الفصل الثالث

الشُّعُوبِيَّة

نستطيع بعد الذي ذكرنا في الفصل السابق أن نقول: إن عصرنا الذي نؤرخه كانت تسود فيه ثلاث نزعات:

النزعة الأولى:

تذهب إلى أن العرب خير الأمم، ولهم في ذلك حجج، نجملها فيما يأتي:
  • (١)

    أنهم عاشوا حياتهم متمتعين باستقلالهم؛ فهم في جاهليتهم جاوروا دولتي الفرس والروم، وكلتاهما دوّخ البلاد وأسس ملكًا عظيمًا، وكلتاهما كان له من الجند والعدد والعدة ما لا يُحصى كثرة، ومع هذا فلم تجرؤ كلتاهما أن تمس استقلال العرب، وأن تطأ ديارهم، تملَّقوهم، واستعانوا باللَّخميين في الحيرة، والغسانيين في الشام، ومنحوهم المال، وقدموا لهم الديار ليحموهم من غارات عرب الجزيرة عليهم؛ فهم كانوا أحوج إلى العرب من حاجة العرب إليهم!

    ولم يشأ أصحاب هذه النزعة أن يعتقدوا أن زهد الفرس والروم في أرضهم، وعدم إقدامهم على إخضاعهم منشؤه أن أرض الجزيرة ليس فيها من الخيرات والثروة ما يطمِع، بل اعتقدوا أن انصراف الفرس والروم عنهم إنما كان لشجاعة العرب، وإقدامهم وصبرهم، وأن لهم من أرضهم مَنعة تجعل حربهم حرب عصابات، لا يستطيع الجيش المنظم أن يجاريهم في أشكال حروبهم، ولا أن يقف أمامهم. وأما في إسلامهم؛ فقد حافظوا على استقلالهم، بل أضاعوا استقلال الفرس، وأخضعوهم لحكمهم، وكسروا جيوش الروم، وطردوهم من أملاكهم!

  • (٢)
    أن لهم صفات خُلقية امتازوا بها؛ فهم أكرم الناس لضيف، وأنجدهم لمستصرخ، يعقر أحدهم ناقته التي لا يملك سواها للطارق ينزل به، وهو ممسك بعِنان فرسه؛ كّلما سمع هيعة١ طار إليها! وهم أوفى الأمم؛ يتكلم أحدهم الكلمة فتكون صكًّا، ويلجأ إليه لاجئ فيفي بحق جواره، حتى ليحتكم فيه جارُه حكم الصبي في أهله، وهم على ذلك قادة الأمم في البيان، وحسن التعبير، وهم معدن الشعر، ولهم في حسن البديهة، وقول الأمثال السائرة، وإبداع الكلام ما ليس لغيرهم، وهم أحفظ الناس لأنسابهم فليس أحد منهم إلا يعرف نسبه، ويسمي آباءه، وإذا انتسب أحدهم إلى غير آبائه عرفوا أنه دعِي؛ حفظوا أنسابهم، وبنوا على ذلك أحسابهم!
  • (٣)

    بينهم نشأ الإسلام، ورسول الله من أنفسهم، وهم الناشرون له بين الأمم، والداعون إليه، والحامون لدعوته، فكل من أسلم من العجم ففي عنقه مِنّة من العرب لا تقدر؛ هم الذين أنقذوه من دينه القديم، وهم الذين أخرجوه من الشرك إلى التوحيد، وهم الذين اصطلوا نار الحروب لهدايته، وهم الذين قتلوا أنفسهم لحياته.

هذه هي أهم حجج الذاهبين إلى هذا الرأي.
ويروون أن جماعة اجتمعوا بالمِربدِ، ومعهم ابن المقفَّع، فسألهم: أي الأمم أعقل؟ فنظر بعضهم إلى بعض؛ فقالوا لعله أراد أصله من فارس، فقالوا: فارس. فقال ابن المقفع: ليسوا بذلك إنهم ملكوا كثيرًا من الأرض، ووجدوا عظيمًا من الملك، وغلبوا على كثير من الخلق، فما استنبطوا شيئًا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حِكم في نفوسهم. قالوا: فالروم؟ قال: أصحاب صنعة. قالوا: فالصين؟ قال: أصحاب طرفة. قالوا: الهند؟ قال: أصحاب فلسفة. قالوا: السودان؟ قال: شر خلق الله … إلخ. قالوا: فقل، قال: العرب. فضحكوا! قال ابن المقفع: إني ما أردت موافقتكم، ولكن إذا فاتني حظي من النسب فلا يفوتني حظي من المعرفة. إن العرب حكمت على غير مثال مثل لها، ولا آثار أُثِرت، أصحاب إبل وغنم، وسكان شعر وأدم، يجود أحدهم بقوته، ويتفضل بمجهوده، ويشارك في ميسوره ومعسوره، ويصف الشيء بعقله فيكون قدوة، ويفعله فيصير حجة، ويحسن ما يشاء فيحسن، ويقَبح ما يشاء فيقبح، أدبتهم أنفسهم، ورفعتهم هممهم، وأعلتهم قلوبهم وألسنتهم، وافتتح الله دينه وخلافته بهم إلى الحشر، فمن وضع حقهم خسِر، ومن أنكر فضلهم خُصِم.٢
ويروى لابن المقفع أيضًا أنه قال وقد جرى ذكر الشعر وفضيلته: «أي حكمة تكون أبلغ أو أغرب أو أعجب من غلام بدوي لم ير ريفًا، ولم يشبع من طعام؛ يستوحش من الكلام، ويفزع من البشر، ويأوي إلى ما لم يره، ولم يعهده، ولم يعرفه، ثم يذكر محاسن الأخلاق ومساوئها، ويمدح ويهجو ويذم، ويعاتب ويشبّب، ويقول ما يكتَب عنه، ويروى له ويبقي عليه؟!»٣ ونحن مع شكنا في هذه الرواية عن ابن المقفع — لأسباب ليس هذا موضعها — فإننا نثبتها لأنها تمثل هذه النزعة.٤
ويقول الجاحظ: «ليس في الأرض كلام هو أمتع، ولا أنفع، ولا آنق، ولا ألذ في الأسماع، ولا أشد اتصالًا بالعقول السليمة، ولا أفتق للسان، ولا أجود تقويمًا للبيان من طول سماع حديث الأعراب العقلاء الفصحاء.»٥

وهذه النزعة كان يمثّلها أشراف العرب وبَدوهم، كما كان يمثلها قوم من العجم أسلموا إسلامًا عميقًا، وأحبوا رسول الله من أعماق نفوسهم، وأحبوا العرب؛ لأن النبي منهم، ولأنهم أسلموا على أيديهم.

النزعة الثانية:

تذهب إلى أن العرب ليسوا أفضل من غيرهم من الأمم، ولا أي أمة أفضل من أي أمة، «والناس كلهم من طينة واحدة، وسلالة رجل واحد.» وإنما التفاضل بين الأفراد لا بين الأمم، «وليس تفاضل الناس فيما بينهم بآبائهم وأحسابهم، ولكن بأفعالهم وأخلاقهم، وشرف أنفسهم وبعد هممهم؛ ألا ترى أن من كان دنيء الهمة ساقط المروءة لم يشرف، وإن كان من بني هاشم في ذؤابتها، ومن أمية في أرومتها، ومن قيس في أشرف بطن منها! إنما الكريم من كرمت أفعاله، والشريف من شرفت همته.»٦
يقف هؤلاء موقفًا على السواء بين الأمم، فلا عربي أفضل من أعجمي لأنه عربي، ولا أعجمي أفضل من عربي لأنه أعجمي، وليست العربية ولا الأعجمية عاملًا من عوامل التفاضل، إنما عامِل التفاضل الدين وحده عند قوم، والشرف وسمو الخلق عند آخرين، وفي هذا المعنى جاء القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكم مِّن ذكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ. وفي الحديث: «ليس لعربي على عجمي فضلٌ إلا بالتقوى.» و«المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذِمتهم أدناهم، وهم يد على من سِواهم.» ويقول المأمون: «الشرف نسب؛ فشريف العرب أولى بشريف العجم من وضيع العجم بشريفهم، وشريف العجم أولى بشريف العرب من وضيع العرب بشريفهم.»٧ وابن قتيبة بعد أن دافع عن العرب وأبان فضلهم على غيرهم من الأمم، عاد فنقد كل ذلك وقرر المساواة فقال في آخر كتابه «تفضيل العرب»: «وأعدل القول عندي، أن الناس كلهم لأب وأم؛ خلقوا من تراب، وأعيدوا إلى التراب، وجَرَوْا في مجرى البول، وطرأ عليهم الأقذار، فهذا نسبهم الأعلى الذي يُردع به أهل العقول عن التعظيم والكبرياء والفخر بالآباء، ثم إلى الله مرجعهم فتنقطع الأنساب، وتبطل الأحساب إلا من كان حسبه التقوى، أو كانت ماتَّته طاعة الله.»٨

وحجة هؤلاء أن في كل أمة الطيب والخبيث، ولكل أمة محاسنها ومساوئها، وخير ميزان توزن به الأعمال الدين أو الخلق. ولسنا نستطيع ذلك في الأمم إنما نستطيعه في الأفراد؛ ففرد خير من فرد بدينه أو بخلقه، ولا شيء غير ذلك، وهذا الصنف من الناس يسمون «أهل التسوية»؛ أي الذين يسوون بين الأمم، ولا يجعلون فضلًا لأمة على أخرى، ويمثلهم أكثر المتدينين والعلماء من العرب والعجم؛ لأن روح الإسلام وقواعده تؤيد هذا المذهب.

النزعة الثالثة:

تميل إلى الحطِّ من شأن العرب، وتفضيل غيرهم من الأمم عليهم، وحجتهم في ذلك:
  • (١)

    أن العرب ليس لها أي ميزة، على حين أن كل أمة لها ميزة تفخر بها؛ فالرومان تفتخر بعظم سلطانها، وكثرة مدائنها، وعظيم مدنيتها. والهند تفخر بحكمتها وطبها، وكثرة عددها وأنهارها وثمارها. والصين ُتزهى بصناعاتها، وفنونها الجميلة، وما إلى ذلك. ولا نجد العرب تمتاز بشيء يضارع ما ذكرنا؛ جدب في أرض، وبداوة في عيش، كانوا في جاهليتهم يقتلون أولادهم من الفقر، ولا يستقر لهم حال من الغزو والسلب، ويفعلون المكرمة الصغيرة كإطعام جائع، وإغاثة ملهوف فيملئون الدنيا بها شعرًا ونثرًا، ويتيهون بذلك فخرًا.

  • (٢)

    قالوا: بم يكون الفخر؟ أبالملك؟ فأين ملك العرب من ملك الفراعنة والعمالقة والأكاسرة والقياصرة؟! أو من سليمان الذي أوتي من الملك ما لا ينبغي لأحد من بعده؟! أو من ملك الإسكندر، وقد بلغ مطْلِع الشمس ومغربها! أم بالنبوة؟ فجميع الأنبياء من غير العرب ما خلا أربعة؛ هودًا وصالحًا وإسماعيل ومحمدًا. أم بالصناعة والعلم؟ فالعرب أضعف الأمم في ذلك شأنًا، وأعقمهم يدًا، وأجدبهم عقلًا. أم بالشعر؟ فلم ينفرد العرب به، فلليونان شعر موزون مقفى، وللرومان شعر كذلك. أم الخطب والبيان؟ فللفرس واليونان والرومان خطب محبرة، وبيان ساحر، فما الذي يفخرون به بعد ذلك؟ يفخرون بالكرم والوفاء؟ وقولهم في ذلك أطول وأعرض من فعلهم، ويفتخرون بالأنساب وقد كانوا في جاهليتهم لا يتقيدون بنوع الزواج المعروف في الإسلام، بل كان من أنواع زواجهم شيوع المرأة بين عدة رجال، وكانوا في حروبهم يسبي بعضهم نساء بعض، ويستمتع بها من غير زواج، فكيف يدري أحدهم أباه!

  • (٣)

    وإن فخرتم بالإسلام، فليس الإسلام دين العرب وحدهم، بل هو دين الناس. والإسلام نفسه حارب نزعتكم، فهدم العصبية الجاهلية، وجعل مقياس الشرف التقوى، فالدين بيننا وبينكم، والدنيا نحن نحظى بها وأعرف بمزاياها، وأكثر تفننًا في شئونها.

ويمثل هذا الصنف — ممن يحقرون العرب، ويضعون من شأنهم ويسودون كل أمة عليهم — من ظلوا على دينهم القديم، أو أسلموا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، أوغلبت عليهم النزعة الوطنية، فكرهوا من العرب أنهم أزالوا ملكهم، وأضاعوا استقلالهم.

هذه هي النزعات الثلاث التي كانت في ذلك العصر، وعلى هذا النحو كانوا يتجادلون. وقد أُطلق على أصحاب النزعتين الأخيرتين اسم «الشعوبية»، وكان أحق الناس بهذا الاسم الطائفة الثانية؛ لأنهم يقولون «بالشعوب»، أي يقولون بأنه لا فرق بين الشعوب من عرب وغيرهم في الشرف والخسة، فكان أمامهم أن يتسموا باسم مشتق من «المساواة»، أو باسم مأخوذ من الشعوب، يدل على أن الشعوب سواء، فاختاروا الثاني وسُمُّوا «الشعوبية». ولذلك يقول في العقد الفريد: «الشعوبية وهم أهل التسوية» ويقول في الصحاح: «الشعوبية فرقة لا تفضل العرب على العجم.» ولكن لا نلبث أن نراهم أطلقوا هذا الاسم على الصنف الثالث أيضا؛ فلو قرأنا ما كتب الجاحظ، وصاحب العقد وغيرهما، وجدنا أنهم انساقوا في تسمية المعادين للعرب «بالشعوبية». والظاهر أن تسميتهم بهذا الاسم تأخرت عن تسمية أهل التسوية به، كما تأخرت الفرقة الثالثة عن الفرقة الثانية تاريخيًّا، فطبيعي — وقد كان العرب متغلبين في العصر الأموي، وكانت النزعة الأولى على أشدها وقوتها وسلطانها — أن يبدأ الموالي فيقولون بالمساواة فقط، وكل أمنيتهم أن يظفروا بذلك، حتى إذا اشتد الجدل، وأحس الموالي بقوتهم وسلطانهم أيام الرشيد والمأمون؛ ظهرت النزعة الثالثة تضع من شأن العرب، وترفع من غيرهم؛ فانسحب اسم «الشعوبية» عليهم، وصار يطلق على أصحاب النزعتين معًا، بل حتى صار أكثر ما يطلق على الصنف الثالث، قال في اللسان: «والشعوبي هو الذي يصغر شأن العرب، ولا يرى لهم فضلًا على غيرهم.»

يستنتج مما ذكرنا أن لفظ الشعوبية مأخوذ من الشعوب جمع شعب، وهو جيل الناس، وهو أوسع من القبيلة، وأشمل، قال الزبير بن بكَّار: «الشّعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة.» وعلى هذا فالعرب شعب، والفرس شعب، والروم شعب، وهكذا. وقد ذهب قوم إلى أنها مأخوذة من الشعوب في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتعَارَفُوا. وقالوا: إن المراد بالشعوب بطون العجم، وبالقبائل قبائل العرب، وهو تفسير في نظرنا غير صحيح، وأوضح دليل على ذلك أن العرب لم تكن تفهمه حين نزول الآية، فقد نقل إلينا الطبري آراء كثير من الصحابة والتابعين في تفسير الآية، وكلها تدور حول أن المراد بالشعوب النسب البعيد، أو البطون والقبائل دون ذلك. والذي يظهر أن تفسير الشعوب بالعجم، والقبائل بالعرب تفسير شعوبي وضعه أعجمي، واستطرد منه إلى القول بأن العجم أفضل من العرب؛ لأن الله قدمهم في الذكر. قال ابن قتيبة: «وبلغني أن رجلًا من العجم احتج بقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ.. الآية. وقال: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والمُقدَّم أفضل من المؤخَّر. وقد كنت أرى أهل التسوية يحتجون بهذه الآية، وقد غلطوا من وجهين؛ أحدهما: أن تقديم الذكر لا يوجب تقديم الفضل. قال الله عز وجل: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ فقدم الجن على الإنس، والإنس أفضل منها. والوجه الآخر: أن العجم ليست بالشعب أولى من العرب، وكل قوم كثروا وانشعبوا فقد صاروا شعوبا».

من الجائز أن يكون اسم الشعوبية أُخذ من الشعوب بعد أن فُسِّرت الآية بهذا التفسير، ولكنه يكون مرتكزًا على أساس خطأ. وأرجح أن اسم الشعوبية لم يستعمل إلا في العصر العباسي الأول، بدليلين ظنيين؛ الأول: ما أسلفنا، وهو أن هذه النزعة التي تحاول مساواة العرب أو تحقيرهم لم تتخذ شكلًا قويًّا واضحًا يصح أن يطلق على معتنقيه اسم إلا في هذا العصر، أما قبل ذلك فقد كانت نزعة خفية لا تستطيع الظهور، وإذا ظهرت أُخمدت، والحاجة إلى الاسم إنما تكون بعد أن يتخذ المبدأ شكل عقيدة عامة أو حزب. الثاني: أننا لم نر من أطلق هذا الاسم على هذه النزعة في العصر الأموي، نعم إن الأصفهاني في الأغاني قال: إن إسماعيل بن يسار كان شعوبيًّا، ولكن من الواضح أن الأصفهاني (وهو عباسي) سمى إسماعيل بالاسم الذي يستحقه لما رفَع شأن العجم، وتغنَّى في ذلك بشعره أمام هشام بن عبد الملك، وليس المعنى أن إسماعيل بن يسار عُرف بذلك الاسم في عصره، وذلك كما عدوا سَلمان الفارسي متصوفًا، مع أن قائلًا لم يقل بأن اسم الصوفية عُرف في عهد سلمان. كذلك روي عن مسروق «أن رجلًا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية، فأمر عمر ألا تؤخذ منه.» ومسروق تابعي كان في العصر الأموي، وقد فسر ابن الأثير الشعوب في هذا القول بالعجم، قال في اللسان: «ويجوز أن يكون جمع الشعوبي، وهو الذي يصغر شأن العرب، كقولهم اليهود والمجوس في جمع اليهودي والمجوسي.» ونحن نستبعد التفسير الثاني؛ لأنه صادر من متأخرين، وقد فسروه بما عرفوه بعد عصر مسروق، والذي نراه: أن مسروقًا أراد أن رجلًا من الشعوب الأخرى غير العرب أسلم، وإذن لا يكون فيه دليل.

وقد يُستأنس — على ما نقول — بأن أكثر أسماء المذاهب التي وضعت في صدر الدولة الأموية لم تكن فيها ياء بالنسبة؛ كالخوارج، والشيعة، والمرجئة، والمعتزلة، ولم تؤلف هذه النسبة إلا في آخر العهد الأموي، أو صدر العصر العباسي؛ كالجهمية، والقدرية، ثم الراوندية، والخرمية، والشعوبية، وأقدم ما وصل إلينا من الكتب التي استعملت لفظ الشعوبية كتاب البيان والتبيين للجاحظ.

يمكننا أن نستنتج من دراستنا للشعوبية النتائج الآتية:
  • (١)

    أن دعاة الشعوبية بدءوا دعوتهم مستندين على تعاليم الإسلام نفسه؛ فهو لا يفضل شعبًا على شعب، والعقوبة أو المثوبة عنده إنما وضعت على الأعمال لا على الأجناس، وقد يكون العبد الرقيق والنبطي الذليل عند الله في أعلى عِلِّيين، وسيده المكاثر بأهله وولده وماله أسفلَ سافلين، ثم تدرجوا من ذلك إلى تحقير العرب وشئونهم، وبيان ميزة الأمم الأخرى عليهم، وساعدهم على ذلك ما كان للفرس من نفوذ ظاهر في الدولة العباسية.

  • (٢)

    أن الشعوبية لم تكن عقيدة محدودة التعاليم، لها شعائر ظاهرة معينة كما نقول في المذاهب الدينية، فإنا نستطيع أن نقول: إن هذا شافعي، وهذا حنفي، فيمكننا أن نحدد وجوه الخلاف، ونبين الفروق في الشعائر، كما نستطيع أن نقول إن هذا من أهل السنة والجماعة، وهذا معتزلي؛ فندرك ذلك، ولكنا لا نستطيع أن نفعل ذلك في الشعوبية؛ لأنها نزعة أكثر منها عقيدة، فهي أشبه بالأرستقراطية، والديمقراطية، بل هي في الحقيقة نوع من الديمقراطية يحارب أرستقراطية العرب؛ لذلك لا نستطيع أن نحصر معتنقيها؛ فهم في كل بلد، وفي كل قطر، ومن كل جنس، كما لا نستطيع اليوم أن نحصي من ينزعون إلى الديموقراطية، أو الاشتراكية.

  • (٣)

    مما ساعد على هذه النزعة الشعوبية أنها تساند النزعة الوطنية، والعصبية الدينية؛ فالعرب أزالوا استقلال فارس، وحكموا مصر والشام والمغرب وأهلها ليسوا عربًا، فاستتبع ذلك أن كثيرًا من الفرس كانوا يحِنُّون إلى ملكهم واستقلالهم، وكثير من نصارى الشام ومصر كانوا يكرهون العرب المسلمين الذين أجلوا الروم النصارى عن بلادهم، ويتمنون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وإن كان لا بد أن يحكموا فمن أهل دينهم.

    نعم، إن من دخل في الإسلام من الفرس وأهل مصر والشام والأندلس كانوا أقل حدة في هذه النزعة الوطنية، ولكن لم يكن كلهم قد دخل الإسلام إلى أعماق نفوسهم، وتملك مشاعرهم إلى حد أن تغلِب النزعة الدينية النزعة الوطنية.

  • (٤)
    يمكن أن نستنتج مما تقدم: أن الشعوبيين كانوا أصنافًا مختلفة؛ منهم فرس، ومنهم نبط، ومنهم قبط، ومنهم أندلسيون. وقد صبغت شعوبية كل صنف من هؤلاء صبغة خاصة؛ فالفرس صُبغت صبغة وطنية تدعو إلى الاستقلال، واتخذت في بعض الأحيان شكل زندقة وإلحاد، والنبط ظهرت في شكل عصبية للأرض وزراعتها، وتفضيل معيشة الحرث والزرع على الصحراء ومعيشتها، والقبط ثاروا ثورات مختلفة على العرب، وأرادوا طردهم من بلادهم، وكانت آخر ثورة كبيرة في عهد المأمون، فلما هزموا لجئوا إلى الكيد «بأعمال الحيلة، واستعمال المكر، وتمكنوا من النكاية بوضع أيديهم في كتاب الخراج.»٩ وفي الأندلس ظهر ابن غرسية، ووضع رسالته في الشعوبية، ورد عليه كثير من العلماء.
  • (٥)
    هذه الشعوبية كانت درجات مختلفة تبتدئ معتدلة هادئة، وتنتهي متطرفة عنيفة، فنرى قومًا معتدلين مالوا إلى تسوية العرب بغيرهم كما رأيت، وآخرين حقروا من شأنهم، وسلبوهم كل مزية، كما نرى قومًا فرقوا بين العرب والإسلام، فهاجموا العرب من حيث هم أمة، ولم يعرضوا للإسلام بمكروه، بل صرحوا بأن الإسلام دين الناس جميعًا لا العرب وحدهم، وكثير ممن حكينا قولهم في ذم العرب كانوا من هذا الصنف، بل يصح لنا أن نعد ابن خلدون شعوبيًّا بهذا المعنى؛ فقد حكينا ملخص رأيه في العرب في الجزء الأول من «فجر الإسلام»،١٠ وهو رأي في أشد العنف والقسوة على العرب وخصائصهم، قلّ أن نرى شعوبيًّا متطرفًا وصل إلى ما وصل إليه في صراحته وشدته، ولكنه في رأينا كان مسلمًا حقًّا حر التفكير في حدود الدين، على حين أنا نرى قومًا آخرين لم يفرقوا بين العرب والإسلام، وأدتهم كراهيتهم للعرب إلى كراهيتهم لكل ما جاء عنهم، ومن ذلك الدين، وقد حكى الجاحظ عن قوم من هؤلاء، فقال: «وربما كانت العداوة من جهة العصبية؛ فإن عامة من ارتاب بالإسلام إنما جاءه ذلك من الشعوبية، فإذا أبغض شيئًا أبغض أهله، وإن أبغض تلك اللغة أبغض تلك الجزيرة، فلا تزال الحالات تنتقل به حتى ينسلخ من الإسلام؛ إذ كانت العرب هي التي جاءت به، وكانوا السلف.»١١ وقد دعت هذه النزعة قومًا إلى أن يتبرموا من الشعوبية؛ إذ هي باب الإلحاد.
  • (٦)
    نلحظ شيئًا من الوفاق بين بعض تعاليم الخوارج والشيعة والمعتزلة؛ فالخوارج كما علمت يرون أن الخليفة لا يشترط فيه أن يكون قرشيًّا، بل ولا عربيًّا، والذي أرى أن هذه النزعة منهم لا يقصد منها تحقير العرب، وإعلاء شأن غيرهم، وكيف يكون ذلك وأكثر الخوارج كانوا عربًا خلصًا، وهذا الرأي صدر عنهم حين الخلاف بين علي ومعاوية، والشعوبية لم تتكون بعد؛ فالظاهر أن رأيهم هذا صدر عن اجتهاد بحت، دعا إليه محض الرغبة في إصلاح أمور المسلمين. وأما المعتزلة فنرى المسعودي يقول: «وقد زعم جماعة من المتكلمين منهم ضِرار بن عمرو، وثُمَامة بن أشرس، وعمرو بن عثمان الجاحظ أن النبط خير من العرب.» وهؤلاء الثلاثة من رءوس المعتزلة. وأرى أن رأي المسعودي (وتبعه في ذلك «جولدزيهر»١٢) خطأ، ويظهر لي أن خطأهما جاء: من أن ضرارًا وأصحابه ذهبوا إلى أبعد ما ذهب إليه الخوارج، فلم يقتصروا على أن يقولوا: إن الخلافة لا يلزم أن تكون في قريش ولا في العرب، بل قالوا: إن غير العربي ولو نبطيًّا أولى من القرشي؛ لأنه يسهل خلعه إذا جار وظلم. ودليلنا على ذلك ما جاء في شرح النووي على مسلم: «ولا اعتداد بسخافة ضرار بن عمرو في قوله: إن غير القرشي من الهوان خلعه إن عرض منه أمر.»١٣ وقد فهم الفاهمون من هذا أن ضرارًا وصحبه يفضلون النبطي على العربي، وهو فهم غير صحيح بل هو العكس، يرمي في وضوح إلى القول بأن العربي أشرف، وأن من المصلحة أن نولي غير المعتز بعصبيته ليسهل خلعه، وذكر النبطي على أنه مثل في الخسة! والجاحظ — بوجه خاص — من الصعب عده شعوبيًّا؛ فقد انبرى في كتابه «البيان والتبيين» للرد على مطاعن الشعوبية، وسفّه رأيهم، بما يدل على إخلاص فيما يقول، نعم إنه ألف رسالة في فضل الموالي، وعد مناقبهم، ولكنه ذكر ذلك على لسانهم، وقد صرح بأنه ألف هذه الرسالة أيام المعتصم جالب الأتراك، وذكر أنه إنما أّلفها لا ليفضل بها بعض الجنود على بعض: «وقد كانت جند الخلافة إذ ذاك على خمسة أقسام؛ خراساني، وتركي، ومولى، وعربي، وبنوي.»١٤ وإنما ألفها ليؤلف بين قلوبهم إن كانت مختلفة، وليزِيد في الألفة إن كانت مؤتلفة.١٥ وليحذّر من المنافقين يدسون الدسائس ليوغروا الصدور، ويفرقوا القلوب، ويقول: «إن كان لا يمكن ذكر مناقب الأتراك إلا بذكر مثالب سائر الأجناد؛ فترك ذكر الجميع أصوب، والإضراب عن هذا الكتاب أحزم.»١٦ وعلى الجملة؛ فقد صرح فيه «أنه يرمي إلى تعديد مناقب الترك، من غير أن يتعرض لذم غيرهم.» ولكنه لم يضبط قلمه، فجمح به أحيانًا إلى تفضيل الترك على غيرهم في بعض الأمور، لكن من العسير عد هذا القدر شعوبية.

    على أن الجاحظ في نظرنا لم يكن يعبر عن رأيه في مدح الشيء وذمه، بل كان يذم الشيء ويمدحه إجابة لدعوة كبير، أو رغبة في إظهار مقدرته البيانية على تصوير الشيء بصورتين متباينتين، فإن نحن اعتمدنا على القرائن فما في كتاب البيان والتبيين أدلُّ على نفسه، ولذلك نرجح أنه ليس شعوبيًّا.

    وأما التشيع فقد كان عُش الشعوبية الذي يأوون إليه، وستارهم الذي يستترون به، وسيأتي طرف من ذلك عند الكلام في الشيعة.

  • (٧)
    يذهب ابن قتيبة إلى أن الذين اعتنقوا الشعوبية هم سفلة الناس وغوغاؤهم فيقول: «ولم أر في هذه الشعوبية أرسخ عداوة، ولا أشد نصبًا للعرب من السفلة، والحشوة، وأوباش النبط، وأبناء أكرةِ القرى. فأما أشارف العجم، وذوو الأخطار منهم، وأهل الديانة، فيعرفون ما لهم وما عليهم، ويرون الشرف نسبًا ثابتًا.» ولكن يظهر أنه اقتصر على من يتظاهر بالشعوبية، وهؤلاء كانوا كما ذكر ابن قتيبة. أما الأشراف فكانت حركتهم سِرية خفية، لا يجرءون أن يظهروا بها لكبر مراكزهم، وخشية من الشك فيهم عند الخلفاء، فهم يؤيدون من وراء حجاب هذه الحركة، فلا يراها ابن قتيبة وأمثاله. وقد ذكر ابن قتيبة أن ممن ذهب مذهب الشعوبية «قومًا تحلوا بحلية الأدب، فجالسوا الأشراف، وقومًا اتسموا بِميسم الكتابة فقربوا من السلطان، فدخلتهم الأنفة لآدابهم، والغضاضة لأقدارهم من لؤم مغارسهم، وخبث عناصرهم، فمنهم من ألحق نفسه بأشراف العجم، واعتزى إلى ملوكهم وأساورتهم، ودخل في باب فسيح لا حجاب عليه، ونسب واسع لامدافِع عنه، ومنهم من أقام على خساسته ينافح عن لؤمه، ويدعي الشرف للعجم كلها ليكون من ذوي الشرف، ويظهر بغض العرب بتنقصها، ويستفرغ مجهوده في مشاتمها، وإظهار مثالبها، وتحريف الكلم في مناقبها، وبلسانها نطق، وبهممها أنف، وبآدابها تَسلَّح عليها، فإن هو عرف خيرًا ستره، وإن ظهر حقره، وإن احتمل التأويلات صرفه إلى أقبحها، وإن سمع سوءًا نشره، وإن لم يجده تَخَرّصه!»١٧

فالحق أن الشعوبية لم تكن في السفلة وحدهم، وهؤلاء السفلة لم يكونوا الآخذين بزمامها، وإنما كان معهم كثير من الطبقة المتعلمة الراقية، وإن لم يرق نسبها إلى الملوك والأشراف، وهؤلاء هم الذين كان لهم الأثر الشعوبي في الأدب والعلم — كما سترى — من وراء هؤلاء وهؤلاء طبقة بلغت أعلى المناصب في الدولة، فكانوا يمدونهم سرًّا بجاههم وبمالهم، فقد أّلف عِلان الشعوبي كتابًا في مثالب العرب؛ فأجازه طاهر بن الحسين عليه بثلاثين ألًفا …

وإذ كان هؤلاء العقلاء الماكرون هم رؤساء هذه الدعوة كانت حربهم علمية أدبية دينية أكثر منها ثورات ظاهرة.

•••

بلغت هذه الحركة أَوْجَها في القرن الثالث الهجري، وساعد على ذلك الخلفاء العباسيون، تعصبوا للإسلام، ولم يتعصبوا كثيرًا للعربية؛ فحاربوا الزندقة، ولم يحاربوا — في شدة — النزعة العجمية، وذلك طبيعي لأن أكثرهم كما أبنّا مولَّدون. ولقي العرب من العجم عنتًا شديدًا، فالوزراء أكثرهم عجم، والدسائس تدس في القصور لإضعاف شأن العرب، وإذا ثار العرب في جزيرتهم أو في الأطراف نكل بهم قواد العجم وجيوشهم أشد تنكيل، وفي أعماق نفوسهم شعور بأنهم ينتقمون منهم من يوم القادسية، ولم يكن شعور الترك الذين جلبهم المعتصم بأحسن حالًا من شعور الفرس، وكثر الشعر في هذا القرن والذي بعده من الأعاجم الذين تعلموا العربية، يفخرون بنسبهم، ويعتزون بقومهم، فافتتح ذلك بشَّار بن برد كما رأيت، وتبعه دِيك الجِن الشاعر المشهور. قال في الأغاني: «وكان شديد التشبب والعصبية على العرب، يقول: ما للعرب علينا فضل، جمعتنا وإياهم ولادة إبراهيم عليه السلام، وأسلمنا كما أسلموا، ومن قتل منهم رجلًا منا قتل به، ولم نجد الله عز وجل فضلهم علينا إذا جمعنا الدين!»

ويقول قائلهم:

فلست بتارك إيوان كسرى
لتُوضِح أو لحوملَ فالدخُول
وضَبٍّ في الفلا ساعٍ، وذئب
بها يعوي، وليثٍ وسط غِيلِ

وكان «الخريمي» الشاعر المشهور يكثر في شعره من الاعتزاز بالنسب الفارسي والتحقير من شأن العرب؛ فيقول:

إني امرؤ من سراة الصغْدِ ألبسني
عِرق الأعاجم جلدًا طيب الخبر

ويقول:

أبا الصُّغْد بأس إذ تٌعَيرنُي جمل١٨
سِفاها ومن أخْلاقِ جارتِي الجهلُ
فإن تفخري يا جملُ، أو تَتجمَّلِي
فلا فخر إلا فوقه الدين والعقلُ
أرى الناس شرعًا في الحياة، ولا يُرى
لقبرٍ على قبر علَاء ولا فضل
وما ضرني أن لم تلدني يَحَابِرُ
ولم تشتمل جَرْم على ولا عُكل١٩
إذا أنت لم تحمِ القديم بحادث
من المجد لم ينفعك ما كان من قَبلُ

ويقول:

وناديت من مروٍ وبلخٍ فوارِسًا
لهم حَسبٌ في الأكرمين حَسِيبُ
فيا حسرتا لا دار قومي قريبة
فيكثر منهم ناصري ويطيب
وإن أبي ساسانُ كسرى بن هُرْمزٍ
وخاقان لي لو تعلمين نسيبُ
مًلكْنا رقاب الناسِ في الشرك، كلُّهم
لنا تابع طوع القياد جنيبُ
نسومكمو خسفًا، ونقضي عليكمو
بما شاء منا مخطئ ومصيبُ
فلما أتى الإسلام وانشرحت له
صدور به نحو الأنام تُنِيبُ
تبعنا رسولَ الله حتى كأنما
سماء علينا بالرجال تَصُوبُ

ويقول المتوكلي، وكان من ندماء المتوكل:

أنا ابن الأكارم من نسلِ جَمّ٢٠
وحائز إرث ملوك العجمْ
ومحيي الذي باد من عزهم،
وعفَّى عليه طِوال القِدَم
وطالب أوتارهم جَهرةً،
فمن نام عن حقهمْ لم أنم
معي عَلمُ الكابِيان٢١ الذي
به أرتجي أن أسود الأمم
فقل لبني هاشم أجمعين،
هلموا إلى الخلع قبل الندم
ملكناكم عنوة بالرما
ح طعنًا وضربًا، بسيف حذِم
وأولاكم الملك آباؤنا،
فما إن وفيتم بشكر النعم
فعودوا إلى أرضكم بالحجاز
لأكل الضباب، ورعي الغنم
فإني سأعلو سرير الملوك.
بحد الحسام، وحرف القلم٢٢

•••

وقد شعر العرب بخطورة موقفهم، ولكن لم يستطيعوا دفع الشر عنهم، ونجد في كثير من الشعر في ذلك العصر والذي بعده ظلا من الحسرة والألم، وقد ذكرنا طرفًا من ذلك في الفصل السابق، ونرى هذا المعنى واضحًا بعد في شعر المتنبي، فيألم وقد زار شعب بَوَّان بفارس من ضعف اللغة العربية بها فيقول:

ملاعب جِنَّةٍ لو سار فيها
سلمان لسار بترجمان!

ويقول:

ولكن الفتى العربيَّ فيها
غريب الوجه واليد واللسان

ويقول في قصيدة أخرى:

وإنما الناس بالملوك، وما
تُفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسبُ
ولا عهود لهم ولا ذِممُ
بكل أرضٍ وطئُتها أُمم
ترعى بعبدٍ كأنها غَنم!
يستخشِن الخز حين يلمسهُ
وكان يُبْرىَ بظفره القلمُ!

•••

والآن نعرض للأشكال المختلفة التي حارب بها الشعوبية العرب:

فقد عمدوا إلى مزية العرب الظاهرة التي يعتزون بها، وهي البلاغة، وقوة الخطابة، وحضور البديهة، فأخذوا ينتقصونهم في ذلك من نواحٍ مختلفة:

كان العرب إذا خطبوا أكثروا من الإشارة بأيديهم، يمثلون بها أغراضهم، ويستعينون بذلك على إيضاح المعنى، وقوة التأثير في السامعين، وكثيرًا ما يستعملون في إشاراتهم المِخصرة (وهي ما يُمسِكُه الإنسان بيده من عصا، أو مقرعة أو عكازة أو قضيب)، وكثيرًا ما كانوا يشيرون في خطب السلم بالمخصرة، وفي خطب الحرب بالقِسيّ، وأحيانًا كانوا يتكئون أثناء خطبهم على القِسِيّ، وكثيرًا ما يلبسون للخطابة زيًّا خاصًّا؛ فيضعون العمامة وضعًا يدل على تأهبهم للخطابة، فجاءت الشعوبية تهزأ بهم في ذلك، وتقول: أي ارتباط بين الكلام والعصا، وبين الخطبة والقوس، وهما إلى أن يشغلا العقل، ويصرفا الخواطر، ويعترضا الذهن أشبه، وليس في حملهما ما يشحذ الذهن، ولا في الإشارة بهما ما يجلب اللفظ. وقد زعم أصحاب الغناء أن المغني إذا ضرب على غنائه قصر عن المغني الذي لا يضرب على غنائه، وحملُ العصا بأخلاق الفَدادين أشبه، وهو بجفاة الأعراب وعنجهِية أهل البدو، ومزاولة إقامة الإبل على الطرق أشكل، وبه أشبه.٢٣ وقد رد عليهم الجاحظ في كتابه البيان والتبيين، وأفرد لذلك بابًا خاصًّا سماه «كتاب العصا» من أجل ذلك، كما عابوهم في جوهر الموضوع، فقالوا: ليست الخطابة ميزة امتزتم بها وحدكم؛ فهي شيء في جميع الأمم، حتى إن الزنج مع غباوتها، وفساد مزاجها لتطيل الخطب. وأخطب الناس الفرس لا العرب، ولهم فوق خطبهم التأليف في صناعة البلاغة، ومعرفة الغريب ككتاب «كازوند»، ومن احتاج إلى العقل والأدب والعلم بالمراتب والعبر والمثلات، والألفاظ الكريمة والمعاني الشريفة؛ فلينظر إلى سير الملوك (ملوك الفرس).٢٤ بل أين معانيكم وحكمكم وخطبكم وطريقة تفكيركم مما للفرس واليونان والهند؟ وأين كلامكم الجافي، وأصواتكم الغليظة من طول اعتيادكم مخاطبة الإبل؛ مما لهؤلاء من معنى دقيق، ولفظ رشيق، وصوت رقيق؟! وقد قارن الجاحظ بين بلاغة الفرس والروم، وبلاغة العرب، فقال: إن الأولى صادرة عن تفكير وروية، والثانية صادرة عن بديهة وسرعة خاطر.
كذلك عابوا العرب في آلاتهم الحربية، فسخِروا من رماحهم، ومن عُرْي خيولهم، ومن قناتهم الصماء مع أن الجوفاء أخف محملًا، وأشد طعنة، ومن قلة الخبرة في تنظيم جيوشهم؛ فلم يكونوا يعرفون الميمنة ولا الميسرة، ولا القلب ولا الجناح، ولا يعرفون من آلات الحرب العرَّادة، ولا المجانيق، وقارنوا بين حالة الجيش العربي والجيش الفارسي في تنظيمه وفي آلاته، وأبانوا ما للأول من حقارة، وما للثاني من عظم. وفات الشعوبية أن هذه المقارنة أحقر لشأنهم، وأوضع لمكانتهم؛ فهؤلاء العرب بآلاتهم الساذجة الحقيرة سحقوا الفرس بآلاتهم الضخمة العظيمة، وجيوشهم المنظمة الكثيرة!٢٥
ونوع آخر من مسالك الشعوبية، وهو أنهم في هذا العصر أكثروا من التأليف في مناقب العجم، فسعيد بن حُميد البخَتكان كان كاتبًا شاعرًا مترسلًا عذب الألفاظ، وكان يدعي أنه من أولاد ملوك الفرس، وكان شديد العصبية مع العرب، وألف كتاب «انتصاف العجم من العرب»، وكتاب «فضل العجم على العرب وافتخارها».٢٦ ونرى ابن النديم ينقل عن كتاب اسمه «مفاخر العجم»٢٧ وفي مقابل ذلك يضعون الكتب في مثالب العرب؛ كالهيثم بن عدِي (وهو من أشهر العلماء بالأخبار والرواية) جالس المنصور والمهدي والهادي والرشيد، وقد وضع عدة كتب في المثالب؛ منها: «كتاب المثالب الصغير»، و«كتاب المثالب الكبير»، و«كتاب مثالب ربيعة»، و«أسماء بغايا قريش في الجاهلية، وأسماء من ولدن». ويتصل بهذا كتاب له اسمه: «كتاب من تزوج من الموالي في العرب».٢٨ وكذلك سهل بن هارون صاحب «بيت الحكمة»، قال فيه ابن النديم: «كان حكيمًا فصيحًا شاعرًا، فارسي الأصل، شعوبي المذهب، شديد العصبية على العرب، وله في ذلك كتب كثيرة.»٢٩ وقد وضع رسالته المشهورة في البخل، ولعل ذلك منه نزعة شعوبية؛ لأن العرب كانوا يتمدّحون كثيرًا بالكرم، ويعدونه من أكبر مناقبهم، كما اشتهر الفرس بالبخل، فوضع سهل هذه الرسالة يقلب فيها قيمة الكرم والبخل، ويعد الكرم رذيلة والبخل فضيلة، وروى له صاحب زهر الآداب أبياتًا تدل على شعوبيته، يفتخر فيها بفارسيته، ويذم العربية، ويقارن بين بيته في ميسان، وبيت آخر عربي فيقول:
أجعلت بيتًا فوق رابية
َفرَعَ النجوم كأنه نجم
كَبُيَيْت شَعْر وسط مجْهَلة
بفنائه الجُعْلانُ وَالبُهْم؟٣٠
وألف عِلان الشعوبي (وأصله من الفرس) كتاب «الميدان في المثالب»، قال ابن النديم: إنه هتك فيه العرب، وأظهر مثالبها، ويحتوي على مثالب قريش، ومثالب تيم بن مرة، ومثالب بني أسد بن عبد العُزّى، ومثالب بني مخزوم، وعدّد القبائل كلها وذكر مثالبها.٣١
وألف أبو عبيدة معمر بن المَثّنى (وهو من أشهر العلماء في النحو والأخبار، وكان أصله من يهود فارس) كتبًا كثيرة تعرض فيها للعرب، منها «كتاب لصوص العرب»، وكتاب «أدعياء العرب»، كما ألف كتاب «فضائل الفرس».٣٢ وقال فيه ابن خلكان: «وكان يكره العرب، وألف في مثالبها كتبًا.»٣٣ وقد صور لنا ابن قتيبة نوعًا من الطعن الذي كان يستعمله أبو عبيدة؛ فقد عمد إلى مفاخر العرب فتهكم بها، كانوا يفخرون بقوس حاجب، ويعتزون بوفائه، فتضاحك عليه واستضحك الناس منه، واستسخف فعلَ حاجب، وخساسة عوده، وقلة ثمنه، ويذكره قول الشاعر:
أيا ابنةَ عبد الله، وابنةَ مالك،
ويا ابنة ذي البردين، والفرَس الوَرْدِ!
فيهزأ بالشعر، ويعجب في سخرية من التمدح بأن أباها ذو بردين وفرس ورد، ويقارن ذلك بملوك فارس وتيجانها، وأن أبرويز كان يرتبط تسعمائة وخمسين فيلًا على مرابطه، وتخدمه ألف جارية، وفي حجرته التي يشرف منها على الداخل عليه ألف إناء من ذهب.٣٤

وكتب المثالب هذه — على ما يظهر — عمدت إلى ما صدر عن كل قبيلة من بيت تعير به، أو عمل تؤاخذ عليه، أو جريمة ارتكبها أحد أفرادها فقيدتها وأذاعتها؛ للتشهير بالعرب جميعًا. كما أن كتب مناقب العجم ومفاخرها عمدت إلى ما استُحسن من عادات الفرس، وعظمة ملوكها، ونظام جيوشها، وسياسة ملكها فشادت به. ولم يصلنا شيء من هذه الكتب — على ما أعلم — كما لم يصلنا أي كتاب أُلف في بيان دعوى الشعوبية، وإنما وصل إلينا نتف من أقوالهم وآرائهم، أهمها ما ورد في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، وما ورد في العقد الفريد لابن عبد ربه، وما نقله ابن قتيبة في كتابه «العرب».

والظاهر أن أكبر سبب في ضياع هذه الكتب أن المسلمين عدوا هذه النزعة الشعوبية نزعة ضد الإسلام، فتحرجوا من نقل الكتب المؤلفة فيها، وتقربوا إلى الله بإعدامها، وبرِئ المخلصون من الميل إليها، كما فعل الزمخشري في أول كتابه المَفصل؛ فقد حمد الله «إذ جبله على الغضب للعرب، والعصبية لهم، وبرأه من الانضواء إلى لفيف الشعوبية».

ولم يقتصر هؤلاء الذين ذكرنا من علماء الشعوبية على وضع كتب المثالب؛ بل يظهر أنهم وضعوا في الأدب قصصًا كثيرة تؤيد جانبهم، وقد اختلقوها اختلًاقا، وكانت هذه أخطر على العرب من الحرب الظاهرة؛ لأن نقضها أصعب، والوقوف على بطلانها أعسر، ويمكننا أن ندرك أنهم لجئوا في ذلك إلى نوعين: النوع الأول: الوضع؛ وهو أن يضعوا القصص الشنيعة في شرح الأبيات أو الأمثال، ويختلقوا القصة اختلاقًا، كما فعل أبو عبيدة في شرح المثل: «جبان ما يلوى على الصَّفير»؛٣٥ فقد نقل البكري في كتابه «التنبيه على أوهام أبي علي القالي في أماليه»؛ حكاية في ذلك عن أبي عبيدة لا نستطيع ذكرها لشناعتها!٣٦ وروى الهيثم بن عدي قصة طويلة، تتلخص في أن رجلًا من تنوخ نزل بحي من بني عامر، فخرجت إليه جارية، فقالت: ممن أنت؟ قال: من تميم، فذكرت له أبيًاتًا في ذم تميم، فقال لها: لست من تميم بل أنا من قبيلة عِجْل، ففعلت ذلك، وما زال الرجل يذكر القبائل قبيلة قبيلة، وهي تروي الأبيات في ذمها حتى استنفد القبائل. ولما انتسب إلى بني هاشم قالت: أتعرف الذي يقول:
بني هاشم عودوا إلى نَخَلاتكم
فقد صار هذا التمر صاعًا بدرهم!
فإن قلتمو: رهط النبي محمد
فإن النصارى رهطُ عيسى ابن مريم!٣٧

والحكاية كلها على ما يظهر من وضع الشعوبية، أو من وضع الهيثم بن عدي نفسه، يرمي واضعها إلى ذكر مثالب القبائل العربية.

والنوع الثاني: نسبة الشيء إلى غير قائله، وهو طريق سلكوه لإفساد الأدب العربي، وإضاعة معالمه؛ حتى لا يكون للعرب أدب موثوق به، وتلك أكبر بغية لهم، ومن الأمثلة على ذلك: أن يقول أبو عبيدة البيتين الآتيين:

هينون لينون أيسار ذوو كرم
سواس مكرمة أبناء أيسار
إن يُسألوا الخير يعطوه وإن خُبِروا
في الجهد أُدرِك منهم طيب أخبار
إنها للعرنْدس الكلابي يمدح بني عمرو الغَنويين، فينكر الأصمعي عليه ذلك، ويقول: محال أن يمدح كلابي غنويًّا لما بينهما من العداوة!٣٨ ولو فحصنا الأدب في ضوء هذه النظرية؛ لو جدنا الشيء الكثير الموضوع للحطِّ من العرب، وإفساد الأدب، مما لا نستطيع أن نستقصيه هنا.
«كان في هذا العصر ثلاثة هم أئمة الناس في اللغة والشعر وعلوم العرب، لم يُر قبلهم ولا بعدهم مثلهم، عنهم أُخِذَ جُلُّ ما في أيدي الناس من هذا العلم، بل كله؛ وهم: أبو زيد الأنصاري، وأبو عبيدة، والأصمعي.»٣٩ وقد اشتهر أبو زيد بحفظ الغريب من اللغة والنحو، وَتَنازع الرياسة الاثنان الآخران، ويظهر أن الأصمعي بحكم عربيته كان يتعصب للعرب، وكان يتشدد فيما يروي، فلا يجيز إلا أصح اللغات، وكان لا يجيب في القرآن، ولا في الحديث خشية الخطأ.٤٠ وكان لا يقول في شيء برأيه، وكان لا يفسر شعرًا فيه هجاء.٤١ كأنه كان يرى أن ذلك يمس ديَنه! وكأنه يرى أن في الهجاء حطًّا من المهجو أو قبيلته، وفي ذلك مساس بالعربية، وكان يمتاز عن أبي عبيدة بحسن إلقائه، ولطف نغمته. أما أبو عبيدة فيظهر أنه كان أوسع علمًا، وأكثر ثقافة، يعرف تاريخ الفرس لفارسيته، والثقافة اليهودية ليهودية آبائه، والثقافة الإسلامية لأنه نشأ فيها. ولكنه لم يكن يحسن التعبير كالأصمعي، وكان حر الرأي يفسر القرآن برأيه، فيؤاخذه الأصمعي على ذلك،٤٢ وليس للعرب حرمة في نفسه؛ إذ ليس بعربي، بل في نفسه الكراهة لهم، فهو يطلق لسانه في هجوهم، وذكر مثالبهم. وقد استغوى الناس بسعة اطلاعه، كما استغوى الناس الأصمعي بفصاحته وحسن بيانه. قال الجاحظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا إجماعي أعلم بجميع العلوم من أبي عبيدة.٤٣ وقالوا: «إن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر! لأن الأصمعي كان حسن الإسناد والزخرفة لرديء الأخبار والأشعار حتى يحسن عنده القبيح، وإن الفائدة مع ذلك عنده قليلة. وإن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة، مع فوائد كثيرة، وعلوم جمة.»٤٤ ويظهر أن كلًّا من الأصمعي وأبي عبيدة كان في عصره يمثل فكره؛ فالأصمعي يمثل العربية، والتعصب لها، وحب العرب وإجلالهم والإشادة بذكرهم، وأبو عبيدة يمثل فكرة الشعوبية، والبحث عن معايب العرب والتشهير بهم. وكان كلٌّ زعيمًا، يلتف حوله من يؤيدون فكرته، ويناصرونه ويتعصبون له؛ العرب حول الأصمعي، والفرس حول أبي عبيدة، فنرى إسحاق بن إبراهيم الموصلي (وهو فارسي) يقول للفضل بن الربيع:
عليك أبا عبيدة فاصطنعه
فإن العلم عند أبي عبيدة
وقدمه، وآثره عليه،
ودع عنك القُرَيْدَ بن القُرَيْدَة!٤٥
ويقول أبو الفرج الأصفهاني: إن إسحاق الموصلي «كشف للرشيد معايب الأصمعي، وأخبره بقلة شكره وبخله وضعة نفسه، وأن الصنيعة لا تزكو عنده، ووصف له أبا عبيدة بالثقة والصدق والسماحة والعلم، وفعل مثلَ ذلك للفضل بن الربيع، واستعان به، ولم يزل حتى وضع مرتبة الأصمعي وأسقطه عندهم، وأنفذوا إلى أبي عبيدة من أْقدمه.»٤٦ ونجد أبا نواس — ونزعته الفارسية لا تنكر — يقدم أبا عبيدَة على الأصمعي، ويقول: «أما أبو عبيدة فإنهم إن أمكنوه قرأ عليهم أخبار الأولين والآخرين، وأما الأصمعي َفبُلبل يطربهم بنغماته.» ونجد الأصمعي من ناحية أخرى يذم البرامكة، ويقول:
إذا ذُكر الشّرك في مجلس
أضاءت وجوه بني بَرْمكِ
وإن تُلِيَت عندهم آية
أتوا بالأحاديث عن مَزْدَكِ
وأبو عبيدة يشِيد بذكر الفرس، ويؤلف كتاب «فضائل الفرس»، ويؤلف كتابًا في أخبار الفرس يصف فيه طبقات ملوكهم ممن سلف وخلف، وأخبارهم وخطبهم، وتشعب أنسابهم، وما بنوه من المدن وكَوروه من الكور، واحتفروه من الأنهار، وأهلَ البيوتات منهم، وما وسم به كلُّ فريق من السهارجة وغيرهم.٤٧
ومن آثار الشعوبية أنهم لونوا ما رووا من تاريخ الفرس لونًا زاهيًا جميلًا، ونسبوا إلى ملوكهم الحكم الرائعة، والسياسة الحكيمة، وكسوه أبهة وعظمة بالغوا فيهما، وزعموا أن الفرس من ولد إسحاق بن إبراهيم عليه السلام، والعرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، وإسحاق ابن سارة الحرةِ، وإسماعيل ابن هاجر الأمة؛ فهم أفضل من العرب لأنهم بنو الأحرار، وأما العرب فبنو اللَّخناء.٤٨ وهي دعوى غير صحيحة علميًّا، وإنما وضعت ليرفع الفرس من شأنهم، وليفخروا بها على العرب، كما زعموا أن سابور سُمِّي ذا الأكتاف؛ لأنه أوقع بالعرب في العراق، وخلع أكتافهم.٤٩
وأغرب من ذلك ما اخترعه شعوبية النبط من حديثٍ نسبوه إلى علي بن أبي طالب؛ فقد رووا أن رجلًا سأله فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن أصلكم معاشر قريش. فقال: نحن قوم من نَبط كوثَى، ورووا عن ابن عباس أنه قال: نحن معاشر قريش من النبط من أهل كوثى! وفي رواية أخرى عن علي أنه قال: من كان سائلًا عن نسبتنا فإنا نبط من كوثى.٥٠ وقد أتعب العلماء أنفسهم في تفسير هذه الأحاديث، فقال بعضهم إنهما أرادا التبرؤ من الفخر بالأنساب، وقال قوم إن كوثى اسم من أسماء مكة، ولو أنصفوا لأراحوا أنفسهم من تأويل هذا الهذيان.
واستغل الفرس سلمان الفارسي استغلالًا عظيمًا، فرووا له من الزهد والحكمة والعلم ما لم يرو لأي صحابي آخر، حتى جعلوا عمره فوق أعمار الناس؛ فقيل إنه أدرك عيسى (عليه السلام) وروى أبو الشيخ في طبقات الأصفهانيين أن أهل العلم يقولون: عاش سلمان ثلثمائة وخمسين سنة، فأما مائتان وخمسون فلا يشكون فيها!٥١ ورووا عن رسول الله أنه تلا هذه الآية وَإِن تَتَولَّوْا يَسَْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ فقالوا من يستبدل بنا؟ فضرب على منكِب سلمان. ثم قال: «هذا وقومه، والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطًا بالثريا لناله رجالٌ من فارس.» وهو الذي قيل فيه: سلمان منا أهل البيت، وهو الذي أشار على النبي بحفر الخندق. ومن ذلك الحين عرف العرب كيف يستعملون الخنادق في الحروب؛ فهم في ذلك مدينون للفرس. وعلى الجملة فقد اتخذه الفرس وسيلة لبيان عظمتهم، وأن لهم فضلًا كبيرًا على المسلمين.٥٢
وكان للشعوبية مجال فسيح في الحديث، فقد وضعوا الأحاديث الكثيرة في فضل الفرس، وأسندوها إلى الثقات من الصحابة والتابعين؛ مثل ما رُوي أن الأعاجم ذكرت عن رسول أنه قال: «لأنا ببعضهم أوثق مني بِكُم.» وفي رواية «لأنا ببعضهم أوثق مني ببعضكم.»٥٣ وفي حديث آخر: «سيأتي ملِك من ملوك العجم فيظهر على المدائن كلها إلا دمشق.»٥٤
وفي حديث «لا تسبوا فارسًا فما سبهم أحد إلا انْتُقِم منه عاجلًا أو آجلًا.» «ورأى النبي كأنَّه ردِفه غنم سود، فردِفته غنم بيض، ما يرى السود فيها لكثرتها، فأخبر النبي بذلك أبا بكر فقال: السود العرب ويسلمون، والبيض العجم يسلمون بعدهم، حتى ما يرى فيهم العرب لكثرتهم. فقال بذلك أخبرني الملك سَحَرًا»٥٥ ومن هذا القبيل ما وضعوه من الأحاديث الكثيرة حول الإمام أبي حنيفة الفارسي الأصل، يزعمون أن النبي أشار بها إليه أو نص عليه؛ كالذي روى: لو كان العلم معلَّقًا عند الثُّريا لتناوله رجل من فارس، وكالذي رووا: أن آدم افتخر بي وأنا أفتخر برجل من أمتي اسمه نعمان، وكنيته أبو حنيفة هو سراج أمتي. ورووا أن النبي قال: «إن سائر الأنبياء يفتخرون بي، وأنا أفتخر بأبي حنيفة، من أحبه فقد أحبني، ومن أبغضه فقد أبغضني.»٥٦
والحق إن العرب ومن تعصب لهم قابلوا عملهم بمثله، فوضعوا الأحاديث الكثيرة في تفضيل العرب، ووجوب حبهم، مثل: «من غَشَّ العرب لم يدخل في شفاعتي، ولم تَنله مودتي.» ومثل: «إذا اختلف الناس فالحق في مضر.» ومثل: «أحِبوا العرب لثلاث؛ لأني عربي، والقرآن عربي، ولسان أهل الجنة في الجنة عربي.» ومن ألطف ذلك أنهم رووا حديثًا للنبي مع سلمان الفارسي نفسه، ذلك أن رسول الله قال: «يا سلمان لاتبغضني فتفارق دينك. قال: قلت: يا رسول الله، كيف أبغضك وبك هداني الله؟! قال: لا تبغض العرب فتبغضني.» … إلخ.٥٧ وتعاليم الإسلام التي تدعو إلى المساواة، وتعلم أن الفضل ليس إلا بالتقوى؛ تأبى مدح الفرس أو العرب أو أي أمة لجنسيتها.
ونكاد نجد إصبع الشعوبية في كل علم حتى في الفقه؛ فلو قرأت مثلا باب الكفاءة في الزواج، لرأيت أن الأئمة أنفسهم لم تؤثر فيهم العصبية أي أثر، فالإمام مالك العربي لم يعتبر الكفاءة، وعنده أن العجمي يتزوج العربية من غير أن يكون للولي حق الاعتراض، ومذهب أبي حنيفة الفارسي يعتبر الكفاءة؛ فالقرشيون٥٨ أكفاء لبعض، وليس غير القرشي كفئًا لهم، والعجمي ليس كفئًا للعربية. ولكن سرعان ما نجد نظرية توضع على بساط البحث يهدم بها الجزء الأكبر من العصبية العربية، وهي: «شرف العلم فوق شرف النسب.» قال قاضيخان: «الحسيب يكون كفئًا للنسيب، فالعالم العجمي يكون كفئًا للجاهل العربي والعَلوِية، لأن شرف العلم فوق شرف النسب.»٥٩ وقالوا: «وكيف يصح لأحد أن يقول إن مثل أبي حنيفة أو الحسن البصري وغيرهما ممن ليس بعربي لا يكون كفئًا لبنت قرشي جاهل، أو لبنت عربي بوَّالٍ على عقبيه؟!»٦٠ ويطول بنا القول لو عددنا أثر الشعوبية في كل علم.

ومما نأسف له أن الشعوبية أزهرت في عصر تدوين العلوم، وكلُّ حركة علمية كانت بعد إنما أُسست على ما دُوّن في هذا العصر العباسي الشعوبي، ولم يكن لنا علم مدون قبل ذلك، وهذا يجعل استكشاف الآثار الشعوبية صعبًا غامضًا، فلو كان لدينا تاريخ مدون في العصر الأموي لفهمنا كيف تلاعب به الشعوبيون في العصر العباسي، ولو كان لدينا تاريخ للفرس موثوق به دون أثناء حكم الفرس؛ لأدركنا في وضوح كيف جمّله الشعوبيون. ولو كان العرب في العصر الإسلامي الأول وضعوا كتبًا في الأنساب ومناقبها ومثالبها ووصلت إلينا لعرفنا ما اختلقه الشعوبيون عليهم لإفساد أنسابهم، والحط من شأنهم، وهكذا في كل العلوم. ولكن قدر أن يقترن تدوين العلم بسطوة الشعوبية، فكان ذلك من سوء حظ العلم، ولذلك أجهد العلماء أنفسهم في تَعرف أسرار الشعوبية، وخفاياها وآثارها في العلم، وما يزال المدى أمامهم فسيحًا، والبحث في مهده.

ومع هذا فقد كان للشعوبية جانب حسن؛ فقد أتت الشعوبية وكل شيء للعرب يمجد، من نسب عربي، ولغة عربية، ورأيٍ عربي، وعاداتٍ عربية، فأخذ الشعوبيون يعرِضون هذا للنقد والتحليل؛ عرضوا أنساب العرب للنَّقد، كالذي فعل أبو عبيدة مع غلوه، فكان يرد على قوم ينتسبون للعرب، َفيبين أن النسبة كاذبة مختلقة، وفي كتاب الأغاني عن أبي عبيدة من هذا الشيء الكثير، وعرضوا اللغة العربية للنقد؛ فسيبويه في كتابه النحو يخَطِّئ العرب في بعض أقوالهم، ويدعي العرب أن البلاغة ليست إلا فيهم، فيرد الشعوبية بأن هناك أممًا أخرى لها بلاغة ولها خطب، ولها حكم لا تقل عما للعرب، وينبهون على أن عادات العرب ليست المثل الأعلى للعادات؛ ففيها الحقير المرذول، والجيد المحمود، كل هذا النقد وأمثاله استتبع نتيجة جيدة من بعض الوجوه، وهي: عرض ما للأمم الأخرى من كل ذلك لتكون المقارنة أتم، فتُعرض الكلمات الفارسية بجانب الكلمات العربية، والحكم الأجنبية والبلاغة الأجنبية بجانب البلاغة والحكم العربية، والنظام الفارسي والأدب الأجنبي بجانب النظام والأدب العربيين، ونحو ذلك، وهذا من غير شك مفيد للعلم والعقل.

نعم، لو وقفت الشعوبية عند هذا الحد فلم يتهجوا على العرب بقلب محاسنهم مساوئ، والتشهير بهم بالحق حينًا، وبالباطل أحيانًا، ولم يحاولوا إفساد الدين بالزندقة، وإفساد العلم بالأكاذيب، ولو وقفوا عند ذلك لأحسنوا، ولكنهم أفرطوا فخسروا كثيرًا وكرِهوا ومُقِتوا كثيرًا.

١  الهيعة: الصوت الذي تفزع منه وتخافه من عدو.
٢  العقد الفريد ٢: ٥٠.
٣  زهر الآداب، على هامش العقد، جزء ٢: ٢.
٤  من أدلة الوضع أن العبارة الثانية وردت في مجموعة الرسائل، طبع الجوانب من كلام هلال العسكري.
٥  زهر الآداب ٢: ٢.
٦  العقد ٢: ٨٩.
٧  محاضرات الأدباء ١: ٢١٩.
٨  العقد ٢: ٩.
٩  انظر المقريزي ١: ٧٩ و٨٠.
١٠  ص ٣٦.
١١  الحيوان جزء ٧: ٦٨، والعبارة في الأصل سقيمة وقد اختصرناها.
١٢  انظر في ذلك كتاب جولدزيهر “Muhammedanische studien” وقد عقد فيه فصلًا ممتعًا في الشعوبية استفدنا منه، كثيرًا في بحثنا.
١٣  جزء ٤: ٢٦٥.
١٤  يريد ببنوي ما كان من أبناء الدعاة إلى الدولة العباسية.
١٥  رسائل الجاحظ: ١٧.
١٦  المصدر عينه: ٢٢.
١٧  كتاب العرب من رسائل البلغاء، ص ٢٧٠.
١٨  يكنى بجمل عن العرب.
١٩  يحابر، وجرم، وعكل: أسماء قبائل عربية.
٢٠  يريد بجم: جمشيد ملك الفرس.
٢١  الكابيان: نسبة إلى كابة (جاوة)، حداد فارسي رفع علم الثورة، وقد ورد في الأصل الكاتبان، وهو خطأ.
٢٢  معجم الأدباء ١: ٣٢٣.
٢٣  البيان والتبيين ٣: ٦.
٢٤  المصدر نفسه.
٢٥  انظر في ذلك الجزء الثالث من البيان والتبيين.
٢٦  فهرست ابن النديم ١٢٣.
٢٧  الفهرست ٤٢.
٢٨  الفهرست ٩٩ و١٠٠.
٢٩  الفهرست ١٢٠.
٣٠  هامش العقد ٢: ١٩٠.
٣١  الفهرست ١٠٥ و١٠٦.
٣٢  الفهرست: ٥٤.
٣٣  ٢: ١٥٥.
٣٤  انظر رسائل البلغاء: ٢٧١ وما بعدها.
٣٥  ما يلوي: أي ما يعرج لشدة جبنة على من يصفر به.
٣٦  التنبيه: ٧٧.
٣٧  تجد الحكاية بطولها في مروج الذهب للمسعودي، من ١٧٥–١٨٠ في الجزء الثاني.
٣٨  انظر التنبيه: ٧٢ و٧٣.
٣٩  المزهر ٢: ٢٠٢.
٤٠  المزهر للسيوطي.
٤١  المصدر نفسه ٢: ٢٠٩.
٤٢  ابن خلكان ٢: ١٥٥.
٤٣  ابن خلكان ٢: ١٥٤.
٤٤  ابن خلكان ٢: ١٥٦.
٤٥  يعني الأصمعي.
٤٦  الأغاني ٥: ١٠٧.
٤٧  المسعودي ١: ١١٣.
٤٨  انظر رسائل البلغاء ص ٢٦٥.
٤٩  المسعودي ١: ١٢٣.
٥٠  انظر الأحاديث في لسان العرب ٢: ٤٨٧، ومعجم ياقوت في مادة «كوثى»، وكوثى بلدة بسواد العراق.
٥١  الإصابة لابن حجر ٣: ١١٣.
٥٢  وقد رووا أن النبي أملى كتابًا على علي فيه أنه فدى سلمان وجعل ولاءه له، وأرخ الكتاب في جمادى في السنة الأولى الهجرية وقد فند الخطيب البغدادي هذا الكتاب تفنيدًا دقيقًا فانظره في الجزء الأول صفحة ١٧٠.
٥٣  تيسير الوصول ٣: ١١١.
٥٤  المرجع نفسه ٣: ١٢٧.
٥٥  محاضرات الأدباء للأصفهاني ١: ٢١٩.
٥٦  انظر ابن عابدين وهامشه ١: ٥٤ و٥٥.
٥٧  ابن قتيبة في رسائل البلغاء ٢٩٣.
٥٨  في المبسوط للسرخسي «أن سفيان الثوري كان من العرب فتواضع ورأي الموالي أكفاء له، وأن أبا حنيفة كان من الموالي فتواضع، ولم ير نفسه كفئًا للعرب.» ٥: ٢٢.
٥٩  ابن عابدين ٢: ٤٩٨.
٦٠  المصدر نفسه ٤٩٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤