الفصل العشرون

مُفَاجَأَةٌ رَائِعَةٌ أُخْرَى لِثرثار

لَمْ يَتَلَقَّ ثرثار مُفَاجَآتٍ — مُفَاجَآتٍ سَارَّةً — فِي حَيَاتِهِ كُلِّهَا قَدْرَ الْمُفَاجَآتِ الَّتِي حَظِيَ بِهَا مُنْذُ يَوْمِ وُقُوعِهِ فِي الْمِصْيَدَةِ فِي صَوْمَعَةِ الْمُزَارِعِ براون. أَوَّلًا: كَانَتْ مُفَاجَأَةً رَائِعَةً لَهُ أَنَّهُ لَمْ يُسَلَّمْ إِلَى بوسي السَّوْدَاءِ، مِثْلَمَا تَوَقَّعَ تَمَامًا. ثُمَّ كَانَتِ الْمُفَاجَأَةُ الْأَرْوَعُ هِيَ اكْتِشَافَهُ أَنَّ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون أَلْطَفُ كَثِيرًا مِمَّا ظَنَّ. وَالْمُفَاجَأَةُ التَّالِيَةُ كَانَتِ الْعَجَلَةَ الْمَصْنُوعَةَ مِنَ الْأَسْلَاكِ الَّتِي وُضِعَتْ فِي قَفَصِهِ، حَتَّى يُمْكِنَهُ أَنْ يَجْرِيَ مَتَى شَاءَ. وَكَانَتْ تِلْكَ حَقًّا مُفَاجَأَةً سَارَّةً وَغَيْرَ مُتَوَقَّعَةٍ بِالْمَرَّةِ؛ حَتَّى إِنَّهَا غَيَّرَتْ مَشَاعِرَهُ تِجَاهَ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ.

وَالْوَاقِعُ أَنَّ ثرثار كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَعِيدًا حَقًّا لَوْلَا أَمْرٌ وَاحِدٌ؛ أَنَّهُ كَانَ سَجِينًا. أَجَلْ، كَانَ سَجِينًا، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْسَى ذَلِكَ لِلَحْظَةٍ مَا دَامَ مُسْتَيْقِظًا؛ فَكَانَ يَتَطَلَّعُ إِلَى ابْنِ الْمُزَارِعِ براون وَيَتَمَنَّى مِنْ كُلِّ قَلْبِهِ لَوْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُفْهِمَهُ مَدَى بَشَاعَةِ أَنْ تَكُونَ سَجِينًا، وَلَكِنَّ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون لَمْ يَفْهَمْ مَا كَانَ ثرثار يَقُولُهُ، مَهْمَا اجْتَهَدَ ثرثار فِي مُحَاوَلَةِ إِفْهَامِهِ. فَبَدَا كَأَنَّهُ يَظُنُّ ثرثار سَعِيدًا؛ فَقَدْ عَجَزَ عَنْ تَفَهُّمِ أَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ مِنْ أَشْيَاءَ جَمِيلَةٍ لَا يُمْكِنُهُ تَعْوِيضُ فِقْدَانِ الْحُرِّيَّةِ؛ أَيْ إِنَّهُ أَفْضَلُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ حُرًّا، وَإِنْ كَانَ يُعَانِي الْجُوعَ وَالْبَرْدَ، مِنْ أَنْ يَكُونَ سَجِينًا لَدَيْهِ كُلُّ سُبُلِ الرَّاحَةِ.

وَكَانَ ثرثار يَتَحَمَّلُ الْوَضْعَ إِلَى حَدٍّ بَعِيدٍ وَيَتَقَبَّلُهُ حَتَّى وَجَدَهُ طَائِرُ السِّنْدِيَانِ سامي، وَسَخِرَ مِنْهُ الثَّعْلَبُ ريدي، وَنَظَرَ إِلَيْهِ الْأَرْنَبُ بيتر خِلْسَةً مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ الْحَجَرِيِّ الْقَدِيمِ. فَمَشْهَدُ ذَهَابِهِمْ وَإِيَابِهِمْ أَيْنَمَا وَوَقْتَمَا أَرَادُوا كَانَ فِي حَدِّ ذَاتِهِ يَفُوقُ قُدْرَةَ ثرثار عَلَى التَّحَمُّلِ، وَامْتَلَأَ قَلْبُهُ بِحَنِينٍ جَارِفٍ إِلَى الْغَابَةِ الْخَضْرَاءِ وَالْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ، أَعْجَزَهُ عَنِ التَّفْكِيرِ فِي أَيِّ شَيْءٍ آخَرَ؛ فَقَدْ كَانَ يَكْتَفِي بِالْجُلُوسِ فِي أَحَدِ أَرْكَانِ قَفَصِهِ بَادِيًا عَلَيْهِ مَا شَعَرَ بِهِ مِنْ تَعَاسَةٍ. وَفَقَدَ شَهِيَّتَهُ. وَكَانَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون يُحْضِرُ لَهُ أَكْبَرَ ثَمَرَاتِ الْجَوْزِ وَغَيْرَهَا مِمَّا لَذَّ وَطَابَ دُونَ جَدْوَى؛ فَقَدْ مَنَعَهُ مِنَ الْأَكْلِ مَا مَلَأَ قَلْبَهُ مِنْ شَوْقٍ شَدِيدٍ إِلَى الْحُرِّيَّةِ كَادَ يَفْطُرُ قَلْبَهُ. فَمَا عَادَ يَهْتَمُّ بِالرَّكْضِ دَاخِلَ الْعَجَلَةِ الْجَدِيدَةِ الَّتِي مَنَحَتْهُ سَعَادَةً جَمَّةً فِي الْبِدَايَةِ؛ فَقَدْ كَانَ يَحِنُّ إِلَى بَيْتِهِ أَشَدَّ الْحَنِينِ، وَلَمْ يَسْتَطِعْ تَمَالُكَ نَفْسِهِ.

وَقَدْ لَاحَظَ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون ذَلِكَ، وَلَاحَ عَلَى وَجْهِهِ الْجِدِّيَّةُ وَالتَّفْكِيرُ. وَكَانَ يُرَاقِبُ ثرثار دُونَ أَنْ يَعْلَمَ الْأَخِيرُ بُوُجُودِهِ، وحَتَّى إِنْ كَانَ لَمْ يَسْتَطِعْ فَهْمَ كَلَامِ ثرثار، فَقَدْ أَمْكَنَهُ فَهْمُ تَصَرُّفَاتِهِ؛ فَعَلِمَ أَنَّهُ حَزِينٌ، وَخَمَّنَ السَّبَبَ. وَذَاتَ صَبَاحٍ لَمْ يَخْرُجْ ثرثار مِنْ جِذْعِ الشَّجَرَةِ الْأَجْوَفِ مِثْلَمَا يَفْعَلُ عَادَةً عِنْدَمَا يُوضَعُ قَفَصُهُ عَلَى الرَّفِّ أَمَامَ بَابِ بَيْتِ الْمَزْرَعَةِ؛ فَهُوَ لَمْ يَشْعُرْ بِرَغْبَةٍ فِي الْخُرُوجِ، وَظَلَّ مُتَكَوِّرًا عَلَى نَفْسِهِ فِي فِرَاشِهِ لِفَتْرَةٍ طَوِيلَةٍ جِدًّا؛ فَقَدْ كَانَ مِنْ فَرْطِ حُزْنِهِ وَبُؤْسِهِ لَا يَقْوَى عَلَى الْحَرَكَةِ. وَأَخِيرًا نَهَضَ مُتَبَاطِئًا وَاسْتَرَقَ النَّظَرَ إِلَى خَارِجِ الْمَدْخَلِ الصَّغِيرِ الْمُسْتَدِيرِ. ثُمَّ أَطْلَقَ شَهْقَةً خَافِتَةً وَفَرَكَ عَيْنَيْهِ. أَكَانَ يَحْلُمُ؟ ثُمَّ هُرِعَ إِلَى الْخَارِجِ وَاسْتَرَقَ النَّظَرَ عَبْرَ أَسْلَاكِ قَفَصِهِ. ثُمَّ فَرَكَ عَيْنَيْهِ مُجَدَّدًا وَأَسْرَعَ لِلطَّرَفِ الْمُقَابِلِ مِنَ الْقَفَصِ لِيُلْقِيَ نَظْرَةً أُخْرَى؛ فَقَفَصُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّفِّ الْمُعْتَادِ مُطْلَقًا! بَلْ كَانَ عَلَى الْجِدَارِ الْحَجَرِيِّ الْمُغَطَّى بِالثُّلُوجِ الْقَائِمِ عَلَى أَطْرَافِ الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ.

بَلَغَتِ اللَّهْفَةُ بِثرثار مَبْلَغًا جَعَلَهُ لَا يَدْرِي مَاذَا يَفْعَلُ. وَرَكَضَ فِي أَرْجَاءِ الْقَفَصِ. ثُمَّ قَفَزَ عَلَى الْعَجَلَةِ وَأَدَارَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى أَكْثَرَ مِنْ أَيِّ وَقْتٍ مَضَى. وَعِنْدَمَا بَلَغَ مِنْهُ الْإِنْهَاكُ مَبْلَغًا حَالَ دُونَ أَنْ يَرْكُضَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، قَفَزَ مِنْ عَلَيْهَا. وَفِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ اكْتَشَفَ شَيْئًا لَمْ يَلْحَظْهُ مِنْ قَبْلُ؛ فَقَدْ كَانَ الْبَابُ الصَّغِيرُ أَعْلَى قَفَصِهِ مَفْتُوحًا! لَا بُدَّ أَنَّ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون نَسِيَ أَنْ يُوصِدَهُ عِنْدَمَا أَدْخَلَ إِفْطَارَ ثرثار؛ فَنَسِي ثرثار تَعَبَهُ، وَخَرَجَ كَوَمْضَةٍ حَمْرَاءَ صَغِيرَةٍ وَجَرَى عَلَى الْجِدَارِ الْحَجَرِيِّ الْمُغَطَّى بِالثُّلُوجِ مُتَّجِهًا إِلَى بَيْتِهِ فِي الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ مُبَاشَرَةً.

وَصَاحَ أَثْنَاءَ رَكْضِهِ: «مَرْحَى! مَرْحَى! مَرْحَى!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤