ولكنكَ لا تفهم.

شعر بأنَّه يتحرك في فراغٍ في عالَمٍ شديدِ الصمتِ حتى سمِعَ الصوتَ مرَّةً أخرى: لن يعثرَ لك أحدٌ على أَثَر، فَتِّح عينيْكَ تَرَ أنكَ واقفٌ أمام بابِ دارِكَ .. ادخل آمنًا، إني مُنتَظر.

٥

سيطَر صنعان على ذاته بقوةٍ خارقة، لم تشعرْ أُمُّ السعدِ بأن حالَهُ قد ساءت أكثرَ .. اختفى وراء جفنَيْه في الظلام وراح يتذكر ما فعله .. إنَّه شخصٌ آخَر .. القاتلُ المغتصبُ شخصٌ آخَر .. نفسه تتمخَّضُ عن كائناتٍ وحشية لا عهد له بها .. الآن يتجرد من ماضيه ويطوي آماله ويُقدِّم نفسه للمجهول .. لم ينَمْ ولم تَنِدَّ عنه حركةٌ تَنمُّ عن أرَقِه .. في الصباح الباكر ترامى إليه صوتُ نعْي .. غابت أُمُّ السعدِ ساعةً ثم رجعَت وهي تقول: لكَ الله يا أم بسيمة.

غضَّ بصَره متسائلًا: ماذا جرى؟

– ماذا حدَث للناس يا أبا فاضل؟ البنت اغتُصِبَت وقُتلَت تحت سلَّم الكُتَّاب، طفلة يا ربي ولكنَّ تحت جلد بعض الآدميين وحوشًا مفترسة.

حنى رأسه حتى تشعَّثَت لحيته فوق صدره وتمتم: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

– هؤلاء الوحوش لا يعرفون ربًّا ولا رسولًا.

وأجهَشتِ المرأةُ بالبكاء.

جعل يُسائِل نفسه أهوَ العِفريت؟ .. أهوَ المنزول؟ .. أهوَ صنعان الجمالي؟!

٦

خواطر الحيِّ كله هائجةٌ .. الجريمة حديثُ الحيِّ التِّجاريِّ كلِّه .. قال له إبراهيم العطار وهو يجدِّد له الدواء: الجرح لم يندمِلْ ولكنْ زالَ خطرُه.

ثم وهو يَلُف ساعِدَه بالشاش: سمعتَ بالجريمة؟

فقال بامتعاض: أعوذ بالله.

– المجرم ليس آدميًّا، أبناؤنا يتزوَّجون في حال بلوغهم!

– إنه مجنونٌ ولا شك.

– أو إنَّه أحدُ الصعاليكِ العاجزين عن الزواج. إنهم يَزحَمون الطرقاتِ كالكلاب الضالَّة.

– كثيرون يردِّدون ذلك.

فتساءل العطار متهكمًا: ماذا يفعلُ علي السلولي في دار الإمارة؟

ارتجف لدى ذكرى الاسمِ، وتذكَّر العهدَ المُعَلَّق كالسيف فوق رأسِه، ولكنه جاراه قائلًا: مشغولٌ بمصالحه الخاصة وإحصاء الهدايا والرشاوى.

فقال العطار: فضلُه علينا نحن التُّجار غيرُ منكور، ولكن عليه أن يتذَكَّر واجبه الأصلي ليبقى لنا.

فذهب وهو يقول: لا تأمنْ لهذه الدنيا يا إبراهيم.

٧

علم حاكم الحيِّ علي السلولي بما يُقال عن الأمن من كاتم سرِّه بطيشة مرجان .. خَشِي أن تترامى الأقوال إلى الوزير دندان فيرفعها إلى السلطان، فاستدعى كبير الشرطةِ جمصة البلطي وقال له: هل أتاكَ ما يُقالُ على الأمن في عهدي؟

لم يتغيرْ هدوءُ كبيرِ الشرطةِ الباطنيُّ لاطلاعه على أسرار رئيسه وانحرافاته وقال: عفوًا يا سيدي الحاكم، ما أهملْتُ ولا قصَّرتُ في بثِّ العيون، ولكنَّ الجاني لم يتركْ أثَرًا، لم نعثُر على شاهدٍ واحد، وقد حقَّقتُ بنفسي مع عشراتٍ وعشراتٍ من الصعاليك والمتسولينَ، ولكنها جريمةٌ غامضةٌ لم أعرفْ لها مثيلًا من قبلُ.

فصاح به: يا لكَ من جاهل! اقبضْ على جميع الصعاليكِ والمتسولين، وإنَّك خبير بوسائل التحقيقِ الفعَّالة.

فقال جمصة بحذر: ليس لدينا من السجون ما يتسعُ لهم.

فقال الحاكم مُحنقًا: أيُّ سجونٍ يا هذا؟! أتريدُ أن تُلْزِمَ بيتَ المالِ بإطعامهم؟، سُقهُم إلى الخلاء، استَعِن بالجنْد، وائتِنِي بالمجرم قبلَ جثومِ الليل.

٨

انقضَّ رجالُ الشرطة على الخرابات يقبضونَ على المتسولينَ والصعاليك، ثم يسوقونهم جماعاتٍ إلى الخلاء .. لم تُجدِ شكوى ولا قسمٌ ولم يُستَثْن الشيوخ .. واستُعمِل معهم العنفُ حتَّى جأرُوا بالاستغاثة بالله ورسوله وآلِ البيت .. وراح صنعان الجمالي يتابعُ الأنباءَ بذهولٍ وقلق .. إنه الجاني ما في ذلك من شك، ولكنَّهُ يمضي مطلقَ السراحِ مُجَلَّلًا بالوقار .. مئاتٌ من الأبرياء يتعذَّبون بفعلته النَّكْراء، فكيف صار محورَ هذا الشقاءِ كلِّه؟! .. وثمَّة مجهولٌ يتربَّص به يهُونُ بالقياس إليه جميعُ ما سلفَ .. وهو ضائعٌ تمامًا ومستسلمٌ بلا شروطٍ .. أما صنعانُ القديمُ فقد مات واندثَر .. لم يَبقَ منه إلا ذاكرةٌ حائرةٌ تجتزُّ ذكرياتٍ كالأوهام .. وانتبه على ضجَّةٍ تجتاحُ الشارعَ التِّجاري .. ها هو علي السلولي حاكمُ الحيِّ يخترقُ الطريقَ على رأس كوكبةٍ من الفرسان .. إنَّه يُذكِّر الناسَ بقوة الحاكم ويقظته ويتحدَّى البلبلة .. مضى يردُّ تحياتِ التُّجَّار عن يمين وشمال .. هذا هو الرجلُ الذي تَعَهَّد بقتله .. فاض قلبُهُ بالخوف والمَقْت .. إنَّه سِرُّ عذابِه .. ووقع الاختيارُ عليه هو ليحرِّر العِفْريتَ من سحره الأسودِ! .. هو العِفريتُ دونَ سواهُ .. نجاتُه رهنٌ بالقضاء عليه .. تسمَّرتْ عيناهُ في وجهه الغامقِ الريَّانِ ولحيته المُدَبَّبة وجسمِهِ المائلِ إلى القِصَر .. وعندما مرَّ أمام دكانِ إبراهيم العطار هُرِعَ إليه المعلمُ إبراهيمُ فتصافحا بحرارة .. وعندما مرَّ أمامَ دكانِه حانت منه التفاتةٌ نحوَهُ فابتسَم، فلم يجدْ صنعانُ بُدًّا من العبور إليه والمصافحة! وإذا بالسلولي يقول له: سنراك قريبًا بمشيئة الله!

رجع صنعانُ الجماليُّ إلى دكانه وهو يتساءلُ عمَّا يعنِيه .. هل يدعوه إلى مقابلة؟ .. لماذا؟ .. هل يجدُ السبيلَ مُيَسَّرًا من حيثُ لم ينتظرْ؟ .. ربطَتْ قُشَعْريرةٌ بين أعلَاهُ وأسفلِه .. ردَّد قولَه بذهولٍ: سنراك قريبًا بمشيئة اللهِ!

٩

ولما أخلد إلى النوم ليلًا هيمن عليه الوجود الآخَرُ وسمع الصوت يقول متهكِّمًا: تأكل وتشرب وتنام وعليَّ أنا الصبرُ!

فقال بتعاسةٍ: إنَّها مهمةٌ شاقَّةٌ لا يدرِكُ مشقَّتَها من له مثلُ قُوَّتكَ.

– ولكنَّها أسهلُ من قتل البنت الصغيرة!

فتأَوَّه قائلًا: يا لَلخسارة! .. طالما عُدِدتُ من الصفوة الطيبة.

– لا تخدعُني المظاهرُ.

– لم تكن مجردَ مظاهرَ.

– نسيتَ أشياءَ يَندَى لها الجبينُ.

فقال بارتباكٍ: الكمال لله وحدَه!

– لا أُنكِر أيضًا مزاياكَ ولذلك رشَّحتُكَ للخلاص!

فقال بجزعٍ: لولا اقتحامُك حياتي ما تَوَرَّطتُ في الجريمة.

فقال بوضوحٍ: لا تكذبْ، أنتَ وحدكَ مسئولٌ عن جريمتك!

– الحقُّ أنِّي لا أفهمُكَ.

– الحقُّ أنِّي أحسنْتُ بك الظنَّ أكثرَ مما ينبغي.

– ليتكَ تركتَني وشأني!

– إني عِفْريتٌ مؤمنٌ، قُلتُ هذا الرجلُ خيرُه أكثرُ من شرِّه، أجلْ له علاقاتٌ مريبةٌ مع كبير الشرطةِ ولم يتورَّعْ عن الاستغلال أيامَ الغَلاءِ، ولكنَّهُ أشرفُ التُّجَّارِ، وذو صدقاتٍ وعبادةٍ وذو رحمةٍ بالفقراء؛ لذلك آثرتُكَ بالخلاص، خلاصِ الحيِّ من رأس الفساد وخلاصِ نفسِك الآثمة، وبدلًا من أن تُدرِكَ الهدفَ الواضحَ انهارَ بنيانُكَ وارتكبتَ جريمتَكَ البشعةَ.

تأَوَّهَ صنعانُ واقعًا في الصمْت فَوَاصَل الصوتُ: الفرصةُ متاحةٌ ما زالَتْ.

فتساءلَ في حَيْرة: والجريمةُ؟

– الحياةُ تتسعُ للتكفير والتوبة.

فتساءلَ بنبرةٍ فيها ماءُ الأمل: ولكنَّ الرجلَ في حصنٍ منيعٍ.

سوف يستدعيك إلى مقابلته.

– إني أعجبُ لذلك!

– سوف يستدعيك، اطمئن واستَعِد.

فتفكَّر صنعانُ مليًّا، ثمَّ تساءلَ: هل تَعِدُني بالنجاة؟

– ما اخترتُكَ إلا من أجل النجاة.

ومن شدة الإرهاقِ استغرقَ صنعانُ في نومٍ عميق.

١٠

كان يتأهَّبُ للذهاب إلى المقهى عندما قالت أُمُّ السعد: رسولٌ من قِبَل الحاكم ينتظرُك في المنظرة.

وجد كاتم السر بطيشة مرجان في الانتظار بعينيه البرَّاقتَين ولحيته القصيرةِ .. قال له: الحاكم يرغب في لقائك.

خفق قلبه .. أدرك أنَّه ذاهبٌ لارتكاب أخطر جريمةٍ في تاريخ الحيِّ .. لعله ضايقه أن يكون بطيشة مرجان مُطَّلِعًا على ملابسات الزيارة، ولكنه اطمأنَّ إلى وعد قمقام .. قال للرجل: انتظرني حتى أرتديَ ملابسي.

فقام الرجل قائلًا: بل أسبقُكَ تلافِيًا من لَفتِ الأنظار.

إذن فالرجل يحرصُ على سِرِّيَّة المقابلةِ مُيَسِّرًا بذلك مهمَّته .. وراح يتدَهَّنُ بالمسك وأمُّ السعدِ تُراقبُه، منطويةً على قلقٍ لم يفارقْها منذ ليلة الحُلم .. هيمن عليها شعورٌ بأنها تعاشرُ رجلًا آخَرَ، وأن صنعانَ القديمَ تلاشى في الظلام .. وفي غفلةٍ منها دسَّ في جيبه خنجَرًا ذا مِقبَض من الفضة الخالصةِ تَلقَّاهُ هديةً من الهند.

١١

استقبله عليٌّ السلولي في جوسقه الصيفي بحديقة الإمارة .. طالَعه في جلبابٍ فضفاضٍ أبيضَ، ورأسٍ عارٍ، فخفَّف عنه رهبةَ السلطة .. وقامت بين يدَيه مائدةٌ حفلَت بالقوارير والكئوس والنقل، فبَسَط له المؤانسة والقرب .. أجلسه على وسادةٍ إلى جانبه مستبقيًا مرجان بطيشة، وقال: أهلًا بكَ يا معلِّم صنعان، تاجر أصيل وإنسان كريم.

فتمتَم صنعان مداريًا ارتباكَه بابتسامةٍ: الشكر لك يا نائب السلطان.

ملأ مرجان ثلاثَ كئوسٍ، ساءل صنعان نفسه: هل يبقى مرجان إلى آخر الجلسة؟ .. لعلها فرصةٌ لا تتكررُ فما العملُ؟ وقال السلولي: ليلةٌ صيفٍ لطيفةٌ، أتحبُّ الصيفَ؟

– أحب الفصول جميعًا.

– إنك ممن رضي الله عنهم، ومن تمام رضاه أن نبدأ حياةً جديدةً مثمرةً.

فقال صنعان مدفوعًا بحبِّ الاستطلاع: أسأل الله أن يتمَّ نعمته علينا.

شربوا فتَلقَّوا من الرَّاح نشوةً وانتعاشًا .. وجعل السلولي يقول: طهرْنا لكم الحيَّ من الأوباش.

فقال بحزنٍ دفينٍ: نِعمَ الحزمُ والعزمُ.

فقال بطيشة مرجان: لا نكادُ نسمعُ الآنَ عن سرقةٍ أو جريمةٍ.

فسأل صنعان بحذرٍ: هل اهتديتُم إلى الجاني؟

فضحك السلوليُّ قائلًا: المعترفونَ بالجريمة فاقُوا الخمسينَ عدًّا!

ضحك مرجان أيضًا، ولكنَّه قال: الجاني الحقيقي ضمنهم ولا شكَّ.

فقال السلولي: إنَّها مشكلةُ جمصة البلطي!

فقال بطيشة: علينا أيضًا أن نُضاعِف المواعظَ في المساجد والموالد.

أوشك صنعانُ أن ييأَسَ، ولكن السلولي أشار إلى مرجان إشارةً خاصة فغادر المكان .. ومع ذلك كان الحرس منتشرًا في الحديقة، ولا يوجد مهربٌ، ولكنه لم يغفُل لحظةً عن وعد قمقام.

قال السلولي مُغيِّرًا لهجتَه: فلنطوِ حديثَ الجريمةِ والمجرمين.

فقال صنعان باسمًا: طابَتْ ليلتُك يا مولاي.

– الحق أنِّي دعوتُكَ لأكثر من داعٍ.

– إني رهنُ الإشارة.

فقال بثقةٍ: إني أرغب في الزواج من كريمتك.

دُهِشَ صنعانُ .. أسِفَ لفرصةٍ قُدِّر لها الإحباطُ قبل أن تُولدَ، ولكنَّه قال: هذا شرفٌ كبيرٌ وسعادةٌ عظمى.

– وعندي أيضًا بنتٌ هديةٌ لابنكَ فاضل!

فقال صنعان طاردًا ذهولَه: إنَّه شابٌّ سعيدُ الحظ.

وصمَت قليلًا، ثم واصَلَ: أما المطلوبُ الأخيرُ فهو يتعلَّقُ بالمصلحة العامة!

فتجَلَّت في عينَي صنعان نظرةٌ مُستَطلِعة، فقال الحاكم: المقاول حمدان طنيشة قريبُك .. أَليس كذلك؟

– أجلْ يا مولاي.

– المسألة أنني اعتزمتُ شقَّ طريقٍ بحذاء الصحراءِ بطول الحيِّ كلِّه.

– مشروعٌ رائعٌ حقًّا.

فسأله بنبرةٍ ذاتِ مغزًى: متى تجيئُنِي به إلى هذا المكان؟

اجتاحَتْه موجةٌ من السخرية وهو يقول: موعدُنا مساءُ الغدِ يا مولاي!

فحدَقَهُ بنظرةٍ ثاقبةٍ وتساءل باسمًا: تُرى على أي حالٍ سيجيئُنِي؟

فقال صنعان بلباقةٍ ودهاءٍ: على الحال التي تتوقَّعُها تمامًا.

فضحك السلولي وقال بمرحٍ: أنت لبيبٌ يا صنعانُ، ولا تنسَ أننا أهلٌ!

خاف صنعانُ أن يباغتَه باستدعاء بطيشة مرجان .. قال لنفسه: «الآن .. أو تلاشتِ الفرصةُ إلى الأبد.» .. ويسَّرَ الرجلُ له الأمرَ وهو لا يدري، فمد ساقَيهِ وانطوى على ظهره طلبًا للراحة ثم أغمَض عينَيه .. كان صنعان يغوص في خيال الجريمة ويقذف بنفسه فيما تبقَّى له من مصير .. استلَّ خنجره .. سدَّده نحْوَ القلب .. طعن بقوَّةٍ مستمَدةٍ من التصميم واليأسِ والرغبةِ الأخيرةِ في النجاة .. انتفض الحاكمُ انتفاضةً عنيفةً كأنما يصارعُ قوَّةً مجهولةً .. تقلَّصَ وجهُه وحملَق بجنونٍ .. همَّ بضمِّ ساعدَيه كأنما ليقبضَ على الخِنجَر ولكنه لم يستطِعْ .. نطقَت عيناه المذعورتان بكلامٍ لم يُسمَع، ثم همَدَ إلى الأبد.

١٢

حملَق في الخنجر غائبِ النصلِ والدمِ المتدفقِ وهو يرتجفُ .. انتزع عينَيه بمشقةٍ ونظر نحو الباب المغلقِ بخوفٍ شديد .. تمزَّقَ الصمْت بنبض صُدغَيه .. ولأول مرة يلمح القناديلَ المعلَّقةَ في الأركان .. ولمَح أيضًا قائمًا خشبيًّا مزخرفًا بالأصداف عليه مصحفٌ كبير .. توسَّل بكل عذاباته إلى قمقام عِفْريتهِ وقَدَرِه .. وغَشِيَه الوجودُ الخفِيُّ، وسمع الصوتَ يقول بارتياحٍ: أحسنتَ.

ثم بمرحٍ: الآن تحرَّرَ قمقامُ من السحر الأسود.

قال صنعان: أنقِذْني؛ فقد كرهتُ المكان والمنظر.

فقال بهدوءٍ وعطف: إيماني يمنعُني من التدخُّل بعد أن ملكْتُ حريةَ إرادَتي ..

فقال بجزعٍ: لا أفقهُ معنًى لِمَا تقولُ!

– عيبُكَ يا صنعانُ أنَّكَ لا تفكِّر كإنسانٍ.

– ربَّاهُ! لا وقتَ للجدل، أتُزمِعُ تركي لشأني؟

– هذا تمامًا ما يقتضيه واجبي.

فصاح: يا للفظاعة! لقد خَدَعتَني ..

– بل منحتُكَ فرصةً للخلاص قلَّما تُتاحُ لحيٍّ.

– أَلَمْ تتدَخَّلْ في حياتي وتحملني على قتل هذا الرجل؟

– كنتُ راغبًا بحرارةٍ في التحرُّر من شرِّ السحرِ الأسودِ، فاخترتُكَ لإيمانك، رغم تأرجحكَ بين الخير والشر، قدَّرتُ أنَّك أوْلَى من غيرك بإنقاذ حيِّكَ ونفسِك.

فقال بيأس: لكنكَ لم توضِّحْ لي أفكارَك.

– وضَّحْتُها بالقَدْر الكافي لمن يفكِّر.

– مكرٌ غيرُ محمودٍ .. من قال إني مسئولٌ عن الحيِّ؟!

– إنَّها أمانةٌ عامَّة، لا يجوز أن يتبرَّأ منها إنسانٌ أمين، ولكنَّها منوطةٌ أوَّلًا بأمثالك ممن لا يَخْلُون من نوايا طيبة!

– أَلَمْ تُنقِذْني من ورطتي تحت سُلَّمِ الكُتَّاب؟

– بلى، عزَّ عليَّ أن تنتهيَ بسببٍ من تدخُّلي أسوأَ نهايةٍ لا أملَ فيها لتفكيرٍ أو توبةٍ، فارتأَيتُ أن أمنحَكَ فرصةً جديدة.

– وها قد قمتُ بما عاهدتُكَ عليه فوجبَ عليك إنقاذِي.

– إذن تكونُ مؤامرةً؛ دورُك فيها دورُ الآلةِ، وتقفُ الجدارة والتكفير والتوبة والخلاص.

فركَع على ركبتَيه قائلًا بتوسلٍ: ارحمني، وأنقذني.

– لا تبدِّدْ تضحيتَكَ في الهواء.

– إنَّه مصيرٌ أسودُ!

– فاعل الخير لا تُكرِبُه العواقبُ.

هتف بذُعرٍ: لا أريد أن أكون بطلًا.

فقال قمقام بأسًى: كن بطلًا يا صنعانُ، هذا قدَرُكَ!

ومضى الصوتُ يتلاشى وهو يقول: أستودعك اللهَ، وأستغفره لي ولك.

ندَّتْ عن صنعانَ صرخةٌ ترامت إلى بطيشة مرجان ورجالِ الحرس في الخارج.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤