الفصل الثاني

فُرْصَةُ ثرثار الْأَخِيرَةُ

وَبَيْنَمَا كَانَ ثرثار يُحَاوِلُ الْفِرَارَ لِلنَّجَاةِ بِحَيَاتِهِ دُونَ أَدْنَى أَمَلٍ، لَاحَتْ أَمَامَهُ فَجْأَةً فُرْصَةٌ أَخِيرَةٌ لِلْهَرَبِ مِنِ ابْنِ عِرْسٍ شادو، فَقَدْ رَأَى شَيْئًا سَيَمْنَحُهُ فُرْصَةً لِلنَّجَاةِ. لَمْ يَكُنْ بِإِمْكَانِهِ التَّأَكُّدُ مِنْ تِلْكَ الْفُرْصَةِ قَبْلَ أَنْ يُجَرِّبَ حَظَّهُ، وَحَتَّى حِينَهَا قَدْ يُفْلِتُ مِنْ خَطَرٍ لِيَصْطَدِمَ بِخَطَرٍ آخَرَ لَا يَقِلُّ عَنْهُ أَهَمِّيَّةً. فَقَدْ رَأَى ثرثار كُتْلَةً بُنِّيَّةً كَبِيرَةً بِالْقُرْبِ مِنْ قِمَّةِ شَجَرَةِ كَسْتَنَاءَ عَالِيَةٍ، فَتَوَجَّهَ إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ بِأَقْصَى سُرْعَتِهِ. فَمَاذَا كَانَتْ تِلْكَ الْكُتْلَةُ الْبُنِّيَّةُ الْكَبِيرَةُ؟ اتَّضَحَ أَنَّهُ الصَّقْرُ أَحْمَرُ الذَّيْلِ، الَّذِي كَانَ نَاعِسًا هُنَاكَ وَرَأْسُهُ مُتْدَلٍّ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مُسْتَغْرِقًا فِي الْأَحْلَامِ.

وَالْعَجُوزُ أَحْمَرُ الذَّيْلِ مِنْ أَلَدِّ أَعْدَاءِ ثرثار. وَهُوَ يُحِبُّ السَّنَاجِبَ الْحَمْرَاءَ كَحُبِّ ابْنِ عِرْسٍ شادو لَهَا، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا مَا يُحَاوِلُ الْإِمْسَاكَ بِأَحَدِهَا؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ أَطْعِمَةً أُخْرَى الْحُصُولُ عَلَيْهَا أَيْسَرُ كَثِيرًا. وَقَدْ أَفْلَتَ ثرثار مِنَ الْعَجُوزِ أَحْمَرِ الذَّيْلِ بِصُعُوبَةٍ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ وَكَانَ شَدِيدَ الْخَوْفِ مِنْهُ، وَلَكِنْ هَا هُوَ ذَا يَتَسَلَّقُ مُسْرِعًا أَعْلَى الشَّجَرَةِ ذَاتِهَا؛ حَيْثُ يَقْبَعُ أَحْمَرُ الذَّيلِ. فَقَدْ خَطَرَتْ بِبَالِهِ فِكْرَةٌ جَرِيئَةٌ لِلْغَايَةِ؛ فَقَدْ رَأَى عَلَى الْفَوْرِ أَنَّ أَحْمَرَ الذَّيْلِ كَانَ نَاعِسًا وَلَمْ يَرَ ثرثار عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحْمَرَ الذَّيْلِ سَيَوَدُّ الْتِهَامَ شادو مِثْلَمَا يَوَدُّ الْتِهَامَ ثرثار نَفْسِهِ، فَتَبَادَرَتْ إِلَى ذِهْنِهِ خُطَّةٌ شَدِيدَةُ الْجُرْأَةِ.

وَفَكَّرَ أَثْنَاءَ رَكْضِهِ مُتَسَلِّقًا الشَّجَرَةَ قَائِلًا: «قَدْ يُمْسِكُ بِي أَحْمَرُ الذَّيْلِ أَوْ شادو، وَلَكِنْ إِذَا كُلِّلَتْ خُطَّتِي بِالنَّجَاحِ فَلَنْ يُمْسِكَ بِي أَيٌّ مِنْهُمَا. وعَلَى أَيِّ حَالٍ فَتِلْكَ هِيَ فُرْصَتِي الْأَخِيرَةُ لِلنَّجَاةِ بِحَقٍّ.»

فَتَسَلَّقَ الشَّجَرَةَ وَتَبِعَهُ شادو. وَكَانَ تَرْكِيزُ شادو مُنْصَبًّا عَلَى الْإِيقَاعِ بِثرثار؛ حَتَّى إِنَّهُ لَمْ يَلْحَظْ وُجُودَ الْعَجُوزِ أَحْمَرِ الذَّيْلِ، وَهُوَ مَا أَمَّلَهُ ثرثار. فَرَاحَ ثرثار يَصْعَدُ لِأَعْلَى، مُتَخَطِّيًا أَحْمَرَ الذَّيْلِ، إِلَّا أَنَّهُ شَدَّ رِيشَةً مِنْ رِيشِ ذَيْلِهِ الطَّوِيلِ أَثْنَاءَ مُرُورِهِ، ثُمَّ رَكَضَ إِلَى أَعْلَى الشَّجَرَةِ، وَاسْتَجْمَعَ آخِرَ طَاقَتِهِ لِيَثِبَ إِلَى شَجَرَةِ تَنُّوبٍ قَرِيبَةٍ؛ حَيْثُ تَوَقَّفَ مُتَوَارِيًا خَلْفَ أَغْصَانِهَا الْكَثِيفَةِ لَيْسَتَرِيحَ وَيَرَى مَا سَيَحْدُثُ.

وَلَا شَكَّ أَنَّ أَحْمَرَ الذَّيْلِ، عِنْدَمَا أَحَسَّ بِشَدَّةِ ذَيْلِهِ، اسْتَيْقَظَ مِنْ غَفْوَتِهِ فِي لَمْحِ الْبَصَرِ، وَبِالطَّبْعِ نَظَرَ إِلَى أَسْفَلَ لِيَرَى مَنْ تَجَرَّأَ وَشَدَّ ذَيْلَهُ. وَتَحْتَهُ مُبَاشَرَةً كَانَ شادو الَّذِي كَانَ قَدِ اكْتَشَفَ لِتَوِّهِ مَنْ يَقْبَعُ هُنَاكَ؛ فَأَطْلَقَ أَحْمَرُ الذَّيْلِ فَحِيحًا حَادًّا، وَانْتَصَبَ الرِّيشُ أَعْلَى رَأْسِهِ كَعَادَتِهِ حِينَمَا يَكُونُ غَاضِبًا. وَقَدْ كَانَ غَاضِبًا، بَلْ يَشْتَاطُ غَضَبًا.

فَتَسَمَّرَ شادو فِي مَكَانِهِ، ثُمَّ رَاوَغَهُ عَلَى الْفَوْرِ آوِيًا إِلَى الْجِهَةِ الْأُخْرَى مِنَ الشَّجَرَةِ. وَلَمْ يَكُنْ يُفَكِّرُ فِي ثرثار آنَذَاكَ؛ فَقَدْ تَبَدَّلَتِ الْأُمُورُ فِي لَحْظَةٍ تَبَدُّلًا كَبِيرًا؛ فَبَدَلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّيَّادَ، صَارَ الْفَرِيسَةَ. وَحَامَ أَحْمَرُ الذَّيْلِ فِي الْهَوَاءِ فَوْقَهُ مُبَاشَرَةً، وَكَانَ كُلَّمَا أَبْصَرَ شادو، انْقَضَّ عَلَيْهِ بِمَخَالِبَ كَبِيرَةٍ قَاسِيَةٍ مُنْبَسِطَةٍ بُغْيَةَ الْإِمْسَاكِ بِهِ؛ فَرَاوَغَهُ شادو بِالدَّوَرَانِ حَوْلَ جِذْعِ الشَّجَرَةِ. وَكَانَ شادو يَشْعُرُ بِالْغَضَبِ أَكْثَرَ مِنْ شُعُورِهِ بِالْخَوْفِ؛ لِأَنَّ عَيْنَيْهِ الثَّاقِبَتَيْنِ أَبْصَرَتَا فُتْحَةً صَغِيرَةً فِي غُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِ شَجَرَةِ كَسْتَنَاءَ، وَعَلِمَ أَنَّهُ مَا إِنْ يَدْخُلْ فِيهِ، فَلَنْ يَكُونَ ثَمَّةَ دَاعٍ لِلْخَوْفِ. وَلَكِنَّهُ كَانَ غَاضِبًا جِدًّا مِنْ فِكْرَةِ خِدَاعِهِ وَحِرْمَانِهِ مِنَ الْعَشَاءِ الَّذِي كَانَ أَمْرًا مَحْسُومًا مُنْذُ دَقَائِقَ قَلِيلَةٍ؛ لِذَا أَطْلَقَ صَيْحَةً غَاضِبَةً فِي وَجْهِ الْعَجُوزِ أَحْمَرِ الذَّيْلِ، ثُمَّ بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ فُرْصَتَهُ لِلنَّجَاةِ، هُرِعَ إِلَى الْفُتْحَةِ الصَّغِيرَةِ وَدَخَلَهَا بِسُرْعَةٍ، فِي اللَّحْظَةِ الْحَاسِمَةِ.

أَمَّا ثرثار، الَّذِي كَانَ يُتَابِعُ الْمَشْهَدَ مِنْ شَجَرَةِ التَّنُّوبِ، فَقَدْ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ؛ فَقَدْ رَأَى الصَّقْرَ أَحْمَرَ الذَّيْلِ يَسْتَقِرُّ عَلَى قِمَّةِ شَجَرَةٍ عَالِيَةٍ يُمْكِنُهُ مِنْهَا مُرَاقَبَةُ تِلْكَ الْفُتْحَةِ الَّتِي اخْتَفَى فِيهَا شادو، وَعَلِمَ أَنَّ شادو سَيَمْكُثُ طَوِيلًا قَبْلَ أَنْ يَجْرُؤَ عَلَى أَنْ يُطِلَّ خَارِجًا وَلَوْ بِأَنْفِهِ. ثُمَّ إِنَّهُ مَا إِنِ الْتَقَطَ أَنْفَاسَهُ حَتَّى تَسَلَّلَ مُبْتَعِدًا بِهُدُوءٍ بَالِغٍ عَبْرَ قِمَمِ الْأَشْجَارِ حَتَّى تَأَكَّدَ أَنَّ أَحْمَرَ الذَّيْلِ لَا يَسْتَطِيعُ رُؤْيَتَهُ. ثُمَّ انْطَلَقَ مُسْرِعًا؛ فَقَدْ أَرَادَ الِابْتِعَادَ عَنْ شادو قَدْرَ اسْتِطَاعَتِهِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤