الفصل الثاني عشر

ثرثار يُوقِنُ أَنَّ ذَاكَ هُوَ آخِرُ يَوْمٍ فِي حَيَاتِهِ

لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ أَمَلٌ، وَلَا أَدْنَى بَارِقَةِ أَمَلٍ فِي قَلْبِ ثرثار، عِنْدَمَا الْتَقَطَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون الْمِصْيَدَةَ وَاتَّجَهَ إِلَى الْمَنْزِلِ، وَبوسي السَّوْدَاءُ فِي أَعْقَابِهِ، تَتَطَلَّعُ إِلَى ثرثار بِعَيْنَيْنِ قَاسِيَتَيْنِ مُتَلَهِّفَتَيْنِ. فَأَلْقَى ثرثار نَظْرَةَ الْوَدَاعِ عَلَى الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ، وَمِنْ وَرَائِهِ عَنْ بُعْدٍ الْغَابَةُ الْخَضْرَاءُ، الَّتِي كَانَ قَدْ أُبْعِدَ عَنْهَا بِسَبَبِ خَوْفِهِ مِنِ ابْنِ عِرْسٍ شادو. ثُمَّ انْغَلَقَ بَابُ بَيْتِ الْمَزْرَعَةِ وَحَجَبَ ذَلِكَ كُلَّهُ. وَلَوْ كَانَ ثَمَّةَ أَيُّ أَمَلٍ فِي قَلْبِ ثرثار، لَقَضَى إِغْلَاقُ ذَلِكَ الْبَابِ عَلَى آخِرِهِ. وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ ثَمَّةَ أَدْنَى أَمَلٍ؛ فَقَدْ كَانَ ثرثار مُوقِنًا مِنْ أَنَّهُ سَوْفَ يُقَدَّمُ إِلَى بوسي السَّوْدَاءِ عَلَى سَبِيلِ الْفَطُورِ.

وَضَعَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون الْمِصْيَدَةَ عَلَى مِنْضَدَةٍ. ثُمَّ نَادَاهُ صَوْتٌ مَهِيبٌ قَائِلًا: «مَاذَا لَدَيْكَ هُنَاكَ؟» كَانَ ذَاكَ صَوْتَ الْمُزَارِعِ براون نَفْسِهِ، الَّذِي كَانَ يَتَنَاوَلُ فَطُورَهُ.

فَأَجَابَ ابْنُهُ قَائِلًا: «إِنَّهُ اللِّصُّ الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ ذُرَتَنَا مِنَ الصَّوْمَعَةِ.» ثُمَّ سَأَلَهُ: «مَنْ تَظُنُّهُ؟»

فَأَجَابَهُ الْمُزَارِعُ براون بِقَوْلِهِ: «أَحَدُ تِلْكَ الْجِرْذَانِ الْمُزْعِجَةِ. أَخْشَى أَنَّكَ تَهَاوَنْتَ وَتَرَكْتَ الْبَابَ مَفْتُوحًا لِبَعْضِ الْوَقْتِ، وَهَكَذَا دَخَلَتِ الْجِرْذَانُ هُنَاكَ.»

رَدَّ عَلَيْهِ ابْنُهُ مُنْتَصِرًا: «وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِجُرَذٍ، وَلَا أَظُنُّ أَنَّ ثَمَّةَ جُرَذًا. إِنَّهُ ذَاكَ السِّنْجَابُ الْأَحْمَرُ الشَّقِيُّ الصَّغِيرُ الَّذِي كُنَّا نَرَاهُ يَجْرِي عَلَى الْجِدَارِ الْقَائِمِ عَلَى أَطْرَافِ الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ فِي الْآوِنَةِ الْأَخِيرَةِ. لَا يَسَعُنِي تَخَيُّلُ كَيْفِيَّةِ وُصُولِهِ إِلَى هُنَاكَ، وَلَكِنَّهُ كَانَ هُنَاكَ، وَالْآنَ هُوَ هُنَا.»

فَسَأَلَهُ الْمُزَارِعُ براون وَهُوَ يَتَوَجَّهُ لِرُؤْيَةِ ثرثار: «وَمَاذَا تَنْوِي أَنْ تَفْعَلَ بِهِ؟»

أَجَابَهُ ابْنُهُ قَائِلًا: «لَا أَدْرِي، مِنَ الْمُمْكِنِ أَنْ أُعْطِيَهُ لِبوسي السَّوْدَاءِ عَلَى الْفَطُورِ؛ فَهِي مَا انْفَكَّتْ تُزْعِجُنِي لِتَحْصُلَ عَلَيْهِ مُنْذُ وَجَدْتُهُ.»

نَظَرَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون إِلَى الطَّرَفِ الْمُقَابِلِ لِلْمِنْضَدَةِ أَثْنَاءَ قَوْلِهِ ذَلِكَ، وَلَمَعَتْ عَيْنَاهُ بِاللُّؤْمِ.

فَهَتَفَ صَوْتٌ نَاعِمٌ قَائِلًا: «أُوهْ، يَجِبُ أَلَّا تَفْعَلَ ذَلِكَ! سَيَكُونُ ذَلِكَ قَاسِيًا! يَجِبُ أَنْ تَأْخُذَهُ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَتُطْلِقَ سَرَاحَهُ.» ثُمَّ مَالَ وَجْهٌ رَقِيقٌ عَطُوفُ الْعَيْنَيْنِ عَلَى الْمِصْيَدَةِ، وَقَالَ: «انْظُرْ كَمْ هُوَ خَائِفٌ ذَلِكَ الصَّغِيرُ الْمِسْكِينُ! يَجِبُ أَنْ تَأْخُذَهُ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ بَعْدَ الْفَطُورِ مُبَاشَرَةً.»

فَهَتَفَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون قَائِلًا: «أَلَيْسَ ذَلِكَ الْمُتَوَقَّعَ مِنْ أُمِّي؟ أَظُنُّهَا سَتَفْعَلُ الشَّيْءَ ذَاتَهُ مَعَ أَقْبَحِ جُرَذٍ عَجُوزٍ فِي الْوُجُودِ. سَتُحَاوِلُ أَنْ تُفَكِّرَ فِي عُذْرٍ لِإِطْلَاقِ سَرَاحِهِ.»

فَقَالَتِ السَّيِّدَةُ براون: «لَقَدْ خَلَقَ اللهُ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ الصَّغِيرَةِ ذَاتِ الْفِرَاءِ، وَلَا بُدَّ أَنَّ لَهَا دَوْرًا مَا عَلَى الْأَرْضِ.»

فَأَطْلَقَ الْمُزَارِعُ براون ضَحْكَةً عَالِيَةً مِنَ الْقَلْبِ، وَقَالَ: «هَذَا صَحِيحٌ أَيَّتُهَا الْأُمُّ! الْمُشْكِلَةُ أَنَّهَا تَتَسَبَّبُ فِي الضَّرَرِ. فَذَلِكَ الْوَغْدُ الصَّغِيرُ مَكَانُهُ فِي الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَلَيْسَ فِي صَوْمَعَةِ الذُّرَةِ الْخَاصَّةِ بِنَا.»

فَرَدَّتْ بِسُرْعَةٍ قَائِلَةً: «فَلْتُعِدْهُ إِلَى مَكَانِهِ الصَّحِيحِ إِذَنْ.» وَضَحِكُوا جَمِيعًا.

وَطَوَالَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ ثرثار الْمِسْكِينُ يُفَكِّرُ أَنَّ ذَلِكَ هُوَ آخِرُ يَوْمٍ فِي حَيَاتِهِ بِالتَّأْكِيدِ؛ فَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لِصٌّ، وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون عَلَى دِرَايَةٍ بِذَلِكَ. فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ تَكَوَّرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي وَضْعِ الْقُرْفُصَاءِ، وَقَدْ كَانَ أَتْعَسَ مِنْ أَنْ يَفْعَلَ أَيَّ شَيْءٍ سِوَى أَنْ يَرْتَجِفَ كُلَّمَا اقْتَرَبَ مِنْهُ أَحَدٌ. فَقَدْ كَانَ وَاثِقًا مِنْ أَنَّهَا آخِرُ مَرَّةٍ يَرَى فِيهَا الْغَابَةَ الْخَضْرَاءَ وَالْمُرُوجَ الْخَضْرَاءَ وَقُرْصَ الشَّمْسِ الْمَرِحَ وَكُلَّ الْأَشْيَاءِ الْجَمِيلَةِ الْأُخْرَى الَّتِي أَحَبَّهَا حُبًّا جَمًّا، وَبَدَا كَأَنَّ قَلْبَهُ سَيَنْفَطِرُ مِنَ الْيَأْسِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤