الثقافة الفارسية
انتشرت الثقافة الفارسية في العصر العباسي الأول انتشارًا عظيمًا، وساعد على ذلك أمران:
الوزارة
كانت كلمة «وزير» معروفة للعرب قبل الفتح الإسلامي، ففي القرآن الكريم على لسان موسى وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي وفي حديث السقيفة: نَحن الأمراء وأنتم الوزراء وفي طبقات «ابن سعد» أن أبا بكر ﷺ كان وزيرًا للنبي، وفي طبقات الشعراء «لابن قتيبة» أن أبا ذُؤيب الهذَلي (وهو شاعر جاهلي إسلامي) خان في امرأة ابن عم له، ثم خانه خالد بن زهير فيها، فقال خالد يخاطب أبا ذؤيب:
وفي الدولة الأموية كان اللفظ مستعملًا، يقول الطبري: «إن زيادًا كان يُسمى وزير معاوية.» ولكن الكلمة في كل المواضع التي ذكرنا، لم تستعمل في المعنى الاصطلاحي الذي نعرفه الآن من كلمة الوزير، وإنما هي بمعنى الموازر المناصر. قال ابن خلِّكان: «وقد اختلف أرباب اللّغة في اشتقاق الوزارة على قولين؛ أحدهما: أنها من الوِزر وهو الحِمل، فكأن الوزير قد حمل عن السلطان الثقل، وهذا قول ابن قتيبة. والثاني: أنها من الوزرِ، وهو الجبل الذي يعتصم لينجى به من الهلاك، وكذلك الوزير معناه الذي يعتمد عليه الخليفة، أو السلطان، ويلتجئ إلى رأيه، وهو قول أبي إسحاق الزجاج.»
ويقول الفخري: «الوزير وسيط بين الملك ورعيته، فيجب أن يكون من طبعه شَطر يناسب طباع الملوك، وشطر يناسب طباع العوام، ليعامل كلًّا من الفريقين بما يوجب له القبول والمحبة. والوزارة لم تتمهد قواعدها وتقرر قوانُينها إلا في دولة بني العباس، فأما قبل ذلك فلم تكن مقننة القواعد، ولا مقررة القوانين، بل كان لكل واحد من الملوك أتباع وحاشية، فإذا حدث أمر استشار ذوي الحجى والآراء الصائبة، فكل منهم يجري مجرى وزير، فلما ملك بنو العباس تقررت قوانين الوزارة، وسُمِّي الوزير وزيرًا، وكان قبل ذلك يسمى كاتبًا أو مشيرًا.»
وهذه القدرة الكتابية التي كان يشترِطها الخلفاء في الوزير، كانت من أكبر الأسباب في قصر الوزارة على الفرس غالبًا؛ فالعرب كانوا أهلَ فصاحة لسانية أكثر منهم أهل بلاغة كتابية، ولعل هذا هو السبب في أنهم وضعوا للفصاحة كلمة مشتقة من اللسان، فقالوا:رجل لسِن إذا كان ذا بيان وفصاحة، ولم يشتقوا مثل ذلك من الكتابة.
والحق أن القدرة الكتابية كانت عند الفرس أبين منها عند العرب، وحتى في الدولة الأموية كان أظهر الكتاب الفنيين من الفرس، أمثال عبد الحميد الكاتب، وسالم مولى هشام. وكان العربي يفخر بالسيف واللسان لا بالقلم، قال يزيد بن معاوية يعدد فضل بيته على زياد بن أبيه: «لقد نقلناك من ولاء ثقيف إلى عزّ قريش، ومن عبيد إلى أبي سفيان، ومن القلم إلى المنابر.» ولم تزل العرب تفضل السيف على القلم، وفي ذلك يقول سلِيط بن جرير النمري:
كان لهؤلاء الكتاب أثر كبير في نشر نوع من الثقافة خاص، ذلك أن ثقافتهم كانت أوسع من ثقافة غيرهم، وكانت معارفهم ودائرة اطلاعهم واسعة شاملة؛ لأنهم بحكم مناصبهم مضطرون أن يعرفوا أحوالَ الناس الاجتماعية وتقاليدهم، وأن يعرفوا من اللغة والأدب وعلوم الدين والفلسفة والجغرافيا والتاريخ طرفًا؛ لأن كثيرًا من مواقفهم يحتاج إلى ذلك، وقدت عرِض للخليفة أو الوالي مسائلُ من هذا القبيل، يضطر الكاتب إزاءها أن يكون ملمًّا بجميع ذلك؛ إذ هم الذين كانوا يعرِضون على الخلفاء ما يرد عليهم، ويحررون ما يصدر منهم. ويتضح ذلك إذا نحن قارنا بين معارف الكاتب، ومعرفة المحدث أو الفقيه في ذلك العصر، فالمحدث أو الفقيه معارفه محدودة، ودائرة حولَ فنه، فإن توسع في شيء فإنما يتوسع في المسائل التي تعد وسائلَ لفنه؛ كاللغة والنحو والصرف. أما الكاتب فدائرته أوسع من ذلك، وحسبنا دليلًا على هذا ما أّلف للكاتب من الكتب:
فأول ما نعرفه من ذلك «أدب الكاتب لابن قتيبة»؛ فقد حمله على تأليفه كما ذكر في مقدمته:أنه رأى طائفة من الكتاب «قد شغِفت بالنظر في النجوم والمنطق والفلسفة، وعرفت الكون والفساد. وسمع الكِيان والكيفية والكمية، والجوهر والعرض، ورأس الخط النقطة، والنقطة لا تنقسم … إلخ». وأهملوا النظر في اللغة وما إليها، فوضع لهم كتابه في ذلك؛ فهو خاص بما يلزم الكاتب من لغة ونحو وصرف وإملاء. وأّلف بعده أبو بكر الصولي كتابه «أدب الكتاب»، فغمز ابن قتيبة بالتقصير في كتابه، وتوسع هو في مسائل لم يتعرض لها ابن قتيبة، فتكلم في حسن الخط وقبحه، والدواة والقلم وما إليهما، وترتيب الكتاب وطيه، والدعاء في المكاتبات، والدواوين وتحويلها إلى العربية، ووجوه الأموال التي تحمل إلى بيت المال، وشيء من قواعد الإملاء. وألف ابن درسُتويه المتوفي سنة ٣٤٦ كتاب «الكتاب»، وأكثره في قواعد الإملاء، وفي آخره باب في افتتاح الكتاب، وفي التأريخ، وما يذَكّر منه وما يؤّنث، وما يفرد ويجمع، ثم في بري القلم وسنّه وقطه، والدواة وما إليها … إلخ، وتوسع من جاء بعدهم من المؤلفين للكّتاب، حتى ختمت بكتاب «صبح الأعشى في صناعة الإنشاء»، فتعرض فيه تقريبًا لكل المعلومات البشرية في عصره، من تاريخ وجغرافيا وفلك، وما يحتاج إليه الكاتب عمليًّا في صناعته من خط ونحوه، ومصطلح المكاتبات، وكيفية العقود، والبريد، ومطارات حمام الرسائل، والمنارات … إلخ.
فترى من هذا كيف كان المؤلفون يعنون بهذه الطبقة من الناس، وكيف كانوا يتطّلبون منهم المعارف الواسعة في الموضوعات المختلفة، وأن هذه الطبقة كانت تمتاز عن بقية العلماء بالثقافة العامة.
بل يظهر لي أن هذا الموقف هو الذي جعل الناس يقولون إن الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف؛ فقد نرى أن كلمة الأدب في صدر الإسلام كانت تطلق على التهذيب الخلقي، ثم كانت تطلق على العلم باللغة والشعر، وأيام العرب وتاريخها وما إلى ذلك. واستعملت بهذا المعنى في العهد الأموي. فلما جاء هؤلاء الكتاب واتسعت الثقافة، وصاروا يتطّلبون من الكاتب أن يعرف الثقافة العربية والفارسية اتسع معنى الأدب، وقالوا: «إن الأدب الأخُذ من كل شيء بطرف».
بل يظهر لي أيضًا أن هذا كان أحد الأسباب في فوضى الكتب الأدبية المؤلفة في ذلك العصر؛ كالبيان والتبيين، والكامل، وعيون الأخبار، فقد قصدوا فيها إلى جمع ما يفيد، وتكويمه بعضه فوق بعض، فاهمين الأدب بمعناه الواسع الذي ذكرنا، فحكمة بجانبها بيتان من الغزل، إلى نادرة لطيفة، إلى خطبة بليغة، إلى قصص في البخل، إلى أخبار الخوارج.
والجاحظ (في كتابه الحيوان) تكلم في الخِصاء بعد كلامه في فائدة الكِتاب، إلى غير ذلك؛ لأن الغرض عندهم أن يلِم الأديب من كل شيء بطرف، ثم جاءت الكتب الأخرى بعدها تحذو حذوها، وتفرق مجتمعًا، وتجمع متفرقًا، وتزيد ما استحدث من الطرف الأدبية.
السبب الثاني في نشر الثقافة الفارسية: انتقال عاصمة الخلافة من دمشق إلى العراق، وكان من أكبر بواعث العباسيين على هذا الانتقال أن دمشق كانت عاصمة الأمويين، وكانت ضِلع الشام مع بني أمية من عهد الخلاف بين علي ومعاوية، وكان الشاميون هم الجند المخلص لبني أمية، وهم مثال الطاعة لدولهم، فمن حزم العباسيين ألا تكون عاصمة الدولة الجديدة بين الشاميين وتحت رحمتهم، وفوق ذلك فدمشق بعيدة جدًّا عن خراسان منبع الثورة، ومصدر الدعوة، وذخيرة العباسيين وعمادهم.
والذي يهمنا هنا أن بغداد كانت في العراق؛ حيث عواصم الممالك القديمة مثل بابل والمدائن.
لهذا كله أصبحت بغداد بعد قليل أهم مركز للحضارة والثقافة في المملكة الإسلامية، بل في العالم كله. ونحن إذا استثنينا أوقات الفتن والاضطرابات أمكننا أن نقول إنها ظلت في رقي واتساع وعظمة، إلى نهاية القرن الخامس الهجري.
كان لهذا الانتقال من الشام إلى العراق أثر كبير من الناحية العقلية؛ فقد كان يسكن العراق أمم مختلفة. وتداولت عليه دول خلّفت فيه مدنيتها وثقافتها، وكان يسكنه قبيل الفتح الإسلامي بقايا من الأمم القديمة؛ مثل الكِلْدان والسريان، وهم الذين يلقَّبون بالآراميين، وكان يسكنه العرب من إياد وربيعة، وكان يقيم به المَناذِرة الذين أسسوا ملك الحيرة، وكانت مدنية الفرس غالبة عليه؛ لأن آخر من حكمه قبل الإسلام هم الساسانيون من الفرس، وظل في أيديهم زمنًا طويلًا، إلى أن استولى عليه المسلمون في أيام عمر، وكانت فيه «المدائن» عاصمة الساسانيين. كل هذا جعل العراق أكثر ما يكون اصطباغًا بالفارسية، فلما كان العباسيون وكان الفرس هم الذين أعانوهم، كان من هذا وذاك نفوذ للفرس عظيم في المناصب وفي الثقافة.
والآن نريد أن نبحث النواحي التي كان فيها للثقافة الفارسية أثر في الثقافة الإسلامية:
من قديم تسربت ألفاظ فارسية إلى اللغة العربية، وكان ذلك بطريق التجارة أو الاختلاط، ولكنها تعد قليلة إذا قيست بالألفاظ التي دخلت في العصر العباسي للسبب الذي ذكرنا؛ وهو أن العرب كانوا أكثر شعورًا بأسباب الحضارة في العصر العباسي، فكانوا أشد احتياجًا للاقتباس من الفرس، ولأن اللغة العربية لم تعد ملكًا للعرب وحدهم؛ بل كانت ملكًا للعالم الإسلامي جميعه، والعالم الإسلامي لا يتعصب للغة العربية تعصب العرب؛ فهو يْفسِح صدره للغات الأخرى ما دعا داعِ إليها.
ثانيا: قد كان للفرس من قديم علم وأدب يتناسبان مع ضخامة ملكهم وعظم سلطانهم، فلما جاءت الدولة العباسية، وكثير من رعيتها فرس، لهم نزعة وطنية، وميول قومية، أخذ المثقَّفون ينقلون إلى العربية تراث آبائهم، وما حفظته العصور إلى عهدهم.
كانت لهم كتب في التنجيم والهندسة والجغرافية، وكانت تتوالى عليهم نكبات تذهب بكثير من كتبهم، ولكن كانت مدينتهم في حياة وعظمة، فكانت تسترد مجدها بتأليف كتب جديدة تساير عظمتهم. وأكبر نكبة عرتهم كانت بفتح الإسكندر الأكبر لبلادهم، وقد تلف في هذا الحرب كثير من خزائن كتبهم، فلما جاءت الساسانية (٢٢٦–٦٥٢م) استعادوا أدبهم وعلمهم. وأظهر ملوكهم في الميل إلى العلم، وتشجيع الترجمة والتأليف أردشير بابك (٢٢٦٠–٢٤١م)؛ فقد بعث في طلب الكتب من الهند والروم والصين، وكذلك كان الشأن في عهد ابنه سابور، وعهد كسرى أنوشروان.
وقد ترجم عبد الله بن المقفع «كتاب خداينامه»، وهو كتاب في تاريخ الفرس من أول نشأتهم إلى آخر أيامهم، وقد سماه ابن المقفع «تاريخ ملوك الفرس»، والظاهر أن الطبري اعتمد عليه في كتابه تاريخ الأمم والملوك عند كلامه على «الساسانيين»، وتَرجم كذلك كتاب «آبين نامه»، ومعنى الآبين النظم والعادات، والعرف والشرائع، فالكتاب وصف لنظم الفرس، وتقاليدهم وعرفهم، وقد ذكر المسعودي أنه كتاب كبير، يقع في آلاف من الصفحات.
وفي الأدب ترجموا عن الفرس أشياء كثيرة، منها ما ذكرنا قبل من كليلة ودمنة، واليتيمة، والأدب الكبير والصغير، ومنها كتاب «هزار أفسانه»، ومعناه ألف خرافة، وهو أصل من أصول «ألف ليلة وليلة»، وكثير غيره من كتب القصص، ككتاب بوسفاس، وكتاب خرافة ونزهة، وكتاب الدب والثعلب، وكتاب روزبه اليتيم، وكتاب نمرود … إلخ.
هذا الذي ذكرنا كان ترجمة ونقلًا منا للسان الفارسي إلى العربي، وشيء آخر لا يقل عنه شأنًا، وهو: أنه كان هناك قوم أتقنوا اللغة الفارسية والعربية معًا، فعكفوا على قراءة الكتب الفارسية يَتَثَقّفون بها، ويرقّون أفكارهم وعقولهم، ثم هم يخرجون باللغة العربية أدبًا وشعرًا وعلمًا، وليس ما يخرجونه نقلًا تامًّا لكلام فارسي، ولكنه منبعث عنه، ومتولد منه؛ كالعربي اليوم يتثقف ثقافة فرنسية أو إنجليزية أو ألمانية، ثم هو بعد ذلك يخرج أدبًا جديدًا بلغته العربية لا يسمى أدبًا أوروبيًّا، ولكنه نِتاجه ومتأثر به، وسائر على أثره.
كان العتابي إذن مثقفًا ثقافة فارسية، وأنت إذا قرأت شعره ونثره تبينت منه أنه كان أديبًا ممتازًا، غزير المعاني، على حين أن كثيرًا من الشعراء أشعارهم جوفاء، تقرأ له مثلًا في العقد الفريد قطعًا نثرية غزرت معانيها، ودقّ أسلوبها، وتقرأ له شعرًا مطبوعًا في فنون مختلفة من فنون الشعر، فتشعر بروح غير مألوف، كأن يقول:
وله حكم تشبه حِكَم ابن المقفَّع، كأن يقول: الأقلام مطايا الفطن. قرِيبك من قرب منك خيره، وابن عمك من عمك نفعه، وعشيرك من أحسن عِشرتَك، وأهدى الناسِ إلى مودتك من أهدى بره إليك. وكتب يوصِي بشخص فقال: «موصل كتابي إليك أنا: فكن له أنا!» وعلى الجملة فالعتابي شخصية نادرة، لم تقدر قَدرها اللائق بها، قليل اللفظ، غزير المعنى، يدل نثره وشعره على ثقافة واسعة، قد اجتمع له من الإجادة في النظم والنثر ما نَدر أن يجتمع لغيره، وقد أدركنا سبب ذلك مما علمنا من ثقافته.
هؤلاء الفرس الذين تعربوا، وهؤلاء العرب الذين أخذوا بحظّ من الثقافة الفارسية، ملئوا الدنيا في هذا العصر العباسي علمًا وحكمة وشعرًا ونثرًا، فيها العنصر الفارسي واضح جلي. ومن حظ العربية وقتذاك أنها سادت اللغة الفارسية وغلبتها على أمرها، فكان نتاج العقول الفارسية الراجحة إنما هو باللغة العربية لا الفارسية، شِعر الشاعر منهم عربي كبشار، وأدب الأديب منهم كابن المقفع، وتأليف المؤلف منهم عربي كابن قتيبة والطبري … إلخ.
- (١)
أن الأدب في كل عصر ظِلُّ الحياة الاجتماعية، وقد كانت هذه الحياة ذات ألوان متعددة، أظهر لون فيها اللون الفارسي.
والفرس من قديم ميالون إلى الإْفراط في الشراب، والإفْراطِ في الغناء، حتى وصفهم «هِيرودوت» بالإمعان في ذلك، والغلو فيه، وتصريفهم شئون الدولة وهم سكارى.
ويروي حمزة الأصفهاني أن «بهرام جور» أمر الناس أن يعملوا من كل يوم نصفه، ثم يستريحوا ويتوافروا على الأكل والشراب واللهو، وأن يشربوا على سماع الغناء؛ فعز المغنون … ومر بقوم يشربون على غير مْلهين (مغنين) فقال: أليس قد نهيتكم عن الغفلة عن الملاهي؟ فقالوا: طلبناه بزيادة على مائة درهم فلم نقدر عليه. فكتب إلى ملك الهند يستدعي منه ملهين، فبعث إليه اثنى عشر ألف رجل منهم، ففرقهم على بلدان مملكته فتناسلوا بها.»
فما إن قرت الدولة العباسية حتى عاد الفرس إلى سيرتهم الأولى، فملئوا الجو غناء ونبيذًا ولهوًا وترًفا، ورأينا رجالهم في كل فن من هذه الفنون هم قادة الناس في ذ لك، فإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق ينشران اللهو الظريف والغناء الْحُلو، ويعلِّمان الجواري، ويقدمان للناس المثل في حياة السرف والإتلاف في تحصيل اللذائذ، وكانا مع حسن صوتهما (وخاصة إسحاق) عالِمين أديبين شاعرين، وقد وضع إسحاق علم الموسيقى في الدولة العباسية، وأّلف فيه، وأولِع الناس بغنائهما، وقلدوهما في فنِّهما ولهوهما، ولما مات إبراهيم رثاه الشعراء بما يدل على أثره فيهم، فمن قائل:
ومن قائل:
ومن قائل:
وبشار بن برد الفارسي كان إمام الْمُحْدَثين، والفاتح لهم باب التَّهتك على مِصراعيه، سار شعره في العراق فلا غَزل ولا غَزلةٌ إلا يروي من شعره، ولا نائحة ولا مغنّية إلا تَتكسب به، ويأتيه النساء في بيته فيأخذن عنه شِعره.
نعم في الأدب الجاهلي خمر تراه في مِثل شعر طَرفة، وفُحش تراه في مثل امرئ الَقيس: «تَقولُ وَقد مالَ الغبِيط بنَا معًا»، و«ألا عِم صباحًا أيها الطَّلَلُ البالي». وكان في الأدب الأموي خمر كالذي في شعر الأخطل، وكان غزلٌ مكشوف كغزل عمر بن أبي ربيعة. ولكن أين هذا كله من شعر بشار وصرِيع الغَواني ومطِيع بن إياس، وأبي نواس! قد كان فجور الأولين ساذجًا بسيطًا في ألفاظه ومعانيه كمعيشتهم، وكان فجور الآخرين مُرَكَبًا مُمْعِنًا في الوصف، شاملًا لكل المظاهر، ومشاعر الشهوة، يتخير أقبح اللفظ لأقبح المعنى.
قد تقول: إن هذا نتيجة طبيعية لسير المدنية، فلما تقدمت بالناس حياتُهم الاجتماعية، وما يتبعها من ترف، تقدم الشعر والأدب يسايران عيشة الترف والنعيم، فما للفرس ولهذا؟!
وقد يكون في هذا القول كثير من الصحة، ولكني أظن أن الأمر ما كان يصل إلى هذا الحد لولا الفرس؛ فهم الذين دَفعوا الناس إلى حياة ترف ألِفوها هم وآباؤُهم عن عهد الأكاسرة، وعلموهم كيف يكون الإفراط في طلب المَلاذّ من طرق فنية أكسبتهم إياها حضارتهم القديمة، لا من طريق ساذج كالذي يعرفه العرب. هل كان يعرف العرب مجالس الغناء المتقنة، ومجالس الشراب المترفة، وحياة النعيم الناعمة لولا الفرس؟ فعظماء الفرس كالبرامكة وأمثالهم أرشدوا الناس إليها، وفنّانوهم كإبراهيم الموصلي غنوهم عليها، وشعراؤهم كبشَّار بن برد كانوا لسانهم الناطق بها، المحدث عنها! ولو كانت الحياة الأموية امتدت وظلت السيادة العربية ما رأيت تشبيبًا بغلمان، ولا هذا السيل الجارف من القيان، ولما رأيت نعيمًا وترفًا وفيرًا. ألم تر الشام ومصر والأندلس في هذا العصر نفسه؟ لم تنغمس في الترف كما انغمست العراق وفارس، ولم يكن أدبها أدبًا ناعمًا داعرًا كالذي كان في العراق. قد تكون كثرة المال يصب في حاضرة الخلافة سببًا للترف في الحياة، والترفِ في الأدب، ولكن المال وحده لا يكفي لولا العنصر الفارسي الذي كان ينظم كيف يستخدم المال في هذه السبيل.
من الحق أن نقول إن هذه النزعة إلى اللهو والترف لم تكن نزعة عامة شاملة للفرس، بل كان هناك نزعات أخرى بجانبها، أظهرها ما كان يقابلها من نزعة الزهد، وكان زعيم هذه النزعة في الأدب أبا العتاهية الفارسي أيضًا.
قد كان قبل أبى العتاهية حياة زهد في الجاهلية، وفي العصر الإسلامي، وكان قبل أبي العتاهية شعر زاهد، ولكن أبا العتاهية أتى في هذا الباب بما لم يسبق إليه، وزاد في معانيه زيادة بشار وأبي نواس في أدب اللهو والمجون.
وأصح تعبير في ذلك أن نقول إنه فلسف الزهد، وملأ الأدب العربي في عصره بالموت والتخويف منه، ومما بعده، واحتقار اللذة، والجد في الهرب منها:
•••
وعلى الجملة فالشعر الديني الذي كان يحمل لواءه في ذلك العصر صالح بن عبد القدوس وأبو العتاهية؛ فيه نزعة ثنوية كان ينزعها الفرس قديمًا، وسنرى عند الكلام في التصوف أَثر الفرس في حياة الزهد، ولكن يمكننا أن نقول الآن: إنه إن كان في نزعة بشار الإِباحية عنصر مزدكي ففي نزعة أبي العتاهية الزاهدة عنصر مانوِي.
و ضرب آخر من الآداب كان للفرس فيه أثر كبير، وهو باب «التوقيعات»؛ ذلك أن الفرس قبل الإسلام كانوا يعنَون بالبلاغة عناية كبرى، وكان لهم فيها تأليف كما حكى الجاحظ. وكان من أظهر عنايتهم بالبلاغة والحكم التوقيعات. قد كان الفرس ككل الشعوب، يرفعون إلى ولاة أمورهم أوراقًا تتضمن طلبا لشيء، أو شكوى من شيء، نسميها نحن الآن «عرائض»، وكانت تسمى عند العرب «َقصصًا»، سميت كذلك على سبيل المجاز؛ لأن القصة اسم للمحكي في الورقة، فسميت الورقة نفسها «قصة»، وكانت تسمى كذلك رقاعًا، لصغر حجمها تشبيهًا لها برقعة الثوب.
كانت هذه القصة ترفع إلى الملك، أو من يليه تبعًا لموضوعها، وتبعًا للمتظلِّم وقدره، وقد جرت عادة الملوك والولاة من الفرس أن يوقعوا على هذه القصص بعبارة بليغة، أو حكمة حكيمة، يَتخير لها أحسن اللفظ، وأجود المعنى، وتُتَناقلُ أثرًا من الآثار القيمة، كما يتناقل المثَلُ الجيد. وقد نُقِلَ إلى أدبنا العربي الشيء الكثير من توقيعات ملوك الفرس؛ من ذلك أن رجلًا رفع إلى كسرى بنقباذ رقعة يخبره فيها أن جماعة من بطانته قد فسدت نياتهم، وخبثت ضمائرهم؛ منهم فلان وفلان، فوقَّع في أسفَل كتابه: «إنما أملك ظاهر الأجسام لا النيات، وأحكم بالعدل لا بالهوى، وأفحص عن الأعمال لا عن السرائر.» ووقع أنوشروان في قصة محبوس: من ركب ما نهي عنه حيلَ ما بينه وبين ما يشتهي! ومدح رجل من الخاصة كسرى بنقباذ بِمدحٍ أطنب فيه وأسهب، وذهب كلَّ مذهب، وكان المدح في رقعة فوقَّع فيها كسرى: «إنِّي للمدح مستصغِر؛ لعلمي بأشياء قد مدِحت، وكانت بأن تذم محقوقة.» إلخ. ولما تحضر العرب، وانتشرت بينهم الكتابة، وحرروا مظالمهم على رِقاع بعد أن كانوا يشافهون بها أمراءهم، كان لهم توقيع. وقد نقلت توقيعات في أيام الخلفاء الراشدين وبني أمية، أخشى أن يكون كثير منها كان شفهيًّا فحور إلى توقيع، ولكن قد سال سيل التوقيعات في عهد بني العباس، وكان أكثر الكتَّاب والوزراء فرسًا فساروا فيها على سَنن آبائهم، وكثر ذلك حتى أُنشئوا فيما بعد ديوانًا سموه «ديوان التوقيع».
وكانت هذه المعاني الفارسية تسرق وتنظم أو تحتذى، يقولُ بزرجِمِهر: «إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عنك فأنفق فإنها لا تبقى.» فيقول الشاعر:
وقيل لابن المقفع: لم لا تطلب الأمور العظام؟ فقال: رأيت المعالي مشوبة بالمكاره، فاقتصرت على الخمول ضنًّا بالعافية، فأخذه العتّابي وقال:
•••
ونحن نعتقد أن ابن خلدون مع دقة ملاحظته قد غالى فيها غلوًا كبيرًا، وبخس العرب نصيبهم في المشاركة؛ فلئن كان أبو حنيفة النعمان فارسيًّا فمالك والشافعي وأحمد بن حنبل عرب، ولئن كان سيبويه فارسيًّا فشيخه الخليل بن أحمد عربي. وليس كل علماء أصول الفقه عجمًا كما يقول؛ فواضعه وأول مؤّلف فيه الشافعي وهو عربي، وغلو أن يدعى أن هؤلاء العلماء العرب هم عجم بالمربى، فإن المربى كان مزيجًا من عرب وعجم.
ولكن مما لا شك فيه أن العجم — وخاصة الفرس — كانوا في جملتهم أقدر على التدوين والتأليف للسبب الذي ذكره ابن خلدون، وهو تعمقهم في الحضارة، ولأنهم مرنوا من قديم على التأليف بلغتهم هم وآباؤهم، فلما دخلوا في الإسلام وتعلموا العربية كان تأليفهم بالعربية سهلًا يسيرًا؛ لأنه ليس إلا احتذاء للمنهج، وإن اختلف الموضوع واللغة. إذن لا عجب من أن نرى في عصرنا الذي نؤرخه كثيرًا من الفرس كانوا من السابقين الأولين في تدوين العلوم المختلفة.
فالإمام أبو حنيفة النعمان إمام المذهب، وحماد الراوية جامع المعلَّقات العشر، وراوي كثير من الشعراء، وسيبويه الإمام المقدم في النحو وتدوينه، والكِسائي أحد الأئمة الأعلام في النحو واللغة والقراءات، وهو أحد القراء السبعة، والفَراء أبرع الكوفيين وأعلمهم بالنحو واللغة والغريب وأخبار العرب وأيامها، وذو النزعة الشعوبية أبو العتاهية شاعر الزهد، وابن قتيبة المؤرخ الأديب، صاحب التآليف الكثيرة ككتاب المعارف وعيون الأخبار، كل هؤلاء وغيرهم ممن لم نذكرهم كانوا فرسًا، وكان لهم أثر كبير في الثقافة العربية الإسلامية.
قد كان وراء هذه الثقافة الفارسية، وهؤلاء العلماء الفرس قوى تحميها وتدفعها، هذه القوى ظاهرة أحيانًا وخفية أحيانًا، وتنطوي على نية خير أحيانًا ونية سوء أحيانًا، منهم من يريد خدمة العلم، والعمل على نشره، لا يريد بذلك إلا وجه الله والعلم، ومنهم من يريد أن يشيد بالقومية الفارسية، والحط من القومية العربية، بل منهم من يريد الكَيد للإسلام وأهله. ومنهم من يرى أن الحكمة ضالّة المؤمن ينشدها حيث وجدها، ويعمل على إذاعتها. ومنهم من ينشر شعوبية، ومنهم من ينشر زندقة، ومنهم من يغلو في التشيع لأهل البيت، وهو يضمِر السوء للمسلمين. كل هذا الخير وكل هذا الشر كان في النزعات الفارسية، وسيأتي توضيح لبعض ذلك في أبوابه.
فهؤلاء البرامكة، وإن عُنوا بالثقافة الفارسية فقد عنوا بجانبها كذلك بالثقافة اليونانية والهندية والعربية.
والآن نستطيع أن نختار رجلًا يمثل الثقافة الفارسية خير تمثيل، وليكن «ابن المقفع».
ابن المقفع
لسنا نريد أن نبحث في ابن المقّفع بحثًا تحليليًّا، في مولده وأسرته، ومناصبه التي تولاها، وعلاقته بالولاة والأمراء. ولا أن نبحث طويلًا في مقدرته البلاغية وأسلوبه، وأثره في أسلوب عصره ومن أتى بعده، فذلك بالناحية الأدبية أشْبه. وإنما نريد أن نبحث فيه من ناحية ثقافته الواسعة، وآثاره الخالدة، ومن ناحية أنه نِتاج ثقافة فارسية عميقة واسعة، لُقِّحت بعد بلقاح عربي، فكان من هذا وذاك أدب جم، مدِين في أكثر معانيه للفرس، وفي أكثر ألفاظه وأساليبه للعربية.
•••
- الأولى: أنه لم يْقض من حياته في العصر العباسي إلا نحو عشر سنوات، أما بقية حياته فقد قضاها في العصر الأموي، وشهد اضطهاد العرب للموالي، وشاركهم في مِحنتهم وبؤْسِهم أيام الأمويين. ولم يكن مسلما يُلَطِّف دينُه من كرهه للعرب كما كان شأن المتدينين؛ فلا بد أن يكون قد أُْفعم بكره العرب، وشاهد الدعوة العباسية، واشتراك الفرس فيها، وتمنى كما تمنَّوا أن يرفع عنهم نِير الأمويين، وسُرَّ كما سروا باستيلاء العباسيين.
- الثانية: أنه نشأ مجوسيًّا زرادشتيًّا، وقضى زهرة شبابه في أحضان المجوسية، مثقفًا بثقافتها، ولم يسلم إلا قبل قتله ببضع سنوات، بعد أن تكون ونضج، وتقلد الكتابة للكثيرين. وكان قبل إسلامه مستمسكًا بدينه، فلما أراد أن يسلم قال له عيسى بن علي عم المنصور: ليكن ذلك بمحضر من القواد، ووجوه الناس، فإذا كان الغد فاحضر. ثم حضر طعام عيسى عشية ذلك اليوم، فجلس يأكل ويزمزم على عادة المجوس، فقال له عيسى: أتزمزم وأنت على عزم الإسلام؟ فقال أكره أن أبيت على غير دين. فلما أصبح أسلم على يده فسمي بعبد الله، وسنتعرض لهذا الموضوع عند الكلام في زندقته.
وابن المقفع من أقوى الشخصيات في عالم الأدب العربي، قوي في خلقه، قوي في عقله وسِعة علمه، قوي في لسانه.
أما خلقه فنبل وكرم، وتعهد لذوي الحاجات يواسيهم، وتقدير دقيق للصداقة، ومراقبة شديدة لنفسه يحملها على الأجدر والأنبل، ورغبة شديدة في إصلاح الراعي والرعية خلقيًّا واجتماعيًّا، إلى ظرف الخاصة، والتمسك بآداب اللياقة، ومراعاة الدقة فيما يتطلبه الذوق.
وصفه الجاحظ فيقول: «كان جوادًا فارسًا جميلًا، ويدعوه عيسى بن علي للغداء، فيقول: أعز الله الأمير! لست اليوم للكرام أكيلًا. قال: ولم؟ قال: لأني مزكوم، والزكمة قبيحة الجِوار، مانعة من عشرة الأحرار. ويعجب الناس بأدبه، فيسألونه: من أدبك؟ فيقول: نفسي! إذا رأيت من غيري حسنًا أتيته، وإن رأيت قبيحًا أبيته. ويدل الباقي من كتبه على باقي ما وصفنا من خلقه.
وستتبين غزارة معانيه، وقوة تفكيره مما يأتي.
آثاره الأدبية
- (١)
الأدب الصغير
- (٢)
الأدب الكبير أو اليتيمة
- (٣)
رسالة الصحابة
- (٤)
كليلة ودمنة
•••
- (١) أن ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار يورد هذين الاسمين في مواضع مختلفة، فيقول أحيانًا: «قرأت في اليتيمة»، وأحيانًا «في الأدب الكبير»، وما ينقله عن اليتيمة ليس موجودًا في الذي بين أيدينا مما يسمى اليتيمة.٧٢
- (٢)
وردت فصول من اليتيمة في كتاب المنثور والمنظوم لابن طيفور، لا نجدها فيما بين أيدينا من الأدب الكبير الذي سمي اليتيمة.
- (٣)
قال الباقلاني في إعجاز القرآن: «وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن، وإنما فزعوا إلى الدرة اليتيمة، وهما كتابان أحدهما يتضمن حكمًا منقولة توجد عند حكماء كل أمة، والآخر في شيء من الديانات.» واليتيمة التي بين أيدينا ليس فيها فصول عن الديانات، فالراجح أن الذي بقي لنا هو الأدب الكبير، أطلق عليه خطأ اسم الدرة اليتيمة.
وأما المسألة الثانية، وهي: هل هما مؤلَّفان أو مترجمان؟ فنفس الكتابين يدلان على أن ابن المقفع لم يترجمهما حرفيًّا كما نفهم من معنى الترجمة، وإن كان اعتمد في كثير من المعاني على معاني الأقدمين. قال في الأدب الصغير: «قد وضعت في هذا الكتاب مِن كلام الناس المحفوظ حروفًا، فيها عون على عِمارة القلوب وصقَالِها، وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير، وإقامة للتدبير، ودليلٌ على محامد الأمور، ومكارم الأخلاق.» وقال في الأدب الكبير المسمى بالدرة اليتيمة: «إنا لم نجدهم (أي الأولين) غادروا شيئًا، يجد واصف بليغ في صفته له مقالًا لم يسبقوه إليه، لا في تعظيم الله عز وجل، وترغيب فيما عنده، ولا في تصغير للدنيا، وتزهيد فيها، ولا في تحرير صنوف العلم، وتقسيم أقسامها، وتجزئة أجزائها، وتوضيح سبلها، وتبيين مآخذها، ولا وفي وجوه الأدب وضروب الأخلاق؛ فلم يبق في جليل من الأمر لقائل بعدهم مقال، وقد بقيت أشياء من لطائف الأمور، فيها مواضع لصغار الفطن، مشتقة من جسام حِكم الأولين وقولهم. ومن ذلك بعض ما أنا كاتب في كتابي هذا من أبواب الأدب التي يحتاج إليها الناس.»
وكلمة الأدب في الكتابين ليس معناها ما نستعمله الآن فيما يقابل العلم، وإنما يطلقها ابن المقفع على معنى تهذيب النفس والخلق.
والأدب الصغير عبارة عن كلمات حكيمة في الأخلاق، لا تحلل النفس والخلق تحليلًا «دقيًقا واسعًا مستوفى، ولا تذكر الخلق فتبسط القول فيه، وتذكر وصفه، والسبيل إلى اكتسابه، فذلك بالعقل اليوناني أشبه، ولكنها عبارة عن جمل موجزة أشبه بالأمثال، وهي خطرات؛ نتيجة تجارب قد صيغت في إيجاز، وفي عبارة رشيقة رقيقة، مثل: «أربعة أشياء لا يُسْتَقَلُّ منها القليل: النار، والمرض، والعدو، والدين.»
ومثل «لا تَعُدّ الغُنْم غُنْمًا إذا ساق غُرْمًا، ولا الغُرْم غُرْمًا إذا ساق غُنْمًا، ولا تعتد من الحياة ما كان في فراق الأحبة … إلخ.
ونلاحظ في الأدب الصغير أنه ليس — في كثير من مواضعه — ارتباط بين حكمه؛ فهي أشبه برجل أخذ يرصد تجارب مختلفة في حالات مختلفة، فكلما عثر على تجربة وضعها، وإن كانت إحدى التجارب اقتصادية، والأخرى دينية، والثالثة نفسية، أو كرجل يقرأ في كتب مختلفة، فكلما وجد كلمة أعجبته دونها، لذلك ترى كلمة في محاسبة النفس، وبجانبها كلمة في الصديق، ثم كلمة في معاملة الناس بحسب طبقاتهم، ثم في تعادي الرأي والهوى، ثم بعد كثير من الصفحات تجد كلمة أخرى في الصديق، قد كان يحسن أن تكون بجانب الأولى، وهكذا. ثم هو مختلف في طريقة التأليف؛ فأحيانًا ينشئ الشيء من غير إسناد، وأحيانًا يقول: وقالت الحكماء، وأحيانًا تجد قبل الحكمة كلمة «وقال»؛ مما يدل على أنه لم يضعها هو في هذا الموضع.
أما الأدب الكبير، أو ما سماه الكتَّاب بالدرة اليتيمة، فكلمات كذلك، ولكنها في مجموعها أطول، وهي مرتبة غالبًا، أُلفت الكلمات المتعلقة بموضوع واحد في موضع واحد تقريبًا، يدور أغلبها على موضعين، قد استوفي الكلام فيهما استيفاء حسنًا؛ فأولهما: الكلام على السلطان والولاة، ومن يتصل بهما، وقد كان هذا الموضوع يشغل نفسه كثيرًا، يتجلى ذلك في أكثر ما كتب، لأن حياته كانت متّصلة به، فقد كتب للولاة، واتصل بهم، وصادقهم وعاداهم. وقد اتصل بالخلاف بين المنصور وأعمامه، وكان ركنًا من أركان هذا الخلاف، ومحررًا لوقائعه، ومستشارًا في أمره، ومنغمسًا فيه، وقارئًا لمثل هذه الأْحداث في سِير الفرس، ومترجمًا لها، فلا عجب إذا أكثر الكتابة فيه، ولا عجب إذا أجاد، وقد جمع فيه مأثور الأولين، وتجارب الآخرين، إلى ما منحه الله من دقَّة نظر، وحسن أداء. وقد استغرق هذا الموضوع القسم الأولَ من الكتاب. والموضوع الثاني: الصداقة والصديق. وقد كان ابن المقفع يقدر هذا تقديرًا دقيقًا، ويرى في الأصدقاء عماد الحياة، ومرآة النفس، يفضي إليهم وحدهم ببَنات صدره، ودخائل نفسه، ويضع عندهم وحدهم مكنونات سره، ويضع عنه مؤونة الحذر والتحفظ. أما غيرهم فليس لهم لباس آخر، لا يلقاهم إلا متحفّظًا متشددًا متحرزًا. ولأجل ذلك أثقل في شروط الصديق، ونصح بالدقة التامة في اختياره؛ «لأن ذا الرأي لا يدخل أحدًا من نفسه هذا المدخلَ إلا بعد الاختبار والسبر، والثقة بصدق النصيحة، ووفاء العقل.» وتدل سيرته على أنه آمن بما كتب، ودان به، وسار في حياته على ما كتب من قوانين الصداقة؛ بذل دمه لصديقه عبد الحميد، وبذل ماله لأصدقائه بل لمعارفه، كما فعل مع سعيد بن سلم، ومِثْلُ ابن المقفع في علاقته الدقيقة بين الولاة والأمراء، وما يلاقي في سبيل ذلك من مشكلات وصعاب، وفي عقله البحاث، وانتقاله من دين إلى دين، وما يعرض عادة في ذلك من شكوك وارتياب، وفي نزعته إلى الإصلاح الاجتماعي، وما يرى حوله من عيوب تَتّصل أحيانًا بالولاة وأحيانًا بالخلفاء، ويرى أحيانًا وجوب الجهر بالنصيحة، والإرشاد إلى مواطن الضعف وطرق العلاج؛ مثلُ ابن المقفع في هذه المواقف يحتاج إلى الصديق الذي يصفه، وإلى الشروط التي يشترطها له، يفضي إليه بدخائل نفسه، وفيما يرى من دولة تنهار ودولة تقام، وأُسسٍ توضع لا بد أن يشترك في وضعها، ويبين عيب القديم والحديث، وما يطمح إليه من إصلاح، وإليه يُفزع في عوامل تضطرم في نفسه بين دين نشأ عليه، وتمكَّن في أعماق نفسه، ثم هو يريد أن يتخلى عنه إلى دين جديد له شعائر تخالف شعائر دينه القديم، وله تعاليم تتعارض مع ما ألِف، هناك يتنازع العقل والشعور، وهناك تتحارب العواطف، وهناك يحار بين علم المنطق الذي ترجمه، والتقاليد التي رُبِّيَ في أحضانها، فما أحوجه في كل ذلك إلى «الصديق»! وقد أشار فيما كتب إلى كل ذلك؛ أشار إلى العيوب الاجتماعية، وإلى ظلم الولاة في عصره، وإلى ما يلحق العامة، وإلى النزاع بين الدين والرأي، وقد جره الكلام في الصديق إلى الكلام في العدو، وكيف يكون داهيًا في حربه ويخفي دهاءه. وكيف يعمل في هلاك عدوه أو البعد عنه، وفي جار السوء، وكيف يصبر عليه، وفي آخر الكتاب يعود إلى جمع حكم متفرقة لا يربطها موضوع.
في الكتابين أثر كبير من الثقافة الفارسية؛ ففيهما حِكم كثيرة من حِكم الفرس، وفيهما بعض نظم الساسانيين في الحكم، وكثيرًا ما يقول: «احفظ قولَ الحكيم»، و«قالت الحكماء»، وهو يقصِد حكماء الفرس. وفيها بعض وصايا مأخذوذة من عهد أردشير، كالنظام المتعلق بولي العهد. وفيهما من حِكم كليلة ودمنة، إلى غير ذلك. نعم، هناك أثر يوناني في هذه الحِكَم، مثل قوله: «إن العاقلَ ينظر فيما يؤذيه وفيما يسره، فيعلم أن أحقَّ ذلك بالطلب إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء إن كان مما يكره؛ أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضلَ سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع العام (الذي تصلح به الأنفس والأعقاب) على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلًا ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة، والساعات على الساعات.» فإنك تلمح في ثنايا هذا رأي أبيقور، وهو أنه يجب أن يراعي في تفضيل لذة على لذة الشدة والمدة، وتفضيل اللذائذ العقلية والروحية على اللذائذ البدنية … إلخ. ولكن ابن المقفع إنما نقل عن الفرس، وإن كانوا قد تأثروا فيما تأثروا به بالمذاهب اليونانية. كذلك نلمح في بعض حكمه أشياء إسلامية، كقوله: «والدنيا دولٌ، فما كان منها لك أتاك على ضعفك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك.» فهو قريب في لفظه من حديث مشهور، ونرى وجوهَ شَبَه عديدة في بعض الحكم بين ما ورد في كتب ابن المقفع، وما ورد عن الإمام علي في كتاب نهج البلاغة، ولكنا يعترينا الشك في كثير مما نسب في نهج البلاغة إلى الإمام علي، وقد أبّنا ذلك في الجزء الأول من هذا الكتاب، ونرجح أنها نسبت إليه بعد ابن المقفع في عهد الشريف الرضي ومن قبله. فيمكننا أن نقول إن أغلب استمداد ابن المقفع في كتبه من الثقافة الفارسية، وقليل منها من الثقافة العربية الإسلامية. وأوضح دليل على ذلك: أن الروح الدينية في حِكَم ابن المقفع نادرة جدًّا، قلَّ أن تلمسها، على عكس ما ينسب مثلًا إلى الحسن البصري، وما صح من أقوال علي (رضى الله عنه)، فهي مغمورة بالشعور الديني الإسلامي، أما ابن المقفع فحكمه مستمدة من تجارب دنيوية، حتى ما يتصل منها بالدين.
رسالة الصحابة
وللرسالة قيمة كبرى؛ فإنها تقرير في نقد نظام الحكم إذ ذاك، ووجوه إصلاحه، رفعه إلى أمير المؤمنين ولم يسمه، والظاهر أنه أبو جعفر المنصور؛ لأنه يذكر دولة بني العباس وقد استقرت، ويذكر أمير المؤمنين وقد أهلك الله عدوه وشفى غليله، ومكَّن له في الأرض، وآتاه خزائنها. ويذكر أبا العباس (السفاح) ويترحم عليه. وإذا علمنا أن ابن المقفع قتل في عهد المنصور صح لنا أن نستنتج من ذلك كله أن الرسالة إنما كتبت للمنصور.
بدأها بمدح أمير المؤمنين بأنه جمع إلى ما عنده من علم الرغبة في السؤال، والاستماع لنصيحة الناصح، وفي هذا ما يشجع ذا الرأي على أن يدلي برأيه.
ثم ذكر موضع الشكوى قبل أن يتولى أبو جعفر المنصور؛ فوالٍ لا يهتم بالإصلاح، وإن اهتم به فليس له رأي يهديه، أو له رأي ولكن ليس له عزم يمضي به ما يبتغيه، وأعوان ليسوا على الخير بأعوان، ولهم من المكانة والنفوذ ما يمنع الخليفة من إقصائهم والنيل منهم، وأمة إن أُخذت بالشدة حميت، وإن أُخذت باللين طغت، وأبان أن أمير المؤمنين وفقه الله لمداواة هذه العيوب، واقتلاع هذه الشرور، ثم بدأ بتقريره الذي وضعه.
- فأول: ما بدأ به شرح حال «الجند». وإذا علمنا أن الدولة في عهد هذا التقرير دولة ناشئة، ولها أعداء كثيرون، وذوو أطماع عديدون، ثم هي واسعة الأطراف، مترامية الأنحاء، لا يخلو فيها يوم من فتنة؛ أدركنا ما للجند من عظيم شأن، وعرفنا السبب في أن جزءًا كبيرًا من التقرير كان يدور حول هذا الموضوع. وإذا كان عماد الجند هم الجند الخراسانية، وكانوا هم القائمين بحماية الدولة، وكانوا فُرْسًا، وكان ابن المقفع فارسيًّا؛ كان محور كلامه الجند الخراسانية.
مدح جند خراسان بأنه لم ير مثلهم في الإسلام، يمتازون عن غيرهم من الجند بالطاعة والعفاف والكفِّ عن الفساد، والذلِّ للولاة. ثم شكا من أمور: أولها أنه لا بد أن تنظَّم أفكارهم، ولا بد لذلك من أن يكون لهم دستور أو قانون، يحيط بكل شيء يجب أن يعرفوه، يبين لهم ما يفعلونه، وما يتجنبونه، يحفظه رؤساؤهم، ويقودون به عامتهم. فأما ترك الأمر من غير قانون، لا يعرفون به ما يجب وما يحرم؛ فداعٍ إلى الفوضى. وشكا من أن هذا جر قومًا إلى المغالاة في الأمر بالطاعة لأمير المؤمنين، ووجد في القواد من يقول: إن أمير المؤمنين لو أمر أن تستدبر القبلة بالصلاة لسمعنا وأطعنا! وهذا له أثر سيئ في النفوس، وقد ساقه هذا القولُ إلى بحث أوامر أمير المؤمنين وما يطاع منها، وما لا يطاع، وذكر المبدأ المشهور: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» وقال: إن قوما فسروا هذا المبدأ تفسيرًا معوجًا. والذي رآه ابن المقفع أن الخليفة يطاع فيما لا يطاع فيه غيره، وبيان ذلك: أن هناك فرائض وحدودًا بينها الله، وفي هذا لا يطاع أمير المؤمنين لو أمر أمرًا يخالفها. وهناك أشياء كثيرة من شئون الناس لم يأت فيها نص، بل تركت لعقل الناس واجتهادهم، وهذه متى اجتهد فيها ولاة الأمر ورأوا فيها رأيًا وجبت طاعتهم، وليس للناس في هذا إلا الإشارة عند المشورة، والإجابة عند الدعو ة، والنصيحة لهم. فرأي ابن المقفع إذن أن هناك نصوصًا دينية يجب على الناس والولاة أن يطيعوها، وليس لولاة الأمر أن يخالفوا، وهناك مسائل كثيرة لم يرد فيها نص؛ كإعلان حرب، واسترداد جيش، وشروط صلح، وتنظيم أمور الدولة حسب الزمان والمكان، وهذه كذلك لا تترك فوضى ولكن للناس أن يشيروا بآرائهم، وعلى أولي الأمر أن يفكروا ويتدبروا، فإذا رأوا رأيًا وجب على الناس إطاعته، وإن رأوا فيه نقصًا أو عيبًا أو خطأ نصحوا ولاة الأمور بآرائهم.
- ثانيًا: مما نصح به أمير المؤمنين في شأن الجند؛ أن يحال بين الجنود وبين إدارة الشئون المالية. وقد دعاه إلى ذلك الرأي أن الخليفة كان يولي بعض قواده خراج بعض الأقطار، فيولي قائدًا خراج مصر، وآخر خراج خراسان. وبذلك تصبح مالية هذا القطر في يده يحاسب الناس عليهما، ويحاسبه الوالي كذلك. وقد علل ابن المقفع رأيه هذا «بأن ولاية الخراج مفسدة للمقاتِلة». وهو نظر صائب؛ فإن كثيرين من هؤلاء القواد اعتزوا بسلطانهم وجنودهم، فظلموا الناس، فلما أُوخذوا على ظلمهم اعتزوا بما في أيديهم من مال، وما تحت طاعتهم من جند، فخرجوا على الدولة، وكانوا سببًا لمصائب لا تُحصى.
- ثالثًا: مراعاة الكفاية في القيادة؛ فقد لفت نظر الخليفة في لطف إلى أن يعيد النظر في الرؤساء ومرءوسيهم؛ فكثير من المرءوسين أكفأ من رؤسائهم، فلو ولي القيادة خيارهم، ووضع الجند في منازلهم حسب كفايتهم، لكان من ذلك خير عظيم.
- رابعًا: تثقيف الجند ثقافة علمية وخلقية؛ فيعنى بتعليمهم الكتابة والتفقّه في الدين، كما يعنى بتعويدهم الأمانة والعفة والتواضع، واجتناب الترف في الزي والعطر واللباس، وما إلى ذلك.
- خامسًا: تعيين وقت محدد للجند يقبضون فيه أرزاقهم، فإن ذلك أعطى لطمأنينتهم، وأمنع للشكوى والاستبطاء.
- سادسًا وأخيرًا: أن يتقصى أحوال الجند، ويعرف أخبارهم وحالاتهم، وباطن أمرهم حيث كانوا، وأن يعين لذلك الثقات الذين يخلصون له، ولا يكتمون عنه شيئًا، وألا يستكثر ما يُنْفَق في هذا السبيل، وإن عظم فإن في ذلك الحزم واستئصالَ الشر قبل استفحاله. هذه خلاصة موجزة لوجوه الإصلاح التي اقترحها للجند.
ثم ذكّر أمير المؤمنين بأهل العراق عامة، وأهل البصرة والكوفة خاصة، وأنهم أقرب الناس إلى أن يكونوا شيعته ومعينيه، ولأهل العراق من الفقه والعفاف والألباب والألسنة ما ليس في سواهم، ورجاه في العناية بهم والاعتماد عليهم، وقال: إنه أزري بأهل العراق؛ أن ولاة العراق فيما مضى كانوا أشرار الولاة، وأعوانهم كانوا أشرار الأعوان، فساءت سمعة العراق من أجل هذه الفئة الضالة، واستغلّ أهلُ الشام ذلك، فشَنعوا على أهل العراق عامة بما صنعت هذه الفئة. ولما جاءت دولتكم لم تجد أمامها من أهل العراق إلا هؤلاء الظاهرين ممن لا يصح الاعتماد عليهم، فلو نُحِّيَ هؤلاء وأمثالهم، واسْتُقْصِي الناس وعرف أهلُ الفضل فأُسندت الأمور إلى الأكفاء غير المتصنعين لظهر فضلُ العراق وأهله.
ثم عرض ابن المقفَّع في تقريره إلى موضوع من أهم الموضوعات وأعمقها أثرًا في حياة المسلمين، وهو «فوضى القضاء»، فوضى لا يرجع فيها إلى قانون معروف، وإنما هو متروك لرأي القضاة واجتهادهم، ونشأ من ذلك صدور الأحكام المتناقضة، حتى في البلدة الواحدة، فتستحلّ دماء وفروج وأموال في ناحية من نواحي الكوفة، وتحرم في ناحية أخرى تبعًا لحكم القاضي، وكل ذلك نافذ على المسلمين. والقضاة نوعان؛ نوع يزعم أنه يلتزم السنّة (يعني بذلك النص على العموم)، وقد تغالى فيما سماه سنَّة، فكثيرًا ما يَسْفِك دمًا من غير بينة ولا حجة، ويزعم أنه هو السنة، فإذا قيل له: إن مثلَ هذا الأمر لم يرق فيه دم في عهد رسول الله ﷺ أو أئمة الهدى من بعده. قال: فعل ذلك عبد الملك بن مروان، أو أمير من بعض أولئك الأمراء. ونوع يزعم أنه من أهل الرأي فيبلغ به الاعتداد برأيه «أن يقول في الأمر الجسيم من أمر المسلمين قولًا لا يوافقه عليه أحد، ثم لا يستوحش لانفراده بذلك، وإمضائه الحكم عليه، وهو مقر أنَّه رأي منه لا يحتَج بكتابٍ ولا سنة.» هذه هي الفوضى كما شرحها ابن المقفع، ثم اقترح لها علاجًا، وهو أن يرفع إلى أمير المؤمنين كل الأقضية والمسائل التي يحدث فيها الخلاف، ويذكر ما يحتَج به كل فريق من المخالفين من نص أو رأي، فيعمِد أمير المؤمنين إلى هذه الحجج والبراهين، ويختار ما يراه صوابًا، ثم يدون ذلك في كتاب، وتعمل منه نسخ ترسل إلى الأمصار، ويلزم القضاة بالحكم به، فإذا جدت حوادث سِير فيها هذا السير، ووجب على كل إمام يأتي بعد أن يدخل على هذا القانون ما يجد وما تدعو إليه الحاجة، وهكذا إلى آخر الدهر.
ويرى «ابن المقفَّع» أن ولاة الأمور يجب أن يرجعوا في المسائل المختلف فيها إلى العدل ومصلحة الناس. وليس هناك ما يمنع من ذلك؛ لأن الأحكام المختلفة إما أن يكون اختلاف القضاة فيها ناشئًا من استنادهم إلى سنن مأثورة مختلفة، وهذا الاختلاف في السنن دليل على أنها ليست مقبولة بإجماع، إما لسندها، وإما لأنها مجال لتأويلات مختلفة، وحينئذ يكون الرجوع إلى العدالة أولى، وإما أن يكون الاختلاف ناشئًا من مراعاة القياس، وقد أفرط الفقهاء في مراعاة القياس الشكلي، والتزموا به، فوقعوا في ورطات، وأتى ابن المقفع بمثل يُهَزِّئ به قياسهم، فقال: لو أنك سألت أحدهم: أتأمرني أن أصدق، فلا أكذب كذبة أبدًا؟ لكان جوابهم نعم، فلو سألت: ما تقول في رجل هارب أراد ظالم أن يقتله فسألني عن مكانه وأنا أعرفه؛ أأصدق أم لا؟ فلو ساروا على قياسهم الذي وضعوه لأجابوا بالتزام الصدق، مع أن المصلحة والعدالة في غير ذلك، ثم قرر مبدأ قيمًا، وهو أن القياس ليس إلا وسيلة لتحقيق العدالة، وطريقًا من طرق الوصول إليه، فمتى رؤيت العدالة في غير القياس يجب أن يضحى بالقياس.
فمجمل رأي ابن المقفع في إصلاح القضاء: وضع قانون رسمي تجري عليه المملكة الإسلامية في جميع أنحائها، وهذا القانون يرجع فيه إلى ما يرشِد إليه العقلُ في معنى العدالة. وهذا فيما عدا ما ورد فيه نص مجمع عليه من كتاب أو سنة، فأما ما ورد فيه نص مختلف فيه، أو ما كان مبنيًّا على قياس، فيجب أن يْترك إلى ولاة الأمور، ينظرون فيه باعتبار واحد وهو المصلحة العامة. والفقهاء ليس لهم وضع قوانين، وإنما عليهم أن يجتهدوا في المسائل من الناحية العلمية النظرية، ثم يدلون بآرائهم إلى ولي الأمر، وهو الْمُقَنِّن وحده.
وهو رأي له قيمته ووجاهته، وهو يتفق في كثير من نواحيه والآراء الحديثة في التشريع، ولو عمل به المسلمون لكان له أثر كبير في الحالة الاجتماعية، وخاصة من الناحية القضائية.
«ولم تذهب دعوة ابن المقفع سدى، فابن سعد في الطبقات يروي عن مالك بن أَنسٍ أنه قال: لما حج المنصور، قال لي: قد عزمت على أن آمر بكتبك هذه التي وضعتها فتنسخ، ثم أبعث إلى كل مصر من أمصار المسلمين منها نسخة، وآمرهم أن يَعْمَلوا بما فيها، ولا يتعدوه إلى غيره، فقلت: يا أمير المؤمنين لا َتفعل هذا؛ فإن الناس قد سبقت إليهم أقاويل، وسمعوا أحاديث، ورووا روايات، وأخذ كلّ قوم بما سبق إليهم، ودانوا به فدعِ الناس، وما اختار أهلُ كل بلد منهم لأنفسهم.»
فلما أتى هارون الرشيد عاوَدَته الفكرة، فروي في كتاب الحلية عن مالك بن أنس قال: «شاورني هارون الرشيد في أن يُعَلَّق الموطأ في الكعبة، ويحملَ الناس على ما فيه، فقلت: لا تفعل، فإن أصحاب رسول الله اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان وكلٌّ مصيب.»
ولم يكن في هذه المحاولة تحقيق لكل فكرة ابن المقفع، فقد كان أكثر حرية مما قصد إليه المنصور والرشيد، ولكن كانت خطوة من الخطوات المرسومة لم تحقَّق! ولسنا نجزم أن هذه المحاولات نشأت عن تقرير ابن المقفع، فقد تكون تَبَلْورًا لفكرة عمر بن عبد العزيز في جمع الحديث؛ فقد كان يرى هذا الرأي، فبتقدم الزمان رؤي جمع الحديث وجعُله قانونًا. وقد تكون فكرة المنصور والرشيد نتيجة العاملَين معا؛ فكرة جمع الحديث التي ارتآها عمر بن عبد العزيز، وفكرة تقنِين القوانين التي ارتآها ابن المقفع، وهو الذي نميل إليه.
•••
ثم انتقل بعد ذلك إلى تعطيف المنصور على أهل الشام، وقد كان العباسيون ينظرون إليهم نظرة عِداء ومَقْت؛ لأنهم كانوا أعوان الأمويين وجندهم المطيع، فاعترف بأن أهل الشام يكرهون العباسيين، ولكن ينبغي ألا يؤاخذهم الخليفة بذلك، وألا يطمع منهم في المودة، فعداوتهم طبيعية؛ فقد كانت الدولة دولتهم والملك لهم، ولكن هذا لا يمنع الخليفة أن يصطنِع خيارهم، فهؤلاء لا يلبثون أن ينفصلوا عن أصحابهم في الرأي والهوى، ويتبعهم غيرهم، فتَتّسع دائرة المحبة للعباسيين والتودد لهم. كما نصحه ألا يبخلَ بالمال عليهم، وأن ينفق عليهم ما جمع من بلادهم بعد استقطاع الحقوق العامة: «إنه إن فُعِلَ ذلك رجوتُ ألا يكون منهم نَزوات ولا وَثبات على الدولة، فإن فعلوا رجوت أن تكون الدائرة لأمير المؤمنين عليهم إلى آخر الدهر، وقد علَّمنا التاريخ أن الملك إذا خرج من قوم بقِيتْ فيهم بقية يَحِنّون إلى مجدهم القديم، فيثورون وتكون ثورتُهم سبب استئصالهم وتدويخهم.»
بعد هذا تكلّم في صحابة الخليفة، أو ما نسميه نحن الآن «بمعِيته»، ورجال دولته والمقربين إليه، وقد كرر شكواه من أن هؤلاء كانوا قبل خلافة أمير المؤمنين عملوا أعمالًا مْفرِطة القبح، مُفْسِدة للحسب والنَّسب والسياسة، داعية للأشرار، طاردة للأخيار؛ ذلك أن الخليفة كان يقرب أوغاد الناس وسِفْلَتهم، فهرب الخيار من التقرب للولاة، حتَّى إن قومًا من صلحاء البصرة (وفيهم ابن المقفع) أَتوا دار الخلافة أيام السفاح، فأبو أن يزوروا الخليفة، لما يعلمون من بِطانته وسوء سيرتهم، وقد سمعنا الناس يقولون: «ما رأينا أعجوبة قط أعجب من هذه الصحابة، ممن لا ينتهي إلى أدب ذي نباهة، ولا حسب معروف، ثم هو مسخوط الرأي مشهور بالفجور.»
ونزعة ابن المقفع في اختيار الصحابة نزعة أرستقراطية فارسية؛ فهو يراعى في اختيار الصحابة من وزراء وكتَّاب وغيرهم أمرين: أمرًا وجيهًا معقولًا، وهو أن يكونوا ذوي رأي أمناء عدولًا، ولكنه لا يشدد في هذا تشدده في الأمر الثاني، وهو أن يكونوا ذوي حسب وَنسب، ويفزع كلّ الفزع أن يرى هؤلاء الصحابة (غير المعروفين بنسب) يؤذن لهم على الخليفة قبل كثير من أبناء المهاجرين والأنصار، وقبل قرابة أمير المؤمنين، وأهل بيوتات العرب. وهو يرى أن الخليفة لا يصح أن يقرب إليه ويجعل من خاصته إلا رجلًا أتى بمكرمة عظيمة، أو رجلًا له ميزة من قرابة أو حسنِ بلاء، أو رجلًا له من الشرف وجودة الرأي والعمل ما يؤهله لذلك، أو رجلًا ذا نجدة، ولكن يجب أن يجمع إلى نجدته حسبًا وعفافًا، أو رجلًا فقيهًا مصلحًا ينتفع الناس بفقهه وإصلاحه. فأما من يتخذون الشفاعات وسيلة للقرب من السلطان فيجب ألا تمكنهم شفاعاتهم من هذه المناصب، ثم إذا اختير الحائزون على الشروط التي ذكرنا، يجب أن يعين لكل منهم اختصاص في عمله لا يتعداه؛ فلا يكون للكاتب أمر في رَفْع رزق، ولا وَضْعِه، ولا للحاجب في تقديم إذن ولا تأخيره.
فهل كان هذا العمل تحقيقًا لمطالب ابن المقفع؟ قد يكون ذلك، ولكن مما لا شك فيه أن ابن المقفع عبر عن أهم المسائل التي تشغل العقلاء في عصره؛ فلا عجب أن نرى الكلام فيها كثيرًا، وأن نرى كبراءهم يضعون العلاج لتلافيها، كذلك نرى فرقًا كبيرًا بين معالجة ابن المقفّع لمسائله (وخاصة الخراج)، ومعالجة أبي يوسف؛ فابن المقفّع يعالجها من الناحية العقلية المحضة، وأما أبو يوسف فيعالجها من الناحية الدينية؛ فهو لا يخطو خطوة إلا يدعمها بسَند من كتاب أو سنة أو أثر، وأحيانًا بقياس أو استحسان، وهذا يرجع إلى الفرق بين ابن المقفع وأبي يوسف في المنشأ والمربى والمنصب.
•••
ثم انتقل ابن المقفع إلى الكلام في جزيرة العرب من الحجاز واليمن واليمامة وغيرها، وقد كانت موضع نِقمة المنصور إذ خرجت عليه، فطلب إليه أن يُعنى بها عناية خاصة، فيتخير لولايتها الخيار من أهل بيته، وأن تسخو نفسه عن أموالها، وكأن ابن المقفع نظر في هذين الأمرين إلى أن جزيرة العرب منبع النبوة، ومصدر الإسلام، وقِبلة المسلمين، وقد تولاها ولاة سوء انتهكوا حرمتها، فكانت حاجتها إلى خير الولاة أمس وأوجب. وهي فقيرة ليس فيها خصب العراق، ولا غنى الأمصار، فإذا كانت الأمصار الأخرى تحمل ما زاد من ثروتها إلى دار الخلافة فخير للخليفة ألا يتّبع هذه السنَّة في جزيرة العرب، فيترك لها ما لَها إن لم يمِدها بمال من عنده.
وخَتم «ابن المقفع» تقريره ببيان ما للخليفة من أثر عظيم إذا صلح؛ ذلك أن العامة لا تصلح إلا بصلاح الخاصة، والخاصة لا تصلح إلا بصلاح إمامها، سلسلة يأخذ بعضها بحجزِ بعض؛ لأن العامة تقلد خاصتها في شئونها، وتتبعها في سيرها، فإذا كان الخواص من ذوي الدين والعقل كان في ذلك صلاح للعامة، وموقف الخاصة من الإمام موقف العامة من الخاصة، «فنسأله أن يعزم لأمير المؤمنين على المراشد، ويحصنه بالحفظ والثبات.»
•••
هذه خلاصة وتحليل لرسالة الصحابة، وإن شئت فقل إنها ترجمة لما فيها من أفكار؛ فقد اعتراها من فساد النَّسخ والتحريف والغموض ما جعل إدراك مراميها بعيد المنال.
ومنها نرى أن ابن المقفع كان ناضج العقل في رسالته، قوي الفكر، شاعرًا بوجوه الضعف في الدولة، ميالًا إلى إصلاحها، ولو عرفنا أنه قتل ولما يتجاوز الأربعين من عمره عرفنا قدر نبوغه، وعرفنا أي عقل كبير كان يشغل رأسه.
لم يعالج ابن المقفع ما عالجه من الناحية الدينية كما عالجه أبو يوسف مثلًا؛ فإن تربيته لم تكن دينية، بل لم يسلم إلا قريبًا، كما ساعده على هذا النوع من التفكير أنه كان فارسيًّا، وكان واسع العلم بالتاريخ الفارسي، وترجم بعض كتب التاريخ إلى اللغة العربية؛ فهو يعلم تمام العلم نظم الفُرس في الجند والقضاء والصحابة والخراج، وقد مرت هذه الدولة بأدوار كثيرة، وجربت تجارب عديدة، واستقر نظامها عهدًا طويلًا، وعالجه مصلحون قبله بأقوالهم وأعمالهم، فكان ابن المقفع ينظر إلى المملكة الإسلامية، وما فيها من نظم ناقصة في بعض نواحيها، وينتقل عقله بسرعة إلى قومه الفرس، فيقارن بين ما يرى أمامه، وما أرشده إليه التاريخ الفارسي، فتوحِي إليه هذه المقارنة مقترحاتِ الإصلاح، وتصطدم هذه المقترحات أحيانًا بنظرات رجال الدين، كالذي رأينا من مخالفة رأي الإمام مالك لمقترحات ابن المقفع في تنظيم التشريع والقضاء؛ ذلك لأن ابن المقفَّع ينزِع إلى تقنين قانون يعم أنحاء الدولة، كما كان الشأن في فارس، وأن يحكّم العدالة والمصلحةَ العامة فيما لم يرد فيه نص مجمع عليه، وهو أقرب ما يكون إلى النظام الفارسي، والإمام مالك يرى أن أهل كل مصر وصلت إليهم أحاديث يرون صحتها فيلزمهم العمل بها، وليس من الحق ولا من الدين أن يلزمهم برأي عقلي يخالف ما لديهم من حديث صحيح، أو على الأقل صحيح في نظرهم، وابن المقفع يتكلم في الخراج بمثل ما نقل إلينا عن الأكاسرة، وأبو يوسف يتكلم فيه بالآثار التي صحت عنده، والخلفاء يرون ألا يلجئوا إلى ابن المقفع والبرامكة وأمثالهم، وإنما يلجئون إلى رجال الدين؛ أمثال الإمام مالك، وأبي يوسف.
كليلة ودمنة
ليس من قصدنا أن نبحث هنا في كتاب «كليلة ودمنة» ونعرض لأبحاث المستشرقين في أصل الكتاب؛ أمثال «ده ساسي»، و«شوفان»، و«بيكل»، و«فالكونر»، و«هِرتِلْ»، و«نولدِكه»، و«جوِيدي»، و«بروكلمان»، و«رايت»، وغيرهم، فلو استقصينا ما قالوا، وعمدنا إلى مناقشة آرائهم لاحتاج ذلك إلى كتاب بأكمله. ولكنا نوجز القول هنا فيما يتعلق بموضوعنا، وهو الثقافة الفارسية وآثارها، وابن المقفع وأعماله.
ويرجحون أن باب «بعثة بروزيه»، وباب ملك الجرذان من زيادات الفرس أنفسهم.
كما يرجحون أن هناك فصولًا برمتها من زيادات ابن المقفع نفسه، وهي باب «غرض الكتاب»، وباب «الفحص عن أمر دمنةِ»، وباب «الناسك والضيف»، وباب «البطة ومالك الحزين».
ولهم أدلة على كل ما ذكرنا يطول شرحها، ويخرج بنا على الغرض الذي إليه قَصدنا.
•••
وقد كان الباعث لابن المقفع على ترجمته على ما يظهر ما عهدناه فيه من ميل إلى الإصلاح الاجتماعي، شاهدناه في الأدب الكبير والصغير، ورسالة الصحابة. وكتاب كليلة ودمنة يشرح بعض هذه النواحي شرحًا وافيًا؛ فهو يتعرض للنصح بعدم الإصغاء إلى الحاسد والنمام، ويبين أن هناك جزاءً طبيعيًّا؛ فعاقبة الخير خير، وعاقبة الشر شر، وينصح بأخذ الحذر من العدو، والاعتماد على الصداقة … إلخ.
لعل ابن المقفع رأى أن موقفه مع المنصور موقف بيدبا مع دبشلِيم؛ فقد جاء في مقدمة الكتاب: «فلما استوثق له (لدبشليم) الأمر، واستقر له الملك طغى وبغى، وتجبر وتكبر، وجعل يغزو من حوله من الملوك، وكان مع ذلك مؤبدًا مظفرًا منصورًا؛ فهابته الرعية. فلما رأى ما هو عليه من الملك والسطوة عبث بالرعية واستصغر أمرهم، وأساء السيرة فيهم، وكان لا يرتقي حاله إلا ازداد عُتُوًّا، فمكث على ذلك برهة من دهره، وكان في زمانه رجل فيلسوف من البراهمة، فاضل حكيم يعرف بفضله، ويرجع في الأمور إلى قوله، يقال له «بيدبا»، فلما رأى الملك وما هو عليه من الظلم للرعية فكر في وجه الحيلة فيصرفه عما هو عليه، ورده إلى العدل والإنصاف … إلخ».
لعل ابن المقفع لم يستطع أن يواجه «المنصور» بأكثر ما واجهه به في رسالة الصحابة، وقد مزج نقده بكثير من المدح للخليفة والثناء عليه، ونسب أكثر الشدة التي يراها إلى غيره. ولكن هذا لم يشف غلَّته، فرأى أن أسَلم طريقة أن يترجم هذا الكتاب ويزيد فيه ليعمل الكتاب في الخلفاء والرعية ما فعله كليلة ودمنة في الهند وفارس، ولعل هذا هو الغرض الرابع الذي أخفاه في مقدمة الكتاب، ولم يصرح به، فقد جاء فيها: «ينبغي للناظر في هذا الكتاب أن يعلم أنه ينقسم إلى أربعة أغراض؛ أحدها ما قصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غيرِ الناطقة ليسارع إلى قراءته أهل الهزل من الشبان … والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان، ليكون أنسًا لقلوب الملوك، ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور، والثالث أن يكون على هذه الصورة فيكثر بذلك انتساخه، ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام، لينتفع بذلك المصور والناسخ أبدًا، والغرض الرابع وهو الأقصى، وذلك مخصوص بالفيلسوف خاصة.» وسكت عن هذا الغرض الرابع ولم يبينه، وهو من غير شك غرض ابن المقفع من ترجمته. والظاهر أن هذا الغرض يمكن تلخيصه في أنه النصح للخلفاء؛ حتى لا يحيدوا عن طريق الصواب، وتفتيح أعين الرعية حتى يعرفوا الظلم من العدل، وحتى يطالِبوا بتحقيق العدل، ولم يوضحه ابن المقفع لأن في إيضاحه خطرًا عليه من المنصور، ولعل هذه النزعة فيه كانت من الأسباب في الإيعاز بقتله.
وتدل المقارنة بين ما عثر عليه من الفصول الهندية، والترجمة السريانية القديمة التي تُرجمت من اللغة الفهلوية القديمة نحو سنة ٥٧٠م، والتي وجدت في دير في «ماردين»، ونُشرت سنة ١٨٧٦م، على أن ابن المقفع لم يترجم الكتاب ترجمة حرفية، بل حور كثيرًا في جمله ومعانيه وترتيبه، حتى يتفق والذوق العربي الإسلامي، وذوق المتأدبين في عصره، بل أضاف فصولًا من عنده كما أشرنا قبل؛ مثل كتاب الفحص عن أمر دمنة، ففيه نفحة إسلامية ظاهرة، مثل: «ومن يجزِي بالخير خيرًا، وبالإحسان إحسانًا إلا الله.» «ومن طلب الجزاء على الخير من الناس كان حقيقًا أن يحظى بالحرمان؛ إذ يخطئ الصواب في خُلوص العمل لغير الله تعالى، وطلبِ الجزاء من الناس.» ومثل: «لأَن تعذَّب في الدنيا بِجرمِك خير من أن تعذب في الآخرة بجهنم مع الإثم.» ومثل: «والعلماء قد قالوا في شأن الصالحين إنهم يُعرفون بسيماهم.» «وقالت العلماء: من كَتم حجة ميت أخطأ حجته يوم القيامة.» «وقد علمنا أن شهادة الواحد لا توجب حكمًا» … إلخ. وقد أثبت البحث أن ابن المقفع كان يحذف جملة من الأصل الفهلوي، ويضع مكانها جملة أخرى توافق مزاج عصره، وقد يضع فصلًا كاملًا، ولعل هذا هو السبب فيما حكاه ابن خلكان من أن الكتاب مختَلف فيه؛ هل هو ترجمة ابن المقفع أو تأليف له.
- (١)
اختلاف النسخ التي بين أيدينا اختلافًا كبيرًا.
- (٢)
وإنا نجد ابن قتيبة في كتابه عيون الأخبار ينقل بعض قطع من كليلة ودمنة، وهي تخالف في عبارتها ما بين أيدينا من الكتاب.
- (٣)
ونرى في النسخ التي وصلت إلينا من كتاب «نتائج الفطنة، في نظم كليلة ودمنة» لابن الهبارِية اختلافًا في ترتيب الأبواب، وليس فيه «باب الحمامة، ومالك الحزين»، وسمي فيه «باب إيلاذ وبلاذ»، و«هيلار وبيلار»، مع اختلاف في سياق
وفي رسائل «إخوان الصفا» رسالة في المناظرة بين الحيوان والإنسان، لا تخلو من لون من كليلة ودمنة، بل يظن «جولدزيهير» أن اسم «إخوان الصفا» مقتبس من كليلة ودمنة؛ إذ ورد الاسم في أول فصل «الحمامة المطوقة».
وعلى كل حال فقد أدخل هذا الكتاب على الأدب العربي القِصص على ألسنة الحيوانات. نعم كان للعرب قبله شيء من ذلك (كالذي ورد من أمثالهم أن الأرنب التقطت تمرة، فاختلسها الثعلب فأكلها، فانطلقا إلى الضب، فقالت الأرنب: يا أبا الحصين، قال: سميعًا دعوت. قالت: أتيناك لنختصم إليك. قال: عادلًا حكيمًا. قالت: اخرج إلينا. قال: في بيته يؤتى الحكَم. قالت: إني وجدت ثمرة، قال: حلوة فكليها. قالت: فاخْتَلسها مني الثعلب، قال لنفسه: بغَى الخير. قالت: فلطمته. قال: بحقكِ أخذتِ، قالت: فلطمني، قال: حر انتصر. قالت: فاقض بيننا. قال: قد قضيت! وورد في القرآن الكريم: قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ، وقال في الهدهد فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ. ولكن كان لكتاب كليلة أثر من ناحية تفصيل القِصص على ألسنة الحيوانات تفصيلًا طويلًا، ووضعِ الحكم والأمثال والعِظة على ألسنتها، وتبينت الحاجة الشديدة إلى هذا النوع في عصور الاستبداد، يوم كان الملوك والحكام يضيقون على الناس أنفاسهم، فلا يستطيع ناقد أن ينقد أعمالهم، ولا واعظ أن يومئ بالموعظة الحسَنة إليهم؛ ففشا هذا الضرب من القول والقصص، يقصدون فيه إلى نصح الحكام بالعدل، وكأنهم يقولون: إذا كانت الحيوانات تمقت الظلم وتحقق العدل، فأولى بذلك الإنسان! وإذا كانت الولاة والرؤساء تأخذهم العزة بالإثم، ويستعظمون أن يصرح لهم بنصح أو نقد، فلا أقل من وضع النصيحة على لسان البهائم! وإذا كان في التصريح تعريض الحياة للخطر ففي التلميح نجاة من الضرر.
- (١)
أن اللغة العربية إنما تلقت الكتاب من الأصل الفهلوي الفارسي، ولم تتلقه من الأصل الهندي، ومترجمه الذي كساه حُلّة من البلاغة العربية حببته إلى الناس هو ابن المقفع الفارسي.
- (٢)
أن الفرس — وخاصة ابن المقفع — زادوا فيه زيادات كثيرة كما أبنا من قبل وإن كان من الحق أن نقرر هنا ما للهند في هذا الكتاب من فضل؛ هو فضل واضع الأساس وصاحب الفكرة.
زندقة ابن المقفع
وزاد من أتى بعد (كالباقلاني، والقاضي عياض) اتهامه بمعارضته القرآن الكريم!
ونحن نعلم من حياة ابن المقفع أنه قضى أكثر حياته وهو مجوسي ظاهرًا وباطنًا، ولم يسلم إلا وهو كاتب عيسى بن علي، ولم يعمر بعد إلا سنين قليلة، وهو من غير شك لا يؤاخذ على زندقته، وما أَلف فيها إن كان قد ألف قبل أن يسلم، وإنما يؤاخذ على ما ألّف أو قال بعد إسلامه؛ فالإسلام يجب ما قبله. ولم ينص هؤلاء الرواة على أنه قال، أو أّلف كتابًا في الزندقة بعد إسلامه إلا عبارة سفيان بن معاوية، وهو متهم لما بينهما من عداء شخصي، سببه أن ابن المقفع كان يحتقره ويزدريه، وإلا ما روى من تمثله ببيتي الأحوص.
وقد بالغوا في الفحص عما يُشْتَمّ منه زندقته، ورموه بها حتى فيما ليس فيه زندقة؛ فقد روى أبو تمام في ديوان الحماسة لابن المقفع أبياتًا له في الرثاء، وهي:
فقال ثعلب: «البيت الأخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر، والشر ممزوج بالخير.» وأنا أقول لثعلب هلا قرأت قوله تعالى يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثمُهُمَا أَكْبَرْ مِن نَّفْعِهِمَا الحق أن ثعلبًا وأمثالَه تحاملوا عليه كثيرًا.
وقد أخرجت «مؤسسة كايَتانِي» للأبحاث عن تاريخ الإسلام وحضارته كتابًا نشره الأستاذ «ميكائيل أنجلو جويدي» سنة ١٩٢٧، عنوانه «كتاب الرد على الزنديق اللعين ابن المقفع عليه لعنة الله للقاسم بن إبراهيم، عليه من الله أفضل الصلاة والتسليم».
وهذا القاسم بن إبراهيم (كما في «عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب») هو القاسم بن إبراهيم بن طباطبا بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم الغمر بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب، كان يُكنى أبا محمد، وكان يقيم في جبال الرس، ولذا عُرف باسم قاسم الرسي، وقد مات القاسم سنة ٢٤٦هـ، أي بعد ابن المقفع بنحو قرن. وكتاب القاسم كامل، ولكن كتاب ابن المقفع لم يذكر كله بنصه، وإنما ذكر المؤلف فقرًا منه تمهيدًا للرد عليها، ويقع النص العربي في خمس وخمسين صفحة، ثم ترجمة الأستاذ جويدي إلى اللغة الإيطالية، وعلّق عليها، وقدمه بمقدمة تبحث في الكتاب، وهذه الفِقَر التي تنسب إلى ابن المقفع تدلُّنا على غرض الكتاب ومنحاه ولغته.
ونحن نشك كل الشك في نسبة الأصل لابن المقفع، والرد للقاسم من وجوه:
- (١) من الناحية الفنية؛ فأسلوب الكِتاب غير الأسلوب المعروف لابن المقفع، والذي نتبينه من الأدبين ورسالة الصحابة وكليلة ودمنة، ففي كل هذه الكتب لا يعمد إلى السجع إلا ما جاء عفوًا، أما في هذا الكتاب، فيتعمد السجع أحيانًا تعمدًا كقوله: «لأن كون شيء لا من شيء لا يقوم في الوهم له مثالٌ، وما لا يقوم في الوهم له مثالٌ فمحال.»٨٧ هذا إلى أن العبارة نفسها من نوع التعبير الفلسفي، الذي لم يعرف الا بعد زمن ابن المقفع.
- (٢) يستهزئ هذا المؤلف بالتعبير بأن لله يدين، وبالاستواء على العرش، وبأنه قاب قوسين أو أدنى، ويحمل هذه التعبيرات على ظاهرها. ونحن نعلم أن ابن المقفع كان ضليعا في اللغة العربية، حتى قال الأصمعي: «قرأت آداب ابن المقفع فلم أر فيها لحنًا إلا قوله «العلم أكثر مِن أن يُحاط بالكلّ منه فاحفظوا البعض.»٨٨ وأّلف ابن المقفع في الكلام كما حكى الجاحظ، وتعرض للمعتزلة، فمن البعيد جدًّا أن يَفهم ابن المقفع من اليد والوجه والاستواء على العرش المعاني الحقيقية الظاهرية.
- (٣)
إذا نحن استثنينا أول الرسالة، وهو قوله «باسم النور الرحمن الرحيم» وجدنا الرسالة كلها ليست تأييدًا لمذهب ماني، ولا لمذهب زرادشت أو مزدك، وإنما هي دعوة إلى الإلحاد المطلق؛ فهو يهزأ بعلاقة الله بالإنسان، وكيف انقلب عليه خلقه وهم عملُ يديه! وكيف قتل أعداؤه أنبياءه ورسَله! وكيف أمرض خلقه وعذبهم بما عرض من الأسقام لهم! وكيف يأمرك بالإيمان بما لا تعرف، والتصديق بما لا تعِقل! وكيف صارت الغلبة للشيطان فتبعه الناس إلا أقلهم! … إلخ. وهي كما ترى ليست مطاعن في الإسلام وحده، وإنما هي طعن في كل دين، ومنها الديانة الثنوية. ونحن نعلم من تاريخ ابن المقفع أنه كان يستمسك بدينه، ولما اعتزم الإسلام أبى أن يبيت ليلة على غير دين، وسواء أكان إسلامه حقًّا أم ظاهرًا فقط، فليس مَن طبيعتُه الحِرص على دينٍ ما أن يهاجم الأديان كلها بهذه اللغة.
- (٤)
إنا لم نجد فيما بين أيدينا من الكتب، وخاصة في الكتب التي أُلِّفت في العصور الأولى كالمسعودي، وفهرست ابن النديم من نسب لابن المقفع كتابًا كهذا، وهو حري بأن يَنص عليه؛ لأنه يهيج شعور المسلمين، ويحملهم على الرد عليه، ودفع مطاعنه.
- أولها: من الناحية الفنية؛ فقد علمنا أن القاسم في النصف الأول من القرن الثالث، والكتاب من أوله إلى آخره كله مسجوع، متكلف السجع. ونحن نعلم أن هذا العصر (عصر الجاحظ) لم يتكلف فيه سجع، ولم تؤلف فيه كتب مسجوعة كلها، وإن تكلف فيه سجع؛ ففِقرة أو فِقرتان، فأما كتاب كله سجع، فهذا ما لا نعرفه في هذا العصر هذا إلى إسفاف في السجع، ورداءة في التعبير كقوله: «فالإنس والخلق ليس بينهما عندكم خلاف، والأعيان والأعراض فقد تجمعها الأوصاف.»٨٩
- ثانيا: ترجم ابن النديم في الفهرست للقاسم بن إبراهيم، وعدد كتبه، وهي كتاب الأشربة، وكتاب الإمامة، وكتاب الأَيمان والنذور، وكتاب سياسة النفس، وكتاب الرد على الرافضة،٩٠ وهذه هي كل كتبه التي ذكرها ولم يذكر منها ردًّا على ابن المقفع.
•••
وبعد، فالقارئ لكتب ابن المقفع وتاريخه يخرج منه على أديب ثُقِّفَ ثقافة واسعة فارسية وعربية، ينزِع نزعة قوية لقومه من الفرس، ويحيي أمته بنشر آدابها وسياستها وتاريخها، ويرى عيوب النُّظم الاجتماعية في عصره فينادي بإصلاحها بتطبيق الصالح من النظم الفارسية، ثم هو نبيل شريف النفس، يسترعي بنبله وأدبه أنظار الناس، فيروي الأصمعي أن ابن المقفع سئل: «من أدبك؟ قال: نفسي، إذا رأيت من غيري حسنًا أَتيته، وإن رأيت قبيحًا أبيته.» ثم إن نبله وعلو خلقه أتيا من طريق الفكر والفلسفة، لا من طريق الدين، ورجال الخلق قد يكون خلقُهم تدينًا، وقد يكون خلقهم تفلسفًا، فأخلاق الحسن البصري العالية مثلًا مبعثها الدين، يتجلى ذلك في حِكمه وأقواله وسيرته، فهو يصدق ويحسن ويعدل لأن الله أمر بالصدق والعدل والإحسان. أما ابن المقفع فباعثه الخلقي فلسفي، يصدق لأن في الصدق شرفًا ورفعة، ولو لم يأمر به دين لكان في نفسه حسنًا، يظهر ذلك في حِكَمه، فقلّ أن يستند في قوله إلى آية أو حديث، وإنما يعلل ذلك تعليلًا عقليًّا، فهو رجل مدني وعالم مدني، لا رجل دين ولا عالم دين، يتجلى في أقواله إيمان بالله، وإيمان بدين؛ لكن لا يَتَجَلّى فيها إيمان بتفاصيل دين.
فلو سئلنا ما كانت منزلة الإسلام من قبله؟ فخير ألا نحاول الإجابة؛ فنحن لا نستطيع الحكم في هذا على من هم تحت سمعنا وبصرنا، فكيف بمن باعدت بيننا وبينه القرون، وانغمس في السياسة وأحزابها، وحارب وحورب بها، فلنكله إلى الله، فالله وحده خير الحاكمين.
•••
إذن كانت الثقافة الفارسية عنصرًا قوي الأثر في ذلك العصر: في الشعر في الأدب، في الحِكَم، في القصص، في الخرافات والأوهام، في العادات والتقاليد، في نظم الحكم، في دعاة الإصلاح، في رجال اللّهْو والغِناء، في الديانات ومذاهب المتكلمين، في رجال العلم والتدوين، في قصور الخلافة، في الخاصة والعامة. وكان لهذا العنصر حماة ودعاة، يعملون كثيرًا بداعي العصبية القومية، وأحيانًا بداعي الخير والإصلاح، وكان لكثير من هؤلاء الدعاة مناصب تمكنهم من بسط نفوذهم، وحماية دعوتهم سرًّا إذا دعت الحال، وجهرًا إن أمكن الجهر. ولم يكن ابن المقفع إلا زعيمًا من زعمائها العديدين، وأبطالها البارعين. ولم تنتشر دعوتهم في لين وهوادة، بل قُوومَت من عناصر أخرى في شدة وعنف، قاومها العرب إذ أحسوا الخطر، وقاومتها الأجناس الأخرى دفاعًا عن قوميتها، وكان صراع لغوي وديني، وصراع عادات وتقاليد، وصراع عِلمي، وكان النصر في بعض الميادين لهذا، وبعضها لذاك، كما سنبينه في الكلام عن امتزاج الثقافات إن شاء الله.