بِسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين

وبعد، فهذا الجزء الثالث وهو الأخير من «ضحى الإسلام»، بحثت فيه عن الفرق الدينية في العصر العباسي الأول، من معتزلة وشيعة ومرجئة وخوارج، وعرضت من كل فرقة لناحيتها الدينية، وناحيتها السياسية، وناحيتها الأدبية.

وقد رأيت أن من كتبوا في الفرق والملل والنحل سلكوا مسلكين — شأنهم في ذلك شأن المؤرخين — فمنهم من اكتفى بشرح وجهة النظر لكل فرقة، ووقف عند هذا الحد، لم ينقد ولم يحلل، ولم يتعرض لتأييد الرأي ولا الرد عليه، وترك ذلك للقارئ يُعمل فكره ويكوّن رأيه، ثم يقبله أو يرفضه، كما فعل الشهرستاني في كتابه «الملل والنحل» في أغلب الأحيان.

ومنهم من تعرّض لكل رأي وأبدى حجته، ونَقَده، وعارضه أو أيده، كما فعل ابن حزم في الملل والنحل.

ولقد ترددت في أي المسلكين أسلك، ثم لم ألبث إلا قليلًا حتى قطعت بتفضيل الطريقة الثانية على الأولى؛ لأنها أنفع للقارئ، وأصدق في أداء المؤلف للواجب، وأدل على شخصيته.

ولكني رأيت ابن حزم وأمثاله إذا عرضوا للرأي المخالف سفَّهوه، وأوسعوا قائله سبَّا وتعنيفًا، فلم أجارهم في شيء من ذلك، وأدليت برأيي فيه في لين وهوادة وألزمت نفسي — على قدر وسعي — أن أقف موقف القاضي العادل. أدقق النظر وأردّد الفكر في أقوال مؤيدي الرأي ومهاجميه، وأصغي لحجج الفريقين، وأحاول ما استطعت أن أتجرد من إلفي وعادتي، حتى إذا نضج الرأي وتبين لي الصواب أصدرت حكمي مؤيدًا بدليله في غير جرح ولا تسفيه، ثقة مني بأن قوة الحجة في معانيها الكامنة، لا في أشكالهاالظاهرة، وأن من طلب الحق ودعا إليه، علم أن العنف يدعو إلى العنف، وتسفيه الرأي بالسب يدعو صاحبه إلى الإصرار عليه، وأن خير طريق في الدعوة ما سنّه الله في القرآن الكريم: ادْعُ إِلىَ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ وادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميِمٌ.

ولقد لقيت في هذا الجزء من العناء ما لم ألقه في غيره من الأجزاء، لأن العقائد الدينية قد عملت فيها الأهواء أكثر مما عملت في غيرها من منحى الحياة؛ فتحرير المذهب كما يتصوره أصحابه في غاية من الصعوبة، والخطوط المرسومة في تحديده في كثير من الأحيان غامضة ملتوية. وحسبك مثلًا على هذا ما نراه في مذهب المعتزلة؛ فقد أبيدت كتبهم، وعدا خصومهم على آثارهم. فإذا أردنا معرفة آرائهم لم نرها محكية إلا في كتب أعدائهم، وهؤلاء في كثير من الأحيان لا يُدْلون بحججهم في قوة كالتي يدلي بها أصحابها، فهم يُضعفون الدليل ويقوّون الرد.

ثم آراء الفرق في كتب الفرق مهوّشة مبعثرة قل أن تربطها وحدة، وقل أن يعنى فيها بوضع الفروع بعد أصولها. فكنت إذا أحببت أن أترجم لعلم من أعلام الفرقة كالعلّاف والنَّظام، لم أر ذلك مجموعًا في موضع ولا مرتبًا في مكان، فأضطر إلى جمع رأي من هنا ورأي من هناك، فإذا تم لي ذلك حاولت أن أؤلف منها شكلًا منظمًا، فكنت أنجح حينًا وأخفق حينًا.

هذا إلى الفوضى هذه الكتب في عرض المذاهب، وغموض التعبير، ومزج القشور باللباب.

ففي سبيل الله ما لقيت من تحري الصواب وإيضاح الفكرة، وعرض الآراء عرضًا يوافق ذوق العصر.

وقد كنت وعدت القراء أن يكون لضحى الإسلام جزء رابع يشمل الحياة العقلية في الأندلس، ثم نبهني بعض المستشرقين في أن الخير تأجيل ذلك العصر الذي بعدالضحى حتى تغزر مادة الأندلس ويحسن عرضها، فرأيت الصواب فيما رأوا.

فأختم بهذا الجزء «ضحى الإسلام»، وإن كان في العمر فضل وفي الجهد بقية واليت الكلام في العصر الذي بعده، مستعينًا بالله، مستمنحًا توفيقه.

أحمد أمين
١٣ شعبان سنة ١٣٥٥
٢٩ أكتوبر سنة ١٩٣٦

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤