الفصل الحادي والعشرون

الصَّوْتُ الْخَافِتُ بِدَاخِلِ ثرثار

كَانَ أَوَّلَ مَنْ رَأَى ثرثار مِنْ سُكَّانِ الْمُرُوجِ وَالْغَابَةِ الصِّغَارِ بَعْدَ أَنْ وَصَلَ سَالِمًا إِلَى الْبُسْتَانِ الْقَدِيمِ طَائِرُ الْقَرْقَفِ تومي. وَمَا حَدَثَ هُوَ أَنَّ تومي كَانَ مُنْهَمِكًا لِلْغَايَةِ فِي الْعَمَلِ بِشَجَرَةِ التُّفَّاحِ ذَاتِهَا؛ حَيْثُ كَانَ الْبَيْتُ الْقَدِيمُ لِنَقَّارِ الْخَشَبِ درامر عِنْدَمَا وَصَلَ ثرثار إِلَيْهِا. فَكَمَا تَعْلَمُونَ كَانَ ثرثار قَدِ انْتَقَلَ إِلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ لِقَضَاءِ مَوْسِمِ الشِّتَاءِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِكَ بِهِ ابْنُ الْمُزَارِعِ براون فِي صَوْمَعَةِ الذُّرَةِ.

كَانَ تومي مُنْهَمِكًا فِي الْعَمَلِ لِلْغَايَةِ فِعْلًا. كَانَ مُنْهَمِكًا لِدَرَجَةِ أَنَّهُ عَلَى الرَّغْمِ مِنْ حِدَّةِ بَصَرِ عَيْنَيْهِ الْبَرَّاقَتَيْنِ، لَمْ يَرَ ثرثار يَجْرِي عَلَى الْجِدَارِ الْحَجَرِيِّ الْقَدِيمِ الْمُغَطَّى بِالثُّلُوجِ. وَلَمْ يَرَهُ تومي مُطْلَقًا قَبْلَ سَمَاعِهِ صَوْتَ مَخَالِبِ ثرثار عَلَى جِذْعِ شَجَرَةِ التُّفَّاحِ؛ فَأَصَابَتْهُ دَهْشَةٌ بَالِغَةٌ جَعَلَتْهُ يَفْقِدَ تَوَازُنَهُ وَكَادَ يَدُورُ فِي الْهَوَاءِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِكَ بِغُصْنٍ آخَرَ؛ فَقَدْ كَانَ يَعْرِفُ كُلَّ مَا أَصَابَ ثرثار، وَأَنَّهُ صَارَ سَجِينًا لَدَى ابْنِ الْمُزَارِعِ براون.

فَتَسَاءَلَ مُتَعَجِّبًا: «عَجَبًا! عَجَبًا! أَهَذَا أَنْتَ حَقًّا يَا ثرثار؟ كَيْفَ خَرَجْتَ مِنْ سِجْنِكَ؟ أَنَا مَسْرُورٌ، مَسْرُورٌ جِدًّا لِخُرُوجِكَ.»

فَهَزَّ ثرثار ذَيْلَهُ بِطَرِيقَتِهِ الْمُفْعَمَةِ بِالْحَيَوِيَّةِ، وَوَمَضَتْ عَيْنَاهُ. كَانَتْ تِلْكَ أَفْضَلَ فُرْصَةٍ سَنَحَتْ لَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِلتَّفَاخُرِ وَالتَّبَجُّحِ. فَيُمْكِنُهُ إِخْبَارُ تومي كَمْ كَانَ ذَكِيًّا؛ ذَكِيًّا إِلَى حَدِّ الْهُرُوبِ مِنِ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون؛ وَمِنْ ثَمَّ يُخْبِرُ تومي غَيْرَهُ مِنَ السُّكَّانِ الصِّغَارِ، وَهَكَذَا يَتَخَيَّلُهُ الْجَمِيعُ ذَكِيًّا كَالْعَمِّ بيلي الْأَبُوسُومِ؛ فَهُوَ كَمَا تَعْلَمُونَ كَانَ ذَكِيًّا بِمَا يَكْفِي لِلْإِفْلَاتِ مِنِ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون بَعْدَ أَنْ أَمْسَكَ بِهِ. فَالْجَمِيعُ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ حَبِيسًا، وَالْآنَ بَعْدَ أَنْ صَارَ طَلِيقًا، سَيُصَدِّقُ الْجَمِيعُ أَيَّ شَيْءٍ يُخْبِرُهُمْ بِهِ عَنْ كَيْفِيَّةِ خُرُوجِهِ. لَمْ تَتَسَنَّ لَهُ مِنْ قَبْلُ فُرْصَةٌ كَهَذِهِ لِجَعْلِ أَصْدِقَائِهِ وَجِيرَانِهِ يَقُولُونَ: «يَا لَهُ مِنْ سِنْجَابٍ ذَكِيٍّ!»

فَقَالَ ثرثار: «أَنَا … أَنَا …» ثُمَّ سَكَتَ عَنِ الْكَلَامِ. ثُمَّ وَاصَلَ حَدِيثَهُ قَائِلًا: «مَا حَدَثَ كَانَ أَنَّهُ … أَنَا … أَنَا …» فَلِسَبَبٍ مَا، لَمْ يَسْتَطِعْ ثرثار قَوْلَ مَا كَانَ يَنْوِي قَوْلَهُ. وَبَدَا كَأَنَّ عَيْنَيْ تومي اللَّامِعَتَيْنِ الْمَرِحَتَيْنِ كَانَتَا تَخْتَرِقَانِ عَقْلَهُ وَقَلْبَهُ، وكَأَنَّ بِإِمْكَانِهِمَا قِرَاءَةَ أَفْكَارِهِ ذَاتِهَا. وَلَكِنْ بِالطَّبْعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِالْإِمْكَانِ؛ فَالْحَقُّ أَنَّ الصَّوْتَ الْخَافِتَ الْخَفِيضَ بِدَاخِلِهِ — الَّذِي كَثِيرًا مَا كَانَ ثرثار يَرْفُضُ الِاسْتِمَاعَ إِلَيْهِ مَتَى تَرَاءَى لَهُ أَنْ يُسِيءَ التَّصَرُّفَ — كَانَ يُحَدِّثُهُ ثَانِيَةً. وَكَانَ يَقُولُ لَهُ: «يَا لَلْعَارِ يَا ثرثار! يَا لَلْعَارِ! قُلِ الْحَقِيقَةَ. قُلِ الْحَقِيقَةَ.» وَكَانَ ذَلِكَ الصَّوْتُ الْخَافِتُ هُوَ مَا جَعَلَ ثرثار يَتَرَدَّدُ وَيَتَوَقَّفُ عَنِ الْكَلَامِ.

فَسَأَلَهُ تومي: «هَلْ تَقْصِدُ أَنَّكَ كُنْتَ ذَكِيًّا بِمَا فِيهِ الْكِفَايَةُ لِخِدَاعِ ابْنِ الْمُزَارِعِ براون وَالْخُرُوجِ مِنْ ذَلِكَ السِّجْنِ الصَّغِيرِ الْمَتِينِ الَّذِي صَنَعَهُ لَكَ؟»

فَأَجَابَهُ ثرثار، قَبْلَ أَنْ يُفَكِّرَ: «كَلَّا، كَلَّا، لَمْ أَفْعَلْ. الْحَقِيقَةُ يَا تومي أَنَّهُ تَرَكَ الْبَابَ مَفْتُوحًا عَنْ قَصْدٍ. لَقَدْ أَطْلَقَ سَرَاحِي؛ فَابْنُ الْمُزَارِعِ براون أَطْيَبُ كَثِيرًا مِمَّا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ.»

فَضَحِكَ تومي قَائِلًا: «هَا هَا هَا. لَطَالَمَا قُلْتُ ذَلِكَ لِكَثِيرٍ مِنْكُمْ، وَلَكِنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ لَمْ يُصَدِّقْنِي. أَظُنُّكَ عَرَفْتَ ذَلِكَ الْآنَ. وَأَنَا لَا أَشْعُرُ تِجَاهَهُ بِذَرَّةٍ مِنَ الْخَوْفِ — وَلَا أَدْنَى ذَرَّةٍ مِنَ الْخَوْفِ. لَوْ أَنَّ سُكَّانَ الْغَابَةِ وَالْمُرُوجِ الصِّغَارَ وَثِقُوا بِهِ، بَدَلًا مِنْ أَنْ يَهْرُبُوا مِنْهُ، لَصَارَ أَعَزَّ أَصْدِقَائِنَا.»

فَرَدَّ عَلَيْهِ ثرثار فِي رِيبَةٍ: «رُبَّمَا! لَقَدْ أَحْسَنَ مُعَامَلَتِي لِلْغَايَةِ عِنْدَمَا كُنْتُ سَجِينًا لَدَيْهِ، وَ… وَأَنَا لَا أَخَافُهُ كَثِيرًا الْآنَ. إِلَّا أَنَّنِي لَا أَنْوِي أَنْ أَدَعَهُ يُمْسِكُ بِي ثَانِيَةً.»

فَقَالَ تومي: «هَاهْ! هَاهْ! كَمْ أُحِبُّ أَنْ آكُلَ مِنْ يَدِهِ.»

فَرَدَّ عَلَيْهِ ثرثار بِحَسْمٍ قَائِلًا: «مِنَ السَّهْلِ عَلَيْكَ أَنْ تَقُولَ ذَلِكَ، بَيْنَمَا تَطِيرُ فِي الْجَوِّ طَلِيقًا، وَلَكِنِّي لَا أَظُنُّكَ تَجْرُؤُ عَلَى الذَّهَابِ إِلَى مَنْزِلِهِ لَتُثْبِتَ مَا تَقُولُهُ.»

فَأَجَابَهُ تومي قَائِلًا: «لَا يُمْكِنُنِي ذَلِكَ الْآنَ. لَدَيَّ الْكَثِيرُ لِأَفْعَلَهُ مِنْ أَجْلِهِ الْآنَ، وَلَكِنِّي سَأُرِيكَ يَوْمًا مَا. يَا لَلْهَوْلِ! هَا أَنَا ذَا أُضَيِّعُ الْوَقْتَ فِي الْحَدِيثِ وَلَدَيَّ عَمَلٌ كَثِيرٌ. فَأَنَا أُنَظِّفُ أَشْجَارَ التُّفَّاحِ مِنْ بَيْضِ الْحَشَرَاتِ.»

وَصَاحَ صَوْتٌ مِنْ خَلْفِهِ قَائِلًا: «هَا هَا هَا! فَلْتَذْهَبْ أَيُّهَا الشَّقِيُّ الْأَحْمَرُ الصَّغِيرُ.»

فَتَأَكَّدَ ثرثار أَنَّ ابْنَ الْمُزَارِعِ براون لَمْ يَتْرُكِ الْبَابَ مَفْتُوحًا خَطَأً، وَإِنَّمَا مَنَحَهُ حُرِّيَّتَهُ، وَحِينَئِذٍ عَرَفَ أَنَّهُمَا سَيَكُونَانِ صَدِيقَيْنِ عَزِيزَيْنِ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤