الفصل الثامن

ماذا لو

التفكير محنة كبيرة.

عندما أنظر في قدر الإنسان وفيما بعد الإنسان.

أصير مثل ذئب يعوي تحت القمر.

يمكنني أيضًا أن أرقص، في مدينة المليون حلم١ على أنغام ريح لطيفة طيبة، أدور وأتمايل كموشور يخترقه الضوء، الفراشات ترتوي من دموعي، والحمام يلقط الحبَّ تحت قدمي. ما الذي أدركه أو أملكه الآن؟ لا ذاتي ولا العالم، ولا ذاتي في العالم، ولا العالم في ذاتي. أنا كتلة من عدم الفهم البشري. أكبر مجهول بالنسبة لي هو ما يظن الناس أنهم يعرفونه حق المعرفة. الناس مثلًا يفرقون بين الجامد والحي، بينما الأمر يختلط علي، إذ ما من جامد، يبدو لي كل شيء حي. أعظم حكمة عندي هي القدرة على تأمل الحياة فيما هو ميت، والموت فيما هو حي. الآخرون أيضًا يظنون أنهم يعرفون ذواتهم، ولكن أية غرابة أكبر من أن نحمل هذه الروح، كيف يمكنُ أن نضع البحر في جرَّة؟ ثم إن الناس يرون أنهم أسيادٌ ها هنا. في نظري من هذا الذي يستطيع أن يدعي أنه مقيم؟ كلنا مشردون عابرون في هجير الحياة. جئنا لكي نذهب من جديد. تبدو الحيوانات أسعد حظًّا منا، على الأقل هي كائنات خلقت من أجل العيش في الطبيعة، أما الإنسان فهو كائن غريب عنها، يظهر كما لو أنه ليس في موطنه الحقيقي. إن الإنسان يعيش في الطبيعة، ولكن بطريقة غير طبيعية تمامًا. لم يخلق الإنسان لكي يكون إنسانًا، وإنما هو الذي يقرر ذلك.

ماذا تطلب مني أن أبوح به أكثر من هذا؟ أنت تعرف أيضًا أن كل ما هو جميل سيصبح يومًا ما بشعًا ومخيفًا. كل ما هو جميل سيبتلعه يومًا ما جوف العدم.

ولكنها مسألة معروفة يا صديقي، وقد تعلمنا عبر مر الزمان كيف نتحايل عليها. الحضارة برُمَّتها ما هي إلا التفاف على الحقيقة التي ترميها السماء أمام وجوهنا وهي الموت. الكتابة أيضًا تحايُل على الزمان، نحن نفكر ونكتب حتى ننسى أننا كائنات فانية، نفعل ذلك كي نصنع الخلود لأنفسنا ولو كان عابرًا. نبني الحضارة، نخترع ونفكر، ونقول الشعر لأننا نريد أن نختبئ من حقيقة الموت، إذ أي لُجٍّ آخر يمكن أن نغمد فيه أرواحنا؟

ولكن، يا أشعث الرأس أيها المسكين الذي يعتقد أنه من خلال إدراك حقيقة الموت، يمكن أن يدرك حقيقة الحياة. استقم الآن في جلستك؛ لأن ما سأقوله لك قد لا تقوى على حمله العظام اللينة لجمجمتك. المشكلة برمتها تتلخص في كلمتين: ماذا لو، ماذا لو تمكن الإنسان في يوم من الأيام من إدراك الخلود، سواء بمساعدة العلم، أو في حياة أخرى بتدخل المشيئة الإلهية؟ هل سنعتبر أن كل معاناة الجنس البشري ستنتهي، بالخلود الأرضي الذي يعدنا به العلم، أو بالخلود السماوي الذي يبشرنا به الله؟

عليك أن تعرف أن النِّعَم لا تعطانا إلا في المر، سواء في هذه الحياة أو في حياة أخرى. لن نكون حكماء دون معرفة هذا الأمر، كل من عبر هذا الدرب يعرف هذا، فلماذا البكاء على اللانهاية؟ العصور معادن يا أختاه! هناك العصر البرونزي، والعصر الحديدي، والعصر الذهبي … أما عصرنا هذا فهو الوحيد الذي لا يوجد معدن خاص به يميِّزه؛ لذلك ندعوه عصر الفراغ، وإذا أمكنني أن أختار له مادة أخرى يُعرَف بها؛ فسأقول عصر القار والإسمنت. البشرية تستحم وسط قفار الروح، بينما غيوم الله تسافر كدمامل في السماء، والأرض المثقلة بالأحزان، تواصل عرجاء دورانها الواسع حول اللانهاية. أنا مع ما يقال ومع ما لا يُقال، فوق الماء وتحت السماء. مع ما يُرى ومع ما لا يُرى، لعين البشرية الواهنة. مع ما يُدرَك، ومع ما لا يُدرَك لعقل الإنسان الذي يشبه عقلَ قرد فوق القمر.

كيف يمكن أن يكون ما يستبعدك هو ما ينقدك؟ اسمع صوت هذا العواء القادم من وراء الجبال، اسمع للسماء وهي تتجهَّم بحدقتها الواسعة، للبحر الغاضب وهو يضرب قبضته على الشاطئ. يا أختاه! نحن غرقى الليل، إخوة القدر، سكارى النور، وُلِدنا في سرير الظلام، أطفال النجمة السابعة. انظر، انظر عميقًا في الأفق سترى ملائكة سُودًا يرتدون ثيابًا من سخام، ويحملون اللوح الأخير لقِباب السماء.

ماذا يوجد فوق رءُوس البشر غير الأسرار؟ الدودة الفضية داخل الهياتم تعرف أنه ليس عليها أن تطير حتى تسقط في الهاوية. هل ستتبعني وراء استعاراتي؟ أنت الذي عشت طوال حياتك تخاف من الواقع ومن الحلم معًا، ستجد نفسك في هذا اللج المظلم للملح الأسود. فعندما يحكم الأموات الأحياء، كل ما يتبقى لهؤلاء فعله هو تسريع موتهم؛ كي يلتحقوا بملكوت أسيادهم. ولكنني لن أستسلم أو أطأطئ الرأس سوى لليراع في يدي. ماذا تفضلون؟ أن تكونوا ظلالًا للجبال السامقة، أم صخرة في المنحدر؟

أنت تعتقد إذن أنك ستتخلص من شرطك الإنساني، وستقبض الثمن الإلهي على آلامك ومعاناتك هناك في العليين، وأننا سنتعرف على أنفسنا بطريقة أفضل ولربما يكون سر الوجود برمَّته قد انجلى أمام ناظرينا. اسمح لي أن أذكرك بذلك السؤال المرعب: ماذا لو؟ ماذا لو قام الإنسان مثلًا بخطيئة أخرى أفظع من الأولى؟ الجنة هي الوجود بلا خطيئة، ولكن هل هذا ممكن، ماذا يوجد فيما وراء هذه الحقيقة؟ هذه هي المهمة التي لا تنتهي، هذا هو شَرَك الوجود وفخه، لقد سبق أن جرَّبنا هذا الأمر؛ إذ إن قلب الإنسان مليءٌ بالضلال، إنه شيء نعرفه جميعًا. انظر حتى الحيوانات لا تعرف هذا الضلال، الذئاب مثلًا طيبة مع بعضها البعض، وحده الإنسان الذي يمكن أن يكون ذئبًا حتى للذئب، وليس فقط لأخيه الإنسان كما قيل.

ماذا لو في هذه اللحظة بالضبط اصطدم أبو فيس٢ بالكرة الأرضية، وأحدث دمارًا هائلًا؟ أو ظهر نيميسيس٣ الجبار، وأدَّى إلى جعل المياه تغلي في أعماق الآبار؟ ماذا لو في هذه اللحظة انفجر عرق في رأسي، أو توقف نبضُ قلبي؟ ما المانع في أن يحدث هذا لي وقد حدث مرارًا لغيري؟ ماذا لو تحرَّك ذلك المؤشر الخفي الذي يربطني بأناي العميقة، فلم أعد أتعرف على نفسي، ثم أخذت أجري في كل الاتجاهات، وأنا ألطم خدي عساي أستعيد أناي؟ من يضمن لي أن غدًا ستشرق الشمس، وأن أساسات بيتي ستظل قائمة في مكانها؟ وماذا لو ظهر فيروس قميء صغير وقفت البشرية عاجزةً أمامه؟ أو تراجع القمر إلى الوراء واختفى نهائيًّا من ليالينا،٤ هل سيبقى هنالك من ضريح يحج إليه الشعراء؟

الحياة شبيهة ببيت عنكبوت، مشدود إلى خيطَيْن رفيعين، هما الرعب والرجاء.

أختاه!

هذا هو منتهى ما يمكن أن يقال أو يدرك. باطل هذا الليل، وباطلة هذه المدينة تحت صفرة الحديد، طبول قادمة من بعيد، طبول تدق لحنًا منفردًا، بدأت البشرية بالبراءة وستنتهي بالبراءة. بكائيات فوق المنحدر وفي الزوايا الخفيَّة حيث يتقاطع الرمل مع الماء. هنالك نموت، وفي اليد تذبل الزهرة نموت، كما لو كنا أجنة بلا أرحام نموت. هكذا إذن يا ألمي الإنجازات العظيمة ستظل بدون إنجاز.

١  لقب يطلق على فيينا.
٢  أبو فيس Apophis نيزك يبلغ وزنه عشرون مليون طن اكتشف سنة ٢٠٠٤م، توقع العلماء اصطدامه بالأرض سنة ٢٠٢٩م غير أن حسابات تقديرية أخرى تقول إنه يمكن أن يمرَّ ما بين الأرض والقمر، بحيث يمكن رؤيته بشكل واضح بالنهار، لكن حتى في هذه الحالة يرى العلماء أن قربه من الأرض سيجعل جاذبيتها تؤثر على تغيير مسارِه، وبالتالي سيذهب أبو فيس كي يعود من جديد ليصدم الأرض سنة ٢٠٣٦م.
٣  نيميسيس كوكب مخيف يتم البحث عنه فلكيًّا، يعتقد أنه سيقترب من الأرض وسيُحدِث خرابًا كبيرًا فيها، إنه نذير يوم القيامة. يؤوِّله المسلمون على أنه النجم الطارق المذكور في القرآن.
٤  يقدر علماء الفلك أن القمر يبتعد عن الأرض ثلاثة سنتيمترات كل سنة نتيجة تمدُّد الكون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤