الفصل الحادي عشر

الثقافات الدينية

اليهودية والنصرانية والإسلام

بجانب هذه الثقافات المدنية — إن صح هذا التعبير — ثقافات أخرى روحية، تنشرها الأديان المختلفة، وأهمها الإسلام والنصرانية واليهودية.

اليهودية والنصرانية

يقول الأستاذ «مِتز»: «إن مما يميز المملكة الإسلامية عن أوروبا النصرانية في القرون الوسطى؛ أن الأولى يسكنها عدد كبير من معتنقي الأديان الأخرى غير الإسلام، وليست كذلك الثانية، وأن الكنائس والبِيع ظلت في المملكة الإسلامية، كأنها خارجة عن سلطان الحكومة، وكلها لا تكون جزءًا من المملكة، معتمدة في ذلك على العهود وما أكسبتهم من حقوق، وقضت الضرورة أن يعيش اليهود والنصارى بجانب المسلمين، فأعان ذلك على خلق جو من التسامح لا تعرفه أوروبا في القرون الوسطى. كان اليهودي أو النصراني حرًّا أن يدين بدينه، ولكنه إن أسلم ثم ارتَد عوقب بالقتل. وفي المملكة البيزنطية كان عقاب من أسلم القتل.»١

كانت الكنيسة تحرم على النصراني أن يتزوج غير نصرانية إلا إذا تنصرت، وكذلك النصرانية لا تتزوج إلا نصرانيًّا. أما الإسلام فقد حرم على المرأة المسلمة أن تتزوج غير مسلم، وأحل للرجل المسلم أن يتزوج كتابية؛ يهودية أو نصرانية، وإن بقيت على دينها لقوله تعالى الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتوا الْكَِتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ وَالْمُحصَناتُ مِنَ اْلمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا اْلكِتَابَ فكان كثير من المسلمين يتزوجون يهوديات أو نصرانيات، ومنهن من تسلم، ومنهن من تبقى على دينها، وكان هذا سببًا من أسباب اتصال المسلمين باليهود والنصارى.

وقد كان بين الحنفية والشافعية خلاف شديد في قتل المسلم بالكافر، فكان الحنفية يرون أن المسلم إذا قَتَلَ ذِميًّا قُتل به، وخالفهم في ذلك الشافعي. وكان بين الفريقين جدال وحِجاج، تراه مبسوطًا في كتب الفقه. وكان مما احتج به الحنفية: أن عبيد الله بن عمر بن الخطاب لما قُتل أبوه اتُّهم في الاشتراك في تدبير قتل «جَفيَنة» وكان نصرانيًّا، فذهب إليه عبيد الله وقتله، ولما علاه بالسيف صلب بين عينيه، فلما استخلف عثمان بن عفان دعا المهاجرين والأنصار. فقال: أشيروا علي في قتل هذا الرجل (يعني عبيد الله بن عمر)، فَتَق في الدين ما فتق. فاجتمع المهاجرون والأنصار فيه عَلى كلمة واحدة، يأمرونه بالشدة عليه، ويحثونه على قتله؛ فإشارة المهاجرين والأنصار دليل على أن المسلم يُقتل بالذمي، ولم يفعل عثمان ذلك؛ لأن عمرو بن العاص أشار عليه بألا يفعل؛ لأن الحادثة كانت قبل أن يتولى عثمان ويكون له على الناس سلطان،٢ … إلخ.

وقد وقع في أيام أبي يوسف القاضي؛ أن مسلمًا قتل كافرًا، فحكم على المسلم بالقَوَد، فقال أحد الشعراء:

يَا قاتِلَ المُسْلِم بالكافِرِ
جُرْتَ وما العادلُ كالجَائِرِ
يَا مَنْ ببغداد وأطْرافِها
مِنْ عُلماء الناس أو شاعِرِ
اسْتَرْجِعُوا وَابْكُوا علَى دينكم
واصْطِبروا فالأجْرُ للصَّابِرِ
جارَ عَلى الدَّينِ أبُو يُوسف
بَِقتلِهِ المؤمِنَ بالكافِرِ
وخاف الرشيد الفتنة؛ فأمر أبا يوسف أن يتدارك الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة، فطالب أبا يوسف أصحاب الدم ببينة على الذِّمة٣ وثبوتِها، فلم يأتوا فأسقط القود.٤

وكان الشافعي يرى أن القود لا بد فيه من تساوي القاتل والمقتول في الحرية والإسلام، فإن فضلَ القاتلُ المقتولَ بحرية أو إسلام، فقتل حر عبدًا، أو مسلم كافرًا فلا قَوَدَ عليه.

وكان الشافعي يرى أنه يصح أن يشترك أهل الذمة من يهود ونصارى في الحروب مع المسلمين (أي أن يُجَنَّدوا في الجيش الإسلامي) إذا رأى الإمام ذلك، واستدل بأن رسول الله استعان في غزاة خيبر بعدد من يهود بني قَيْنُقاع كانوا أشداء، واستعان في غزاة حُنَين بصَفْوان بن أمية وهو مشرك، فلا بأس أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين، إذا خرجوا طوعا، ويرضخ لهم ولا يسهم لهم.٥

ولسنا نتعرض هنا لعلاقة اليهود والنصارى بالحكومة الإسلامية من حيث الضرائب، وعلاقتهم برؤسائهم، وعلاقة الرؤساء بالخلفاء، ومدى استقلالهم، والمقارنة بين حال النصارى في المملكة الإسلامية، والمسلمين في الممالك النصرانية، وكيف كان اليهود والنصارى يتقاضون في الأصقاع الإسلامية، وعلاقتهم بالقضاة المسلمين، ونحو ذلك من الشئون، فهذا بالتاريخ السياسي أشبه، وإنما غرضنا هنا شرح ما كان لهم من أثر في الثقافة.

كان اليهود والنصارى منتشرين في المملكة الإسلامية، وكانوا عددًا كبيرًا؛ فقد ذكر بنيامين (أحد الرحالة اليهود الذين رحلوا سنة ١١٦٥م؛ أي نحو سنة ٥٦٠ هجرية) أن «عدد اليهود في المملكة الإسلامية غير العرب، كانوا نحو ثلاثمائة ألف»، وكانوا منتشرين على نهر دجلة والفرات، وفي جزيرة ابن عمر والموصل وعكبرة وواسط، وفي بغداد والحلة، والكوفة والبصرة، وفي كثير من بلاد فارس، في همذان وأصفهان وشيراز، وكانوا في غزنة وسمرقند، وكان في فارس بلدتان تسمى كل منهما «اليهودية»، إحداهما بجرجان، والأخرى بأصبهان. وكان ببغداد إذ ذاك نحو ألف يهودي، وكان فيها درب يسمى درب اليهود، نسب إليه قوم من المحدثين؛ منهم أبو محمد عبد الله بن عبيد الله بن يحيى اليهودي.٦ وفي أوائل القرن الثالث الهجري كان يجبى من الجزية من أهل بغداد مائة وثلاثون ألف درهم، وفي أوائل القرن الرابع كان يجبى منهم ستة عشر ألف دينار. والعددان يدلان على أن من كان ببغداد إذ ذاك من غير المسلمين ممن يدفع الجزية نحو خمسة عشر ألفا.٧ ويقول ابن حوقل: إن النصارى في مدينة الرها وتكريت أكثر عددًا.
وكان أغلب الماليين في الشام يهودًا، وأغلب أطباء القصور في بغداد نصارى، واشتهر اليهود باحترافهم حرفًا خاصة، كالصيرفة ودباغة الجلود والصباغة.٨ وقال الجاحظ: «إن النصارى اتخذوا البراذين الشّهرية، والخيل العتاق، واتخذوا الجوقات، وضربوا بالصوالجة، وتحدقوا المدبنى، ولبسوا الْمُلْحَم والمطبقة، واتخذوا الشاكرية، وتسموا بالحسن والحسين والعباس والفضل وعلي.»٩

على كل حال كان بين المسلمين كثير من أهل الأديان الأخرى، وخاصة اليهود والنصارى، وقد خالطهم المسلمون، بل اتخذوا منهم أصدقاء. قال الجاحظ: أنشدنا أبو صالح مسعود بن قِنديل الفزارِي في ناس خالطهم من اليهود:

وَجَدْنا في اليهود رجالَ صِدْقٍ
على ما كان من دِينٍ مُرِيبِ
لَعَمْرُك إنني وابْنَيْ غريض
لِمثْلُ الماءِ خالطه الحليبُ
خَلِيلانِ اكتسَبْتُهُما، وإني
لِخَلّة ماجِدٍ أبدًا كَسُوبُ

وقال أبو الطَّمحان الأسدي (وكان نديمًا لناس من بني الحداء، وكانوا نصارى فأحمد ندامتهم) فقال:

كأنْ لَمْ يَكُنْ في القَصْرِ مقَاتِلٍ
وَزَوْرَةَ ظِلٍّ نَاعِمٌ وَصَدِيقُ
وَلَمْ أرِد البَطْحَاءَ أمْزُجُ مَاءَهُ
بِخَمْرٍ منَ البَرُّوقَتَيْنِ عتِيقُ
مَعي كلُّ فَضْفاضِ الثِّيابِ كأنَّهُ
إذا مَا جَرَى فِيهِ المُدَامُ فَتيقُ
بَنُو الصّلب وَالحَدَّاء كلٌّ سَمَيْدع
لَهُ فِي العُرُوق الصَّالحات عُروقُ
وَإِني وَإنْ كَاُنوا نصَارَى أُحِبُّهُمْ
وَيَرْتَاحُ قَلْبِي نَحْوَهُمْ وَيَتُوقُ١٠

ويقول أبو نواس:

سَألتُ أخِي أبَا عيسَى
وجبريلٌ له عَقْلُ١١
فقلت: الرَّاحُ تُعجبني
فقال كثيرُها قتلُ
رأيتُ طبائعَ الإنسا
ن أربعةً هي الأصلُ
فأربعة لأربعة
لكل طبيعة رِطْلُ

وبعد، فقد كان لكل من اليهودية والنصرانية ثقافة، وقد تسرب إلى المسلمين شيء منها، فلنحاول بيان ذلك.

اليهودية

أهم منبع للثقافة اليهودية التوراة، وقد ذكرت في القرآن الكريم، ووصفت بأنها كتاب من كتب الله المنزلة إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ، وورد فيه أن عيسى أتى بعد مصدقًا لما في التوراة وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ فِيهِ هُدى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهْدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ. وقد نص القرآن على بعض أحكام وردتْ في التوراة وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسِ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّن بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ، وأشير في الأحاديث كذلك إلى التوراة، وذكر فيها بعض أحكامها.

من ذلك ما روى أبو داود عن ابن عمر، قال: أتى نَفَر من اليهود فدَعَوْا رسول الله إلى القَفّ، فأتاهم في بيت المِدراس، فقالوا: يا أبا قاسم، إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم، فوضعوا لرسول الله وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني بالتوراة فأتى بها، فنزع الوسادة من تحته، ووضع التوراة عليها، ثم قال: «آمنت بك وبمن أنزلك.» ثم قال: «ائتوني بأعلَمِكم.» فأُتي بفتى شاب، ثم ذكر قصة الرجم.١٢
وقد اختلفت أنظار المسلمين إلى التوراة على أقوال ثلاثة؛ فقال قوم إنها كلها أو أكثرها مبدلة مغيرة، ليست هي التوراة التي أنزلها الله على موسى، وتعرض هؤلاء لتناقضها، وتكذيب بعضها لبعض.١٣ وذهبت طائفة أخرى من أئمة الحديث والفقه والكلام إلى أن التبديل وقع في التأويل لا في التنزيل، وهذا مذهب البخاري، قال في صحيحه: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ يزيلون، وليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى، ولكنهم يتأولونه على غير تأويله، وهذا هو ما اختاره الرازي في تفسيره. ومن حجة هؤلاء أن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها، ولا يعلم عدد نسخِها إلا الله، ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ؛ بحيث لا يبقى في الأرض نسخة إلا مبدلة مغيرة، والتغيير على منهاج واحد وهذا ما يحيله العقل ويشهد ببطلانه. قالوا: وقد بين الله تعالى لنبيه عليه السلام محتجًّا على اليهود بها: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ … إلخ. وذهبت طائفة ثالثة إلى أنه قد زيد فيها، وغير ألفاظ يسيرة، ولكن أكثرها باقٍ على ما أنزل عليه، والتبديل في يسير منها جدًّا. وممن اختار هذا القول ابن تيمية في كتابه «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، ومثّل لذلك بما جاء فيها: «إن الله سبحانه وتعالى قال لإبراهيم عليه السلام: اذبح ولدك بكرك أو واحدك إسحاق.»، فإسحاق زيادة منهم في لفظ التوراة، لأدلة ذكروها.١٤

وكلمة التوراة يستعملها المسلمون كثيرًا للدلالة على كل الكتب المقدسة عند اليهود، فتشمل الزبور وغيره، كما يستعملها اليهود أنفسهم أحيانًا.

وكان لليهود بجانب ذلك سنن ونصائح وشروح، لم تنقل عن موسى عليه السلام كتابةً، وإنما تُدُوول نقلها شفاهًا، ونمت على تعاقب الأجيال، ثم دونت بعد، وهذا هو المسمى بالتَّلمود، والتلمود مختَلف فيه فيما بينهم، فمنهم من يقبله وهم طائفة الربانيين، ومنهم من لا يقبله وهم طائفة القرائين.

فأما التوراة بالمعنى الدقيق فخمسة أسفار؛ السفر الأول سفر التكوين أو الخَلْق، وقد ذكر فيه خلق العالم، وقصة آدم وحواء وأولادهما، ونوح والطوفان، وتبلبل الألسن، ثم قصة إبراهيم عليه السلام وابنه إسحاق وابنيه يعقوب وعيصو، ثم قصة يوسف.

والسفر الثاني يسمى الخروج؛ أي خروج اليهود من مصر، وفيه قصة موسى من ولادته وبعثته، وفرعون وخروج بني إسرائيل من مصر، وصعود موسى الجبل، وإيتاء الله له الألواح.

والسفر الثالث سفر اللاوِيين (أي الأحبار)، وفيه حكم القُربان والطهارة وما يجوز أكله، وغير ذلك من الفرائض والحدود.

والسفر الرابع سفر العدد، بعضه في الشرائع، وبعضه في أخبار موسى وبني إسرائيل في التيه وقصة البقرة.

والسفر الخامس سفر التثنية؛ أي إعادة الناموس.

وفي العهد القديم غير التوراة سفر يوشع وهو في استيلاء بني إسرائيل على فلسطين، ثم سفر القضاة (أي الحكام)، ثم أربعة أسفار الملوك الأول في أخبار شمويل أو سمويل وشاول (أي طالوت)، والثاني في ذكر داود، والثالث والرابع في سليمان بن داود ومن ملك بني إسرائيل من بعده.

وأما التلمود فمجموعة من المناقشات الدينية الأولى، مع شروح لرجال الدين من الأجيال المتعاقبة، فيه القوانين اليهودية من قانون عقوبات وقوانين مدنية، وبعبارة أخرى فيه تحديد العلاقات الدينية والدنيوية. يسجل أفكار اليهود في حياتهم وتقاليدهم في نحو ألف عام، ويمزج مزجًا تامًّا نواحي الشعب الخلقية بنواحيهم الدينية.

وقد جمع التلمود في نحو ثلاثة قرون، ابتدءوا بجمعه في أوائل القرن الرابع للميلاد، وتم في نحو نهاية القرن السادس. ويسمى القسم الأول منه المِشَنا “Micgna” وهو مجموعة؛ أحكام استندت على العهد القديم، وقد كتب باللغة العبرية الأولى، والقسم الثاني يسمى الجيمارة “Gemara” ويتضمن مباحثات لربانيهم — أي فقهائهم — وقد كتب باللغة الآرامية.

وحول هذه الكتب الدينية نسج كثير من الأدب اليهودي والقصص، والتاريخ والتشريع والأساطير.

وكان بين اليهودية والوثنية اليونانية، وبين اليهودية والمسيحية نزاع شديد في الشرق، وخاصة في الإسكندرية (أهم مراكز الثقافة اليونانية)، واضطر كثير من اليهود أن يتعلموا اللغة اليونانية ويتكلموا بها. وكان هذا النزاع في نوع الحياة الاجتماعية وفي الثقافة وفي الدين؛ فاضطر كثير من اليهود أن يبدلوا حياتهم وأنظارهم نحو الحياة اليونانية؛ كانوا يحرمون غشيان معاهد التمثيل التي تمثل فيها روايات يونانية، فنشأ جيل جديد لا يرى في ذلك من بأس، وهكذا. واضطروا أن يأخذوا بحظٍّ من الثقافة اليونانية، وواجهوا مشكلة جديدة، وهي إلى أي حد يقبلون تعاليم اليونان مع الاحتفاظ بأصول اليهودية؟ وكان من أشهر هؤلاء «فيلو» الذي حاول أن يوفق بين المعتقدات الدينية اليهودية، وبين العلم اليوناني، فكان من ذلك يهودية مفلسفة، لا هي يهودية صرفة ولا فلسفة صرفة. اقتبس «فيلو» من أفلاطون والرواقيين، واستعمل المصطلحات الفلسفية، ولكنه استخدم ذلك كله لإحياء العاطفة الدينية، وتذليل الصعاب التي تواجهها اليهودية، وقد انتفعت الكنيسة النصرانية بعد بموقف اليهود إزاء الفلسفة اليهودية؛ لأنهم واجهوا ما واجه اليهود قبلهم.١٥

وعلى الجملة، فقد كان لليهود ثقافة دينية وأدبية وتاريخية وقانونية، مزجت بعد بالثقافة اليونانية.

وقديمًا تسربت الثقافة اليهودية إلى من جاورهم من العرب؛ جاء في الحديث عن ابن عباس: «كان هذا الحي من الأنصار (وهم أهل وثن) مع هذا الحي من اليهود (وهم أهل كتاب)، فكانوا يرون لهم فضلًا عليهم في العلم، وكانوا يقتدون بكثير من فعلهم.»١٦ وكان ذلك قبيل الإسلام كما تدل عليه تتمة الحديث.
وكان بعض المسلمين في العصور الأولى يطلعون على الكتب الأخرى المنزلة ويتلونها، روى ابن سعد في الطبقات أن أبا الجلد واسمه جيلان بن فروة كان يقرأ الكتب، وروي عن ميمونة بنت أبي الجلد قالت: كان أبي يقرأ القرآن في كل سبعة أيام، ويختم التوراة في ستة، يقرؤها نظرًا، فإذا كان يوم يختمها حُشِدَ لذلك ناس، وكان يقول: كان يقال تنزل عند ختمها الرحمة.١٧ وفي الحديث عن أبي هريرة قال: «كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبِرانية ويفسرونها لأهل الإسلام بالعربية، فقال رسول الله : «لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذِّبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إلينا، وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد.»١٨ ويروون عن وهب بن منبه انه كان يقول: «لقد قرأت اثنين وتسعين كتابًا، كلها أُنزلت من السماء، اثنان وسبعون منها في الكنائس، وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا قليل.»١٩ تسربت هذه الثقافة اليهودية إلى المسلمين من طرق أهمها: من دخل في الإسلام من اليهود، وخاصة مسلمة اليمن؛ ككعب الأحبار، ووهب بن منبه وأمثالهما، وقد دخل في الإسلام من اليهود كثيرون، كان منهم بعض الصحابة وبعض التابعين، وظلوا يتتابعون إلى عصرنا الذي نؤرخه، وكان منهم محدثون ومنهم قصاص، ومنهم قراء، ومنهم أخباريون، وأشهر من عرفنا في عصرنا هذا ممن أصله يهودي: أبا عبيدة معمر بن المثنى.

والآن نعرض أنواع المعارف التي تأثرت باليهود:

فأول ذلك تفسير القرآن؛ ذلك أن القرآن الكريم والتوراة يتفقان — كما رأيت — في إيراد بعض المسائل، وخاصة في قصص الأنبياء، ولكن للقرآن منحى يخالف منحى التوراة؛ إنه يقتصر على مواضع العِظة، ولا يتعرض لتفصيل جزئيات المسائل، فهو لا يذكر — غالبًا — تاريخ الوقائع، ولا أسماء البلدان التي حصلت فيها، ولا أسماء الأشخاص الذين جرت على يدهم بعض الحوادث، ولا يدخل في تفاصيل الجزئيات، إنما يتخير ما يمس جوهر الموضوع وموضع العبرة.

لنأخذ لذلك مثلا قصة آدم؛ فقد وردت في القرآن الكريم في مواضع أطولها ما ورد في سورة البقرة منها وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَـٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.

فترى من هذا أن القرآن لم يتعرض لمكان الجنة، ولا لنوع الشجرة التي نهى آدم عن الأكل منها، ولا بين الحيوان الذي تقمصه الشيطان ليزلهما، ولا ما كان من تفصيل الحوار بين الله تعالى وآدم، ولا للبقعة التي طرد إليها آدم بعد خروجه من الجنة … إلخ. ولكن التوراة تعرضت لكل ذلك وأكثر منه، فأبانت أن الجنة في عدن شرقًا، وأن الشجرة التي نُهِيا عنها كانت في وسط الجنة، وأنها شجرة الحياة، وأنها شجرة معرفة الخير والشر، وأن الذي خاطب حواء هو الحية، وذكرت ما انتقم الله به من الحية التي أغوتهما بأن جعلها تسعى على بطنها وتأكل التراب، وانتقم من حواء بتعبها هي ونسلها فيحبلها … إلخ، فجاء المفسرون للقرآن ينقلون عن مُسْلِمَة اليهود ما جاء في كتبهم، ويضعونه شروحًا، فيحكي الطبري مثلًا عن وهب بن منبه أن هذه الشجرة كان لها ثَمر تأكله الملائكة لخلدهم، فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكانت للحية أربع قوائم كأنها بختية من أحسن دابة خلقها الله، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته … إلخ، فلما أكلا قال الله لحواء: يا حواء، أنت التي غررت عبدي فإنك لا تحملين حملًا إلا حملته كرهًا فإذا أردتِ أن تضعي ما في بطنك أشرفتِ على الموت مرارًا، وقال للحية: أنت الذي دخل الملعون في جوفك حتى غر عبدي، ملعونة أنت لعنة تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب … إلخ. وروي عن ابن عباس نحو هذه القصة.٢٠ ونقرأ تفسير الطبري على هذه الآيات فيتجلى لك بوضوح أنهم أخذوا ما في التوراة وشروحها، والأخبار التي رويت حولها، ووضعوها تفسيرًا لآيات القرآن الكريم. وهم يروون ذلك عن وهب بن منبه تارة، وعن إسرائيل عن أسباط عن السدي مرة أخرى. وهكذا فعلوا في كل ما ورد في القرآن من قِصص وردت في التوراة. ولم يكن كل هؤلاء اليهود علماء باليهودية مدقِّقين، بل كان منهم عوام يعرفون كما يقول ابن خلدون ما تعرفه العامة من أهل الكتاب، وتساهل المفسرون في مثل ذلك، وملئوا كتب التفسير بهذه المنقولات.٢١ وما زالت هذه الإسرائيليات تكثر وتنمو، حتى امتلأت بها الكتب؛ أمثال قصص الأنبياء للثعلبي.

وعني المسلمون بنقل تاريخ بني إسرائيل وأنبيائهم كما فعل الطبري في تاريخه، وكما فعل ابن قتيبة في كتابه المعارف. وقد أثبت العلم أن كثيرًا مما نُقِلَ من تاريخ بني إسرائيل غير صحيح؛ مما يدل على أن الروايات التي نقلت كان كثير منها ينقل عن العوام وأشابههم. ونجد ابن قتيبة يقارن بين ما يرويه وهب بن منبه، وبين ما في التوراة، ويبين أحيانًا ما بينهما من خلاف.

وكان لليهود أثر غير قليل في بعض المذاهب الإسلامية، فابن الأثير يروي عند الكلام على أحمد بن أبي دواد: «أنه كان داعية إلى القول بخلق القرآن، وغيره من مذاهب المعتزلة، وأخذ ذلك عن بشر المريسي، وأخذ بشر عن الجهم بن صفوان، وأخذه الجهم عن الجعدِ بن دِرهم، وأخذه الجعد عن أبان بن سمعان، وأخذه أبان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم وختنه، وأخذه طالوت عن ختنه، لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي ، وكان لبيد يقول بخلق التوراة، وأول من صنف في ذلك طالوت، وكان زنديقًا فأفشى الزندقة.»٢٢ وروى صاحب العقد الفريد عن الشعبي أنه قال لمالك بن معاوية: «أحذرك الأهواء المضلة، وشره الرافضة، فإنها يهود هذه الأمة، يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النصرانية. ولم يدخلوا في الإسلام رغبة ولا رهبة من الله، ولكن مقتًا بأهل الإسلام وبغيًا عليهم، وقد حرقهم علي بن أبي طالب … وذلك أن محبة الرافضة محبة اليهود. قالت اليهود لا يكون الملك إلا في آل داود، وقالت الرافضة لا يكون الملك إلا في آل علي بن أبي طالب، وقالت اليهود لا يكون جهاد في سبيل الله حتى يخرج المسيح المنتظر وينادي منادٍ من السماء، وقالت الرافضة: لا جهاد في سبيل الله حتى يخرج المهدي وينزل بسبب من السماء.
واليهود يؤخرون صلاة المغرب حتى تشتبك النجوم، وكذلك الرافضة، واليهود لا ترى الطلاق الثلاث شيئًا، وكذا الرافضة. واليهود لا ترى على النساء عدة، وكذا الرافضة، واليهود تستحل دم كل مسلم، وكذلك الرافضة، واليهود حرفوا التوراة، وكذلك الرافضة حرفت القرآن، واليهود تنتقص جبريل وتقول هو عدونا من الملائكة، وكذلك الرافضة تقول غلط جبريل في الوحي إلى محمد يترك علي بن أبي طالب، واليهود لا تأكل لحم الجزور وكذلك. الرافضة …» إلخ.٢٣

واجه اليهود كثيرًا من المسائل، وبحثوا عنها، واختلفوا فيها؛ فقد بحثوا في النسخ، وقالوا إن الشريعة لا تكون إلا واحدة، وقد بدأت بموسى وتمت به، فلا يجوز النسخ لأن النسخ في الأوامر بداء ولا يجوز البداء على الله.

وتكلموا في التشبيه؛ لأنهم وجدوا التوراة مملوءة بألفاظ تشعر بالتشبيه مثل الصورة والمشافهة، والتكلم جهرًا، والنزول على طور سيناء، والاستواء على العرش، وجواز الرؤية.

وتعرضوا للرجعة (أي رجوع بعض الأفراد إلى الحياة بعد الموت)، وجاءهم ذلك من أن عزيرًا أماته الله مائة عام ثم بعثه. وقالوا إنه مات وسيرجع، وقال بعضهم غاب وسيرجع.٢٤
وهذه الأقوال والخلافات كلها تسربت إلى المسلمين عمن أسلم من اليهود، فرأينا المسلمين يبحثون في جواز النسخ في القرآن، كما بحث اليهود في نسخ التوراة. ويذهب جمهور المسلمين إلى جواز نسخ الحكم دون النص، وإلى أن ذلك وقع فعلًا، ويخالف في وقوعه أبو مسلم الأصفهاني. ونرى المسلمين في كتب أصول الفقه (عند الكلام على النسخ) يناقشون اليهود في رأيهم، يجادلونهم ويردون عليهم.٢٥ مما يؤيد وجهة نظرنا في أن اليهود هم السبب في إثارة هذه المسألة، ورأينا بعض الشيعة يرى البداء الذي أنكره اليهود. وأقدم من قال به المختار بن عبيد الذي كان يدعو لمحمد بن الحنفية. ويقول الشهرستاني: «إنما صار المختار إلى البداء؛ لأنه كان يدعي علم ما يحدث من الأحوال إما بِوحي يوحى إليه، وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وعد أصحابه بكون شيء وحدوث حادثة فإن وافق كونُه قولَه جعله دليلًا على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال قد بدا لربكم، وكان لا يفرق بين النسخ والبداء فإذا جاز النسخ في الأحكام جاز البداء في الأخبار.»٢٦ وقد اعتنق كثير من الشيعة مذهب البداء وطبقوه في كثير مسائلهم التاريخية، وقال أحد أئمتهم: «لا يعبد الله بأحسن من القول بالبداء.» لأنه يفتح باب التوبة في طلب العفو من الله، وكان اليهود أقوى المعارضين في البداء.٢٧
كذلك انتقل إلى المسلمين ما دار بين اليهود في التشبيه؛ فقد وضعت للبحث الآيات القرآنية التي تُشعر بذلك، مثل يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْالرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىوَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّك ذُو الْجَلالِ والإِكْرَامِ … إلخ. وما ورد في الحديث كقوله: «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن.» وانقسم المسلمون فيها أقسامًا؛ فقال قوم من السلف نؤمن بذلك ولا تتعرض للتأويل بعد أن نعلم قطعًا أن الله لا يشبه شيئًا من المخلوقات، وذهب جماعة من غلاة الشيعة وجماعة من أصحاب الحديث الحشوية إلى التشبيه، وقالوا إنه يجوز عليه الانتقال والنزول والصعود والاستقرار … إلخ. فحذوا في ذلك حذو اليهود في اختلافهم. ويقول الشهرستاني في الكلام على المشبهة: إنهم أجروا الأحاديث الواردة في ذلك على ما يتعارف في صفات الأجسام، وزادوا في الأخبار أكاذيب وضعوها، ونسبوها إلى النبي (عليه السلام) وأكثرها مقتبس، من اليهود، فإن التشبيه فيهم طباع حتى قالوا في الله تعالى اشتكت عيناه فعادته الملائكة، وبكى على طوفان نوح حتى رمِدت عيناه، وإن العرش ليئِط من تحته كأطِيطِ الرحل الجديد. وروى المشبهة عن النبي أنه قال: «لقيني ربي فصافحني وكافحني، ووضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله …» إلخ.٢٨ ويقول في موضع آخر: «ولقد كان الشبيه صرفًا خالصًا في اليهود لا في كلهم، بل في القرائين منهم؛ إذ وجدوا في التوراة ألفاظًا كثيرة تدل على ذلك.»٢٩

وقال الشيعة في الرجعة على نحو ما قال اليهود؛ قد كان عند اليهود أن النبي «إلياس» صعِد إلى السماء، وسيعود فيعيد الدين والقانون، فقال ابن سبأ اليهودي (كما حكى ابن حزم) لما قتل علي: «لو أتيتمونا بدماغه ألف مرة ما صدقنا موته، ولا يموت حتى يملأ الأرض عدلًا كما ملئت جورا». ونمت هذه الفكرة عند الشيعة؛ فقالوا كذلك في بعض الأئمة الذين اختفوا، ثم قالوا كذلك في المهدي المنتظر.

فترى من هذا أن كثيرًا من المسائل الكلامية وغيرها، كان منبعها اليهود، وأنها قيلت على مثال ما قالوا. وحق قول رسول الله: «لتتبعن سَنن من كان قبلكم شبرًا بشبر وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم. قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال فمن!»

وكان بعض المتكلمين في العقائد من أصل يهودي، كبشر المريسي، وله آراء كثيرة انفرد بها، وكرهه الناس من أجلها حتى كادوا يقتلونه، وكان من أشهر القائلين بخلق القرآن.

وروى ابن قتيبة: «أن هارون الأعور بن موسى أحد القراء كان يهوديًّا ثم أسلم، قال الأصمعي: قال هارون: كنت أقرأ إيذام بالعبرانية يعني آدم.»٣٠ ودخلت كتب الأدب نصائح يهودية تروى عن أنبيائهم وصلحائهم، كالذي روي أن شِعياء قال لبني إسرائيل: «إن الدابة تزداد على كثرة الرياضة لينًا، وقلوبكم لا تزداد على كثرة الموعظة إلا قسوة، إن الجسد إذا صَلح كَفاه القليل من الطعام، وإن القلب إذا صلح كفاه قليل من الحكمة! كم من سراج أطفأته الريح، وكم من عابد أفسده العجب! يا بني إسرائيل اسمعوا قولي، فإن قائل الحكمة وسامعها شريكان، وأولاهما بها من حققها بعمله.»٣١

وقد ذهب بعض الباحثين (كالأستاذ شوفان) إلى أن بعض قصص ألف ليلة وليلة من أصل يهودي.

وعلى كل حال، فقد كانت هناك ثقافة يهودية، بعضها صحيح علميًّا وبعضها غير صحيح. بعضها أُخِذَ عن أهل العلم بالكتاب، وبعضها أخذ عن عوام اليهود، وهذا وذاك نفذ منه إلى المسلمين شيء غير قليل، وتجادل اليهود والمسلمون كل يدعو إلى دينه ويقيم الحجة على صحته، وقد حكت لنا الكتب الكثير من هذا الجدل، من أقدمها ما روي عن أوس من بني قريظة؛ فقد أسلمت امرأته ودعته أن يسلم فأبى وقال:

دَعَتْني إلى الإسلام يومَ لَقِيتها
فقلتُ لها لا بل تعالي تهَوّدي
فنحنُ عَلى توراة موسى ودينِه
ونِعْم لَعمْري الدينُ دينُ محمَّد
كلانا يرى أن الرًّشادة دينه
وَمن يُهْدَ أبواب المَرَاشد يَرْشَدِ
وكالذي حكى الصَّفدي في «الغيث» من مناقشة بين يهودي ومسلم يقول بالجبر.٣٢ كل هذه المناقشات كانت تضطر كل جانب أن يكون على علم بدين مناظِرِه، يستمد منه حجته، ويدفع به حجة خصمه، فكان ذلك من أسباب انتشار الثقافتين.

النصرانية

كذلك ورد في القرآن الكريم آيات تشير إلى الإنجيل، وتعده كتابًا من كتب الله السماوية ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الإِنْجِيلَإِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِْنجِيلَوَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِْنجِيلِ بِمَا أَنْزلَ اللهُ فِيهِ … إلخ. وكان موقف المسلمين إزاء الإنجيل واختلافهم في صحته وتحريفه كاختلافهم في التوراة، بل ذهب ابن حزم وابن َتيمِية، وغيرهما في عدم الاعتراف بالإنجيل الذي بين أيدينا إلى أكثر مما ذهبوا إليه في التوراة.٣٣

على كل حال كان للنصرانية ثقافة دينية أهمها الإنجيل، وما أحاط به من شروح، وما زاد عليه من قصص وأخبار. وقد تسرب ذلك كله إلى المسلمين من طرق؛ أهمها نصارى العرب. وقد كانت النصرانية قد انتشرت بين بعض قبائلهم، ولا سيما في قبيلة تغلب ونجران، وكذلك من طريق من أسَلم من النصارى. ونلمس هذا الأثر في كثير من النواحي، فأول ذلك تفسير القرآن.

ذلك أن القرآن الكريم اشتمل على مواضع وردت في الإنجيل، كقصة عيسى عليه السلام، وأسلوب القرآن — كما ذكرنا — أسلوب موجز، يقتصر على موضع العظة، فجاء المفسرون ينقلون عن مسلمة اليهود والنصارى شروحًا لهذه الآيات، إن شئت فاقرأ تفسير سورة مريم في الطبري تجده ينقل شروحًا كثيرة من الإنجيل وتفسيراته، وما وضع حوله، ينقل ذلك عن وهب بن منبه وعن أسباط وعن ابن جريج، وعن زكريا بن يحيى بن زائدة. وانظر كذلك تفسيره لقوله تعالى في سورة آل عمران في تعداد معجزات عيسى عليه السلام: وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مَّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ … الآية، فيأتي ابن جريج فيفسر الطير بالخفاش، ويروي الطبري عن ابن حميد عن سلمة عن ابن إسحاق قصة في كيفية ذلك إلى آخره.٣٤ وتضخم ذلك بعد حتى رأينا القصص الطويلة عن زكريا ويحيى بن زكريا، ومريم وعيسى عليهم السلام والحواريين، وحديث المائدة في كتاب قصص الأنبياء للثعلبي،٣٥ وأمثاله.

كذلك أدخل مسلمة النصارى أقوالًا من الإنجيل دست على أنها أحاديث لرسول الله .

وقد مثل الأستاذ جولدزيهير لِما دخل عن النصرانية في الحديث بحديث: «ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شِماله ما تنفقُ يمينه.» وحديث قال لنا رسول الله: «إنكم سترون بعدي أثَرةً، وأمورًا تنكرونها. قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: «أدوا إليهم حقهم، وسلوا الله حقكم.» فقد أخذ مما ورد في إنجيل متى: «أعطوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله»، وكذلك الإمعان في تفضيل الفقراء على الأغنياء، فإن هذا نظر نصراني. وقد ورد في الحديث: «يدخل فقراءُ أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام.» ومثل حديث: «كونوا بلهًا كالحمام.» فقد ورد مثله في إنجيل متى: «ها أنا أرسلكم في وسط ذئاب، فكونوا حكماء كالحيات، وبسطاء كالحمام.» وكذلك حديث أبي داود عن أبي الدرداء، قال سمعت رسول الله يقول: «من اشتكى منكم شيئًا أو اشتكاه أخ له فليقل: ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض، كما رحمتك في الأرض، اغفر لنا حوبنا وخطايانا أنت رب الطيبين، أنزِل رحمة من رحمتك، وشفاء من شفائك، على هذا الوجع، فيبرؤ.» فإنه دعاء نصراني مشهور.

ونحن مع موافقتنا للأستاذ جولدزيهير في أن بعض الأقوال النصرانية دخلت في الحديث، ونسبت إلى رسول الله لا نوافقه على كل ما قال، ولا على نسبة كل الأحاديث التي ذكرها إلى النصرانية، فمثلا نظرة تبجيل الفقر وتعظيمه ليست نصرانية بحتة، فكل الديانات الإلهية (من يهودية ونصرانية وإسلام) ترى هذا النظر، وطبيعي لها أن تراه، فمن أركان الأديان اتخاذ المقياس العملَ الصالح لا المال، وهي تهاجم ما ألِف الناس من تقديرهم الإنسان بغناه، فالدين يرى أن العمل الصالح له قيمته الذاتية، سواء أتى من غني أو فقير، بل طبيعي أن يكون بعض الأعمال من الفقير أفضلَ كالأعمال الخيرية المالية؛ إذ تضحية الفقير أعظم، فعدلٌ أن يكون ثوابها أعظم، ومحمد رسول الله عف عن الغنى ولم يشأ أن يكون غنيًّا، وكان في إمكانه أن يكونه، ووردت في القرآن نفِسه آيات تمجد الفقراء الصالحين: لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وأَمْوَالِهِمْلِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ فاتحاد الإسلام والنصرانية في مدح الفقر لا يدل على أخذ الإسلام ذلك من النصرانية، قالوا: إن العربي كان يفضل الغِنى على الفقر، فقد قال عروةُ بن الوردِ:

دَعِينِي لِلْغِنَى أسْعَى فَإنِّي
رَأيْتُ النَّاسَ شَرُّهُم الفَقِير

ولكن قد قال عربي غيره، وهو قَيس بن الحطِيمِ:

غَنِيُّ النَّفْسِ ماعَمِرَتْ غَنِيٌّ
وَفَقْرُ النَّفْسِ مَا عَمِرَتْ شَقَاءُ
وليس في هذا ولا ذاك دليل على قولهم، فكلامنا في الإسلام، والإسلام حكمه ما بيّّنا فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهْما أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ولكن من غير شك رويت في النصرانية واليهودية أخبار كثيرة، وقصص عن الفقراء وفضلهم، أدخلها المسلمون في كتبهم، كالذي رُوِيَ في الإحياء «أن المسيح (صلى الله عليه وسلم) مر في سياحته برجل نائم ملتف في عباءة، فأيقظه، وقال: يا نائم قم فاذكر الله تعالى، فقال: ما تريد مني؟ إني قد تركت الدنيا لأهلها. فقال له: فنم إذن». ومر موسى (عليه السلام) برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبِنة، ووجهه ولحيته في التراب، وهو متزر بعباءة، فقال: يارب عبدك هذا في الدنيا ضائع! فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى أما علمت أني إذا نظرت إلى عبد بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلها، وقال المسيح (صلى الله عليه وسلم): بشدةٍ يدخل الغني الجنة، وقال موسى (عليه السلام) «يارب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك؟ فقال كل فقير فقير.»٣٦ ويظهر لنا أن هذه الأخبار وأمثالها لونت حياة المسلمين بلون خاص؛ فقد كان الإسلام في أصله يدعو إلى العمل في الحياة، ولا يحب الرهبانية. ويقدر العمل ممن عمل، غنيًّا كان أو فقيرًا. ثم رأينا الأخبار التي وردت بعد من مثل ما حكي في الإحياء تحث على نزعة جديدة، هي الهرب من الغنى، وحب العبادة، وإن تَرك صاحبها العمل في الدنيا، وهي نزعة أشبه ما تكون بالرهبانية لم نعرفها كثيرًا في الأيام الأولى من تاريخ الإسلام.

روي أن رفقة من الأشعريين كانوا في سَفر، فلما قدموا قالوا: ما رأينا يا رسول الله بعدك أفضل من فلان كان يصوم النهار، فإذا نزلنا قام من الليل حتى نرتحل. قال: فمن كان يمهن له ويكفله؟ قالا: كلنا، قال: كلّكم أفضل منه.

وفي التاريخ عني مؤرخو المسلمين بتاريخ النصارى، وكان من أولهم في ذلك اليعقوبي؛ فقد ذكر في تاريخه مقتبسات من الإنجيل. وفي تاريخ الطبري طرف من تاريخ النصارى، ففيه خبر طائفة من الحواريين وخبر جرجيس وهو كما يقول الطبري: عبد صالح من أهلِ فلسطين، أدرك بقايا من حواريي عيسى، وأطال في قصته. وفيه خبر أصحاب الكهف … إلخ، وكذلك فعل المسعودي. وقد خلطوا فيما كتبوه بين الأخبار الصحيحة، والأقاصيص المتداولة على الألسنة، كما فعلوا فيما نقلوا من تاريخ اليهود.

وغير هذا الذي ذكرنا كانت المناقشات الدينية بين المسلمين والنصارى؛ فقد فتح المسلمون البلاد كالشام والعراق، وكانت مملوءة بالنصارى، فلما هدأت الحرب بالسيف بدأت الخصومة باللسان. كان المسلمون يدعون إلى الإسلام، فيضطرهم ذلك إلى ذكر الحجج والبراهين على صحة هذا الدين، فكان رؤساء النصرانية يقابلون الحجج بحجج، فنشأ من هذا جدل كثير، وكثر ذلك في الدولة الأموية. وكان أكثر ما يكون في الشام؛ إذ دمشق عاصمة الخلافة، وفي الشام كثير من النصارى؛ لأنها كانت في يد الرومان النصارى. ولأن قصور الخلفاء الأمويين في دمشق كان فيها نصارى يتولون مناصب كبيرة، من ذلك ما حكي لنا عن يحيى الدمشقي؛ فقد كان نصرانيًّا شديد التمسك بنصرانيته، وعمل هو وأبوه في قصر عبد الملك بن مروان، وألف يحيى كتابًا للنصارى يدفع به دعوة المسلمين؛ من أمثال ما جاء فيه: «إذا قال لك العربي: ما تقول في المسيح؟ فقل له: إنه كلمة الله، ثم ليسأل النصراني المسلم: بم سُمِّيَ المسيح في القرآن؟ وليرفض أن يتكلم بشيء حتى يجيبه المسلم؛ فإنه سيضطر إلى أن يقول: «كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه.» فإن أجاب بذلك فاسأله: هل كلمة الله وروحه مخلوقة أو غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة فليرد عليه بأن الله إذن كان ولم تكن له كلمة ولا روح، قال يحيى: فإن قلت ذلك فستفحم العربي؛ لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين. والمسلمون ردوا على هذا الاعتراض بأن المراد بالكلمة أنه وجد بكلمة الله وأمره، من غير واسطة قال: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثلِ آدَمَ خَلَقَه مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وأما الروح فتستعمل بمعنى الرحمة، كقوله تعالى وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ، وأن عيسى لما لم يتكون من نطفة الأب، وإنما تكون من نفخة الملَك وصف بأنه روح، وقد سمى الله جبريل روحًا، ولم يقل أحد فيه ما قالوا في عيسى، وقال الله في آدم: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي كما قال في عيسى، وسمى القرآن روحًا؛ فقال وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا … إلخ. قالوا: وحينئذ لا يَرد اعتراض يحيى الدمشقي؛ لأنه اعتراض وارد على فهم ظاهر لفظ «كلمة» و«روح». على كل حال كان هناك جدال بين المسلمين والنصارى، وكان ذلك يضطر كلًّا لقراءة كتب الآخر، يستعين بها على تأليف حججه.

وفي الفِرق الإسلامية نجد ظلًّا للتعاليم النصرانية؛ فقد تجادلت الكنائس النصرانية مثلًا في خلود العذاب، وذهب آباء الكنيسة اليونانية إلى إنكار أبدية عذاب النار،٣٧ فرأينا جهم بن صْفوان يقول: إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلهما.٣٨ ويذهب الأستاذ فون كريمر «إلى أن فرقة المعتزلة نشأت من النصرانية؛ لأن آباء الكنائس كانوا يتجادلون في حرية الإرادة، وأن الإنسان مجبور ومختار. وبعبارة أخرى في مسألة القدر، كما كانوا يتجادلون في صفات الله. وقد تسربت هذه العقائد إلى المعتزلة من طريق النصارى بعد فتح المسلمين للشام. ومن أشهر من احتك بالمسلمين في ذلك العصر الأموي يحيى الدمشقي، وثيودور أبو كارا Abucara وقد تكلم يحيى في أن الله مصدر الخير، وقال: إن الخير يصدر من الله كما يصدر الضوء من الشمس، فتكلم المعتزلة الأولون في القدر وفي صفات الله أخذًا عن النصارى.
ولكني لا أرى هذا الرأي، بل أرى أن مسألة القدر صدرت عن المسلمين أنفسهم، وكان سبب ذلك أن القرآن الكريم وردت فيه آيات ظاهرها الجبر مثل قوله تعالى: وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُّغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِليْهِ تُرْجَعُونَأفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أفَأَنْتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِوَلَقدْ بعْثَنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رسولًا أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِْنهُم مَّنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُوَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى وبجانب هذا آيات ظاهرة الاختيار، وأن الإنسان مسئول عن عمله؛ مثل: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عن سَبِيلِهِفَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومن شَاءَ فَلْيَكْفُرْوَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَىٰ نَفْسِهِ ۚ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، ووردت أحاديث كثيرة تتعرض للقدر، وكان ذلك قبل فتح المسلمين للشام والعراق، مثل ما روي عن جابر قال: قال رسول الله : «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، وحتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه.» عن علي قال: «كنا في جنازة ببقيع الغرقد، فأتانا رسول الله وبيده مِخصرة فجعل ينكت بها الأرض، ثم قال: «ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعده من النار ومقعده من الجنة.» فقالوا: يا رسول الله أفلا نتَّكل على كتابنا؟ فقال: «اعملوا فكلٌّ ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاء فسيصير إلى عمل الشقاء.» ثم قرأ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتّقَى وَصَّدقَ بِاْلحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى٣٩ وروي أن عليًّا لما انصرف من صفِّين قام إليه شيخ، فقال أخبرنا عن سيرنا إلى الشام أكان بقضاء وقدر؟» … إلخ، إلى كثير من أمثال ذلك.

فنرى من هذا أن فكرة القضاء والقدر كانت عند المسلمين قديمًا، ويظهر أنها فكرة تحدث حول كل دين تقريبًا، فقد كانت في اليهودية والنصرانية والمجوسية، فلم لمّا ظهرت في الإسلام، وكان شأنها شأن الديانات الأخرى؛ عدت نصرانية الأصل؟ بل تاريخ المعتزلة يدلنا على أن جدالهم مع مجوس الفرس كان أكثر من جدالهم مع اليهود والنصارى، وأن كثيرًا من أصول مذهبهم وضع للرد على الفرس لا على النصارى، وأكبر ردهم كان على الجهمية أصحاب جهم بن صفوان الخراساني الأصل، لهذا نرى أن المعتزلة كانت نشأتهم الأولى إسلامية بحتة، وإن تأثروا بغيرهم من أهل الديانات الأخرى؛ فمن ناحية إن هذه الديانات كانت تقترح على المعتزلة موضع النزال، فإذا قال المجوسي الذي دخل الإسلام بالتجسيم، أو قال بالجبر نازلهما المعتزلة، ولكنهم يستندون في حججهم على الإسلام والعقل، أما بعد عصرهم الأول فهذا موضوع آخر سنتناوله عند الكلام في المعتزلة في العصر العباسي إن شاء الله.

•••

واستمر الجدل بين المسلمين والنصارى في عصرنا العباسي، وقد حكت لنا الكتب منها الشيء الكثير كرسالة الجاحظ «في الرد على النصارى»،٤٠ فهي تصور لنا ما كان يثيره النصارى واليهود من شبهات، وما كان يدفع به المسلمون تلك الشبهات. كما تذكر لنا طرفًا من أخبار اليهود والنصارى، والسبب الذي من أجله كانت العداوة بين المسلمين والنصارى أقل من العداوة بين المسلمين واليهود … إلخ. ونُقل إلينا أن عبد الله بن إسماعيل الهاشمي كتب رسالة إلى عبد المسيح إسحاق الكندي يدعوه بها إلى الإسلام، فرد عليه عبد المسيح يدعوه إلى النصرانية، وكان ذلك في عهد المأمون.٤١
وحكى الجاحظ في الحيوان جدالًا كان بينه وبين النصراني في القرابين والذبائح،٤٢ إلى كثير من أمثال ذلك. وكل هذا الجدل يدل على معرفة اليهود والنصارى لكتب المسلمين يأخذون منها حججهم، ومعرفة المسلمين لكتب اليهود والنصارى كذلك.
وفي الأدب تسرب بعض ما للنصرانية إلى الأدب العربي من وجوه عدة:
  • (١)

    أن بعض الشعراء كانوا نصارى، فأدخلوا في شِعرهم العربي شيئًا من النصرانية، وكان أوضح مثل لذلك في العصر الأموي «الأخطل»؛ فقد ورد في شعره أثر من النصرانية مثل قوله:

    ولقد حلفتُ بربّ موسى جاهِدًا
    والبيت ذِي الحُرُمَاتِ والأسْتَارِ
    وبكل مُهْتَبِلٍ عليه مُسُوحُه
    دُونَ السماءِ مُسَبِّحٍ جأر
    لأحبِّرَنْ لابن الخليفة مَدْحه
    ولأقْذِفَنَّ بها إلى الأمْصَارِ
    ويقول: «والصليبِ والقربان لأتخلصن إلى كليب خاصة دون مضر، بما يلبسهم خزيه ويْلزمهم عاره.»٤٣ وروى ابن الأثير أن الأخطل لما قال:
    لما رأونا والصليبَ طالعًا
    ومارِ سرجيسَ وسُمًّا ناقِعا
    والخيلَ لا تحِمل إلا دارِعًا
    وأبصروا راياتِنا لوامعا

    .. إلخ.

    قال جرير:

    أفبالصليب ومارِ سرجس تتَّقي
    شَهْبَاءَ ذات مَنَاكِبٍ جُمهورا!؟

    وقال أيضا:

    يستنصرون بمارِ سرجس وابنِه
    بعد الصليب، وما لهم من ناصر

    ولكن أثر النصرانية في شعره قليل، كما لاحظ الأستاذ «لامانس»، بل هو متأثر في إيمانه بالإسلام أكثر من تأثيره بالنصرانية، كقوله:

    إني حَلَفْتُ بربّ الرّاقِصَاتِ ومَا
    أضحى بمكة من حُجْب وأسْتار
    وبالهَدي إذا احَمرَّت مَذَارِعُها
    في يوم نُسْكٍ وَتشْرِيقٍ وتَنْحَارِ
    وما بزمزمَ من شمط مُحَلَِّقَة
    وما بيثْرِب من عُونٍ وأبْكَارِ٤٤

    وقوله:

    وقد حَلْفتُ يمينًا غيرَ كاذبةٍ
    بالله ربّ ستور البيت ذي الحُجُب
    وكلِّ مُوفٍ بنَذْرٍ كان يَحْمِلُه
    مُضَرَّجٍ بدماء البدْنِ مُخْتَضِبِ

    كذلك هو في حياته مضطرب بين عادات من حوله من النصارى والمسلمين؛ فهو يشرب الخمر ويعلق الصليب، وهو يطلق امرأته ويتزوج أخرى بل ويَتسرى!

    وفي العصر العباسي لم يشتهر كثير من النصارى بالشعر العربي، وعرف منهم أبو قابوس. وقال في العمدة: «كان أبو قابوس الشاعر رجلًا نصرانيًّا من أهل الحيرة.» وكان منقطعًا إلى البرامكة يمدحهم ويمنحونه، روي من شعره قليل، من ذلك أنه استمنح عفر بن يحيى البرمكي ثوبًا يلبسه يوم العيد في الكنيسة، فقال من قصيدة:

    أبا الفضل لو أبصرتنا يومَ عيدِنا
    رأيتَ مباهاةً لنا في الكنائسِ
    فلا بُدّ لي من جبةٍ من جِبَابكم
    طيْلسَان من خِيار الطّيالِس
    ولكن على العموم شعراؤهم في عصرنا قليلون، وليس لهم كبير أثر في الشعر العربي، ولم يكن لهم مثل الأخطل، أو ما يقرب منه.٤٥
  • (٢)
    كان أكبر من ذلك أثرًا ما نقل من المواعظ عن الرهبان في الأديار، وما نقل عن الكتب النصرانية، كالذي حكى ابن قتيبة: «قال بعضهم أتيت الشام فمررت بدير حرملة وبه راهب كأن عينيه عِدلا مزادٍ، فقلت: ما يبكيك؟ فقال: يا مسلم، أبكي على ما فرطت فيه من عمري، وعلى يوم مضى من أجلي لم يحسن فيه عملي! قال: ثم مررت بعد ذلك فسألت عنه فقالوا: أسلم وغزا فقتل في بلاد الروم.»٤٦ ويقول ابن قتيبة أيضًا قرأت في الإنجيل: «لا تجعلوا كنوزكم في الأرض حيث يفسدها السوس والدود، وحيث ينقب السراق، ولكن اجعلوا كنوزكم في السماء، فإنه حيث تكون كنوزكم تكون قلوبكم …»إلخ.٤٧ وفي العقد الفريد: «قال عيسى (عليه السلام) للحواريين: «لا تنظروا في أعمال الناس كأنكم أرباب، وانظروا في أعمالكم كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان، مبتلًى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافِية.»٤٨«ولقي رجل راهبًا فقال: يا راهب، صف لنا الدنيا، فقال: الدنيا تخلق الأبدان وتجدد الآمال وتباعد الأمنِية وتقرب المنية.»٤٩ إلى كثير من أمثال ذلك.

ومن غريب الأمر أن هذه الأديار كانت منبعًا لشيئين متناقضين أشد التناقض؛ كانت منبعًا لزهد وورع وبعد عن الدنيا وشئونها، ومحطًّا لبعض زهاد المسلمين، يروون عن الرهبان أقوالهم في الهرب من اللذات كالذي روينا، وكانت كذلك مناح الخليعين من الشعراء والأدباء يخرجون إليها، ويتشببون بفتيانها وَفَتياتِها، ويقولون في ذلك القول الخليع والشعر الجميل؛ ذلك أن الأديار كانت غالبًا في أجمل المواضع، وأحسنها هواء وأجملها منظرًا، تحيط بها أنواع البساتين، وتجمل فيها الأزهار والرياحين، قال البحتُري:

ما تُقضَّى لُبانَه عند لُبْنَى
والمَعنَّى بالغانِيات مُعَنَّى
نزلوا رَبْوَةَ العِراقِ ارْتِيادًا
أيُّ أرضٍ أشفُّ دارًا وأسْنَى؟
بين دَيْر العاقول مُرْتَبَعٌ أشرف
مُحْتَلُّهُ إلى دَيْر قُنَّى
حيث باتَ الزَّيتونُ من فوقه
النخلُ عليه ورْقُ الحمام تَغَنَّى

وشاع عند الشعراء ما فيها من خمر معتّق، وشراب جيد مصفَّى.

إنَّ عجزًا كما نكون وغَبْنَا
أن نُرَى صاحِيَيْنِ في ديْر قُنَّى
حَبَّذا رَوْضهُ المُدَبَّجُ ليلًا
وهَوَاهُ ذاك المُمَسَّكُ رُدْنَا
قد جَرَى السلسبيل بالمِسك فيها
فَحَوته الدِّنَان، دنًّا فدَنَّا
ويظهر أن الخمارين استغلوا شهرة الأديار بالشراب، فأنشئوا حولها الحانات. قال ابن فضل الله العمري: «وكانت حول دير العذارى حانات للخمارين وبساتين ومتنزهات.»٥٠ وكانت تقام لبعض الأديار أعياد سنوية. قال الخالدي في دير الكَلب: «وله عيد في وقت من السنة يخرج إليه خلق من النصارى نساء ورجال للإقامة عنده، وخلق من المسلمين للنظر إليه والنزهة فيه، ويجتمع إليه أهل الرَفثِ والمجان، وتُسمع به الأغاني وأنواع الملاهي، وتُذبح به الذبائح وتشرب الخمور.»٥١

اغتنم المجان من الشعراء هذا كله، فأنشئوا حول الأديار أدبًا غزيرًا، وشعرًا كثيرًا، هو من الناحية الفنية بديع ممتع، مثل قول ابن المعتز:

يا لياليَّ بالمَطِيرَةِ والكَرْ
خ ودَيْر السُّوسِي بِالله عودِي
كنتِ عندي أُنموذَجاتٍ من الجنة
لكنها بغير خلودِ
أشربُ الرَّاح وهي تشربُ عقلي
وعلى ذاك كان قتلُ الوَليد

وقول آخر:

ما ترى الدَّيْرَ، ما ترى أسفل الدير
وقد صار ورْدةً كالدّهان؟
لو رآه النعمان شَقَّ عليه
ما يرى من شقائقِ النُّعمان

وآخر:

فتَنتنا صورة في بِيعَةٍ
فَتن اللهُ الذي صورها
زادها الناقش في تحسينها
فَضْلَ حُسْنٍ إنه نضَّرَها
وجهها لا شك عندي فتنة
وكذا هِي عنْدَ من أبصَرَها
أنا للقَسِّ عليها حاسِدٌ
ليت غيري عَبَثًا كسَّرها

وسرت هذه العادة في كل الأقطار، فتجد شعراء العراق والشام ومصر يتشببون بالأديار ومن فيها وما فيها، وتقرأ كتاب الديارات للشابشتي، ومسالك الأبصار لابن فضل الله العمري، فتعجب من كثرة ما قيل من الشعر فيها وسكانها. وتراهم قد سلكوا في ذلك كلَّ مسلك، وتفننوا كل فن، وهم بين مستهتر ومحتشم وطريف مؤدب وخليع ماجن. وهكذا كانت الأديار مصدرًا لنغمتين كان الناس يسمعونهما كثيرًا في ذلك العصر؛ نغمة حزينة زاهدة، تعدو إلى الفرار من الحياة وارتقاب الموت، ونغمة مرِحة لاهية، تدعو إلى احتساء الكأس إلى آخر قطرة من قطراته، كلٌّ يوقع على الوتر الذي يهواه، وكلٌّ يغني على ليلاه.

•••

كذلك نفذ إلى المسلمين بعض عادات اليهود والنصارى الدينية، فقد اتخذ بعض المسلمين أعياد النصارى عيدًا، فيوم السعانين٥٢ عرف في العصر العباسي وما بعده، وقالت فيه الشعراء شعرًا كثيرًا، من ذلك ما يقوله عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع:
يا شادِنًا رام إذ مر
في السَّعانين قتلي
يقولُ لي كيف أصبحت
كيف يُصْبِحُ مِثلي؟!

ويقول:

يا ليلة ليس لها صُبح
وموعدًا ليس له نُجْح
من شادِنٍ مرّ على وعْده ال
ميلادُ والسُّلاقُ والذَّبْحُ٥٣
وفي السَّعانين لو أني به
وكان أقصى الموعد الفصْح
فالله أسْتَعْدي على ظالمٍ
لم يغنِ عنه الجود والشحُّ

ويقول:

إنَّ في القلب الظَّبي كلُومُ
فدع اللوْم فإن اللوم لومُ
حَبَّذا يومُ السعانين وما
نِلت فيه من نعيم لو يدوم!
إن تكن أعْظَمْتَ أن هِمْتُ به
فالذي تركبُ من عَذْلي عظيمُ
لم أكن أولَ من سنَّ الهوى
فَدَعِ اللوْم فذا داءٌ قديمُ٥٤

ويقول:

إن كنتَ ذا طبٍّ فداويني
ولا تلم فاللوْمُ يغريني
يا نظرة أبقت جوى قاتلًا
من شادن يوم السَّعانين

.. إلخ.

ويرى ابن تيمية أن اتخاذ المسلمين القبور مساجد كان تقليدًا لليهود والنصارى، وروي في ذلك الأحاديث الكثيرة؛ مثل: «إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد.» ويقول الشافعي: «وأكره أن يعظَّم مخلوق حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس.»٥٥ وعدد كثيرا من البدع التي أدخلت على زيارة القبور من أبنية الأضرحة، وإيقاد المصابيح، والتوجه بالدعاء نحو القبور، وختم ذلك بقوله: «وكل هذه الأشياء من البدع التي تضارع دين النصارى.»٥٦

وعلى الجملة، فنظرة إلى هذا كله ترينا أنه قد تسرب إلى المسلمين في العصر العباسي شيء غير قليل من اليهودية والنصرانية في التفسير والحديث، والمذاهب الدينية والعادات والتقاليد، وأنهما كانتا عنصرين من عناصر الثقافة العامة في ذلك العصر.

الإسلام

ليس من غرضنا — هنا — أن نبين تعاليم الإسلام وما دعا إليه، وما أتى به من أصول وفروع، فموضع ذلك قد مر في فجر الإسلام، وإنما غرضنا أن نبين تاريخ الإسلام في العصر العباسي، فهو بموضوعنا أليق.

ليس من شك أن العباسيين لم يضيفوا كثيرًا من البلدان والأقطار إلى رقعة المملكة الإسلامية، فنحن إذا قارناها في ذلك بالدولة الأموية رأينا العهد الأموي أكثر فتحًا، وأعظم نشرًا للإسلام؛ ففيه فتح السند وبخارى وسمرقند إلى كاشْغر، في حدود الصين، وفتحت الأندلس، وكان الفاتحون كما رأينا فيهم الدعاة إلى الدين، وفيهم العلماء، فلم يكن الفتح فتحًا سياسيًّا حربيًّا فقط، بل كان أيضًا نشرًا للدعوة الإسلامية، وتعليمًا لأصول الإسلام وفروعه، ووضعًا للنظم الإسلامية وتعليمًا للغة العربية وما إليها، وتبع ذلك دخول عدد كبير من أهل البلاد المفتوحة في الإسلام.٥٧ وكان أكبرهم العباسيين أن يبقوا على التراث الذي ورثوه عن الأمويين، ويحافظوا على وحدته، فنجحوا بعض النجاح أولًا وفشلوا أخيرًا، وعلى العموم لم يزيدوا شيئًا يذكر من الأقطار الأجنبية على المملكة الإسلامية.

ولكن — مع هذا — كان للعباسيين أثر كبير في دخول عدد عديد في الإسلام من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم، مما فتح في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين.

وفي نظري أن العباسيين من حيث هم أصحاب السلطان وأولياء الأمر والقابضون على زمام الدولة بذلوا في هذا الباب جهدًا أكثر من الخلفاء الأمويين إذا استثنينا عمر بن عبد العزيز؛ فقد كان نشر الدعوة في العهد الأموي عمل قواد وعلماء وأفراد متدينين أكثر منه عمل حكومة، ولم يكن للخلفاء الأمويين — غالبًا — مظهر ديني من هذا القبيل. أما الخلفاء العباسيون فقد صبغوا صبغة دينية ظاهرة، ونظر إليهم كأنهم حماة الإسلام. وكان أبو جعفر المنصور أكبر من أحاط الخلافة بالإجلال الديني، وقوى من حرمة البيت العباسي، لا من ناحية القوة المادية — فحسب — بل من ناحية القوة الروحية كذلك. وكان من أثر هذا أن الخلفاء العباسيين لما ضعف نفوذهم المادي، وفقدوا السلطان على الرعية، ولم يك شيء من القوة في أيديهم؛ ظلت هذه السلطة الروحية فيهم، يستغلها القواد والأمراء والوزراء وأصحاب السلطان المادي، فيستجلبون رضى العامة بإعلان رضى الخليفة عنهم وإمدادهم الروحي لهم، ومن مظاهر ذلك في هذا العهد أن رأينا البيعة للخلفاء تحاط بأنواع من المراسم والشعائر لم تكن معروفة، وتؤكد البيعة في الحرم، ويعلى شأن إجماع أولي الحل والعقد، ونحو ذلك.

صبغة الخلفاء العباسيين بهذه الصبغة جعلتهم يشرفون على الدين من نواحٍ مختلفة، ويتدخلون في المسائل الدينية بأكثر مما كان الأمويون. من ذلك أنا نرى المهدي كما سبق يتعقب الزنادقة، ويعين من يلي أمرهم، ويعاقب من ظهر منهم، ويحث العلماء على وضع الكتب في الرد عليهم، ويسير من بعده من الخلفاء سيرته، وذلك ما لم نعهده من قبل المهدي. ونرى الرشيد يتصل بالقضاة والعلماء اتصالًا لم نعرفه في العهد الأموي، فلا نجد — مثلا — قاضيًا كان من الخليفة الأموي من القرب والاتصال؛ ما كان أبو يوسف من الرشيد.

ويصور أبو يوسف نظر الناس إلى الخليفة في عصره، فيقول للرشيد في أول كتابه الخراج: «وإن الله بمنه ورحمته وعفوه جعل ولاة الأمر خلفاء في أرضه، وجعل لهم نورًا يضيء للرعية ما أظلم عليهم من الأمور فيما ينهم، ويبين ما اشتبه من الحقوق عليهم.» وقعد إبراهيم بن السنْدِي أمام المأمون على ركبتيه، فقال له المأمون تمكن في قعودك، فقال إبراهيم: والله لا أضع قدر الخلافة، ولا أجلس إلا جلوس العبد بين يدي مولاه!٥٨

ويقول البحتري للمتوكل ويذكر خروجه يوم عيد الفطر:

أظهرتَ عِزَّ الملك فيه بِجَحْفَل
لَجِبٍ يُحَاطُ الدِّينُ فيه ويُنْصَرُ
خِلْنا الجبالَ تسير فيه وقد غدت
عُدَدٌ يسير بها العَديدُ الأكثرُ
والخيلُ تَصْهِل والفوارس تَدّعي
والبيضُ تلمعُ والأسِنة تُزْهِرُ
والأرضُ خاشعة تَمِيلُ بثقلها
والجو مُعْتكرُ الجوانبِ أَغْبَرُ
حتى طلَعْتَ بضوْء وجهكَ فانجَلَت
تلك الدّجى وانجاب ذاكَ العِثيَرُ
وافْتَنَّ فيك الناظرون فإصْبَعٌ
يُومَى إليك بها وعينٌ تنظرُ
يحدون رؤيتَكَ التي فازوا بها
من أنْعُمِ الله التي لا ُتكْفَرُ
ذكروا بطلعَتِك النبيَّ فهلَّلوا
لمَّا طلَعْت من الصُّفوفِ وكبَّرُوا
حتى انتهيت إلى المصَلَّى لًابِسًا
نورَ الهدَى ببدر عليك ويظهرُ
ومشيت مِشية خاشعٍ متواضع
لله لا يزهو ولا يتكبَّرُ
فلو أنَّ مشتاقًا تكلّف فوق ما
فِي وسْعِهِ لمشى إليك المِنْبَرُ
أبديتَ من فَصْلِ الخِطَاب بحكمة
تنْبي عنِ الحقِّ المبينِ وتُخْبِرُ
ووقفت في بُرْدِ النبي مذَكّرًا
بالله تنذر تارة وتبشِّرُ
حتى لقد عَلِمَ الجهولُ وأخلصتْ
نفسُ المُرَوِّي واهتدى المتحيّرُ
صَلُّوا وراءكَ آخذينَ بعصمةٍ
من ربهم وبِذمةٍ لا تُخْفَرُ

وكان من أثر ذلك نشاط الخلفاء في نشر الدعوة على الإسلام، مع ما كان من حمية الناس وحماستهم للدعوة. ولذلك رأينا كثيرًا من أهل الملل الأخرى يدخلون في الإسلام أفواجًا، ولم يكن السبب لدخولهم واحدًا، فهناك — من غير شك — أسباب لذلك متعددة.

منهم من كان يسلم اقتناعًا بالإسلام، وإيمانًا ببساطة عقيدته ويسرها وسهولة فهمها، فيكفي أن يقول الرجل: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»؛ ليعد مسلمًا من غير مراسم ولا طقوس، وفي أي مكان وعلى يد أي إنسان.

وساعد على ذلك ما لاحظه الأستاذ أرنولد «من أن المذاهب النصرانية من يعاقبة ونساطرة وملكانية وغيرها، كان بينها من العداء واضطهاد بعضها بعضًا أشد مما كان بين أهل دين ودين آخر، فليس عجيبًا أن يهرب آلاف من هذا الاضطهاد والعذاب، ويلجئوا إلى عقيدة سهلة هي عقيدة الوحدانية.»٥٩
وقد عمل — بجد — في نشر الدعوة في ذلك العصر المتكلمون من المسلمين وعلى رأسهم المعتزلة؛ ذلك أن هؤلاء المتكلمين هم الذين كانوا يبحثون في الإسلام، ويعللون آراءه وتعاليمه من طريق العقل، على حين أن المحدثين والمفسرين وأمثالهم كانوا يخدمون الإسلام من طريق النقل، فاضطر المتكلمون تمشيًا مع العقل أن يتسلحوا بكل ما يعينهم في سبيلهم، فاستعانوا بالمنطق اليوناني يصوغون في قوالبه قضاياهم، وعرفوا آداب الجدل والمناظرة وتقيدوا بقوانينها، وقرءوا بعض كتب الفلسفة اليونانية، فيذكر المرتضى «أن النَّظَّام كان قد نظر في شيء من كتب الفلاسفة، فلما ورد البصرة كان يرى أنه قد أورد من لطيف الكلام ما لم يسبق علمه إلى أبي الهذيل العلاف. قال فناظرت أبا الهذيل في ذلك، فخيل إلي أنه لم يكن متشاغلًا قط إلا به لتصرفه فيه وحذقه في المناظرة فيه.»٦٠
ويقول في موضع آخر: «إن جعفر بن يحيى البرمكي ذكر أرسططاليس، فقال النظام: قد نقضت عليه كتابه، فقال: جعفر كيف وأنت لا تحسن أن تقرأه؟ فقال: أيما أحب إليك أن أقرأه من أوله إلى آخره، أم من آخره إلى أوله؟ ثم اندفع يذكر شيئًا فشيئًا وينقضه عليه فتعجب منه جعفر.»٦١ ثم نظروا في كتب الديانات الأخرى وتبحروا فيها، فيقول المرتضى أيضًا: «إن النظام كان يحفظ القرآن والإنجيل وتفسيرهما.»٦٢ ووصف رجلٌ واصل بن عطاء فقال: «ليس أحد أعلم بكلام غالية الشيعة ومارِقة الخوارج، وكلام الزنادقة والدهرية والمرجئة وسائر المخالفين والرد عليهم منه.»٦٣ وبعد أن أعد المتكلمون (وخاصة المعتزلة) أنفسهم هذا الإعداد نزلوا في الميدان وقاموا بعملين؛ أحدهما: أنهم نازلوا الطوائف الأخرى الإسلامية المخالفة لهم يجادلونهم ويردون عليهم، ويدعونهم إلى عقائدهم الخاصة؛ فالمعتزلة تحارب المجبِرة، والمعتزلة تنازل الرافضة، تجادلوا جميعًا في الجبر والاختيار، وفي صفات الله وفي التجسيم، وفي الثواب والعقاب، وروت لنا الكتب الشيء الكثير من هذا الجدال، وليس هذا الوضع محله. وثانيهما: منازلتهم لأهل الديانات الأخرى من مجوس ويهود ونصارى، ودعوتهم إلى الإسلام، وكانت هذه الحركة عنيفة في عصرنا، على أشد ما يكون من العنف؛ مانوية يدعون إلى دينهم ويظهرون محاسنه، ويهاجمون الإسلام ويأتون بالحجج، ويهود ونصارى كذلك. ولم يكن المحدثون وأمثالهم يستطيعون أن يقوموا بمناهضتهم، إنما الذين استطاعوا ذلك وانتدبوا أنفسهم للقيام به هم المتكلمون، حكى المرتضى «أن ملك السند طلب إلى الرشيد أن يبعث إليه من يناظره في الدين فبعث الرشيد إليه قاضيًا لا متكلمًا؛ لأن الرشيد كان قد منع الجدال في الدين وحبس علماء الكلام، فانتدب ملك السند سمنيًّا ليجادل القاضي فسأل السمني القاضي: أخبرني عن معبودك هل هو القادر؟ قال: نعم. قال: أفهو قادر على أن يخلق مثله؟ فقال القاضي: هذه المسألة من علم الكلام، وهو بدعة وأصحابنا ينكرونه. فقال السمني للملك: قد كنت أعلمتك دينهم. وكتب ملك السند بذلك إلى الرشيد فقامت قيامته وضاق صدره، وقال: أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟! قالوا: بلى يا أمير المؤمنين، هم الذين نهيتهم عن الجدال في الدين، وجماعة منهم في الحبس. فقال: أحضروهم فلما حضروا قال ما تقولون في هذه المسألة؟ فقال صبي من بينهم: هذا السؤال محال؛ لأن المخلوق لا يكون إلا محدثًا، والمحدث لا يكون مثل القديم؛ فقد استحال أن يقال يقدر على أن يخلق مثله أو لا يقدر، كما استحال أن يقال يقدر أن يكون عاجزًا أو جاهلًا. فقال الرشيد: وجهوا إليه بهذا الصبي. فقالوا: إنه لا يؤمن أن يسألوه على غير هذا، فقال: اختاروا غيره. فاختاروا معمر بن عباد السلمي (من شيوخ المعتزلة) فَسم في الطريق.»٦٤
عرف المعتزلة المانوية واليهودية والنصرانية معرفة واسعة، كما عرف علماء هؤلاء الطوائف الإسلام، وبذل كل فريق الجهد في الدعوة إلى دينه والرد على مخالفيه، فأسلم على يديهم كثيرون. يقول المرتضى إنه أسلم على يد أبي الهذيل العلاف (شيخ المعتزلة) أكثر من ثلاثة آلاف رجل.٦٥ ويقول ابن خلكان: «إن لأبي الهذيل كتابًا يعرف بميلاس، وكان ميلاس رجلًا مجوسيًّا فأسلم، وكان سبب إسلامه أنه جمع بين أبي الهذيل المذكور، وجماعة من الثنوية فقطعهم٦٦ أبو الهذيل، فأسلم ميلاس عند ذلك.»٦٧ وحكى الجاحظ «أن قسًّا نصرانيًّا راهن على أن الصليب الذي في عنقه من خشب لا يحترق؛ لأنه من العود الذي كان المسيح عليه السلام صلب عليه، وكاد يفتن بذلك ناسًا من غير أهل النظر حتى فطن له بعض المتكلمين، فأتاهم بقطعة عود تكون بكرمان، فكانت أبقى على النار من صليبه.»٦٨ وحكى المرتضى في أماليه «أن أبا الهذيل في حداثته بلغه أن رجلًا يهوديًّا قدم البصرة، وقطع جماعة من متكلميها، فقال لعمه: يا عم امض بي إلى هذا اليهودي حتى أكلمه. وألح عليه في ذلك، فذهب إليه وما زال به حتى أفحمه.»٦٩ ويذكر ابن خلكان أن واصلًا أّلف فيما ألف كتابًا في الدعوة، والظاهر أنه في الدعوة إلى الإسلام، أو الدعوة إلى مذهب الاعتزال. وقد رأينا قبل أن الجاحظ يؤلف رسالة في النصارى، يذكر حججهم ويرد عليها، ويرى ابن النديم: أن المأمون أرسل إلى يزدانبخت (أحد رؤساء المانوية)، فأحضره من الري بعد أن أمنه، فقطعه المتكلمون، فقال له المأمون: أسلم يا يزدانبخت فلولا ما أعطيناه إياك من الأمان لكان لنا ولك شأن! فقال له يزدانبخت: نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة وقولك مقبول، ولكنك ممن لا يجبر الناس على ترك مذاهبهم. فقال المأمون: أجل، ووكل به حفَظة خوفا «عليه من الغوغاء، وكان فصيحًا لسنًا.»٧٠
وبجانب هؤلاء العقليين الذين يدعون إلى الإسلام من طريق العقل والحجج المنطقية؛ كان من يدعو إلى الإسلام من طريق السيرة الطاهرة، والخلق النبيل، والحياة الصالحة، فكان داعيًا من طريق المثل، ومن ذلك ما حكى ابن خلكان «قيل إنه أسلم يوم مات أحمد بن حنبل عشرون ألفًا من النصارى واليهود والمجوس.»٧١ أو من طريق الوعظ والتصوف، فأبو القاسم الجنيد يقف على حلقته في المسجد غلام نصراني ويسلم،٧٢ وبعد هذا العصر كان أبو الفرج بن الجوزي واعظًا مؤثرًا، وقد أسلم على يده كثيرون.

وكان الخلفاء العباسيون من أنشط الخلفاء في الدعوة إلى الإسلام للصبغة الدينية التي شرحناها قبل.

وكان المأمون من أحرصهم على ذلك، فحوله المتكلمون، يدعون إلى الإسلام، وهو بجنده ينشر دعوته. روى البلاذرِي قال: «لما استخلف المأمون أغزى السعد وأشرثوسنَه، ومن انتقض عليه من أهل فَرغانة، الجنْد، وألح عليهم بالحروب بالغارات أيام مقامه بخراسان وبعد ذلك، وكان مع تسريته الخيول إليهم يكاتبهم بالدعاء إلى الإسلام والطاعة، والترغيب فيهما.» وقال: «وكان المأمون — رحمه الله — يكتب إلى عماله على خراسان في غزو من لم يكن على الطاعة والإسلام من أهل ما وراء النهر، ويوجه رسله فيفرضون لمن رغب في الديوان، ويستميلهم برغبة فإذا وردوا بابه شرفه وأسنى صلاتهم وأرزاقهم، ثم استخلف المعتصم بالله فكان على مثل ذلك حتى صار جل شهود عسكره من جند أهل ما وراء النهر من السعد والأشروسنه وأهل الشاش، وغيرهم، وحضر ملوكهم بابه وغلب الإسلام على من هناك.»٧٣
وكان رجل من خراسان نصرانيًّا فأسلم فارتد، فأمر المأمون بحمله إلى بغداد، فسأله: ما الذي أوحشك من الإسلام؟ فقال المرتد: أوحشني ما رأيت من كثرة الاختلاف في دينكم! قال المأمون: فإن لنا اختلافين؛ أحدهما كالاختلاف في الآذان، وتكبير الجنائز، والاختلافات في التشهد وصلاة الأعياد، وتكبير التشريق، ووجوه القراءات، واختلاف وجوه الفتيا، وما إلى ذلك، وليس هذا باختلاف، إنما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من المحنة، فمن أّذن مثنى وأقام فرادى لم يؤثِّم من أذن مثنى وأقام مثنى، لا يتعايرون ولا يتعايبون، أنت ترى ذلك عيانًا، وتشهد عليه بيانًا. والاختلاف الآخر كنحو الاختلاف في تأويل الآية من كتابنا، وتأويل الحديث عن نبينا ، مع إجماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عين الخبر، فإن كان الذي أوحشك هذا، حتى أنكرت كتابنا؛ فقد ينبغي أن يكون اللفظ بجميع ما في التوراة والإنجيل متفقًا على تأويله كالاتفاق على تنزيله، ولا يكون بين الملتين من اليهود والنصارى اختلاف في شيء من التأويلات … ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا تحتاج إلى تفسير لفعل، ولكنا لم نر شيئًا من الدين والدنيا دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة. فرجع الرجل إلى الإسلام فخر المأمون ساجدًا لله، ثم قال لأصحابه: لا تَبروه في يومه ريثما يعتق إسلامه كيلا يقول عدوه إنه يسلم رغبة، ولا تنسوا نصيبكم من بره ونصرته وتأنيسه.٧٤
على كل حال نشط الخلفاء العباسيون الأولون في الدعوة إلى الإسلام، ولكن قلّ أن كان منهم إكراه على الدخول في الإسلام، كما رأينا في موقف المأمون نحو يزدانبخت، فقد اعترف بأن المأمون لا يجبر الناس على ترك مذاهبهم، وأقره المأمون على قوله، يقول الأستاذ «فِنسِنك»: «ومع أن نصارى الشرق كان يقل عددهم باعتناقهم الإسلام، فقلّ منهم من أسلم كرهًا.»٧٥
نعم، صدر من بعض الخلفاء في ذلك العصر من اشتد في معاملة المسيحيين، كالذي رواه الطبري في حوادث سنة ١٩١؛ فقد قال: «إن الرشيد أمر بهدم الكنائس بالثغور، وكتب إلى السندي بن شاهك يأمره بأخذ أهل الذمة بمدينة السلام بمخالفة هيئتهم هيئة المسلمين في لباسهم وركوبهم.»٧٦ ولكن هذا وأمثاله كان أثرًا من آثار سوء العلاقات السياسية بين الدولة الإسلامية والمملكة البيزنطية، لا أثرًا للتعاليم الدينية، وإلا فلم كان أمر الرشيد مختصًّا بأهل الذمة في بغداد، دون سائر الأقطار الإسلامية؟ وظلت الأوامر بمخالفة الذميين في لباسهم والتشديد عليهم تنمو مع نمو سوء العلاقات السياسية، حتى بلغت أشدها في أيام الحروب الصليبية؛ صدى لما كان من معاملة الروم للمسلمين.
كذلك لا ننكر أن بعض من أسلم إنما أسلم لنيل الجاه والمنصب، كالذي كان من كاووس ملك أشروسنه، فإنه لما غُلِب في الحرب أظهر الإسلام، وكذلك ابنه حيدر المعروف بالأفشين، والذي مات في سجن المعتصم لزندقته كما أبنا من قبل.٧٧ وحكى الجهشياري أن الفضل بين سهل (وكان مجوسيًّا) نقل ليحيى بن خالد البرمكي كتابًا من الفارسية إلى العربية، فأعجب بفهمه وبجودة عبارته، فقال له يحيى: إني أراك ذكيًّا وستبلغ مبلغًا رفيعًا، فأسلِم حتى أجد السبيل إلى إدخالك في أمورنا، والإحسان إليك. فقال: نعم، أصلح الله الوزير، أسلِم على يديك. فقال له يحيى: لا، ودعا بسلام مولاه فقال: خذ بيد ذا الفتى وامض به إلى جعفر وقل له يدخله على المأمون (وكان المأمون في حجر جعفر) حتى يسلم على يديه. ففعل وأسلم على يد المأمون.٧٨ وهو الذي صار فيما بعد وزير المأمون، والذي لقب بذي الرياستين. كما أسلم بعض الناس فرارًا من الجزية، حتى إن بعض الولاة كتب إلى الحجاج: «إن الخَراج قد انكسر، وإن أهل الذِّمة قد أسلموا، ولحقوا بالأمصار، فأخذ الحجاج منهم الجزية مع إسلامهم، وجعل قراء البصرة يبكون لما يرون!»٧٩ ولكن هذه الجزية لم تكن بالمرهِقة؛ «فهي لا تؤخذ من المسكين الذي يُتصدق عليه، ولا من أعمى لا حرفة له ولا عمل، ولا من ذمي يتصدق عليه، ولا من المترهبين الذين في الديارات إذا لم يكونوا من أهل اليسار، ولا تؤخذ الجزية من الشيخ الكبير الذي لا يستطيع العمل ولا شيء له.»٨٠ ويدفع الغني ٤٨ درهمًا كل سنة، ويدفع الوسط ٢٤ درهمًا، والعمال والصناع ونحوهم ١٢ درهمًا٨١ وهذا مقدار محتمل، لا يدعو كثيرين أن يهربوا من دينهم.
وكما أّثر النصارى في المذاهب الإسلامية، والعادات كما أسلفنا أّثر المسلمون في النصارى، فقد ظهر بين النصارى نزعات يظهر فيها أثر الإسلام. من ذلك أنه في القرن الثامن الميلادي (أي في القرنين الثاني والثالث الهجريين) ظهرت في سبتمانيا Septimania٨٢ حركة تدعو إلى إنكار الاعتراف أمام القسس، وأن ليس للقسس حق في ذلك، وأن يضرع الإنسان إلى الله وحده في غفران ما ارتكب من إثم، والإسلام ليس له قسيسون ورهبان وأ حبار، فطبيعي ألا يكون فيه اعتراف.٨٣
وكذلك كانت حركة تدعو إلى تحطيم الصور والتماثيل الدينية (Iconoclasts)؛ ذلك أنه في القرن الثامن والتاسع الميلادي أو القرن الثالث والرابع الهجري ظهر مذهب نصراني يرفض تقديس الصور والتماثيل؛ فقد أصدر الإمبراطور الروماني ليو الثالث أمرًا سنة ٧٢٦م يحرم فيه تقديس الصور والتماثيل، وأمرًا آخر سنة ٧٣٠م يعد الإتيان بهذا وثنية. وكذلك كان قسطنطين الخامس وليو الرابع، على حين كان البابا جريجوري الثاني والثالث وجرمانيوس بطريرك القسطنطينية والإمبراطورة إيريني من مؤيدي عبادة الصور، وجرى بين الطائفتين نزاع شديد لا محل لتفصيله وكل ما نريد أن نذكره أن بعض المؤرخين يذكرون أن الدعوة إلى نبذ الصور والتماثيل كانت متأثرة بالإسلام، ويقولون إن كلوديوس (Claudius) أسقف تورين (الذي عُينَ سنة ٨٢٨م حول ٢١٣ هجرية) والذي كان يحرق الصور والصلبان، وينهى عن عبادتها في أسقفيته؛ ولِدَ ورُبِّيَ في الأندلس الإسلامية.٨٤ وكراهية الإسلام للتماثيل والصور معروفة، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي لله عنها قالت: «قدم رسول الله من سَفر وقد سترت سهوة لي بِقِرامٍ فيه تماثيل، فلما رآه هتكة وتلون وجهه، وقال: يا عائشة أشد الناس عذابًا يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله. قالت فقطَّعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين.»٨٥ والأحاديث في هذا الباب مستفيضة.
كذلك وجدت طائفة من النصارى شرحت عقيدة التثليث بما يقرب من الوحدانية، وأنكرت ألوهية المسيح (عليه السلام).٨٦

•••

ومسألة أخرى كبيرة الأهمية في عصرنا الذي نؤرخه؛ تلك هي أن تصور كثير من المسلمين الإسلام في ذلك العصر يختلف عن تصور المسلمين له في العصور الأولى، فحياة العربي الساذجة البسيطة السهلة تعقدت، والديانات المختلفة تسربت والأعاجم الذين كانوا وثنيين أو مانويين أو نحوهم دخلوا في الإسلام ولم تنَقَّ رءوسهم من كل ما علق بها من الديانات القديمة. وقد عاشوا في المدنيات المركبة المعقدة، فنظروا إلى الإسلام بعيونهم، لا بالعين العربية الأولى. وحق ما يقال: إن الأمم وإن اتحدت دينًا فكل أمة يختلف نظرها في تفاصيل دينها عن الأمم الأخرى، وهي تنظر إلى الدين من خلال تاريخها ونظمها الاجتماعية، من خلال أديانها المتعاقبة، ومن خلال لغاتها وتقاليدها، ومن خلال ثقافتها وتربيتها، إلى غير ذلك. كل المسلمين يقولون: «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، ولكن نظر العالِم الواسع الثقافة إلى الإسلام غير نظر العامي الجاهل، وكلاهما غير نظر الصوفي، وهكذا. بل نظر المسلمين المصريين (على وجه العموم) إلى الإسلام يختلف في تفاصيله عن نظر الهنود المسلمين والأتراك المسلمين، لأن كل أمة تداول عليها من العوامل ما يخالف غيرها، وذلك من غير شك خالف بين أنظارهم وعقلياتهم، والناس كانوا ينظرون إلى الإسلام نظرًا يختلف باختلاف العصور. يعجبني في ذلك ما رواه البخاري والترمذي عن أنس بن مالك المتوفي سنة ٩٠هـ، قال: «ما أعرف شيئًا مما كان على عهد رسول الله ، قيل: الصلاة؟ قال: أليس صنعتم ما صنعتم فيها!»٨٧ فأنس (رضى الله عنه) قد شاهد عصر النبي وعصر الأمويين، ومع قرب العصرين لاحظ اختلاف الأنظار والأعمال، فكيف إذا شاهد العباسيين ومن بعدهم. قد كان الإسلام سهلًا يسيرًا، يقول رسول الله : «إن هذا الدين يسر، ولن يشَادَّ الدين أحد إلا غَلبه.» ويقول: «لا تُشدِّدوا على أنفسكم فيُشَدَّد عليكم، فإن قومًا شَدَّدوا على أنفسهم فشُدِّدَ عليهم؛ فتلك بقاياهم في الصوامع والديار، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم.»٨٨ وكان القاسم بن محمد يلبس الخز، وسالم بن عبد الله يلبس الصوف، ويقعدان في مسجد المدينة، فلا ينكِر هذا على هذا، ولا ذا على هذا.»٨٩ وكان هناك نزعة لبعض الصحابة في الغلو في الدين، فقاومها رسول الله ؛ كالذي كان بينه وبين عبد الله بن عمرو؛ فقد بلغه أنه لا ينام ولا يفطر، ولا يؤدي حقوق أهله انْهِماكًا في العبادة. فقال له رسول الله: «يا عبد الله إن لك في رسول الله أسوة حسنة، فرسول الله يصوم ويفطر ويأكل اللحم، ويؤدي إلى أهله حقوقهم. يا عبد الله إن لله عليك حقًّا، وإن لبدنك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا.»
وبعد هذا رأينا تشددًا في دين، وابتداعًا لتقاليد، وغُلًّوا في نواحٍ مختلفة؛ منهم من يلبس الصوف ويلتزمه، ومنهم من يغلو في الإنكار عليهم: «قدم حماد بن سلمة البصرة، فجاءه فَرقد السَّبخي، وعليه ثياب صوف؛ فقال له حماد: دع عنك نصرانيتك!»٩٠ وقال ابن السماك لأصحاب الصوف: والله لئن كان لباسكم وفقًا لسرائركم، فقد أحببتم أن يطَّلع الناس عليها، وإن كان مخالفًا لقد هلكتم.» وكان بعض الموالي يتشدد في الوضوء والطهارة، ويغلو في ذلك غلوًّا لا يعرفه العرب، فكان العرب يكرهون منهم ذلك.٩١ إلى كثير من أمثال هذا.

وهناك ما هو أهم من هذا، ذلك أن الناس في عصر النبي وبعده كانوا يقرءون القرآن أو يسمعونه فيعنون بتفهم روحه، فإن عني علماؤهم بشيء وراء ذلك فما يوضح الآية من سبب للنزول، أو استشهاد بأبيات من أشعار العرب تفسر لفظًا غريبًا، أو أسلوبًا غامضًا. وأكثر ما رُوِيَ لنا في الطبري وغيره عن الصحابة في تفسير القرآن هو من هذا القبيل، وما عرفنا في العصر الأول انحياز الصحابة إلى مذاهب دينية، وآراء في الملل والنحل، فلما كنا في آخر العصر الأموي رأينا الكلام في القدر، ورأينا المتكلمين فيه ينظرون إلى القرآن من خلال عقيدتهم، فمن قال بالجبرِ أول كلِّ آيات الاختيار، ومن قال بالاختيار أول كلَّ آيات الجبر. وسال بعد ذلك السيل في العصر العباسي، فصارت كل طائفة وأصحاب كل مذهب ينظرون إليه من خلال مذاهبهم. ولئن كان هذا النظر أفاد من ناحية الجدال بين المسلمين وغيرهم، والدعوة إلى الإسلام كما بينا في موقف المعتزلة؛ فقد أساء بإضعاف الروح الدينية وما كانت توحيه من إحياء القلب. أصبح علماء الكلام والمذاهب الدينية ينظرون إلى القرآن من خلال الفلسفة اليونانية، وذلك إن كان فيه مران عقلي وتوسيع لبعض مناحي الفكر، ففيه إضعاف لقوة الروح وحماسة القلب؛ سواء في ذلك المعتزلة والأشعرية والماتريدية، فكلهم استخدموا الأدلة اليونانية في العقائد الدينية، وهي غير الطريقة التي نحاها القرآن الكريم في الدعوة إلى الدين، لقد كادوا بعملهم هذا يقطعون الصلة بين العقل والقلب، وينمون الناحية العقلية على حساب قوة العاطفة، إن شئت فاقرأ لإثبات قدرة الله قوله تعالى: وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا ۚ يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ثم اقرأ في كتب علم الكلام الجدل بين الأشعرية والماتريدية في أن القدرة صفة أزلية تتعلق وفق الإرادة، بمعنى صحة صدور الأثر والتمكن من الترك كما يقول الماتريدية، أو هي صفة تؤثر في المقدورات عند تعلقِها بها كما يقول الأشاعرة، فكم من الفرق بين المنهجين والروحين! أهم غرض للقرآن الكريم أن يحيي الشعور ببيان علاقة الإنسان القوية بالله والعالم، وأن يعمل على ذلك بتغذية الحياة الروحية، أما المتكلمون فأرادوا أن يصلوا إلى ذلك من طريق المنطق، وشتان بين الطريقين! فحياة المنطق لا تملأ القلبِ حماسة، ولا تبعث في النفس حرارة إيمان، إنما تفعل ذلك الحياة الروحية.

لقد كثرت المذاهب والنِّحل في ذلك العصر كثرة مدهشة، حتى يصفهم المأمون فيقول: «وطائفة قد اتخذ كل رجل منهم مجلسًا، اعتقد به رئاسة، لعله يدعو فئة إلى ضرب من البدعة. ثم لعل كل رجل منهم يعادي من خالفه في الأمر الذي عقد به رئاسة بدعة ويشيط بذمه، وهو قد خالفه من أمر الدين بما هو أعظم من ذلك، إلا أن ذلك أمر لا رئاسة له فيه فسالمه عليه.»٩٢ … إلخ. ونستعرض أسماء الفِرق والمذاهب في كتاب المِلَل والنِّحلِ للشهرستاني، فندهش لكثرتها واختلافاتها. وهذه كلها كانت تنظر إلى القرآن الكريم بعين مذهبها، وتفسره بما يلائمه؛ فالمعتزلي يطبق القرآن على مذهبه في الاختيار والصفات والتحسين والتقبيح العقليين، ويؤَول ما لايتَّفق ومذهبه، وكذلك يفعل الشيعي، وذلك يختلف كل الاختلاف عن نظر المسلمين الأولين إلى القرآن.

كان القرآن يدعو إلى الإيمان من طريقين: طريق النظر إلى العالم نفسه، وطريق التاريخ؛ فهو يرى أن نظر الإنسان إلى العالم يدعم إيمانه ويقوي يقينه؛ ففي الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض، والإبل كيف خلقت والأرض كيف سطحت، آيات على الله، كما أن في الأحداث التاريخية من الأنبياء وأممهم ما يدعو إلى الإيمان، وهذا النظر يناسب الناس على اختلافهم؛ ففي استطاعة العالم والجاهل أن ينال الإيمان من هذا الطريق، والدعوة إلى الحياة الروحية وحدها هي الدعوة التي يمكن أن توجه إلى الناس كافة، فلما أولع العلماء بالفلسفة اليونانية في العصر العباسي حولوا اتجاه القرآن نفسه إلى نوع من الثقافة العقلية والبراهين المنطقية، ودرسوا القرآن على النحو الذي يدرسون به الحساب والهندسة والهيئة، فكان في ذلك إضرار بالدين من ناحيته القلبية، ونتج عن ذلك تعقيد العقيدة الإسلامية السهلة السمحة، حتى صار يمثِّلها تعاليم المتكلمين من معتزلة وأشعرية، وأصبح أخيرًا يمثلها «العقائد النَّسفية» و«متن السنوسية»، وشعر بهذا النقص قوم من الصوفية المخلصين، فدعوا إلى الإسلام من منهجه الأول، ولكن سرعان ما تحول بعضهم أيضًا إلى الفلسفة يستمد منها، كما سنبينه إن شاء الله.

وكان كلما تعمق المسلمون في العلوم والفلسفة نظروا إلى القرآن من خلالها، فإذا أتت آية في الرعد والبرق شرحوها بكل ما وصل إليه علمهم في الظواهر الجوية، وإذا أتت آية في النجوم والسماء طبقوا ما علِموا من علم الهيئة، وإذا أتت إشارة في آية إلى جبر أو اختيار عدوا مذاهب المتكلمين فيها، وإذا أتت مسألة نحوية أفاضوا في الخلافات النحوية بين البصريين والكوفيين. وعلى الجملة، فقد كدسوا كل ما عرفوا من علوم الآيات القرآنية، وتضخم ذلك على توالي الأزمان، كما ترى بعد في تفسير الفخر الرازي؛ فيه كل شيء وصل إليه المسلمون إلا شيئًا واحدًا، هو شرح روح القرآن.

•••

ولكن إن كانت هذه نقطة ضعف في الفلسفة والعلوم من ناحية الدين؛ فقد كان لها فضل كبير من الناحية الدينية أيضًا، ذلك أن الناس واجهوا مشكلة كبرى في العصر العباسي، رأوا مدنيات عظيمة لأمم مختلفة ورثتها المملكة الإسلامية، ورأوا عادات مختلفة لأمم متعددة في جميع مناحي الحياة، ورأوا معاملات تجارية، ونُظمًا للأحوال الشخصية تأثرت بديانات الأمم المختلفة. وهكذا في كل ناحية من النواحي الاجتماعية؛ سواء كانت نواحي اقتصادية أم سياسية أم قانونية. ورأوا من ناحية أخرى أن الإسلام أتى بأصول يجب المحافظة عليها، وأتت فيه نصوص كذلك على جزئيات يجب مراعاتها، ولكن في كل عصر تحدث من الأقضية والأحداث ما لم يكن حدث من قبل، ولم يرد فيه نص، فكان أمام العلماء أن ينظروا بإحدى العينين إلى قواعد الإسلام وتعاليمه، وبالعين الأخرى إلى المدنية العباسية، وما جد فيها من مظاهر وأحداث شتى، وكان لا بد من أن يطبقوا قواعد الإسلام على تلك الأحداث، ولم يكن هذا بالأمر الهين. نعم عرضت هذه المشكلة في تاريخ الإسلام من قبل العباسيين، قد واجهها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بعد أن فُتحت الفتوح ومصرت الأمصار، ودخلت أمم مختلفة العقائد والنظم واللغات تحت حكم الإسلام، وبَذل من الجهد هو ومن حوله من العلماء ما لا يقدر، وضرب مَثلًا صالحًا لمن يأتي بعده، ولذلك نص المشرعون على العمل برأيه في كثير من نظم الفتح والجهاد والضرائب، ونحو ذلك، وعدوه مَثلهم الذي يحتذى، وواجه هذه المشكلة الأمويون فحوروا في نظم الدواوين والنقود ونحوها، فخطوا بذلك خطوة ثانية، ولكن المشكلة أمام العباسيين كانت أعقد؛ لأن دهشة الفتح قد زالت، والأمم التي دخلت في الإسلام استقرت وَنسلت جيلًا جديدًا، ورِث من آبائه وورث من المسلمين. والعباسيون كما رأينا قبل لم يشاءوا أن يعيشوا عيشة ساذجة كمن قبلهم من الأمويين، وتغلبت العناصر الأخرى كالفرس ذات الحضارة المركبة، فكان من ذلك كله أن أرادوا أن يضعوا نظمًا كاملة شاملة، وأن يواجهوا هذه المشاكل ويحلوها حلًّا بقوانين ومبادئ لا بأمر جزئي، ولا برأي فرعي، فأعانتهم العلوم في ذلك العصر على هذا كله، ولولا العلوم ما استطاعوا، فرأينا أبا يوسف في كتابه «الخراج» يضع النظام المالي لدولة الرشيد، فيقرر نظام الأرض ومسحها، وما يؤخذ منها وكيف يكون ذلك، ويضع نظام ضرائب غير الأرض مما يخرج من البحر ونحوه، ويضع نظام الري من الآبار والأنهار، ونجد الأئمة الأربعة وغير الأربعة يجتهدون في وضع القوانين من مالية وجنائية، وما يسمى بالأحوال الشخصية، وغير الفقهاء يضعون نظمًا إدارية كنظام الشرطة والجند والجيش، وقد تتعارض نظم الفقهاء مع نظم الإداريين فينظر في التوفيق بينهما، ويوضع نظام البريد والمصانع والتجارة ونحوها؛ كل هذه حركات كانت في الدولة العباسية نشيطة قوية، وكانت خاضعة في مبادئها للقواعد الأساسية للإسلام. وبذلك نستطيع أن نقول: إنه في هذا العصر قُنِّنَ الإسلام وأصبح هو النظام لحكومة ممدنة بالمعنى العصري. نعم كان هناك خروج عن الإسلام في بعض التصرفات، وكان هناك نقص في تنفيذ الأحكام القضائية، وكان هناك نقص في إعطاء الأحكام الفقهية سلطة القانون، ولكن هذا لا ينقض ما ذكرنا من أن الروح العامة في التشريع ووضع النظم كانت تتقيد بأصول الإسلام، وأنه لولا اشتغال المسلمين بالعلم في فروعه المختلفة ما كان يمكن ذلك.

وهذا الإسلام بتعاليمه ونظم حكمه أظلّ كل الأمم الإسلامية على اختلاف أنواعها؛ من آريين وساميين وحاميين، يخضعون لسلطانه، ويجرون في نظامهم وقضائهم ومعاملاتهم على ما قُنِّنَ من أحكامه. ومن أجل هذا أخذت الفروق بين الأمم تتقلّص ويحل محلها وِحدة إسلامية. ومن أجل ذلك أيضًا كانت هذه الوحدة متجلية في العصر العباسي أكثر مما كان في العهد الأموي، ودخل الإسلام في الحياة العامة وفي السياسة وفي الإدارة، وتأثر التشريع بعادات الناس، وتأثرت عادت الناس بالتشريع.

كان الإسلام دينًا في مكة، وكان دينًا وحكمًا في المدينة، وكان دينًا وحكمًا ومدنية في بغداد وسائر المملكة الإسلامية في العصر العباسي. ولعل هذا من الأسباب التي دعت إلى دخول كثيرين في الإسلام في ذلك العصر؛ فقد كان الناس يتنفسون إسلامًا أينما حلوا؛ في البيت، في الشارع، في المحكمة، في المعاملات التجارية، في الضرائب، في التعليم، في كل مرافق الحياة.

•••

وبعد فقد كان للإسلام ثقافة واسعة؛ من تفسير للقرآن، واشتغال بالحديث، وتشريع للأحكام، ولكن محل ذلك كله الكلام في الحركة العلمية إن شاء الله.

١  لخصنا هذه الكلمة من كتاب متز «نهضة الإسلام» الذي ترجمه «خدابخش» من الألمانية إلى الإنجليزية.
٢  ويقول ابن قتيبة: إن عبيدالله بن عمر بن الخطاب لما قُتِل أبوه جرد سيفه فقتل بنت أبي لؤلؤة، وقتل الهرمزان وجفينة (رجلًا أعجميًّا) وقال: لا أدع أعجميًّا إلا قتلته، فأراد علي قتله بمن قتل، فهرب إلى معاوية فقُتِل في صفين: المعارف ٦١، ٦٢.
٣  في الأصل «الدية»؛ وهو خطأ على ما يظهر.
٤  الأحكام السلطانية ٢١٩، وقد قال الجاحظ: «إن قضاتنا أو عامتهم يرون أن دم الجاثليق والمطران والأسقف، وفاء بدم جعفر وعلي والعباس وحمزة.» ثلاث رسائل: ١٨.
٥  الأم ٤: ١٧٧. ومعنى يرضخ لهم؛ يعطيهم عطاء ليس بالكثير. وقد روى الخطيب البغدادي عن أبي هريرة أن النبي قاتل معه قوم من اليهود في بعض حروبه فأسهم لهم مع المسلمين. تاريخ بغداد، جزء ٤: ١٦٠.
٦  معجم البلدان في مادة يهودية.
٧  متز نقلًا عن خرداذبه.
٨  MEZ، وكذلك ذكر الجاحظ في رسالة الرد على النصارى، ص ١٧.
٩  ثلاث رسائل، ص ١٨، والملحم نوع من الثياب سداه حرير، ولُحْمته غير حرير، والشاكرية جمع شاكري معرب «جاكر»، وهي بالفارسية بمعنى الأجير.
١٠  الحيوان ٥: ٥٢.
١١  أبو عيسى هو جبريل بن بختيشوع بن جرجيس بن بختيشوع النصراني، كان طبيبا للرشيد.
١٢  انظر كذلك البخاري في باب التوحيد، وباب الاعتصام، وباب التفسير.
١٣  من أشد من ذهب إلى هذا الرأي ابن حزم في كتابه الفصل في الملل والنحل، وقد بحث فيه بحًثًا مفصلًا، وأطال في التدليل على ما في التوراة التي بين أيدينا من تناقض فارجع إليه.
١٤  انظر ذلك مطولًا في كتاب إغاثة اللَّهْفان لابن قيم الجوزية، ص ٤١٥، وما بعدها.
١٥  انظر الفصل الذي كتب في العلاقة بين اليهودية والفلسفة اليونانية في كتاب The Legacy of Israel.
١٦  أخرجه أبو داود.
١٧  طبقات ابن سعد، جزء ٧، قسم أول، ص ١٦١.
١٨  وفي البخاري أيضًا حديث آخر يخالف هذا، وينهى عن سؤال أهل الكتاب فانظره في باب شهادة أهل الكتاب.
١٩  ابن سعد ٥: ٣٩٧.
٢٠  تفسير الطبري ١:١٨٦ وما بعدها. وقد روى الجاحظ في الحيوان ٤:٦٤ عن كعب الأحبار أنه قال: مكتوب في التوراة أن حواء عوقبت بعشر خصال، وأن آدم عوقب بعشر خصال، وأن الحية عوقبت بعشر خصال ثم ذكرها، وشك الجاحظ في ذلك؛ لأنها ليست في التوراة، وقال: إن صحت الرواية عن كعب فإنه إنما كان يعني كتب اليهود جميعها.
٢١  مقدمة ابن خلدون ٣٦٧.
٢٢  ابن الأثير ٧: ٣٦.
٢٣  العقد ١: ٢٦٩.
٢٤  حكى هذه الأقوال كلها عن اليهود الشهرستاني في الملل والنحل، ص ٨٥ و٨٦، فانظرها.
٢٥  انظر أصول ابن الحاجب ٢٣: ١٨٨.
٢٦  الشهرستاني، ٥٥. وقد اشتقت كلمة البداء من بدا له.
٢٧  انظر حكاية يحيى بن زكريا في التنبيه والإشراف المسعودي.
٢٨  الشهرستاني، ٣٧، ٣٨.
٢٩  ص ٣١.
٣٠  المعارف ١٨٠.
٣١  العقد ١: ٣٥٦، وفيه مواعظ كثيرة من هذا القبيل.
٣٢  ج ٤: ٧٣.
٣٣  انظر الفصل في الملل والنحل، والجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح لابن تيمية.
٣٤  انظر ذلك في الطبري ٣: ١٩٠.
٣٥  توفي الثعلبي سنة ٤٢٧هـ.
٣٦  الإحياء ٤: ١٥٢ وما بعدها … إلخ.
٣٧  فون كريمر.
٣٨  الفصل لابن حزم ٤: ٨٣.
٣٩  اقرأ في هذا كتاب شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة، والتعليل لابن القيم.
٤٠  وردت هذه الرسالة باختصار في رسائل الجاحظ على هامش الكامل، ووردت بأطول من ذلك في مجموعة ثلاث رسائل للجاحظ، وهي التي نشرها يوشع فنكل.
٤١  ورد اسم الرسالة والإشارة إليها في كتاب الآثار الباقية للبيروني، فاستشهد بكلام عبد المسيح على ذبح الصابئة للآدميين قربانًا للقمر، وقال: إن هذه الرسالة كُتبت جوابًا على كتاب عبد الله بن إسماعيل الهاشمي. وقد طبعت هذه الرسالة جمعية ترقية المعارف المسيحية بأوروبا، ولكنا نشك كل الشك في أن هذه الرسالة كلها بعينها هي التي رآها البيروني لأسباب ليس هنا موضع ذكرها.
٤٢  الحيوان ٤: ١٣٨ وما بعدها.
٤٣  الأغاني ٧: ١٧٣.
٤٤  رقص البعير إذا أسرع في سيره، والهدي النعم تهدى إلى الحرم، والأشمط الذي شعر رأسه أبيض وأسود، والعون جمع عوان وهي المرأة النصف التي كان لها زوج.
٤٥  انظر مصداق ذلك «كتاب شعراء النصرانية بعد الإسلام» للأب لويس شيخو.
٤٦  عيون الأخبار ٢: ٢٩٧.
٤٧  عيون ٢: ٢٧٠.
٤٨  العقد ١: ٣٥٦.
٤٩  العقد ١: ٢٧١.
٥٠  مسالك الأبصار ١/ ٢٥٨.
٥١  ٢٥٤.
٥٢  السعانين عيد للنصارى قبل الفصح بأسبوع.
٥٣  الميلاد والسلاق والذبح أعياد للنصارى.
٥٤  انظر كذلك ضحى الإسلام، ص ٨٨.
٥٥  ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، ص ١٦٠ وما بعدها.
٥٦  ص ١٧٥، وقد عدد في هذا الكتاب أشياء كثيرة من العادات والتقاليد التي أخذت عن أهل الكتاب والمجوس فارجع إليه.
٥٧  روى بعض المؤرخين أن العراق كان يدفع من الجزية في عهد عمر بن الخطاب نحو مائة مليون درهم أو ١٢٠ مليونًا فنقص في عهد عبد الملك بن مروان إلى نحو ٥٠ مليونًا من كثرة دخول الذميين في الإسلام.
٥٨  طيفور ٦٨.
٥٩  انظر Preaching of Islam لأرنولد، ص ٦١ وما بعدها.
٦٠  المنية والأمل، ص ٢٦.
٦١  ص ٢٩.
٦٢  ص ٢٩.
٦٣  ص ١٨.
٦٤  المنية والأمل، ص ٣١.
٦٥  ص ٢٦.
٦٦  يعني ألزمهم الحجة، وقد استعملت كلمة قطعهم في المعنى كثيرًا في ذلك العصر.
٦٧  ابن خلكان ١: ٦٨٥.
٦٨  الحيوان ٥: ٩٥.
٦٩  انظر الحكاية بطولها في أمالي المرتضى ١: ١٢٤.
٧٠  الفهرست ٣٣٨.
٧١  ابن خلكان ١: ٢٣.
٧٢  ابن خلكان ١: ١٦٥.
٧٣  فتوح البلدان ٤٣٦ و٤٣٧، طبعة مصر.
٧٤  طيفور ص ٦٠ ووردت الحكاية في العقد الفريد مع اختلاف في بعض ألفاظها.
٧٥  Muslim Creed ص ٢٨.
٧٦  الطبري ١٠: ١٠٠.
٧٧  انظر البلاذري ص ٤٣٦ و٤٣٧.
٧٨  الوزراء ٢٨٧.
٧٩  ابن الأثير ٤: ١٧٩.
٨٠  الخراج لأبي يوسف.
٨١  والدرهم نحو قرشين مصريين ونصف قرش.
٨٢  سبتمانيا مقاطعة فرنسية قديمة في الجنوب الغربي لفرنسا على البحر الأبيض المتوسط.
٨٣  خدابخش.
٨٤  خدابخش.
٨٥  السهوة النافذة بين الدارين، والقرام الستر.
٨٦  Halne’s Christianity of Islam in Spaire، ص: ١١٦.
٨٧  باب الاعتصام بالسنة.
٨٨  أخرجه أبو داود.
٨٩  العقد الفريد: ٢٥٠.
٩٠  العقد ١: ٢٥٠.
٩١  انظر العقد ٢: ٩١.
٩٢  طيفور ٧٨.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤