الفصل الرابع والخمسون

الاجتهاد

يستخدم علماء الشريعة الإسلامية السمحاء لفظة «الاجتهاد» لمعنى آخر غير المعنى اللغوي الذي هو استفراغ الجهد في تحصيل أمر من الأمور، فالمجتهد، في حدود الشريعة واصطلاح الأصوليين، هو ضد المقلد. أو هو الذي يستنبط الأحكام بذهنه ومنطقه حين يجد أن التقيد بالتقليد لا يعود بالمصلحة المنشودة للأمة.

وما أحرانا نحن بأن نكون «مجتهدين» أيضًا، فلا نقلد الأدب أو العلم أو الحياة ذاتها وإنما «نجتهد» في استنباط الأساليب المثلى للمعيشة، فنلبس ونأكل ونسكن كما تلهمنا عقولنا، وكما يثبت لنا الاختبار والتجربة أن هذا الأسلوب أو ذاك هو خير ما يضمن لنا الراحة والصحة والسلام والطمأنينة، فليس علينا أن نقلد آباءنا وأسلافنا بلا روية ونعيش كما كانوا يعيشون، نلبس ملابسهم ونلزم أخلاقهم ونبني منازلنا على طرائقهم، وإنما علينا أن «نجتهد» ونستنبط ونصطنع أمثل الطرق التي تضمن لنا الفوز والراحة في هذه الدنيا، فتسير حياتنا في تجدد مستمر ولا تركد ذلك الركود الآسن الذي يرى الآن في الأمم الميتة.

والتجديد في الحياة يرمي إلى وضع العقل فوق النقل، وإلى العناية بالحاضر أكثر من الماضي، وإلى رعاية الخلف القادم أكثر من السلف البائد، وهو دليل على أن الأحياء ينبضون قوة ونشاطًا يمرحون من حرية الحياة في ميدان فسيح لا تحوطه الأسوار ولا تقيدهم الأغلال.

وما أحرانا بأن «نجتهد» في الأدب فنستنبط فيه الوسائل التي تلائم حياتنا الجديدة وتجعله صورة لهذه الحياة يعمل في نقدها وبسطها، والتوسع فيها، غير قانعين منه بالتقليد ولزوم الطرق القديمة.

أجل إننا في حاجة إلى «المجتهدين» في الأدب وإلى المجتهدين في الأخلاق، ولكن أساس ذلك كله يجب أن يكون «الاجتهاد» في الحياة، ولن يكون ذلك إلا بأن نعمل عقولنا في طرق العيش الشائعة فنصلح ونستبدل منها غيرها ولا نرضى بشيء مما خلفه لنا السلف إلا ما يتفق والمنطق والعقل والمصلحة.

إن العلوم لم تتقدم إلا عندما خرج العلماء من التقليد إلى العقل، أي من التقليد إلى الاجتهاد، فبعد أن كانت الجامعات تعاقب الطالب إذا أخطأ في شيء نص عليه أرسطوطاليس صارت تكافئه إذا استطاع أن يقع على غلط لهذا المعلم الأول، ومما يروى بهذه المناسبة أن طالبًا وجه نظر أستاذه عند بدء استعمال التلسكوب إلى أعلى أن على الشمس بقعًا، فكتب إليه الأستاذ يقول: «لا يمكن أن يكون على الشمس بقع؛ لأني قرأت كتاب أرسطوطاليس مرتين من أوله إلى آخره، وهو قد قال إنه لا بقع على الشمس، فنظف منظارك فإذا لم تكن البقع عليه فهي على عينيك.»

ولكن الطالب لم يقلد مثل أستاذه بل صدق عينيه، ونحن نعرف أن الطالب كان محقًّا وأرسطوطاليس مخطئًا.

وبمثل هذا الطالب تقدمت العلوم هذا الحد العظيم حتى بتنا أحيانًا نخشاها ونرى أننا لا نستطيع اللحاق بها؛ لأن سرعة تقدمها تفوق وتعدو حدود النظم الاجتماعية الراهنة التي مهما تطورت فإنها دون التقدم العلمي وأبطأ منه.

فنحن في حاجة إلى مثل هذا النظر في الأدب، حتى نعمل كما عمل هذا الطالب في اعتماده على العقل دون النقل، بحيث لا نخشى أن نقول إن ذلك الشاعر أو الكاتب كان مخطئًا، وأن ذلك الأسلوب البليغ في عرف القدماء هو في نظرنا معقد عويص بلا داع إلى تعقيد أو تعويص. كذلك نستطيع أن نجهر بأن تلك الأخلاق القديمة لم تعد توافقنا فنحن في حاجة إلى «الاجتهاد» فيها والخروج من التقليد.

وبعبارة أخرى يجب أن نتجدد في أخلاقنا وأدبنا وشرائعنا، وأن ننزل هذه الأشياء كلها منزلة العلم الذي لم يتقدم إلا بالخروج على السنن القديمة والتقاليد العتيقة.

وقد يخشى بعض الناس أن الإفراط في ترك التقاليد يؤدي إلى الفوضى، ولكنهم ينسون أن الإنسان بطبيعة الوسط الذي يعيش فيه محافظ يكره التبديل ويرى فيه ما يجهد ذهنه وأعصابه، فاللغة التي نتكلمها هي لغة ألوف السنين الماضية، وهي تطبعنا بالرغم منا بطابع السلف، وعاداتنا وأدياننا ومعظم أحوالنا المعيشية هي عادات الآباء التي لا نستطيع الخروج منها إلا قليلًا مهما اجتهدنا.

ولكن على هذا القليل يتوقف تقدم الناس ورقيهم وتفوقهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤