الفصل السادس

حياة الزندقة وحياة الإيمان

كما قد رأينا في الفصل السابق حياة فيها لهو ومجون، ونعيم ورخاء، وحياة فيها جد وزهد وبؤس وشقاء؛ نرى في هذا الفصل ألوانا أخرى من الحياة؛ هي حياة القلب والعقل، والعاطفة والدين، فنرى صراعا بين الشك والزندقة والإلحاد، وبين الإيمان الخالص والاعتقاد الصادق. ويخيل إلينا ونحن نقرأ تاريخ هاتين الحركتين أننا في موقف قتال مسَتعِر، تستخدم فيه كل وسائل الحروب؛ فخدع ومكايد ووسائل سرية أحيانًا، ولجوء إلى السيف وسفك للدماء أحيانًا، وعقد مجالس ومقارعة بالحجج أحيانًا، ثم الحرب سِجال؛ يوم ينتصر فيه الملحدون بما يثيرون من شكوك وأوهام، وبما يضللون من ناشئة وشبان، فإن عجزوا ظاهرًا استعملوا طريق الغواية سرًّا، تحت مظهر التشيع، أو الغيرة على الإسلام أو نحو ذلك، ويوم ينتصر فيه المؤمنون فينكلون بالملحدين تنكيلًا، ويوقعون بهم قتلًا وتشريدًا، ثم بما يؤلفون من كتب ينقضون شبههم، ويبطلون حججهم.

ولكن لم يُعْنَ المؤرخون بتسجيل هذه الحرب ووقائعها كما عُنوا بتسجيل الحروب السياسية، إنما يعثر الباحث في ثنايا الكتب على نتف مبعثرة، قد يستطيع في عناء أن يؤلّف منها وِحدة، ويكون منها سلسلة متصلة الحلقات.

الزندقة: نلاحظ في هذا العصر الذي نؤرخه تردد كلمة «الزندقة» على الألسنة، وكثرة اتهام الناس بها حقًّا وباطلًا، وتنبه الرأي العام إلى هذا المعنى تنبهًا دقيقًا؛ فهم يسمعون شعر الشاعر فسرعان ما يلتفتون إلى شيء فيه يتهمونه من أجله بالزندقة، أو يرون فعلًا صدر من إنسان، أو كلمة قالها جَدًّا أو هزلًا، أو إشارة أشار بها فيرمونه بالزندقة.١

ونحن إذا قارنا بين انتشار هذه الكلمة في العصر الأموي والعصر العباسي، وجدنا استعمال الكلمة في العصر الأموي قليلًا نادرًا، وفي العصر العباسي فاشيًا شائعًا؛ فمثلًا اتُّهِمَ عبد الصمد بن عبد الأعلى مؤدب الوليد بن يزيد بن عبد الملك بالزندقة في العصر الأموي، واتهم الوليد بن يزيد كذلك، ولكن هذا قليل نادر، أما في العصر العباسي فالأخبار بالزندقة مستفيضة، والمتهمون بها كثيرون.

والسبب في ذلك: أن الزندقة في بعض معانيها (وهو الشك أو الإلحاد) إنما تقترن عادة بالبحث العلمي، وهو في العصر العباسي أبين وأظهر، ذلك أن العلم الذي كان شائعًا في العصر الأموي كان العلم الديني؛ من جمع للحديث وتفسير للقرآن الكريم، واستنباط الأحكام الشرعية منهما. وهذه لا تثير في النفوس شكوكًا تبعث على الزندقة، إنما الذي قد يثير هذه الشكوك مذاهب الكلام، والجدال الديني حول المسائل الأساسية في الأديان، والبحث الفلسفي على النحو الذي يبحثه أرسطو وأفلاطون في المادة والصورة، والجزء الذي لا يتجزأ والجوهر والعرض، وما إلى ذلك. وهذه الأشياء كانت قليلة في العصر الأموي، وهي وفيرة جدًّا في العصر العباسي.

وسبب ثانٍ هو أن بعض الفرس رأوا أن انتقال الخلافة من الأمويين إلى العباسيين لم يحقق مطالبهم؛ فقد انتقلوا من يدٍ عربية (وهي اليد الأموية) إلى يد أخرى هي يد العباسيين، ومطمح نفوسهم أن تكون الحكومة فارسية في مظهرها وحقيقتها، في سلطتها ولغتها ودينها، ورأوا أن ذلك لا يتحقق والإسلام في سلطانه، فأخذوا يعملون لنشر المانوية والزرادشتية والمزدكية ظاهرًا إن أمكن، وخفية إذا لم يمكن، فكان من ذلك فشو الزندقة.

يضاف إلى ذلك أن الدولة الأموية — كما قدمنا — كانت دولة العرب، فالحكم في أيديهم والملك لهم، وولاتهم ورجالهم عرب، والموالي أذلاء مضطهدون. والعرب لا تعرف الزندقة كثيرًا، ولا تميل إليها؛ فهم مطمئنون إلى ملكهم وإلى دينهم، فلما أتت الدولة العباسية انتعش الموالي، وخاصة الفرس، وأصبح أكثر السلطان في أيديهم، وغلبوا على العرب، وقد كانت لهم ديانات سابقة لم ينسوها جميعًا لما اعتنقوا الإسلام، وكانوا لا يجرءون في الحكم الأموي أن ينبسِوا بكلمة، وكان همهم الأول أن يتحرروا سياسيًّا لا دينيًّا، فكانت دعواتهم السرية واجتماعاتهم وتدابيرهم للسياسة لا الدين. والزندقة إنما هي في الدين لا في السياسة، فلما نجحوا واطمأنوا وغَلبوا بدأت تلعب في رءوسهم الديانات القديمة والجديدة فكانت الزندقة.

نرى اسم الزنادقة مقرونًا بالمجان في عهد أبي جعفر المنصور، فيذكر الطبري: «المنصور وجه مع محمد بن أبي العباس بالزنادقة والمجان، فكان فيهم حماد عجرد، فأقاموا معه بالبصرة يظهر منهم المجون، وإنما أراد بذلك أن يبغضه إلى الناس.»٢ وكان محمد بن أبي العباس مرشحًا للخلافة، فأراد من إحاطته بالزنادقة والمجان أن يكرهه الناس، فيتسنى له أن يرشح ابنه المهدي، ولعل ذلك كان سببًا في لفت نظر المهدي إلى الزنادقة، فقد كان قرب محمد بن أبي العباس منهم مبعِدا له عن الخلافة، فليتقرب هو إلى الله وإلى الناس باضطهادهم!
على كل حال لم يعرف عن المنصور إمعان في اضطهادهم، وكانت سياسته — على ما يظهر — قمع الفتن الظاهرة فقط. فلما جاء المهدي كان من أظهر المسائل في تاريخه تنكيله بالزنادقة، والفحص عنهم؛ فقد عين رجلًا وكل إليه أمرهم سماه «صاحب الزنادقة». يقول في الأغاني: «لما نزل المهدي البصرة كان معه حمدويه صاحب الزنادقة، فدفع إليه بشارًا، وقال: اضربه ضرب التلف.»٣
وقال في موضع آخر: «أمر المهدي (عبد الجبار) صاحب الزنادقة فضرب بشارا.»٤ وهذه أولُ مرة نسمع فيها بتعيين رجل خاص يعهد إليه أمرهم، يبحث عنهم، وينكل بهم. ويقول الطبري في حوادث سنة ١٦٧: وفيها جد المهدي في طلب الزنادقة، والبحث عنهم في الآفاق وقتلهم، وولى أمرهم «عمر الكلواذي».٥
ويقول المسعودي في المهدي: «إنه أمعن في قتل الملحدين والمداهنين عن الدين لظهورهم في أيامه، وإعلانهم باعتقاداتهم في خلافته لِما انتشر من كتب ماني، وابن ديصان٦ ومرقيون؛ مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره، وترجمه من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنف في ذلك ابن أبي العوجاء٧ وحماد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس من تأييد المذاهب المانوية والديصانية٨ والمرقونية، فكثر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس. وكان المهدي أولَ من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب في الرد على الملحدين ممن ذكرنا من الجاحدين وغيرهم، وأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شبه الملحدين فأوضحوا الحق للشاكين.»٩

إذن قام المهدي بعملين نحو الزنادقة؛ إنشاء إدارة للبحث عنهم ومحاكمتهم، وإنشاء هيئة علمية لمناظرتهم، وتأليف الكتب للرد عليهم.

وعلى الجملة؛ فقد كان المهدي شديد الاهتمام بهذه الفئة، حتى لم ينس أن ينصح ابنه إذا قلِّد الأمر أن ينكل بهم، فالطبري يذكر: «أن المهدي قال لموسى (هو ابنه الهادي) يومًا وقد قدم إليه زنديق فاستتابه فأبى أن يتوب، فضرب عنقه وأمر بصلبه: يا بني إن صار لك هذا الأمر فتجرد لهذه العصابة (يعني أصحاب ماني)؛ فإنهم فرقة تدعو الناس إلى ظاهر حسن كاجتناب الفواحش، والزهد في الدنيا، والعمل للآخرة، ثم تخرجها إلى تحريم اللحم، ومس الماء الطهور، وترك قتل الهوام تحرجًا وتحوبًا، ثم تخرجها من هذا إلى عبادة اثنين أحدهما النور، والآخر الظلمة، ثم تبيح بعد هذا نكاح الأخوات والبنات، والاغتسال بالبول، وسرقة الأطفال من الطرق لتنقذهم من ضلال الظلمة إلى هداية النور، فارفع فيها الخشب، وجرد فيها السيف، وتقرب بأمرها إلى الله لا شريك له؛ فإني رأيت جدك العباس في المنام قلدني بسيفين، وأمرني بقتل أصحاب الاثنين.» «فقال موسى بعد أن مضت من أيامه عشرة أشهر: أما والله لئن عشت لأقتلن هذه الفرقة كلها، حتى لا أترك منها عينًا تطرِف. ويقال إنه أمر أن يُهيأ له ألف جِذع، فقال هذا في شهر كذا، ومات بعد شهرين.»١٠

وقد أنفذ الهادي وصية أبيه، فكان يقتل الزنادقة، ويروي الطبري في حوادث سنة ١٦٩: أن الهادي اشتد هذه السنة في طلب الزنادقة، فقتل منهم فيها جماعة؛ فكان ممن قتل منهم يزدان بن باذان كاتب يقطين، وابنه علي بن يقطين مِن أهل النهروان. ذكر عنه أنه حج فنظر إلى الناس يهرولون في الطواف فقال: ما أُشبههم إلا ببقر تدوس في البيدر. وله يقول العلاء ابن الحداد الأعمى:

أيا أمين الله في خلْقِهِ
ووارث الكعبةِ والمِنبْر
ماذا تَرى في رجلٍ كافرٍ
يشبه الكعبة بالبيَدرْ١١
ويجعلُ الناس إذا ما سعَوْا
حُمُرًا تَدوسُ البُرّ والدَّوْسَرْ١٢
فقتله موسى ثم صلبه.١٣
ولما ولي هارون الرشيد سلك سبيل من قبله من الخلفاء في تعُقب الزنادقة، فيحدثنا الطبري في حوادث سنة ١٧١ أن الرشيد في هذه السنة أمن من كان هاربًا أو مستخفيًا، غير نفر من الزنادقة، منهم يونس بن فروة، ويزيد بن الفيض.١٤
حتى المأمون بلغه خبر عشرة من الزنادقة من أهل البصرة، يذهبون إلى قول «ماني»، ويقولون بالنور والظلمة، فأمر بحملهم إليه بعد أن سموا واحدًا واحدًا؛ فكان يدعوهم رجلًا رجلًا، ويسألهم عن دينهم فيخبرونه بالإسلام فيمتحنهم بأن يُظهر لهم صورة ماني، ويأمرهم أن يتفلوا عليها، ويتبرءوا منها، ويأمرهم بذبح طائر ماء وهو الدرج، وقد أبوا ذلك فقتلهم.١٥

وفي عهد المعتصم كانت حادثة عظمى في تاريخ الزندقة، وهي محاكمة «الْأَفْشين» (قائد جيوش المعتصم)؛ فإنه لما شق عصا الطاعة اتهم بالزندقة، وأُلفت محكمة لمحاكمته، كان من أعضائها محمد بن عبد الملك الزيات، وأحمد بن أبي داود، وقد اتُّهِمَ الأفشين بجملة تهم:

  • (١)

    أنه عمد إلى رجلين كانا قد وجدا بيتًا فيه أصنام في أشروسنة، فأخرجا الأصنام منه، وحولاه مسجدًا، وصار أحدهما إمامًا للمسجد، والآخر مؤذنًا، فضربهما الأفشين كلًّا ألف سوط، حتى عريت ظهروهما من اللحم.

وقد دافع عن نفسه، بأنه كان بينه وبين ملوك السعد عهد أن يترك كلَّ قوم على دينهم؛ فكان عملُ الإمام والمؤذن تعديًا على ما التزمه من حرية الأديان.

  • (٢)

    واتهم كذلك بأنه عثر في بيته على كتاب قد زين بالذهب والجوهر والديباج، فيه كفر بالله.

ورد على هذه التهمة بالإقرار بها، وأنه ورث الكتاب عن آبائه، والكتاب فيه أدب من آداب العجم، وفيه كفر؛ فانتفع بما فيه من أدب، وترك ما فيه من كفر، ولم يكن بحاجة إلى مالٍ حتى يجرد الكتاب من حليته، وليس شأن الكتاب بعد ذلك إلا شأن كتاب كليلة ودمنة وكتاب مزدك، وهما في منازل القضاة، لم يعترض عليها معترض!

  • (٣)

    واتهم أيضًا بأنه كان يأكل المخنوقة، ويزعم أنها أرطب لحمًا من المذبوحة، وكان يقتل شاة سوداء كلّ يوم أربعاء، يضرب وسطها بالسيف، ثم يمشي بين نصفيها ويأكل لحمها.

وقد رد على هذا بأن من شهد عليه بهذه الشهادة، يعترف خصومه بأنه ليس ثقة ولا معدلًا، وليس بين منزل الشاهد ومنزل الأفشين باب أو كوة يطلع عليه منها ويتعرف أخباره.

  • (٤)
    واتهم بأن أهل مملكته كانوا يكتبون إليه باللغة الأشروسنية ما تفسيره بالعربية إلى إله الآلهة، مِن عبدِه فلان بن فلان: فماذا أبقى بعد لفرعون إذ يقول أَنَا رَبُّكُمُ الأعلَى.

وقد أجاب بأن هؤلاء القوم كانوا يكتبون لأبي وجدي كذلك، ولي قبل أن أدخل في الإسلام، فكرهت أن أضع نفسي دونهم، فتفسد عليّ طاعتهم.

  • (٥)

    واتهم خامسًا أن أخاه كتب إلى «قوهيار» إنه ليس من ينصر هذا الدين الأبيض (يريد المجوسية) إلا أنا وأنت وبابك؛ فأما بابك فقد قتل نفسه بحمقه، فإن خالفت لم يكن للقوم من يرمونك به غيري، ومعي الفرسان وأهل النجدة والبأس، فإن وجهت إليك لم يبق أحد يحاربنا إلا ثلاثة: العرب، والمغاربة، والأتراك. والعربي بمنزلة الكلب، اطرح له كِسرة، ثم اضرب رأسه بالدبوس. وهؤلاء الذباب (يعني المغاربة) إنما هم أكلة راس. وأولاد الشياطين (يعني الأتراك) فإنما هي ساعة حتى تنفد سهامهم، ثم تجول عليهم الخيلُ جولة، فتأتي على آخرهم، ويعود الدين إلى ما لم يزل عليه أيام العجم.

وخلاصة هذه التهمة العظمى محاولته قلب المملكة الإسلامية، ومحو الخلافة، ومحو الدين الإسلامي، وإعادة المملكة العجمية كما كانت، بلغتها ودينها وسلطانها. وقد أنكر هذا الكتاب، وقال إن عمل أخيه لا يلزمه، ولو صح لكانت هذه حيلة مني، أريد أن أستميله حتى يثق بي، ثم آتي به الخليفةَ لأحظى به عنده.

  • (٦)

    واتهم أيضا بتهمة ترك الاختتان.

فقال إنه خاف أن يقطع ذلك من جسده فيموت، وما علم أن في ترك الاختتان الخروج من الإسلام.

فرد إلى الحبس، ومنع عنه الطعام والشراب إلى أن مات، ثم صلب، وأحرق بالنار١٦ وقد مدحه أبو تمام أولا بمدائح كثيرة؛ منها:
لقد لبس الأفْشِينُ قسطَلة الوغى
مِحشًّا بَِنصْل السيفِ غيرَ مُوَاكلِ١٧
وجرّدَ من آرائه حين أضْرمَتْ
به الحربُ حدًّا مثلَ حدّ المناصل
وسارتْ به بين القنابلِ والَقَنا
عزائمُ كانت كالَقَنا والقنابلِ١٨
وقد ظُلِّلت عِقبانُ أعلامه ضُحًى
بِعِقْبانِ طيرٍ في الدماءِ نواهِلِ
تراهُ إلى الهَيْجاءِ أولِ راكب
وتحتَ صَبِيرِ الموتِ أولَ نازلِ١٩

فلما صلِب وأُحرِق عاد فذمه في قصيدة طويلة منها:

قد كان بوّأهُ الخليفةُ جانبًا
مِنْ قْلبِه حَرَمًا على الأقدار
فإذا ابنُ كافرة يُسِرُّ بكُفره
وَجْدًا كوجِْد فَرزْدقٍ بنُوار

ومنها:

ما زال سِرُّ الكفر بين ضُلوعه
حتى اصْطَلى سِرَّ الزناد الواري
نارًا يُساورُ جسمه من حرّها
لَهبٌ كما عصْفرَتْ شقَّ إزار
َطارت لها شُعلٌ يُهَدِّمُ لَفْحَُها
أركانه هدمًا بِغَير غُبَارِ
فصلْن منه كلّ مجمع مفْصِلٍ
وَفعْلن فاقِرة بكل فقار٢٠
مشبوبة رفعت لأعظم مُشرك
ما كان يرفَع ضوءها للسَّارِي
صلّى لها حيًّا وكان وَقودَها
مَيتًا ويدخلها مع الفُجَّار
يا مَشْهَدًا صدرتْ بفرحته إلى
أمصارِها القصوى بنو الأمصار
رمقوا أعالي جِذْعه فكأنما
وجدوا الهِلالَ عشية الإفْطَار

ويقول التبريزي: «لم يكن الأفشين كافرًا، ولا منافقًا، وإنما كان رجلًا من الفرس اصطفاه المعتصم لحسن طاعته وخدمته، واعتمد عليه في مهام أموره، حتى وكّلَ إليه مقاتلة بابك الخرمي، فمضى إليه في ألوف وأسره، غير أن الحساد أفسدوا ما بينهما، فذكروا للمعتصم: أنه منطو على خلافك، وقالوا للأفشين: إن المعتصم قد عزم على القبض عليك، فانقبض عنه حذرًا من القبض عليه. فتحقق للمعتصم بانقباضه ما كان أُخبر به عنه، فأخذه وأحرقه وصلبه. وقيل إن السبب في ذلك هو ابن أبي دواد لأمر جرى بينهما.» وليس هنا موضع تحقيق ما اتهم به الأفشين، فمحل ذلك البحث التاريخي، وإنما يهمنا هنا منظر الزندقة، وما وجه إليه من التهم وطريقة محاكمته.

•••

وبعد، فماذا كان يفهم من كلمة «الزندقة» في هذا العصر الذي نؤرخه، وماذا يعنون عندما يتهمون رجلًا بالزندقة، وماذا كان الباعث عليها؟

الحق إن كلمة «الزندقة» لم يكن معناها واحدًا عند الناس على السواء؛ فمعناها في أذهان الخاصة والعلماء غير معناها في أذهان العامة.

فأما العامة وأشباههم؛ فكانوا يطلقون على المستهتر الماجن «زنديقًا»؛ فإبراهيم بن سيابة الشاعر كان يرمى بالزندقة، ولم يكن يعرف عنه قول في الدين، إنما كان يعرف عنه أنه كان خليعًا ماجنًا، طيب النادرة، يحب الغلمان، ويحبه المجان.٢١ وآدم حفيد عمر بن عبد العزيز اتُّهِمَ بالزندقة لأنه كان خليعًا ماجنًا منهمكًا في الشراب، يشرب الخمر فيفرط في شربها، وتجري على لسانه وهو سكران أبيات فيها مساس بالدين، كأن يقول:
اسقني واسقِ خليلي
في مدى الليلِ الطويلِ
لونها أصفر صافٍ
وهي كالمسكِ الفتِيلِ
في لِسان المرءِ منها
مثلُ طعم الزَّنجبيل
ريحها ينفَح منها
ساطعا من رأس مِيلِ
من ينَلْ منها ثلًاثا
ينس منهاج السَّبِيل
فمتى ما نال خَمسا
تركته كالقتيل
ليس يدري حين ذاكم
ما دَبير من قَبِيلِ
إن سمعي عن كلام الـ
لائمي فيها الثقيلِ
لَشديد الوقرِ إنِّي
غير مِطواعٍ ذليلِ
قل لمن يلحاك فيها
من فقيه أو نبيل
أنت دعها وارج أخرى
من رحيق السَّلسبيل
تَعْطَش اليوم وتُسَْقَى
في غدٍ نعت الطُّلولِ!

وكان يقول:

اسقني واسق غصَيْنا
لا تَبِع بالنقد ديْنَا
اسقنيها مُرَّةَ الطَّعْمِ
تريك الشَّيْنَ زْيَنا
ومن أجل ذاك يُتَّهم بالزندقة، فيأخذه المهدي ويضربه ثلثمائة سوط على أن يقر بالزندقة، فيقول: والله ما أشركت بالله طرفة عين، ومتى رأيت قرشيًّا تزندق؟ ولكنه طَرب غَلبني وشِعر طَفح على قلبي، أنا فتى من فتيان قريش، وأشرب النبيذ، وأقول ما قلت على سبيل المجون، ثم هجر الشرب والمجون بعد ذلك، وكان يكره أن يرى الشَّرب٢٢ والشراب، ويقول:
شَرِبت فلما قيل ليس بنازع
نَزعت وثوبي من أذى اللُّؤْم طاهر٢٣

فترى أن «آدم» لم يتزندق زندقة علمية، وإنما غلبه الشرب فنطق بقول فيه هجر، فاتهم بالزندقة، على هذا المعنى العامي الشائع.

والواقع أن كثيرًا من الشعراء في ذلك العصر أفرطوا في دعوة الناس إلى الفجور والإباحة، وحملِهِم على الاستهتار. ولم يكتفوا أن يدعوا إلى ما يدعون إليه من غير تعرض للدين، بل تعرضوا له أحيانًا، وأخذوا يجهرون بأقوال فيها تهكم، وفيها سخرية، فيسخرون ممن يقول بتحريم الخمر، ويسخرون ممن يخوف بالدار، وممن يذكر بيوم البعث وما فيه من حساب، فيقول بشار:

لا خَيْرَ في العيش إن كنا كذا أبدًا
لا نلتقي وسبيلُ الملتقى نَهجُ
قالوا: حرامُ تلاقينا! فقلت لهم
ما في التلاقي ولا في قبْلة حرجُ

وبدأ هذا النوع خفيفًا، ثم أخذ يشتد حتى وصل إلى ضرب من الإلحاد، وكان من أشدهم في ذلك أبو نواس كأن يقول:

ومُلِحَّةٍ باللّوم تحسِب أنّني
بالجهل أُوثِرُ صُحْبَةَ الشّطارِ
بَكَرَتْ علَيَّ تلومُني فأجبُتها
إّني لأعرفُ مذْهَبَ الأبرار
َفدَعي المَلام فقد أطعتُ غَوايتَي
وصرفتُ معرفتي إلى الإنكار
ورأيت إتياني اللذاذَة والهوى
وتعجّلًا من طيبِ هذي الدار
أحرى وأحزم من تَنَظُّرِ آجلٍ
عِْلمِي به رجْمٌ من الأخبار
ما جاءنا أحدُ يُخَبِّر أنّهُ
في جنةٍ مَنْ مات أو في النار!

ويقول:

يا ناظرًا في الدين ما الأمْرُ
لا قَدَرٌ صَحَّ ولا جَبْرُ؟
ما صحَّ عندي مِن جميع الذي
تَذْكرُ إلا الموتُ والقَبْرُ

ويقول:

قلتُ والكأسُ على كَفِّيَ
تهْوِي لالْتِثامِي
أنا لا أعرفُ ذاك اليومَ
في ذاكَ الزّحَامِ٢٤

على أن بعض هؤلاء الشعراء الذين ترِد على لسانهم هذه الأقوال وأمثالها كانوا يقولونها وهم مطمئنون إلى دينهم، ولكن غلبهم الطرب، وجرى الشعر على لسانهم فتحرك بمثل هذا، وذلك مثل الذي ورد من شعر آدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز.

والذين كانوا يستمعون لهذا القول يختلفون فيما بينهم؛ فطائفة تسخط لمثل هذا، وتحكم على قائله بالإلحاد والخروج من الدين، وطائفة لا ترى هذا جدًّا من القول، وإنما هو نوع من أنواع التملح، لم يَقل إلا على سبيل الفكاهة والمجون، وعلى هذا الأساس الأخير شاع في ذلك العصر وصف الزنديق بالظَّرف، فأبو نواس يصف العباس بن الفضل بن الربيع فيقول:

نَدِيم كأسٍ محدث ملِكٍ
تيه مغَن وظَرف زِنديقِ

بل شاع اتهام بعض الناس بأنه لا يتزندق عن عقيدة، وإنما يتزندق ليشتهر بالظرف، ففي الأغاني: أن محمد بن زياد كان يظهر الزندقة تظارفًا، فقال فيه ابن مُناذر:

يا ابن زيادِ، يا أبا جعفر
أظهرت دينًا غير ما تخفي
مزندق الظاهر باللَّفْظِ في
باطنِ إسلامِ فَتًى عَفِّ
لست بِزِنديقٍ ولكنَّما
أردت أن تُوسَم بالظُّرف!٢٥

وقال غيره:

تزندق معلِنًا ليقولَ قومٌ
إذا ذكَرُوه زنديقُ ظريفُ
فقد بقِي التزندقُ فيه وسمًا
وما قيل الظريفُ ولا اللطيفُ!
وعلى الجملة فالزندقة بهذا المعنى معناها التهتك، ثم التدرج فيه إلى الخروج عن الدين أحيانًا بألفاظ ماسة، ثم المغالاة في ذلك، إلى أقوال فيها معنى الإلحاد لا عن نظر وتفكير. كل هذا كان شائعًا فاشيًا، وكل هذا كان معنى «الزندقة» في أذهان العامة وأشباههم، وعلى هذا المعنى قالوا: «إن علامة الزندقة شرب الخمر، والرشا في الحكم، ومهر البغِي.»٢٦
وهناك معنى آخر للزندقة، كان يفهمه الخاصة وأشباههم. ويعنون به اعتناق الإسلام ظاهرًا، والتدين بدين الفرس القديم باطنًا، وخاصة مذهب ماني، ذلك أنه كان في ذلك العصر طائفٌة لم تؤمن بالإسلام ولكن آمنت بسلطانه، ورأت أنه لا سبيل لَنيل الجاه والسلطان والمال إلا بالإسلام فاعتنقته ظاهرًا، وظلت تُخْلِص لدينها القديم، وقوم من هؤلاء كان لهم غرض أعمق من هذا؛ إذ رأوا أنهم لا يستطيعون إفساد العقيدة الإسلامية إلا بالانتساب إليها أولًا، حتى يؤمن جانبهم، وحتى يسهل على النفوس الأخذ بقولهم، ثم هم بعد ينفثون تعاليمهم على أشكال مختلفة؛ طورًا في العلم والدين، وطورًا في الأدب، وطورًا في وضع مثالب العرب، ومن حين لآخر لآخر كان يعثر على بعضهم فينكَّلُ بهم، ولكنهم لا يبيدون، أحيانًا يعملون أفرادًا، وأحيانًا يعملون جماعات، وعصرنا الذي نؤرخه مملوء بهذه الأمثال، فعبد الكريم بن أبي العوجاء يتَّهم بالزندقة، ويفسد أحاديث رسول الله بما يضع فيها، ويقِر حين يقتله المنصور بأنه وضع أربعة آلاف حديث مكذوب مصنوع.٢٧ وحماد الراوية يفسد اللغة والأدب بما يعمله من شعر يضِيفه إلى الشعراء المتقدمين، ويدسه في أشعارهم «حتى إن كثيرًا من الرواة قالوا: قد أفسد حماد الشعر لأنه كان رجلًا يقدِر على صنعته فيدس في شعر كل رجل ما يشاكل طريقته.»٢٨ وصالح بن عبد القدوس يدس في الأشعار معاني زندقة، ويونس بن أبي فروة يعمل كتابًا في مثالب العرب، وعيوب الإسلام بزعمه، ويصير به إلى ملك الروم فيأخذ منه مالًا.٢٩

هؤلاء وأمثالهم كانوا يتزندقون تزندقًا علميًّا؛ فهم يدينون بماني أو مزدك، ويؤمنون بالنور والظلمة، وبعبارة عامة يدينون بدين المجوس عن علم، ثم يتظاهرون بالإسلام تُقِيةً، أو توسلًا إلى إضلال الناس، ويدل على هذا المعنى الخاص ما رواه الأغاني أن بشَّارًا هجا حماد عجرد فقال:

يا ابن نُهْبى، رأسُ عليّ ثقيلُ
واحتمال الرأسين أمر جليلُ
فادع غيري إلى عبادة ربّيْنِ
فإني بِواحدٍ مشغولُ!
فقال حماد: ما يغِيظني من بشار إلا تجاهُله بالزندقة، يوهم الناس أنه يظن أن الزنادقة تعبد رأسًا ليظن الجهال أنه لا يعرفها؛ لأن هذا قول تقوله العامة لا حقيقة له، وهو واللهِ أعلم بالزندقة من ماني.٣٠
ويقول أبو نواس: كنت أتوهم حماد عجرد إنما يرمى بالزندقة لمجونه في شعره حتى حبستُ في حبس الزنادقة، فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين، يقرءون به في صلاتهم.٣١

اشتهر بالزندقة في هذا العصر كثيرون؛ منهم الحمادون الثلاثة: حماد عجرد، وحماد الراوية، وحماد بن الزبرِقان، وبشار بن برد، وابن المقفع، ويونس ابن أبي فروة، ومطِيع بن إياس، وعبد الكريم ابن أبي العوجاء، وصالح بن عبد القدوس، وعلي بن الخليل، وابن منذر، وتجد في ترجمتهم في الأغاني وغيره ضروبًا من القصص توضح زندقتهم، وكان بين بعض هؤلاء وبعض صداقة وود أحيانًا، وهجو وتنابز أحيانًا.

والذي نلاحظه أن أكثر من ذكرنا موالٍ من الفرس، وذلك طبيعي، فإن الزندقة بهذا المعنَى تستر وراءها ديانة مجوسية من ديانات الفرس، فطبيعي أن يَنزِع إليها من كان أصلهم مجوسًا، ومع هذا فإنا نجد من العرب بل من الهاشميين من اتهم بالزندقة؛ مثل الحسين بن عبد الله بن عبيدا لله بن العباس بن عبد المطلب، وعبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.٣٢
وكالذي روى الطبري من أن المهدي أتى بداود بن علي، وبيعقوب بن الفضل بن عبد الرحمن بن عباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد اتُّهِما بالزندقة فأقرا له بها.٣٣ ولكن كانت الزندقة في العرب على العموم نادرة، وأكثر من اتهم بها كانت زندقته بالمعنى الأول، وهو التهتك والفجور، أو كان اتهامهم شركًا من الشّراك التي تُنْصَب من أجل خصومة سياسية.
وقد اشتهر بهذا النوع من الزندقة طائفة من الكتاب، كان أكثرهم كذلك من أصل فارسي، وقد أخذوا من كل علم بطرف، ولم يتعمقوا في علم، وأمعنوا في الغرور بأنفسهم فكثرت زندقتهم. ويقول الجاحظ: «والناشئ منهم (من الكتاب) إذا حفظ من الكلام فتيقَه،٣٤ ومن العلم ملَحه، وروى لِبزرِجمهر أمثاله، ولأِردشير عهده، ولعبد الحميد رسائَله، ولابن المقفع أدبه، وصير كتاب مزدك معدِن علمه، ودفتر كليلة ودمنة كنز حكمته، «توهم» أنه الفاروق الأكبر في التدبير، وابن عباس في العلم بالتأويل، ومعاذ بن جبل في العلم بالحلال والحرام، وعلي بن أبي طالب في الجرأة على القضاء والأحكام، وأبو الهذيل العلًّاف في الجر والطفرة، وإبراهيم بن سيار النظام في المكامنات والمجانسات، وحسين النجار في العبادات والقول بالإثبات، والأصمعي وأبو عبيدة في معرفة اللغات والعلم بالأنساب، فيكون أول بدوه الطعن على القرآن في تأليفه، والقضاء عليه بتناقضه، ثم يظهر فيه ظرفه بتكذيب الأخبار، وتهجين من نقل الآثار، فإن استرجح أحد أصحاب الرسول فتل عند ذكرهم شِدَقه، ولوى عن محاسنهم كشحه، وإن ذكر شريح جرحه، وإن نعِت له الحسن استثقله، وإذا وصف له الشعبي استحمقه، ثم يقطع ذلك من مجلسه بسياسة أردشير بابكان، وتدبير أنوشروان، واستقامة البلاد لآل ساسان، فإن حذِر العيون، تفقده المسلمون، رجع بذكر السنن إلى المعقول، ومحكم القرآن إلى المنسوخ، ونفي ما لا يدرك بالعيان، وشبه بالشاهد الغائب، لا يرتضي من الكتب إلا المنطق … هذا هو المشهور من أفعالهم والموصوف من أخلاقهم.»٣٥
وأحيانًا تطلق كلمة الزنادقة على أتباع ديانة الفرس، من غير أن ينتحلوا الإسلام، ونرى هذا الاستعمال أحيانًا في كتاب الحيوان للجاحظ؛ فهو يقول: وكان لهؤلاء الزنادقة كتب أجود ما تكون ورقًا، يكتب عليه بالحبر الأسود البراق، ويستجاد له الخط.٣٦ «وأن كتبهم لا تفيد علمًا ولا حكمة، وليس فيها مثل سائر، ولا خبر ظريف، ولا صنعة أدب، ولا حكمة غريبة ولا فلسفة، ولا مسألة كلامية، وجلُّ ما فيها ذكر النور والظلمة، وتناكح الشياطين، وتسافد العفاريت، وذكر الصنديد، والتهويل بعمود الصبح»، ثم يذم كتبهم، ويسَتخِفُّ بمعانيها،٣٧ ويقول: إن هؤلاء الزنادقة أثَّروا في بعض الناس، وخاصة في ناس من الصوفية والنصارى؛ فكانوا يرفضون الذبائح، ويبغضون إراقة الدماء، ويزهدون في أكل اللحوم. ويقول: إن قومًا ممن ينتحل الإسلام يظهرون التقذر من الصيد، ويرون أن ذلك من القسوة، وأنه يسلم إلى التهاون بدماء الناس والرحمة شكل واحد، ومن لم يرحم الكلب لم يرحم الظبي، ومن لم يرحم الظبي لم يرحم الجدي، ومن لم يرحم العصفور لم يرحم الصبي. وصغار الأمور تؤدي إلى كبارها، يضاهون في ذلك سبيل الزنادقة.٣٨

وهناك معنى آخر للزندقة يستعمله الجاحظ وغيره أحيانًا، يطلقونه على قوم جحدوا الأديان كلها عن نظر؛ فهي بهذا المعنى مرادفة للدهرية والإلحاد. قال أبو العلاء في رسالة الغفران: «والزنادقة هم الذين يسمون الدهرية لا يقولون بنبوة ولا كتاب.»

وعلى هذا المعنى يروي الجاحظ: «أن الزندقة فشت في النصارى.»٣٩ والظاهر أنه يريد بذلك الشك ونحوه.
من هذا كله يظهر أن كلمة الزندقة لم تكن ذات معنى واحد، وإنما كانت تطلق على معانٍ أربعة:
  • (١)

    التهتك والاستهتار والفجور مع تبجح في القول، يصل أحيانًا إلى ما يمس الدين، ولكن قائله لم يقله عن نظر، وإنما قاله عن خلاعة ومجون.

  • (٢)

    اتباع دين المجوس، وخاصة دين ماني، مع التظاهر بالإسلام؛ كالذي اتهم به الأفشين، والذي اتهم به بشار وحماد وابن المقفع.

  • (٣)

    اتباع دين المجوس، وخاصة «ماني»، من غير تظاهر بالإسلام؛ كالذي يرويه الجاحظ عن كتب الزنادقة.

  • (٤)

    ملحدون لا دين لهم؛ كالذي يحكيه المعري، ولكن يظهر أن الكلمة — أكثر ما كانت — تطلق على من اعتنق المانوية باطنًا والإسلام ظاهرًا، ثم توسعوا في معناها فأطلقوها على الإباحي والملحد الذي لا دين له.

•••

على كل حال فشت الزندقة بمعانيها المختلفة في هذا العصر، وقد عَد أبو العلاء من الزنادقة في رسالته الغفران: «الوليد بن يزيد الخليفة الأموي، ودِعبلا الشاعر، وبشارًا، وأبا نواس، وصالح بن عبد القدوس، وأبا مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية، وبابك، والأفشين، والحلاج الصوفي، وغيرهم.» فيقول في دعبل: «وما يلحقني الشك في أن دعبل بن علي لم يكن له دين، وكان يتظاهر بالتشيع، وإنما غرضه التكسب، ولا أرتاب في أن دعبلًا كان على رأي الحكمِي «أبي نواس» وطبقته، والزندقة فيهم فاشية، ومن ديارهم ناشية.» ويقول: «وقد اختلف في أبي نواس؛ ادعي له التأله، وأنه كان يقضي صلوات نهارية في ليله، والصحيح أنه كان على مذهب غيره من أهل زمانه.»

وكان من الطبيعي أن يكون في هذا العصر زنادقة دعاهم إليها دواعٍ مختلفة؛ فقوم دعاهم إليها دين ألفِوه قديمًا، وهو دين المجوسية، وكان لهم فيه آباء عديدون، وكانت لهم عادات وتقاليد، أخذها الخلف من السلف، ولكنهم رأوا جاهًا عريضًا، ومناصب عزيزة لا يستطيعون الوصول إليها إلا أن يسلموا فأسلموا، ولما يدخلِ الإيمان فِي قلوبِهِم، واتخذوا الإسلام ثيابًا ظاهرية، يخلعونها إذا خَلوا إلى أهليهم، وهم إذا أمكنتهم الفرصة كادوا للإسلام وللعرب، ودعوا للشعوبية والمذاهب الدينية. وقوم دعاهم إلى التزندق شك في الأديان، والقولُ بسلطان العقل إلى أقصى حدوده، فهم لا يريدون أن يؤمنوا إلا بما يرون بأعينهم، ويحكمون العقل حتى فيما ليس للعقل فيه مجال، فنبذوا الأديان جملة، ودعوا إلى الإلحاد. وآخرون إنما كان همهم في الحياة شهواتُهم، فما الحياة إلا خمر وما إليها، لا يرضون أن يجهدوا عقولهم في تفكير في دين، إنما يغضبون على الدين وقت أن يتعارض مع شهواتهم، ويحد من لذاتهم، حينذاك ينطقون بالكلمة تِلْو الكلمة، وهم سكارى يتضاحكون فيها على الدين. كل هذه الأصناف كانت في العصر العباسي، وكان جمهور المؤمنين يكرهها ويحاربها.
ولكن من الحق أن نقول أيضا: إن الاتهام بالزندقة لم يقف في ذلك العصر عند حد؛ فالشاعر يكون صديق الشاعر وصفي نفسه، ثم تكون بينهما جفوة، فأول ما يرميه به أنه زنديق، كالهجاء بين بشار وحماد، وكالذي يقول خلاد الأرقط: ذكر ابن منَاذِر في حلقة يونس؛ فقدح فيه أكثر أهل الحلقة حتى نسبوه إلى الزندقة، فلما صرت في السقيفة التي في مقدم المسجد سمعت قراءة قريبة من حائط القبلة، فدنوت فإذا ابن مناذر قائم يصلي، فرجعت إلى الحلقة فقلت لأهلها: قلتم في الرجل ما قلتم، وها هو ذا قائم يصلي حيث لا يراه إلا الله!٤٠ ثم هم يسرعون في الاتهام، فيحكمون على أبي العتاهية بالزندقة لقوله:
كأن عَتابة من حُسنها
دمية قَس فتَنت قَسَّها!
يا رب لو أْنسيَتنيها بما
في جنةِ الفِردوس لم أنْسَها!

ولقوله:

إن المليك رآكِ أحسنَ
خلقِهِ ورأى جمالِكْ
فَحذَا بِقُدرة نفسِهِ
حور الجِنَان على مِثالك٤١
بل أكثر من هذا يرون أبا العتاهية يذكر الموت، فيقولون: إنه زنديق لأنه يذكر الموت، ولا يذكر الجنة والنار.٤٢

كل هذا وأمثاله يدلنا على أن الناس في ذلك العصر أفرطوا في الرمي بالزندقة، مع خطر الاتهام، يقول أبو العلاء في رسالة الغفران: «وذكر صاحب كتاب «الورقة» جماعة من الشعراء في طبقة أبي نواس ومن قبله، ووصفهم بالزندقة: وسرائر الناس مغيبة، وإنما يعلم بها علام الغيوب.»

وكما كانت الخصومة الأدبية سببًا في الرمي بالزندقة، كذلك كانت الخصومة الدينية والسياسية، يقول صاحب الأغاني: «كان حميد بن سعِيد وجهًا من وجوه المعتزلة، فخالف أحمد بن أبي دواد في بعض مذهبه، فأغرى المعتصم بأنه شعوبي زنديق.»٤٣ وظل الأصمعي يتقرب إلى البرامكة، ويمدحهم فلما نكبوا قال فيهم:
إذا ذكر الشِّرك في مجلسٍ
أضاءت وجوه بني برمكِ
وإن تلِيت عندهم آيةُ
أتَوا بالأحاديث عن مَزْدَكِ!
ثم أليس عجيبًا أن ترى بشارًا يظلّ طولَ حياته يقول الشعر الماجن الخليع، ويتعرض للدين من قريب أو بعيد، ويظل في ذلك ثمانين عامًا أو نحوها، فلا يتعرض له أحد، إلا ما نهاه الخليفة عن الغزل! بل نرى المهدي (وهو أكبر من اضطهد الزنادقة) يحميه ويتأول له الفقهاء،٤٤ فلما بلغ الثمانين أو جاوزها هجا يعقوب بن داود وزير المهدي بقوله:
بني أمية هُبّوا طالَ نومُكم
إنّ الخليفة يعقوبُ بن داودِ
ضاعت خلافتكم يا قومِ فانتظروا
خليفة الله بين الزقِّ والعودِ

وهجا المهدي نفسه فأفحش، فعند ذلك فقط عوقب بشار على زندقته فضرب بالسياط حتى مات، وكذلك كان الشأن في ابن المقفع؛ خاصمه المنصور سياسيًّا، وخاصمه سفيان بن معاوية بن يزيد بن المهلب فقتلاه ورمياه بالزندقة!

الحق إن بعض الناس اتخذوا الزندقة ذريعة للانتقام من خصومهم، سواء في ذلك الشعراء والعلماء والأمراء والخلفاء. وأخشى أن يكون قد رمي بها أُناس كثيرون صحت عقيدتهم، ولكن كانت لهم حرية رأي في بعض المسائل خالفوا فيها جمهور العلماء فشهروا بهم.

ونجد الحكم الفقهي في الزنادقة عند الحنفية العراقيين أشد منه عند الشافعية؛ فكثير من الحنفية يرى أن المرتد إذا تاب قبلت توبته ولم يقتل، وأما الزنديق فإذا تاب لم تقبل توبته وقُتل، وخالفهم في ذلك الشافعية، فقالوا لا يقتل من أظهر التوبة من الزنادقة.٤٥

على كل حال كانت حركة الزندقة في عصرنا الذي نؤرخه حركة عنيفة، كان من ضحاياها كثيرون، بالحق أحيانًا، وبالباطل أحيانًا.

الإيمان: يقابل حركة الزندقة والشك هذه حركة إيمان صادق من جانب آخر. وإذا كنا نريد أن نفهم جوانب الحياة في هذا العصر، وجب علينا أن نصور جانب الإيمان كما صورنا جانب الزندقة. والذي يظهر لي أن جانب الإيمان في ذلك العصر كان الأعم الأشهر، والزندقة (بمعنى الشك أو الإلحاد) كانت حظَّ قليل من المفكرين إذا قيس بالعدد العديد من المؤمنين، ولذلك استطاع المؤرخون، وكتاب المقالات الدينية أن يسموا الزنادقة على شكهم في زندقة بعضهم، ولكن كان من العسير أن يسموا المؤمنين؛ لأن الإيمان هو الأساس، والزندقة ليست إلا شذوذًا في اتجاه التيار العام. والذي زاد في عدد الزنادقة أنهم أطلقوا الكلمة على المجان والمستهترين، ولو لم يصل الشك في الدين إلى نفوسهم، وإن شئت فقل: إنهم لم يفكروا في الدين تفكيرًا إيجابيًّا ولا سلبيًّا، وإن كثيرين حُشِروا مع الزنادقة سياسة لا دينًا كما قدمنا، وإن كثيرين من الزنادقة كانت زندقتهم في الواقع ليست كراهية للإسلام من حيث هو دين له تعاليم خاصة لا توافق عقولهم، ولكن من ناحية وطنية قومية، وأكثر ما كان ذلك في قوم من الفرس، رأوا أن ضياع ملكهم إنما كان على يد العرب، ولم يكن يتأتى للعرب ذلك لولا دينُهم الجديد، وهو الإسلام، فكرهوا العرب، وكرهوا الإسلام لهذا السبب، فأما الزندقة بمعنى البحث في الأديان بحثًا علميًّا عميقًا يسلم أحيانًا إلى شك أو إنكار؛ فذلك كان قليلًا نادرًا.

•••

اشتهر جماعة كثيرة في ذلك، كانوا المثلَ الأعلى في الإيمان؛ أمثال عبد الله بن المبارك، وسفيان بن عيينة، وسفيان الثوري، وداود الطائي، والفضل بن عياض … إلخ.٤٦ نقرأ ترجمتهم، فنتبين فيهم ورعًا وتقوى، وإيمانًا صادًقا، وهروبًا من الاتصال بوالٍ أو أمير، ورفْض أي منصب يعرضه عليهم العباسيون. ولعل خير ما يمثل هذا النوع من الحياة ما رواه ابن قتيبة في رثاء ابن السماك لداود الطائي، قال: «إن داود رحمه الله نظر بقلبه إلى ما بين يديه من آخرته، فأعشى بصر القلب بصر العين، فكان كأنه لا ينظر إلى ما إليه تنظرون، وكأنكم لا تنظرون إلى ما إليه ينظر! فأنتم منه تعجبون، وهو منكم يعجب! فلما رآكم راغبين مذهولين مغرورين، قد أذهَلت الدنيا عقولكم، وأماتت بحبها قلوبكم، استوحش منكم، فكنت إذا نظرتُ نظرتُ إلى حي وسط أموات! يا داود ما أعجب شأنك بين أهل زمانك! أهنت نفسك، وإنما تريد إكرامها، وأتعبتها، وإنما تريد راحتها، أخْشنْت المطْعم، وإنما تريد طِيبه، وأخشنت الملْبس، وإنما تريد لِيَنه، ثم أمتَّ نفسك قبل أن تموت، وقبرتها قبل أن تُقبر، وعذّبتها ولما تُعَذّب، وأغنيتها عن الدنيا لكيلا تذكر، رغِبت نفسك عن الدنيا فلم ترها لك قدرًا إلى الآخرة، فما أظنك إلا وقد ظفرت بما طالبت، كان سيماك في سرك، ولم يكن سيماك في علانيتك، تفقّهت في دينك، وتركت الناس يغْنون، وسمعتَ الحديث، وتركتهم يحدثون. وخرِست عن القول، وتركتهم ينطقون. لا تحسد الأخيار، ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عطية، ولا من الإخوان هدية. آنس ما تكون إذا كنت بالله خاليًا، وأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس. فمن سمع بمثلك وصبر صبرك وعزم عزمك؟ لا أحسبك إلا وقد أتعبت العابدين بعدك. سجدت نفسك في بيتك فلا محدث لك، ولا جليس معك ولا فراش تحتك، ولا سِتر على بابك، ولا قُلّة يبرد فيها ماؤك، ولا صَحْفَة يكون فيها غذاؤك وعشاؤك. مِطهرتك قلبك، وقصعتك َتورك،٤٧ داود، ما كنت تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيبه، ولا من اللباس لينه؛ بلى! ولكن زهدت فيه لما بين يديك، فما أصغر ما بذلت! وما أحقر ما تركت في جنب ما أملت! فلما مت شهرك ربك بموتك، وألبسك رداء عملك، وأكثر تبعك، فلو رأيت من حضرك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرفك، فلتتكلم اليوم عشيرتك بكل ألسنتها، فقد أوضح ربك فضَلها بك.»

وسفيان الثوري، كان مع صلاحه وورعه وعلمه يعيش من تجارته، ويرفض عطاء الولاة، ورفض أن يكون قاضيًا على الكوفة للعباسيين، فيطلب ويظلّ دهرًا من حياته يهرب من العراق إلى اليمن، ومن اليمن إلى مكة، خشية من العباسيين، وتوفي سنة ١٦١ متواريًا من السلطان.

•••

وكما صورت حياة اللهو والمجون في كتاب الأغاني ودواوين الشعراء، صورت حياة الإيمان في تراجم العلماء أمثال طبقات ابن سعد، وطبقات المحدثين. فإذا أنت قرأت الأغاني ظننت أن الحياة كلها لهو ومجون وإباحة، وإذا قرأت طبقات المحدثين والمتصوفة خلت أن الحياة كلها دين وورع وتقوى، وتنصف إن أنت اعتقدت أن الحياة كانت ذات صنف وألوان، وأن المدينة العباسية كانت ككل المدنيات؛ مسجد وحانة، وقارئ وزامر، ومتهجد يرتقب الفجر، ومصطبح في الحدائق، وساهر في تهجد، وساهر في طرب. وتُخَمَة من غنى، ومسكنة من إملاق، وشك في دين، وإيمان في يقين. كل هذا كان في العصر العباسي، وكل هذا كان كثيرًا.

•••

هذا النوع من المؤمنين الذي سميناهم كسفيان وداود، لم يدخلوا في معترك الجهاد مع الشاكين والمتزندقين، بل كانوا يعنَون بإيمانهم، ولا يأبهون لإلحاد غيرهم. إنما المؤمنون الذي تصدوا للرد على الملحدين هم معتزلة ذلك العصر، أمثال واصِل بن عطاء وأبي الهذيل العلَّاف وبشر بن المعْتمِر وإبراهيم النَّظَّام، فهؤلاء أخذوا يستعرِضون ما تقوله الزنادقة، ويناقشونهم ويردون عليهم، ويلزمونهم الحجة، وقد حكت لنا الكتب كثيرًا من هذا الجدل،نعرض له عند الكلام على المعتزلة إن شاء الله.

١  بينا في فجر الإسلام الأقوال المختلفة في اشتقاق كلمة الزندقة، فانظره ص ١٢٨.
٢  الطبري ٩: ٣٠٨.
٣  أغاني ٣: ٧٣.
٤  أغاني ٣: ٧٢.
٥  طبري ١٠: ٩.
٦  في الأصل ابن دميان.
٧  في الأصل ابن العرجاء.
٨  في الأصل الدنسافية.
٩  المسعودي ٢: ٤٠١.
١٠  الطبري ١٠: ٤٢.
١١  بيدر الطعام كومة، والبيدر موضعه الذي يداس فيه.
١٢  الدوسر نبت حبه الزوان الذي في الحنطة.
١٣  الطبري ١٠: ٢٣.
١٤  الطبري ١٠: ٥.
١٥  المسعودي ٢: ٢٤٩.
١٦  انظر محاكمته في الطبري ١٠: ٢٦٤، وابن الأثير ٦: ١٩٠، وتاريخ ابن خلدون.
١٧  المحش: الحديدة تحش بها النار أي تحرك، ويقال هو محش حرب أي شجاع.
١٨  القنابل: جمع قنبل، الطائفة من الناس ومن الخيل.
١٩  الصبير: السحاب المتراكم.
٢٠  الفاقرة: الداهية، والفقار جمع فقارة، وهي عقدة الظهر.
٢١  انظر الأغاني جزء ١١ ص ٧.
٢٢  الشرب بفتح الشين: القوم يشربون.
٢٣  انظر الأغاني ١٤: ٦٠ و٦١.
٢٤  نقلت هذه الأبيات من الموشح، ص ٢٧٧ وما بعدها. والوساطة بين المتنبي وخصومه للقاضي عبد العزيز الجرجاني، ص ٥٧ وما بعدها، وتجد فيهما أمثلة كثيرة من هذا النوع.
٢٥  الأغاني جزء ١٧: ١٥.
٢٦  العقد الفريد ١: ١٨٧.
٢٧  آمالي المرتضى ١: ٨٩.
٢٨  المصدر نفسه ١: ٩١.
٢٩  المصدر نفسه ١: ٩٠.
٣٠  الأغاني ١٣: ٧٦.
٣١  الأغاني ١٣: ٧٤.
٣٢  انظر زندقتهما في الأغاني ١١: ٧٥ وما بعدها.
٣٣  الطبري ١٠: ٢٢.
٣٤  الفتيق. الجزل البين.
٣٥  ثلاث رسائل للجاحظ، ص ٤٢.
٣٦  الحيوان ١: ٢٨.
٣٧  الحيوان ١: ٢٩.
٣٨  الحيوان ٤: ١٣٧، ١٣٦.
٣٩  ثلاث رسائل، الجاحظ، ص ١٧.
٤٠  الأغاني ١٧: ٢٩.
٤١  الأغاني ٣: ١٥١.
٤٢  الأغاني ٣: ١٤٢.
٤٣  الأغاني ١: ١٧.
٤٤  انظر الأغاني ٣: ٥٧.
٤٥  انظر في ذلك «الأم» ٦: ١٥٦، وقد حكى صاحب فتح القدير في الزنديق روايتين عن الحنفية: رواية لا تقبل توبته كقول مالك وأحمد، ورواية تقبل كقول الشافعي ٤: ٣٨٧.
٤٦  اقرأ تراجمهم في وفيات الأعيان وطبقات ابن سعد وتراجم المحدثين.
٤٧  التور: إناء صغير يتوضأ به.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤